بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ولله مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالله عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (آل عمران189).
إنَّ مضمون هذه الآية المباركة من من الأمور الواضحة والمسلّمة عند الإنسان المسلِم، بَدَاهَةَ أن الله تعالى هو الخالق العظيم القادر على كل شيء، وهو المالك للسماوات والأرض.
ولما كان تعالى هو المالك لكلّ شيء، كان له أن يعطي الملك من يشاء: ﴿قُلِ اللهمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (آل عمران26).
فكلُّ شيءٍ تحت سلطان الله، والله تعالى هو الذي يعطي الملك وينزع الملك، وهو الذي يعز ّويذلّ.
ههنا يُطرَحُ على الشيعة سؤال:
إذا كنتم أيُّها الشيعة تعتقدون أن أئمتكم هم خلفاء الله تعالى في أرضه وسمائه، وحجته على عباده، بل أئمة الوجود بأسره..
فكيف يستقيم قولكم مع ما يُرى فيهم من ضَعفٍ ظاهر؟
وكيف يُفَسِّرُ استضعاف الأمّة للإمام مع كونه خليفة الله؟ ألا يطعن هذا في إمامته؟! أين ولايته على الكون إذاً؟
إنَّا إذا نظرنا إلى الأئمة واحداً واحداً، بل إذا نظرنا إلى أوَّلِهم ورمزِ قوّتهم وشجاعتهم.. إلى أبيهم علي بن أبي طالب عليه السلام، وهو مجندلُ الأبطال وقاهر الأشرار.. وجدناه عاجزاً عن أخذ حقِّه حينما سُلِبَ منه!
فأين هي القدرة التي تنسبونها لهم أيُّها الشيعة؟!
كيفَ تُستَلَبُ إمامةٌ أعطاها الله للإمام، مقرونةً بالقدرة على التصرف في الكون كما يتصرَّف فيه ملائكة الرحمن؟!
كيف يكون إماماً من قُتِلَ وظُلِمَ واضطهد؟
لقد قُتِلَ من الأئمة أحد عشر إماماً، ولو لم يغب الثاني عشر لأصابه ما أصابهم!
أسئلةٌ كثيرةٌ يطرحها المخالف في الدين تارة، وفي المذهب أخرى، والمؤمن بالولاية ثالثة..
لذا يتعدَّدَ الجواب والحديث، فمنهُ نَقضيٌّ يقطع ألسن المعاندين، ومنهُ حَلّيٌّ يوضح الأمر للباحثين المنصفين..
الحديث الأول: مع المخالف في الدين
إنَّ المخالفين لنا في الدين على أصنافٍ شتّى، لا يسعُنا التعرضُ لها كلَّها، فنكتفي بفرقتين من أهم فرقهم: أوَّلهما الملحدون، وثانيهما النصارى.
وقفةٌ مع الملحد
أما المُلحِد.. فإن هالَهُ كيف يكون الإمام قادراً ثم يظهر في الحياة عاجزاً، قلنا له: ليس هذا بأشدَّ ولا أصعب من عقيدتك في الإلحاد!
إنك أيها الملحد تقرّ بأنَّ لهذا الكون نظاماً وقانوناً.. لكنك تزعم أنَّ هذا القانون قد نشأ بشكل عشوائي! أو عفويٍّ.. كما يقول كثيرٌ من أئمة الإلحاد المعاصر..
العفوية والاعتباطية والعشوائية إذاً هي التي تحكم الكون! أو ينبثق عنها الكون، أو يسير بها، وإن كان كلُّ ذلك يحصل ضمن نَظمٍ ونَسَقٍ فريدٍ لا تخفى عظمته على عالمٍ من العلماء!
ثمَّ تنبثق من هذه العفوية أنظمةٌ في غاية الدقة في مختلف العلوم! كما يقرُّون!
فلم لا تكون العشوائية والعفويّة (أيُّها الملحد) هي السبب أيضاً في أن يكون الإمام قادراً قوياً ثم يظهرُ عاجزاً ضعيفاً في بعض أحواله كما ترى!
ليس للملحد أن يسأل عن السبب.. فهذا الاحتمال العشوائي العفوي كافٍ على مبناه!
بل لمَ لا يكون الإمام قادراً قوياً غير عاجزٍ ثم لا يُعمِل قدرته وسلطانه.. بشكل عفويٍ.. ودون مصلحة.. بل لأمرٍ اعتباطيّ!
كلُّ هذا على مبنى الملحد العقيم..
فإن قال الملحدون: إن هذا خلاف حكمة الحكيم!
قلنا: وهل تنسجم حكمة الحكيم مع مبانيكم في نشوء الكون من عفوية واعتباطية وعشوائية؟! ما لكم كيف تحكمون!
أتقبلون بمثل هذه التبريرات الواهية في أعظم المسائل وأهمها، وتنكرونها على من يجيبكم على قدر عقولكم في مسألة النبوة والإمامة والرئاسة والقيادة؟!
ألا ترون أنكم صرتم بهذا محلّ سخريةٍ أيها الملحدون؟
فإن أردتم الخروج من هذه الدوّامة.. والحوار بالتي هي أحسن.. نقلنا البحث إلى إمكان وجود الكون دون مُوجِد.. وهو من المستحيلات العقلية..
لا يقرّ عقل امرء بإمكان حدوث مُحدَث دون محدِث، ولا بإمكان وجود معلولٍ دون علّة.
وإذا ظهرت عظمة الكون، وتناسقه، وقوانينه الدقيقة، جزمنا أن الصدفة لا يعقل أن تكون الموجدة لكلّ ذلك!
وأنتم تقرّون بذلك في قرارة أنفسكم، لكنم تنكرونه بألسنتكم!
فكفوا ألسنتكم.. لنبحث وإياكم في زعمكم أن ليس للكون خالقٌ، مع اعترافكم بالعجز عن نفي وجوده.. ففقدتم بذلك كل مصداقيةٍ ومقبولية.
هذا جوابٌ أوَّل لو كان السائل ملحداً..
وقفةٌ مع النصراني
أما لو كان المخالف لنا في الدين نصرانياً.. والنصارى يشكلون اليوم فئة كبيرة جداً على وجه البسيطة.
فإن قالوا: كيف يكون امامكم قوياً ثم يكون مستضعفاً؟
خاطبناهم بما ورد في انجيلهم: لِمَاذَا تَنْظُرُ القَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ، وَأَمَّا الخَشَبَةُ الَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلاَ تَفْطَنُ لَهَا؟ (متى7: 3).
أتعيبون على المؤمنين اضطهاد الناس لأئمتهم وضعفهم في ظاهر الأمر، مع ما هم عليه من القوة والقدرة باعتقادنا، وتَنسَونَ ضعف من نسبتموه للألوهية والربوبية؟!
أتزعمون أن عيسى هو الله تعالى.. ثم مع ذلك تزعمون أنه قد اضطُهد وظُلِم وصُلِب وقُتِل؟!
أيهما أعظم أيُّها النصارى؟
1. ضَعفٌ ظاهرٌ في إمامٍ مخلوق لله تعالى، فقيرٍ له عزَّ وجل، محتاجٍ إليه؟
2. أم ضعفٌ ظاهرٌ بَيّن جَليٌّ في الرَّبِّ والإله! يؤدي إلى قتله!
أما تعتقدون بما ورد في إنجيل متّى حيث قال عن عيسى عليه السلام:
فَأَخَذَ عَسْكَرُ الوَالِي يَسُوعَ إِلَى دَارِ الوِلاَيَةِ، وَجَمَعُوا عَلَيْهِ كُلَّ الكَتِيبَةِ، فَعَرَّوْهُ وَالبَسُوهُ رِدَاءً قِرْمِزِيًّا، وَضَفَرُوا إِكْلِيلاً مِنْ شَوْكٍ وَوَضَعُوهُ عَلَى رَأْسِهِ، وَقَصَبَةً فِي يَمِينِهِ. وَكَانُوا يَجْثُونَ قُدَّامَهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ قَائِلِينَ: «السَّلاَمُ يَا مَلِكَ اليَهُودِ!» (متى27: 27-29).
أيستهزء بربكم وإلَهكم؟ أين هي قدرته اذاً؟
وفي كتابكم: وَبَصَقُوا عَلَيْهِ، وَأَخَذُوا القَصَبَةَ وَضَرَبُوهُ عَلَى رَأْسِهِ!
أيُتفَلُ على إلَهكم؟! ويُضرب على رأسه؟
أيُ ربٍ هذا وأيُ إلهٍ عاجزٍ لا يقدر على الدفاع عن نفسه؟
وَبَعْدَ مَا اسْتَهْزَأُوا بِهِ، نَزَعُوا عَنْهُ الرِّدَاءَ وَالبَسُوهُ ثِيَابَهُ، وَمَضَوْا بِهِ لِلصَّلْبِ.. وَلَمَّا صَلَبُوهُ اقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ مُقْتَرِعِينَ عَلَيْهَا..
الله أكبر! إلهٌ يصلب!
وَنَحْوَ السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً: «إِيلِي، إِيلِي، لِمَا شَبَقْتَنِي؟» أَيْ: إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟
عيسى إلهٌ بزعمكم.. لكنَّ له إلهاً فوقه قد تركه!
فَصَرَخَ يَسُوعُ أَيْضًا بِصَوْتٍ عَظِيمٍ، وَأَسْلَمَ الرُّوحَ.
أليس المسيح عندكم هو الله الذي ظهر في الجسد؟ أيكفي أن تُفَرِّقُوا بين ناسوته ولاهوته كي يرتفع إشكال قتل إلهكم والسخرية منه؟
ساء ما تحكمون..
ألم تنقلوا في إنجيل مرقس:
وَكَانَ المُجْتَازُونَ يُجَدِّفُونَ عَلَيْهِ، وَهُمْ يَهُزُّونَ رُؤُوسَهُمْ قَائِلِينَ: «آهِ يَا نَاقِضَ الهَيْكَلِ وَبَانِيَهُ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ!
خَلِّصْ نَفْسَكَ وَانْزِلْ عَنِ الصَّلِيبِ!»
وَكَذلِكَ رُؤَسَاءُ الكَهَنَةِ وَهُمْ مُسْتَهْزِئُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ مَعَ الكَتَبَةِ، قَالُوا: «خَلَّصَ آخَرِينَ وَأَمَّا نَفْسُهُ فَمَا يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَهَا!
لِيَنْزِلِ الآنَ المَسِيحُ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ عَنِ الصَّلِيبِ، لِنَرَى وَنُؤْمِنَ!» (مرقس30: 29-32).
فمن أراد أن يحاجّنا من الملاحدة والنصارى وأصحاب الأديان الأخرى، عليه أولاً أن يجيب على ما هو أشنع عنده، ثم بعد ذلك يستمع لما يأتي من جوابنا.
ثمَّ لو تنزَّلنا وقبلنا بما ذهب اليه النصارى من أن عيسى مات بطبيعته البشرية، ساغ لنا أن نقول: أليس عيسى بطبيعته هذه مرسلاً من الله سبحانه وتعالى؟ أليس الله قادراً على الدفاع عنه؟
إما أن تنسبوا العجز لله سبحانه وتعالى والعياذ بالله، أو أن تذهبوا الى سبيلٍ آخر، فما كان جوابكم كان جوابنا في الدفاع عن أئمتنا عليهم السلام.
الحديث الثاني: مع المخالف في المذهب
أما المخالف لنا في المذهب.. فإن قال: ما الحاجة لإمامٍ ضعيفٍ أو سجينٍ لا يقدر على شيء؟
بماذا تميَّزتم أيها الشيعة عنّا وفُضِّلتُم؟
قادتنا قد تَسَيّدوا وتصدَّروا وتسنّموا أرفع المناصب!
وأئمتكم أيها الشيعة قُتِلٌوا وسجنوا وقهروا وظلموا، ثم مع ذلك تزعمون أنّ لهم ولايةً عظمى! وأنهم خلفاء الله في أرضه!
فأين هذه الخلافة التي عجزوا معها عن إرجاع حقهم؟!
ولئن كرَّرَ المخالف ما طرحه أصحاب الأديان الأخرى، قلنا له أما ترى أن أنبياء الله ورسله في خلقه قد استضعفوا كما نَصَّ القرآن الكريم؟!
أما حكى القرآن الكريم ما عانى نوحٌ من قومه مئات السنين؟ وما عانى إبراهيم لما رموه في النار فأنجاه الله؟
أما سمعتم ما تعرَّض له موسى عليه السلام، حتى قال تعالى: ﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ (القصص21).
أما سمعتم قوله لقومه: ﴿بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ﴾.
أما سمعتم قوله أخيه له: ﴿قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ القَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ (الأعراف 150).
أي ظلامةٍ هذه التي وقعت على هؤلاء الأنبياء، حتى على عيسى الذي أحيا الموتى وشفى المرضى! وقد استضعفه القوم حتى ظنوا أنهم قتلوه: ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ الله وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لهم﴾ (النساء157).
ألم تسمعوا بما تَعرَّضَ له نبيُّ الإسلام محمد صلى الله عليه وآله من ظلم قريشٍ وأذاهم هو ومن آمن معه.. حتى نصره الله بعليٍّ، وبأبي طالب، وبثلةٍ من الكمّل عليهم السلام.
قال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ الله أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ﴾ (البقرة214).
لطالما انتظر الأنبياء نصر الله سبحانه وتعالى لما تعرضوا له من ظلاماتٍ وقَهرٍ وغصب، إلى أن جاء نصر الله تعالى.
فما تفسير هذا إذاً؟ أوليس هؤلاء أنبياءٌ أرسلهم الله سبحانه وتعالى؟
أيها المخالف لنا، إنَّ نفي الحاجة لإمامٍ ما استجابت له الأمة، يضاهي قول القائل: ما الحاجة لِرَبٍّ في دنيا أكثر أهلها ظالمون؟ والحق فيهم قليلٌ، ومُتَّبعُه ذليل؟
وما الحاجة لنبيٍّ لا يستجيب له قومه، بل يقهرونه ويقتلونه ؟
أفهل يعجز الله تعالى أن يبطش بمن عليها؟
أم أنه لحكمته يؤخرهم لذلك اليوم الموعود؟
قال تعالى: ﴿وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ﴾ (هود104).
أَوَهَل يدلُّ إملاء الله تعالى للكفار على عجزه؟ وقد قال تعالى:
﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ (آل عمران178).
ألم تقتضي حكمة الله تعالى أن يعاجلَ قوماً بالعقاب ويؤجل آخرين وقد قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ﴾ (يوسف110).
حكمة السماء
ههنا حكمةٌ عامةُ جرت وفقها مقادير السماء مع الأنبياء والمرسلين، يبينها أمير المؤمنين، وقائد الغرّ المحجلين، الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، حين يقول: وَلَوْ أَرَادَ الله جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِأَنْبِيَائِهِ حَيْثُ بَعَثَهُمْ أَنْ يَفْتَحَ لهُمْ كُنُوزَ الذِّهْبَانِ، وَمَعَادِنَ العِقْيَانِ، وَمَغَارِسَ الجِنَانِ، وَأَنْ يَحْشُرَ طَيْرَ السَّمَاءِ وَوَحْشَ الأَرْضِ مَعَهُمْ لَفَعَلَ!
ليس الله تعالى إذاً بعاجزٍ على أن يرسل الأنبياء بقدراتٍ لا تضاهى.
وَلَوْ فَعَلَ لَسَقَطَ البَلَاءُ، وَبَطَلَ الجَزَاءُ، وَاضْمَحَلَّتِ الأَنْبَاءُ، وَلَمَا وَجَبَ لِلْقَائِلِينَ أُجُورُ المُبْتَلَيْنَ، وَلَا لَحِقَ المُؤْمِنِينَ ثَوَابُ المُحْسِنِينَ.. وَلِذَلِكَ لَوْ أَنْزَلَ الله مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ، وَلَوْ فَعَلَ لَسَقَطَ البَلْوَى عَنِ النَّاسِ أَجْمَعِينَ.
وَلَكِنَّ الله جَلَّ ثَنَاؤُهُ جَعَلَ رُسُلَهُ أُولِي قُوَّةٍ فِي عَزَائِمِ نِيَّاتِهِمْ، وَضَعَفَةً فِيمَا تَرَى الأَعْيُنُ مِنْ حَالاتِهِمْ، مِنْ قَنَاعَةٍ تَمْلَأُ القُلُوبَ وَالعُيُونَ غَنَاؤُهُ، وَخَصَاصَةٍ تَمْلَأُ الأَسْمَاعَ وَالأَبْصَارَ أَذَاؤُهُ.
وَلَوْ كَانَتِ الأَنْبِيَاءُ أَهْلَ قُوَّةٍ لَا تُرَامُ، وَعِزَّةٍ لَا تُضَامُ، وَمُلْكٍ يُمَدُّ نَحْوَهُ أَعْنَاقُ الرِّجَالِ، وَيُشَدُّ إِلَيْهِ عُقَدُ الرِّحَالِ، لَكَانَ أَهْوَنَ عَلَى الخَلْقِ فِي الِاخْتِبَارِ، وَأَبْعَدَ لَهُمْ فِي الِاسْتِكْبَارِ، وَلآَمَنُوا عَنْ رَهْبَةٍ قَاهِرَةٍ لَهُمْ، أَوْ رَغْبَةٍ مَائِلَةٍ بِهِمْ، فَكَانَتِ النِّيَّاتُ مُشْتَرَكَةً وَالحَسَنَاتُ مُقْتَسَمَةً.
وَلَكِنَّ الله أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الِاتِّبَاعُ لِرُسُلِهِ، وَالتَّصْدِيقُ بِكُتُبِهِ، وَالخُشُوعُ لِوَجْهِهِ، وَالِاسْتِكَانَةُ لِأَمْرِهِ، وَالِاسْتِسْلَامُ لِطَاعَتِهِ، أُمُوراً لَهُ خَاصَّةً لَا تَشُوبُهَا مِنْ غَيْرِهَا شَائِبَةٌ، وَكُلَّمَا كَانَتِ البَلْوَى وَالِاخْتِبَارُ أَعْظَمَ كَانَتِ المَثُوبَةُ وَالجَزَاءُ أَجْزَلَ (الكافي ج4 ص199).
هي حكمةٌ ربانية إذاً، اقتضت أن تجري الأمور بأسبابها الظاهرة، وأن لا يستفيد الأنبياء والمرسلون مما أعطاهم الله، ومن إنزال الملائكة لنصرهم إلا في مواطن خاصة اقتضت ذلك فيها إرادة السماء..
نعم أظهر الأنبياء بعض ما أقدرهم الله عليه في مواطن خاصة بأمره تعالى، كموسى عليه السلام عندما ضَرَبَ بعصاه البحر، وعيسى عليه السلام حينما أحيا الموتى، وهكذا فعل الأئمة في حالاتٍ خاصة، بأمر الله سبحانه.
هذا حديثنا مع المخالف لنا في المذهب.
الحديث الثالث: مع المؤمن بالولاية
أما الحديث مع أهل الولاية، فبأنَّ ما ذكرناه مع المخالف كله يجري هنا.. يضاف إليه أنَّ الإمام قد عرَّفَنا على بعض الحِكَم الخاصة، والأسباب المحدَّدة.
فهذا أمير المؤمنين عليه السلام، أوَّلُ مظلومٍ بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، لم يرفع سيفاً لقتال القوم، مع عظيم قُوَّته التي قلع بها باب خيبر، وبأسه وشدَّته في قتال الكفار والمشركين والمنافقين.
ما قام عليه السلام لأسبابٍ وأسباب، منها أنَّه كان خائفاً على دين الله، وعلى هذه الأمّة، وهو القائل:
لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَحَقُّ النَّاسِ بِهَا مِنْ غَيْرِي، وَوَالله لَأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ المُسْلِمِينَ وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلَّا عَلَيَّ خَاصَّة (نهج البلاغة ص102).
وقد ورد هذا المعنى في روايات عدة بصيغ مختلفة:
منها: خَوْفاً أَنْ يَرْتَدُّوا.
ومنها: مَخَافَةَ أَنْ يَرْجِعُوا كُفَّاراً.
ومنها: إِنَّ عَلِيّاً عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى نَفْسِهِ إِلَّا أَنَّهُمْ أَنْ يَكُونُوا ضُلَّالًا، لَا يَرْجِعُونَ عَنِ الإِسْلَامِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَدْعُوَهُمْ فَيَأْبَوْا عَلَيْهِ فَيَصِيرُونَ كُفَّاراً كُلُّهُمْ (الروايات الثلاثة في علل الشرائع ج1 ص149 و150).
ومنها: لَمْ يمْنَعْ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عليه السلام مِنْ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى نَفْسِهِ إِلَّا نَظَراً لِلنَّاسِ وتَخَوُّفاً عَلَيْهِمْ أَنْ يَرْتَدُّوا عَنِ الإِسْلَامِ فَيَعْبُدُوا الأَوْثَانَ وَلَا يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله (ص)، وَكَانَ الأَحَبَّ إِلَيْهِ أَنْ يُقِرَّهُمْ عَلَى مَا صَنَعُوا مِنْ أَنْ يَرْتَدُّوا عَنْ جَمِيعِ الإِسْلَامِ (الكافي ج8 ص296).
رحمته بالأمة إذاً هي التي منعته عن القيام.. فضلاً عن أسباب أخر..
لكن.. هل تصح مثل هذه الأسباب؟ ألا يُتَّهَمُ الإمام حينها والعياذ بالله بالتقصير؟
الإمام يؤتى ولا يأتي!
ههنا معنى في غاية الرفعة والسموّ..
لقد تقاعست الأمّة عن نصرة الإمام، ولم يجد أعواناً يستعين بهم، ولم يكن له معينٌ كالزهراء عليه السلام، وها هي تبيّن لمن يسألها واحداً من أسمى منازل الإمامة عند الناس، جهله الجلُّ لولا الكلّ في تلك الأيام، فتقول نقلاً عن رسول الله أنّ مثَل الإمام مَثَلُ الكعبة إذ تؤتى ولا تأتي!
عبارةٌ حَقَّ أن تكتب بماء الذهب.
فكما أنَّ الواجب على الناس أن يحجوا إلى بيت الله، دون أن تدعوهم الكعبة إلى الحج إليها!
كذلك لا يجب على الإمام أن يدعو الناس إلى نفسه بعدما بَيَّنَ النبي صلى الله عليه وآله وجوب اتباعه من أول أيام الدعوة، في حديث الدار والطائر المشوي وسواهما، إلى غدير خمّ، وغير ذلك.
ولذا فإن الإمام لو دعا الناس إلى نفسه فهو فَضلٌ منه يتفضَّلُ به على الأمة، والإمام مُستغنٍ عنهم غنى السيد عن عبده، والأمة محتاجة له حاجة الجاهل إلى مُعلِّمه، والفقير إلى من يغنيه من علمه وعمله، والضال الذي يبحث عمن يأخذ بيده، وفاقد النَّظم الذي يحتاج إلى من يسوقه إلى ما فيه صلاحه، ويدبّر له أمر معاشه ومعاده.
لقد روي أنَّه: لمَّا قُبِضَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله كَانَتْ فَاطِمَةُ تَأْتِي قُبُورَ الشُّهَدَاءِ، وَتَأْتِي قَبْرَ حَمْزَةَ وَتَبْكِي هُنَاكَ.
حينها سُئلَت عن نصِّ النبيِّ على أمير المؤمنين عليه السلام بالإمامة، فأثبتت ذلك، وأكدت استخلافه صلى الله عليه وآله لعليٍّ عليه السلام يوم غدير خمٍّ، واستخلافه إياه، فلما سئلت عن سبب قعوده عن حقه، قالت عليها السلام:
لَقَدْ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله: مَثَلُ الإِمَامِ مَثَلُ الكَعْبَةِ إِذْ تُؤْتَى وَلَا تَأْتِي. أَوْ قَالَتْ مَثَلُ عَلِيٍّ.
ثُمَّ قَالَتْ: أَمَا وَالله لَوْ تَرَكُوا الحَقَّ عَلَى أَهْلِهِ وَاتَّبَعُوا عِتْرَةَ نَبِيِّهِ لَمَا اخْتَلَفَ فِي الله تَعَالَى اثْنَانِ (كفاية الأثر ص198).
ثم روي هذا المعنى عن الإمام الباقر عليه السلام: يَا جَابِرُ، مَثَلُ الإِمَامِ مَثَلُ الكَعْبَةِ إِذْ يُؤْتَى وَلَا يَأْتِي (كفاية الأثر ص248).
والنتيجة أنّ الأمّة مكلّفةٌ بأن تدور مدار الإمام، وتسلم قيادها له، وتأتيه طائعة صاغرة، وقد بلّغ النبي صلى الله عليه وآله أمر الله تعالى في لزوم اتباع الإمام ونَصَّ عليه مراراً، فإذا ما جحدت الأمة أمر الله تعالى، لم يكن الواجب على الإمام أن يقاتلهم لذلك مطلقاً، إلا أن يجد أنصاراً، ويأمره الله تعالى بذلك، أو يكون في ذلك صلاح الإسلام والمسلمين، فليس القتال واجباً على الإمام كيفما اتّفق، ولا هو الحكم الأولي الذي يلجأ إليه الأنبياء وأوصياؤهم، وليس العمل المُسَلَّح هو أوّل سبلهم، بل له ظروفه وأحكامه الخاصة.
ثمَّ إنَّا إن رأينا الإمام ساكناً أيقنّا أن ذلك بأمر الله تعالى، فلم يكن في ذلك انتقاصٌ منه ولا من قُدرَته وقَدره، كما لم تنقص معصية العاصين من قدرة الله تعالى في سلطانه.
حتى لقد قال رأسُ الظالمين عنه عليه السلام:
سُقْتُهُ إِلَى البَيْعَةِ سَوْقاً، وَإِنِّي لَأَعْلَمُ عِلْماً يَقِيناً لَا شَكَّ فِيهِ لَوِ اجْتَهَدْتُ أَنَا وَجَمِيعُ مَنْ عَلَى الأَرْضِ جَمِيعاً عَلَى قَهْرِهِ مَا قَهَرْنَاهُ، وَلَكِنْ لِهَنَاتٍ كَانَتْ فِي نَفْسِهِ أَعْلَمُهَا وَلَا أَقُولُها (بحار الأنوار ج30 ص295).
الإمام إذاً خليفة الله في أرضه وسمائه، ما منعه غير أمرِ الله له بالسكون لحكمةٍ.
ذلك أنَّ جريان الأمور بأسبابها خيرٌ عند الله من قهر العباد بالإمام على الطاعة.. حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
هذه هي عقيدة الشيعة، لا تهزُّها الرياح.. وستبقى حتى ظهور الإمام الحجة عجل الله فرجه..
ما ضَرَّنا أن قال قائلٌ: غاب الإمام لضعفه!
أو قال آخر: مات! هلك! في أي واد سلك؟!
ما ضرَّنا لو انحرف من انحرف.. أو اتخذ بعض الناس غير الامام أئمة.. أو شَنَّعَ المخالف علينا..
إنَّه التمحيص والغربلة..
وسيبقى من المؤمنين ثلةٌ لا تغيرها الدهور ولا الأيام، تعتقد بإمامته وولايته، وتنتظر فرجه.
اللهم عجل له الفرج والمخرج، واجعلنا ممن يعرف بعضَ حقه، ووفقنا لطاعته، والامتثال لأمره فهو أمرك.
والحمد لله رب العالمين
19 شهر رمضان 1441 هـ