الإمام علي عليه السلام
الغدير كعليٍّ.. عصيٌّ على الإدراك!
بسم الله الرحمن الرحيم(1)
اليوم يومُ البحث في التفسير، لكنَّ القرآن الناطق هو روح القرآن، مَن بَقِيَ القرآن به إلى يوم القيامة، فمن هو؟
كلُّنا نعرف يوم عيد الغدير، أما إدراكُ ذلك اليوم فأمرٌ يعجَزُ كلُّ البشر عن دَركِه دون مبالغة، لماذا؟
كلُّ قولٍ يجب أن يكون مقروناً بالمنطق والاستدلال.
إنّ معرفة يوم الغدير متوقفةٌ على ثلاثة مطالب:
أحَدُها: معرفة نفس ذلك اليوم، وبما أنّ اليوم مشتركٌ من حيثية الزمان مع بقية الأيام، فما هو الامتياز الذي كان سبباً ليُنتَخَبَ هذا الزمان الخاص؟ فليس كل زمانٍ لائقاً ليكون زماناً خاصاً، على أنّ كلَّ جزئيات العالم بمعيارٍ وحساب، وكلّ شيء عنده بمقدارٍ وقَدر، فالأول معرفة نفس ذلك اليوم.
والثاني: يوم ماذا هو هذا اليوم؟ وماذا حصل فيه؟
والثالث: يوم مَن؟
هنا ينبغي أن يُرى ماذا قال عقلُ الكلِّ وكلُّ العقل، فليس عند أحد ٍخبرٌ أيُّ يومٍ هو هذا، ويوم ماذا، ويوم مَن، ومعرفته تتوقف على هذه الأقسام الثلاثة.
والأفضل أن نستعين به هو (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث ينقل شيخ المحدثين الصدوق في الأمالي(2) روايةً نتعرض لقسم منها: عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ آبَائِهِ (عليهم السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يَوْم غَدِيرِ خُمٍّ أَفْضَلُ أَعْيَادِ أُمَّتِي.
هذا جواب السؤال الأول، وههنا تظهر خصوصيّة نفس الزمان، فنسبة عيد الشهر الذي دُعيَ الناس فيه إلى الله، وأوجَبَ عليهم فيه الصيام، نسبته إلى هذا العيد نسبة الفاضل إلى الأفضل.
لقد جعل الله تعالى البيت للإسلام علَمَاً، وللعائذين حَرَماً، وأوجب حَجّه، وهو الحجّ الذي: اخْتَارَ مِنْ خَلْقِهِ سُمَّاعاً أَجَابُوا إِلَيْهِ دَعْوَتَهُ، وَصَدَّقُوا كَلِمَتَهُ، وَوَقَفُوا مَوَاقِفَ أَنْبِيَائِهِ، وَتَشَبَّهُوا بِمَلَائِكَتِهِ المُطِيفِين(3)، ثم جعل لَهُ عيداً هو عيد الأضحى، فكانت نسبة هذا العيد ليوم الغدير نسبة الفاضل للأفضل، هذا قسمٌ مما يتعلق بنفس الزمان.
أما ما هو ذلك اليوم؟ هنا يعجز العقل.
قال (صلى الله عليه وآله وسلم): وَهُوَ اليَوْمُ الَّذِي أَمَرَنِي الله تَعَالَى ذِكْرُهُ فِيهِ بِنَصْبِ أَخِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) عَلَماً لِأُمَّتِي يَهْتَدُونَ بِهِ مِنْ بَعْدِي، وَهُوَ اليَوْمُ الَّذِي أَكْمَلَ الله فِيهِ الدِّينَ، وَأَتَمَّ عَلَى أُمَّتِي فِيهِ النِّعْمَةَ وَرَضِيَ لَهُمُ الإِسْلَامَ دِيناً.
في الكلمة الأولى تتحيَّرُ كلُّ العقول، لأنّ فَهمَ المطالب ليس بسيطاً، والرواية غير الدراية. يوم ماذا؟ ههنا ثلاث مطالب: وَهُوَ اليَوْمُ الَّذِي أَكْمَلَ الله فِيهِ الدِّينَ، فينبغي معرفة الدين، ومرجعنا القرآن الكريم: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾(4)، ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإِسْلاَمُ﴾(5).
ذلك الإسلام الذي هو الدين عند الله، بلغت عظمته حَدَّ أن يكون هذا الدين دعاء إبراهيم بعد مقام الخلَّة وبناء الكعبة، ودعاء إسماعيل بعد الذبح العظيم: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ﴾(6).
مثل هذا الدين مِن أوَّله إلى آخره كان ناقصاً، وأصبح كاملاً بكلمةٍ واحدة، ما كانت تلك الكلمة؟
الَّذِي أَمَرَنِي الله تَعَالَى ذِكْرُهُ: كلمات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مواضع خاصة لها حسابها، أكمَلَ دينه بماذا؟ بأن أمرني، هو الآمِرُ وأنا المأمور، مَن الآمر ومَن المأمور وما هو متعلق الأمر؟ بفهم هذين الطرفين يُفهَمُ الطرف الثالث، ليس المأمور إبراهيم ولا موسى ولا عيسى (عليهم السلام)، أولئك كلُّهُم دون هذا المتعلَّق، المأمور هو الشخص الأول في العالم، ومتعلَّقُ الأمر: أَمَرَنِي الله تَعَالَى ذِكْرُهُ فِيهِ بِنَصْبِ أَخِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) عَلَماً لِأُمَّتِي.
وما هي الغاية؟ يَهْتَدُونَ بِهِ مِنْ بَعْدِي.
هنا سِرُّ كمال الدين، فقد كانت بعثةُ كلِّ الأنبياء ناقصةً وتمت بالخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان نزول الكتب من صحف آدم إلى إنجيل عيسى (عليه السلام) ناقصاً وتَمَّ بالقرآن.
كذلك رسالةُ أعظم الرسل وصاحب أكمل الكتب أيضاً كانت ناقصةً وأكملت بعليٍّ (عليه السلام)، هكذا يُفهَم المطلب، لماذا؟ وما برهانه؟
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) معلِّمُ الكلّ، إمامُ كلّ الأنبياء، والقرآن كتابه، لكن، هل يكون مِثلُ هذا الكتاب كاملاً أم ناقصاً دون مُبَيِّن؟
هذا الكتاب الذي هو ثمرة وجوده هل يكمل دون مُبَيِّنٍ ومُفَصِّلٍ؟ دون مَن يميِّزُ المحكمات عن المتشابهات، والعام عن الخاص، والمطلق عن المقيد، والعزائم عن الرُّخَص، ودون مَن يبيِّن بُطونَه وتخومَه، وهو الكتاب الذي لا يُدرَك قعره.
قال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾(7)، فمَن هو الذي يستخرج كلَّ شيءٍ من هذا الكتاب؟
وتكون النتيجة: أنَّهُ لو لم يكن هذا اليوم لكانت بعثة كل الأنبياء من آدم إلى الخاتم كلُّها ناقصة! ولَكَان نزول كلّ الكتب من الصحف إلى القرآن ناقصاً: ﴿اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾.
وتصل النوبة: إلى يوم من هو؟
ثُمَّ قَالَ (صلى الله عليه وآله وسلم): مَعَاشِرَ النَّاسِ: لقول كلماته يرتَجِفُ القلب، قبل أن تصل النوبة لفهمها!
ابتداء الكلام: مَعَاشِرَ النَّاسِ، فطرف الخطاب عمومُ الناس إلى يوم القيامة.
إِنَّ عَلِيّاً مِنِّي وَأَنَا مِنْ عَلِيٍّ: القيامَةُ هنا، عليٌّ مني وأنا من علي، ماذا في هذه الجملة؟ فَكِّروُا جيداً.
لهذه الدائرة قطبٌ، والقطبُ بلا دائرةٍ لا معنى له، وقام (صلى الله عليه وآله وسلم) هنا بعملٍ تتم فيه الحجة على العالم، هو (صلى الله عليه وآله وسلم) في الوسط، وعليٌّ (عليه السلام) حولَهُ مُحيطٌ به، فَكِّروُا في اللفظ جيداً لتصلوا للمعنى.
إِنَّ عَلِيّاً مِنِّي: عليٌّ في الأول، وَأَنَا مِنْ عَلِيٍّ: عليٌّ في الآخر.
إنّ عُصَارة عمر ابن سينا كتاب الإشارات، وله إشارةٌ في الإشارات، وفي تلك الإشارة بحثُ الإنيّة، ما هي الإنية؟ ماذا يعني أنا؟
هذه يدي وهذه رجلي وهذه عيني وهذا رأسي، لكن أنا شيءٌ آخر، عليٌّ مني: مِن تلك الإنيّة وُجِدَ عليّ، هذا المطلب الأول.
والكلمة الثانية: إنيّتي أنا من عليّ، ماذا يعني هذا؟ هنا حيرة الكمل.
خُلِقَ مِنْ طِينَتِي: وهذا المطلب الثالث.
وَهُوَ إِمَامُ الخَلْقِ بَعْدِي: كلُّ الخلائق مأمومةٌ، وهو الإمام حصراً.
يُبَيِّنُ لَهُمْ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ سُنَّتِي: وهذا المطلب الخامس.
وَهُوَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ: هل فهمتم ماذا يعني أمير المؤمنين؟ اقرؤوا سورة (المؤمنون) وانظروا: ﴿قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾(8)، مثل هؤلاء أميرهم علي بن أبي طالب (عليه السلام).
﴿إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾(9)، المؤمن أعزُّ من الكبريت الأحمر، وعليٌّ أمير هذا الجمع.
وَقَائِدُ الغُرِّ المُحَجَّلِينَ، وَيَعْسُوبُ المُؤْمِنِينَ، وَخَيْرُ الوَصِيِّينَ، وَزَوْجُ سَيِّدَةِ نِسَاءِ العَالَمِينَ: بَيَّنَ (صلى الله عليه وآله وسلم) كل الخصوصيات النَّسَبيّة والحَسَبيّة والسَّبَبيّة، وأنّ يوم الغدير يومُ مِثلِ هذا.
وخَتمُ الكلام مهمٌ، من أين بدأ وأين يختم؟ بدأ من هنا: إِنَّ عَلِيّاً مِنِّي، هذه البداية وشروع المطلب، وأما ختم الكلام فقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): وَأَبُو الأَئِمَّةِ المَهْدِيِّينَ.
هذه ثلاث كلمات: أيّ يوم؟ ويوم ماذا؟ ويوم مَن؟
فمَن كان اليوم يومه، ليس قابلاً للإدراك بتلك البساطة.
نختم الكلام بما ورد في تفسير القمي: أَبِي عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنِ ابْنِ أُذَيْنَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتابِ هُوَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام).
وَسُئِلَ عَنِ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتابِ أَعْلَمُ؟ أَمِ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتابِ؟
فَقَالَ: مَا كَانَ عِلْمُ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتابِ عِنْدَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتابِ إِلَّا بِقَدْرِ مَا تَأْخُذُ البَعُوضَةُ بِجَنَاحِهَا مِنْ مَاءِ البَحْر(10).
هذا هو عليٌّ، عليٌّ مَن عنده علم الكتاب، ومَن كان عنده عِلمٌ مِنَ الكتاب يحضر عرش بلقيس، وكان مستعداً لإحضار الجبال، فسئل الإمام عن المقايسة بين آصف وسليمان وداوود وكلُّهم عندهم علمٌ من الكتاب، وبين من عنده علم الكتاب. إنّ نِسبَتَهم إلى مَن عنده علمُ الكتاب من جهة الفضل بهذا المقدار، فما عندهم قطرةٌ وما عند عليِّ (عليه السلام) تمام البحر.
عليٌّ يدُ الله الباسطة
بسم الله الرحمن الرحيم(11)
إنّ قوّة أدلّة وبراهين مذهب الشيعة توضح كلَّ الحقائق، وصِحَّةُ القضية التالية أمرٌ متّفق عليه في رأي جميع أئمة الحديث والرجال عند العامة، وفي هذا المطلب من صحة السند وقوة الدلالة كفايةٌ لإحقاق الحق وإبطال الباطل.
لقد روّج معاوية لسبّ علي بن أبي طالب في كل مكان، ثم سأل سعد بن أبي وقاص: ما يمنعك أن تسبّ ابن أبي طالب؟ فكان جواب سعدٍ لمعاوية أنّ أموراً ثلاثة منعتني عن أن أتصدى لسبّه، ولما سأله عنها قال عن الأول منها:
لا أسبُّه ما ذكرتُ حين نزل عليه الوحي، فأخذ علياً وابنيه وفاطمة، فأدخلهم تحت ثوبه ثم قال: ربّ إنّ هؤلاء أهل بيتي(12).
كان هذا لما نزلت آية التطهر: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾(13)، فهذا المانع الأول لي، وكيف أسبُّ من أنزل الله تعالى هذه الآية فيه؟ وسعد بن أبي وقاص يتحدّث بمقدار إدراكه، أما حقيقة هذه الآية فإنها محيرة للعقول، فقد شرع فيها أولاً بلفظ (إِنَّمَا) وهي تفيد الحصر لغةً وعرفاً، فبماذا تعلّقت إرادته تعالى؟ وهو الذي ﴿إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾.
إنّ المتعلَّق ومُراد الله تعالى أمران:
الأمر الأول: إذهاب الرجس مطلقاً، الأرجاس الجسمانية، والأرجاس الأخلاقية، والأرجاس العقائدية، كلها مشمولة بقوله ﴿لِيُذْهِبَ﴾.
الأمر الثاني: بعد إذهاب الرجس يأتي قوله تعالى ﴿وَيُطَهِّرَكُمْ﴾، فأيُّ طهارةٍ هي هذه التي وصلت النوبة إليها بعد إذهاب الأرجاس العمليّة والخُلُقية والفكرية، هذا ما يحيِّر العقول، وإذا وُفِّقنا سنعرض لوجه ورود المفعول المطلق في قوله تعالى ﴿وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾، وهو جوهرٌ لم يكن من نصيب أحدٍ من الملائكة المقرّبين، والأنبياء المرسلين، وانحصر بعليٍّ وفاطمة والحسن والحسين، والأئمة من ذريته (عليهم السلام).
هذا المانع الأول لسبّ عليٍّ (عليه السلام) عند سعد.
المانع الثاني من سبِّ عليّ: قضية تبوك، عندما قال (عليه السلام) لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): خلفتني مع النساء والصبيان، كان جواب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى(14).
فما هي تلك المنزلة؟ إنّها الوزارة، أنت وزيري، وقد روينا هذه الأحاديث، لكن المهمّ فقه الحديث، فبمن كان شَدُّ أزر الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ لقد كان بعليّ بن أبي طالب (عليه السلام).
والخلافة التي أعطيت لهارون من موسى، أعطي عليٌّ (عليه السلام) مثلها بالنسبة للخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن العجائب هو أن جميع أساطين العامة نقلوا الرواية لكن لم يدركوا معناها.
المرحلة الثالثة وهي ختم الكلام: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أعطى الراية للأول، فرجع منهزماً، وفي اليوم اللاحق أعطاها للثاني ففرَّ من الحرب في خيبر، ثم تطاول كلُّ الأصحاب عندما قال (صلى الله عليه وآله وسلم): لأعطين الراية: وفيها لام التحقيق، ونون التأكيد الثقيلة: لأعطين الراية غداً رجلاً يحبُّ اللهَ ورسولَه ويحبُّه اللهُ ورسولُه. وأيّ رجل؟!
لم ينم صحابة الخاتم ليلاً إلى الصباح، ظلّوا متحيرين فيمن سيُعطى الراية غداً، وطلعت الشمس واجتمعوا جميعاً وتطاولوا ليروا ماذا سيحصل، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): أين علي؟ قالوا: يا رسول الله، إنّه مبتلىً برمدٍ في عينه، وقد آذاه ألم العين، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): ادعوه، ولمّا جاء وضع يده على عينه فارتفع الرَّمَدُ، أعطاه الراية بيده، والمهم قوله: لأعطين الراية رجلاً.. لكن أيُّ رجلٍ؟
رجلاً يفتح الله على يديه(15): هذه الجملة محيِّرَةٌ للعقول، الله تعالى يفتح خيبر بيده! فَهَل فَهِمَ البخاري ومسلم هذه الكلمة؟
يفتح الله تعالى، لكن بيد عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، فعليكم بدراية الحديث، إنّ فاتح خيبر هو الله تعالى، لكن بيد عليٍّ (عليه السلام)!
ماذا يعني هذا؟ يعني أن علياً يد الله.
إنّ كلَّ ما في المذهب له برهانٌ يعجزُ أمامه كلّ علماء العامة، ونحن عندما نقول: عليٌّ يد الله، فدليلنا هذه الرواية المتفق عليها، فالله تعالى هو الفاتح، لكن بيد عليٍّ (عليه السلام).
ماذا تصبح النتيجة؟ تصبح أنّ يد الله الباسطة عليُّ بن أبي طالب، وكلُ ألقابه (عليه السلام) أدلتها في كتب العامة: عليٌّ عين الله، عليٌّ يد الله، عليٌّ لسان الله.
الفتح في خيبر وقع من الله تعالى بيده (عليه السلام)، وهذه الجملة الأولى.
وما يحيِّرُ العقول هو أنّ الحاكم يقول صريحاً أنّ البخاري ومسلم اتفقا على صحة حديث الراية والأخوّة، وفي الأخوّة طلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الأصحاب وآخى بينهم، ومن العجائب أنه آخى بين عثمان وعبد الرحمان بن عوف، وهذه معجزةٌ، حيث لم يفهم أحدٌ وجه هذه الأخوّة وسببها، إلى أن أوصى الثاني بأن يكون أمر الخلافة في ستة أشخاص فإن اختلفوا يكون ما يقوله عبد الرحمان بن عوف هو الحكم، وقد وافق عبد الرحمان في مورد اختلاف الستة على خلافة عثمان، هنا يتّضح إعجازُ فعل الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم).
وقد آخى بين الأول والثاني، كلّ هذا محيّرٌ للعقول! وآخى بين سلمان وأبي ذر، وبعدما آخى بين الجميع سأل: أين عليّ؟ ولما جاء قال: أنت أخي، وهذه القضية مورد اتفاق الكل.
وفي خيبر أعطى الراية للاثنين، فرجعا منهزمين، فقال: لأعطين الراية غداً رجلاً يحبّه الله ورسوله، ويحب الله ورسوله.
ولما لم يكن للنوم طريق إلى عيون الأصحاب ليلتها، اجتمعوا جميعاً في الصباح، ونادى أميرَ المؤمنين (عليه السلام) وأعطاه الراية ففتح خيبر.
وقد صرّح الفخر الرازي بأن فتح خيبر لم يكن فعل عليّ (عليه السلام)، بل كان فعل الله تعالى أُجرِيَ بيد عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).
وهو (عليه السلام)يقول: وَالله مَا قَلَعْتُ بَابَ خَيْبَرَ.. بِقُوَّةٍ جَسَدِيَّةٍ، وَلَا حَرَكَةٍ غِذَائِيَّةٍ، لَكِنِّي أُيِّدْتُ بِقُوَّةٍ مَلَكُوتِيَّةٍ، وَنَفْسٍ بِنُورِ رَبِّهَا مُضِيئة.
هذا هو دليل الشيعة في قولهم: عليٌّ يد الله.
السيدة الزهراء عليها السلام
الزهراء.. جوهرٌ قصّرنا في معرفته!
بسم الله الرحمن الرحيم(16)
بما أن (الأيام الفاطمية) قد أصبحت قريبة، فينبغي التعرُّضُ لها، ويجب أوّلاً أن نعرف (الحقيقة الفاطمية) بأنفسنا، حتى نتمكن من تعريفها للناس.
الصدِّيقة الكبرى هي (المَجْهُولَة قَدْراً)(17)، وهذه الجهالةُ ليست خاصَّةً بجماعةٍ دون أخرى، فتارةً يُسنَدُ الجهل للجاهل فيكون خاصاً، وتارةً يكون طرفُ الإسناد عاماً، وهنا (المجهولة قدراً) أي أنّ عامة الناس محرومون من هذه المعرفة، إلا أخصّ الخواص.
أمّا كُنهُ معرفتها، فالكلُّ محرومٌ منه، لأنّ الخلق فُطِمُوا عن معرفتها، مُطلَقُ الخلق. ولو كُنَّا نعرفها لم نكن على هذا القصور والتقصير بالنسبة لحقّها.
إنّ معرفة كلِّ شخصيةٍ ترجع لمعرفة أمرين: المبدأ والمنتهى، أي البداية والنهاية، والروايات في مبدأ ومنتهى الصدّيقة الكبرى ليست محتاجةً إلى السند، لأنّها بحدّ التواتر الإجمالي، مضافاً إلى اشتمالها على الصّحاح والموثّقات من مصادر العصمة.
وأمّا المآل في مقام ﴿وَبَرَزُوا لله الواحِدِ القَهَّار﴾(18) فهو محيّرٌ فعلاً، ونحن نكتفي بروايةٍ واحدةٍ يذكرها الشيخ الصدوق أعلى الله مقامه في (معاني الأخبار)(19)، والعمدةُ على دراية هذه الرواية، وفقه هذا الحديث، وهو يشتمل على مبدأ خلقها ومنتهى أمرها.
متن الحديث: عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ (عليه السلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم): خُلِقَ نُورُ فَاطِمَةَ (عليها السلام) قَبْلَ أَنْ تُخْلَقَ الأَرْضُ وَالسَّمَاءُ.
فخَلقُها مُقَدَّمٌ على خلق كلّ السماوات والأرضين والكواكب، هذه خِلقة قدّيسة العالم، فما هو جوهر وجودها يا ترى؟
أما (قَبْلَ) فكم كانت؟ لا يعلم ذلك إلا هو.
فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: يَا نَبِيَّ الله، فَلَيْسَتْ هِيَ إِنْسِيَّةً؟
طُرِحَ هذا السؤال: إذا كانت خِلقَتُها مقدّمة على خَلق تمام عالم المادة، فلا تكون هذه المخلوقة إنسيّة، لا تكون إنساناً، تكون جوهراً آخر!
فَقَالَ (صلى الله عليه وآله وسلم): فَاطِمَةُ حَوْرَاءُ إِنْسِيَّةٌ! أي أنّ الصورةَ صورةُ إنسان، ولكنّ السيرة في باطن الوجود حوراء، في مرحلة التقدُّس عن كل عوارض هذا العالم.
قَالَ: يَا نَبِيَّ الله، وَكَيْفَ هِيَ حَوْرَاءُ إِنْسِيَّةٌ؟
هنا اختلف التعبير، وهنا تتحيَّرُ العقول، ففي البداية كان التعبير مجهولاً (خُلِقَ نُورُ فَاطِمَةَ)، وهنا صار معلوماً، وفي بيان خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم) نكتة مهمة:
قَالَ: خَلَقَهَا الله عَزَّ وَجَلَّ مِنْ نُورِهِ، هنا حيرةُ الكُمَّل، خَلَقَها من نور نفس الذات القدوس! هذا يفهمُه من يفهم سورة النور، ويفهم قوله تعالى ﴿الله نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ﴾(20)، وفُسِّرَت المشكاة بالصديقة الكبرى.
خَلَقَهَا الله عَزَّ وَجَلَّ مِنْ نُورِهِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ إِذْ كَانَتِ الأَرْوَاحُ، فَلَمَّا خَلَقَ الله عَزَّ وَجَلَّ آدَمَ عُرِضَتْ عَلَى آدَمَ: إنّ للقرآن بطوناً ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْماءَ كُلَّها﴾(21).
قِيلَ: يَا نَبِيَّ الله، وَأَيْنَ كَانَتْ فَاطِمَةُ؟
هذه الأسئلة كاشفةٌ عن إدراك السائلين، فإذا كان خَلقُها قبل السماوات والأرض، إذاً أين كان مكانُ فاطمة (عليها السلام)؟
قَالَ: كَانَتْ فِي حُقَّةٍ تَحْتَ سَاقِ العَرْشِ.
قَالُوا: يَا نَبِيَّ الله فَمَا كَانَ طَعَامُهَا؟ قَالَ: التَّسْبِيحُ وَالتَّهْلِيلُ وَالتَّحْمِيدُ.
فَلَمَّا خَلَقَ الله عَزَّ وَجَلَّ آدَمَ وَأَخْرَجَنِي مِنْ صُلْبِهِ، أَحَبَّ الله عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ صُلْبِي، جَعَلَهَا تُفَّاحَةً فِي الجَنَّةِ: وكله منتَسِبٌ لله تعالى دون واسطة (أَحَبَّ الله.. جَعَلَهَا تفاحة..).
وَأَتَانِي بِهَا جَبْرَئِيلُ (عليه السلام) فَقَالَ لِي: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ يَا مُحَمَّدُ.
قُلْتُ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ الله حَبِيبِي جَبْرَئِيلُ.
فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ رَبَّكَ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ.
قُلْتُ: مِنْهُ السَّلَامُ وَإِلَيْهِ يَعُودُ السَّلَامُ.
قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ هَذِهِ تُفَّاحَةٌ: العبارات إشاراتٌ، والهدايا على مقدار مُهدِيها، وليست العبارة (يا رسول الله)، بل الخطاب هنا بالاسم، بالاسم الخاص (محمد)، لأن المُخاطِبَ هو الذات القدوس تعالى، وجبرائيل مُبَلِّغٌ.
يَا مُحَمَّدُ إِنَّ هَذِهِ تُفَّاحَةٌ أَهْدَاهَا الله عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْكَ مِنَ الجَنَّةِ: ماذا يعني ذلك؟ يعني أنّه ليس هناك أحدٌ يليق بها غيرك، وقد أعطاك الله إياها بعنوان الهدية، فهل يمكن أن ندرك عظمة من كانت هديّة الله تعالى لخاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم)؟
فَأَخَذْتُهَا وَضَمَمْتُهَا إِلَى صَدْرِي: بما أنها هديّة الله تعالى فهكذا تصرَّفَ معها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أخذها وضمّها إلى صدره.
قَالَ: يَا مُحَمَّدُ يَقُولُ الله جَلَّ جَلَالُهُ: كُلْهَا، فَفَلَقْتُهَا: هنا يتحيّرُ عقل كلِّ حكيمٍ، بل مَن هم فوق الحكماء، فمَن وصل ليلة المعراج إلى ﴿دَنا فَتَدَلَّى﴾ ووصل إلى ﴿فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى﴾(22)، عندما رأى هذا النور فَزِع، فماذا كان هذا النور؟
فَرَأَيْتُ نُوراً سَاطِعاً فَفَزِعْتُ مِنْهُ!
فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَا لَكَ لَا تَأْكُلُ، كُلْهَا وَلَا تَخَفْ: الخطاب بالاسم الخاصّ أيضاً، أمّا النور فينبغي شرحه في وقتٍ آخر إذ لا يسع الوقت لذلك.
فَإِنَّ ذَلِكَ النُّورَ المَنْصُورَةُ فِي السَّمَاءِ، وَهِيَ فِي الأَرْضِ فَاطِمَة: هذا النور لمن كان اسمها السماويّ المنصورة، واسمها الأرضيّ فاطمة.
قُلْتُ: والمطلب عميقٌ إلى حدّ أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي قال فيه تعالى: ﴿وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظيما﴾(23) سأل:
حَبِيبِي جَبْرَئِيلُ، وَلِمَ سُمِّيَتْ فِي السَّمَاءِ المَنْصُورَةَ؟ وَفِي الأَرْضِ فَاطِمَةَ؟: تلك كانت أسئلة المستفهمين، وهنا سؤال الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم).
قَالَ: سُمِّيَتْ فِي الأَرْضِ فَاطِمَةَ، لِأَنَّهَا فَطَمَتْ شِيعَتَهَا مِنَ النَّارِ، وَفُطِمَ أَعْدَاؤُهَا عَنْ حُبِّهَا: هذا سِرُّ الاسم الأرضيّ، أما سِرُّ الاسم السماويّ، فهو يشير الى منتهى هذا المبدأ، إذ المعرفة بمعرفة المبدأ والمنتهى، فالمبدأ نور الله، ولكن ما هو المنتهى؟
وَهِيَ فِي السَّمَاءِ المَنْصُورَةُ، وَذَلِكَ قَوْلُ الله عَزَّ وَجَلَّ ﴿يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ الله يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ﴾(24) يَعْنِي: نَصْرَ فَاطِمَةَ لِمُحِبِّيهَا.
هذا هو الجوهرُ الذي قصّرنا طيلة عمرنا بَحَقِّه.
فيجب في هذه الدّولة التي عُرفت بعنوان دولة الشيعة أن يَهِبَّ الناسُ بشكلٍ يتناسب مع هذا المقام.
أيُّ مقامٍ هذا؟ ومَن هي هذه؟ إن اللسان ليعجز عن البيان.
يقول علي (عليه السلام) في نهج البلاغة: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ الله، عَنِّي وَعَنِ ابْنَتِكَ النَّازِلَةِ فِي جِوَارِكَ، وَالسَّرِيعَةِ اللَّحَاقِ بِك(25).
ثم قال جملة لم يكن لها سابقةٌ ولا لها لاحقةٌ في تاريخ حياته: قَلَّ يَا رَسُولَ الله عَنْ صَفِيَّتِكَ صَبْرِي، وَرَقَ عَنْهَا تَجَلُّدِي!
يجب النظر في قلبه (عليه السلام) لنعلم عظم المصيبة!
إِلَّا أَنَّ فِي التَّأَسِّي لِي بِعَظِيمِ فُرْقَتِكَ، وَفَادِحِ مُصِيبَتِكَ، مَوْضِعَ تَعَزٍّ، فَلَقَدْ وَسَّدْتُكَ فِي مَلْحُودَةِ قَبْرِكَ، وَفَاضَتْ بَيْنَ نَحْرِي وَصَدْرِي نَفْسُكَ.
اسعوا في هذه الأيام لإحياء أمرها قدر إمكانكم، ولا تتأخروا عن هذا الفيض الإلهي العظيم، انتشروا في البلاد، وقولوا للناس كيف ينبغي أن نكون في هذه المصيبة التي آذت قلب علي (عليه السلام).
لم يقل (عليه السلام) ما هي هذه المصيبة، بل قال هاتين الجملتين: فَأَحْفِهَا السُّؤَالَ، وَاسْتَخْبِرْهَا الحَال.
والإحفاء: الاستقصاء في السؤال.
ماذا جرى؟ ماذا حصل؟ ماذا تحمَّلَت؟
أمير المؤمنين (عليه السلام) يخاطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا الخطاب، فماذا يعني ذلك؟ فاطمةُ لم تقل لي ماذا جرى، لقد ماتت، فاسألها أنت واعرف ماذا حصل معها بعد أن ذَهَبْتَ من الدنيا وهي سالمة، ولما جاءت إليك الآن كيف كانت.
فإنا لله وإنا إليه راجعون.
أيام الزهراء.. مصيبةٌ لا عزاء لها!
بسم الله الرحمن الرحيم(26)
مع اقتراب الأيام الفاطمية، فإنّ وظيفة الجميع بيانُ عظمةِ ومقام ورِفعة هذه السيدة (عليها السلام)، وهذا البحث مُحَيِّرٌ فعلاً.
إنّ وظيفة كلِّ مسلمٍ بالنسبة للفاطميّة وللصدِّيقة الكبرى ثقيلة جداً، وسنطرح إن سمح الوقت لنا روايةً من مصادر العامة، وأخرى من مصادر الخاصّة، كي يعلم كلُّ مسلمٍ مهما كان مذهبه ما هي وظيفته بالنسبة ليوم شهادتها(عليها السلام).
لقد نقل علماء الحديث والرجال عند العامة هذه الرواية: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أوّل شخصٍ يدخل الجنة فاطمة(27).
هذه الجملة بحرٌ، وفِقهُ هذا الحديث يُعجِزُ ويُحَيِّرُ كلَّ فقيهٍ وحكيم، وهذه الرواية منقولةٌ عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) من طُرُقهم: أوَّلُ شخصٍ يدخل الجنة فاطمة.
إنّ فهم هذا الحديث يتوقف على إدراك عمق سورة الواقعة، بسم الله الرحمن الرحيم ﴿إِذَا وَقَعَتِ الوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ * إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجّاً * وَبُسَّتِ الجِبَالُ بَسّاً * فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً﴾(28).
في يوم الواقعة (خَفضٌ ورَفعٌ): أما الرَّفع فإلى الدرجات التي لا تُدرك ولا توصف. وأما الخفض فإلى أسفل السافلين!
﴿إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجّاً * وَبُسَّتِ الجِبَالُ بَسّاً﴾: هذه الجبال كلُّها تصبح كالذَّرِّ المنبثّ في الفضاء. ما هو الحال في مثل هذا اليوم ومثل هذه الواقعة؟ بيان الحال في هذه الجملة: ﴿وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلَاثَةً﴾(29).
ينقسم الناس الى أقسامٍ ثلاثة: أصحابُ الميمنة، وأصحابُ المشأمة، والسابقون: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ المُقَرَّبُونَ﴾(30)، وينبغي هنا فَهمُ مقام السابقين، وذلك القُرب والتَّقَرُّب، ومراتب السَّبق كمّاً وكيفاً، قبل الوصول إلى (أسبق السابقين)، فمن هو أسبق السابقين؟
إنّ أفضل الأولين والآخرين هو خاتم الأنبياء والمرسلين (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهو أسبق السابقين، وذلك بضرورة حكم العقل والكتاب والسنة: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ﴾(31)، وخاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم) هو أوّلُ من يدخل الجنّة بالضرورة، لكنّ ما يحيِّرُ العقول هو أنّ ابنته فاطمة (عليها السلام) تكون أمامه عندما يدخل المحشر على البراق، وعندما يَرِدُ الجنة! تدخل (عليها السلام) أَمامَ إِمامِ الأولين والآخرين! أيُّ مقامٍ هذا؟!
أوّل شخصٍ يدخل الجنة فاطمة: لو فُهِمَت هذه العبارة لحُلَّت كل المسائل.
الخاتَم (صلى الله عليه وآله وسلم) مُقدَّم، فماذا فعلت (عليها السلام) حتى صارت أَمَامَ إِمَامِ الكُلّ؟
لا شكّ أن العمل الذي عملته، والدور الذي أدّته محصورٌ ومختصٌّ بها.
لقد وصل الغرض من خلقة العالم منذ بعثة آدم إلى عيسى بن مريم إلى نتيجته، لكنّ قمّة ذلك كان ببعثة الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، فببعثته يحصل الغرض من الخلقة، وتتحقق ثمار التشريع والديانة، ولكنّ العِلَّة المحدِثَة هو خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم)، والعلّة الُمبقِيَة هي سيّدة نساء العالمين (عليها السلام).
فبمن بقي كلّ ما أتى به الأنبياء من آدم (عليه السلام) إلى الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ بوجود الصديقة الكبرى حصراً.
فلو لم تكن: لم يكن الحِلمُ الحسنيّ، ولا الشجاعةُ الحسينيّة، ولا العبادة السجاديّة، ولا المآثر الباقريّة، ولا الآثار الجعفريّة، ولا العلومُ الكاظميّة، ولا الحُجَجُ الرضويّة، ولا الجودُ التَقَويّ، ولا النقاوة النقويّة، ولا الهيبةُ العسكرية، ولا غيبةُ من يملأ الله الأرضَ به قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً.
ماذا فعلت (عليها السلام)؟ ومَن كانت؟ وما كان أثر وجودها؟ ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ﴾(32): لقد بقي نسله (صلى الله عليه وآله وسلم) في العالم بها (عليها السلام)، وثبت دينُه في الأمم بوجودها (عليها السلام).
فاطمةُ بضعة مني: إنّ وُرودَها على الجنة هو ورودُ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكان أول شخصٍ يدخل الجنة فاطمة. لكن بأيّ كيفية تدخلها؟ هذا هو المهم، وفي متن هذا الحديث دقائق، ولو فَهمت دنيا العامّة هذه الرواية كان ذلك كافياً.
نصّ الرواية عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): تُحشَرُ ابنتي فاطمة يوم القيامة وعليها حلّة الكرامة، قد عُجِنَت بماء الحيوان، فتنظر إليها الخلائق فيتعجبون منها!
هذه الرواية محيّرةٌ، وهي من طرق العامّة، وفيهم المحدثون وأعلام الرجال، و(الخلائق) جمعٌ محلّى بالألف، فعيون (كل المخلوقات) تتّجه نحو هودجها!
فيتعجبون: كيف يَغفَلُ الجميع عن أنفسهم في ذلك اليوم المضطرب؟ الذي يقول فيه الجميع (وانفساه)! فيغرقون في التعجُّب من عظمتها؟!
ثم تُكسى حلّةً من حلل الجنة، تشتمل على ألف حلةٍ، مكتوبٌ عليها بخطٍ أخضر: أدخِلوا فاطمة ابنة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الجنة على أحسن صورة، وأكمل هيئة، وأتم كرامة، وأوفر حظ. فتُزَفُّ إلى الجنّة كالعروس، حولها سبعون ألف جارية(33).
لقد ورد أفعل التفضيل أربع مرات، إنّها (عليها السلام) ترد الجنة، لكن بأي كيفية؟
بأحسن صورة: أيُّ يومٍ هو يوم القيامة؟! يوم ﴿بَرَزُواْ للّهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ﴾(34)، فماذا تعني أحسن صورة؟ هل فكرتم؟!
اقرؤوا القرآن حتى تعرفوا ماذا يعني أحسن صورة، قال تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ﴾(35)، إنما كانت الخلقة لهذا، لقد خلق الله الموت والحياة ليختبر الناس، ويتحقق أحسن ما كانوا يعملون، لهذا كانت الخلقة، (للأحسن) في العمل والعلم، وقال تعالى: ﴿الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ﴾(36)، وقال: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾(37).
وينبغي أن يُحشَر يوم القيامة بأحسن صورة، الذي كان هُنا أحسن علماً وخُلقاً وعملاً، فيُحشَر على نحوٍ ترشدُ صورَتُهُ إلى سيرته.
هذه هي الزهراء (عليها السلام)، وهذا أفعل التفضيل الأول: أدخلوا فاطمة ابنة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الجنة على أحسن صورة. أما شرح البقية فلا وقت له.
على كل مسلمٍ أن يعرف يوم شهادتها، ويوم رحلة (مَن) هو هذا اليوم؟
أما من طرق الخاصة، فقد روى الصدوق في علل الشرائع عن أبي عبد الله (عليه السلام)، وفي مصباح الأنوار عن أبي جعفر (عليه السلام)، وكلاهما من الأئمة، قال: قلت له: لِمَ سُمِّيَتْ فَاطِمَةُ الزَّهْرَاءُ زَهْرَاءَ؟
فقال: لِأَنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَهَا مِنْ نُورِ عَظَمَتِهِ: هذا مبدؤها، وذاك كان منتهاها، ههنا حِيرَةُ الكُمَّل، فالمبدأ خلقُهَا من نور عظمة الله، والمنتهى: أول من يدخل الجنة.
فَلَمَّا أَشْرَقَتْ أَضَاءَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ بِنُورِهَا، وَغَشِيَتْ أَبْصَارُ المَلَائِكَةِ، وَخَرَّتِ المَلَائِكَةُ لله سَاجِدِينَ، وَقَالُوا: إِلَهَنَا وَسَيِّدَنَا، مَا لِهَذَا النُّورِ؟
فَأَوْحَى الله إِلَيْهِمْ: شرحُ هذا الحديث لوقتٍ آخر، لكن على أهل الحديث الدقّة في هذه الكلمات:
هَذَا نُورٌ مِنْ نُورِي، أَسْكَنْتُهُ فِي سَمَائِي، خَلَقْتُهُ مِنْ عَظَمَتِي: مَن هو العَليُّ العظيم؟ لقد خَلَقَ فاطمة من تلك العظمة.
أُخْرِجُهُ مِنْ صُلْبِ نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِي، أُفَضِّلُهُ عَلَى جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ: ينبغي أن يكون صُلب هذه الجوهرة أشرف ولد آدم. وخَتم الكلام:
وَأُخْرِجُ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ أَئِمَّةً يَقُومُونَ بِأَمْرِي، يَهْدُونَ إِلَى حَقِّي، وَأَجْعَلُهُمْ خُلَفَائِي فِي أَرْضِي بَعْدَ انْقِضَاءِ وَحْيِي(38). هذا المبدأ والمنتهى والوسط.
رغم ذلك، ظهر عِدَّةٌ من العوام، مِمَّن يعملون على إيجاد التشويش في أذهان الناس، فيقولون أنّ هذه الهيئات والمسيرات والنشاطات بمناسبة شهادة الصديقة زائدة عن الحدّ!
إن عصر الجهل هو عصرنا هذا!!
أنتم نُخبَةُ قمّ باعتقاد الجميع، عِدَّةٌ منكم أساتذة بحثٍ خارج، وعدّةٌ منكم أساتذة سطوح عالية، بيِّنوا للناس أنّ كلّ ما يُقام في ذكراها قليل! لماذا؟ وبأيّ دليل؟
مَن هو أمير المؤمنين؟ من هو إمام الموحدين (عليه السلام)؟ هذا بيانه الذي يُبَيِّن فيه عظمة مصيبة فاطمة (عليها السلام) فيقول:
هَذِهِ والله: رغم أنّ هذه الكلمة لعلي (عليه السلام)، إلا أنّها توأمٌ مع هذا القسم!
مُصِيبَةٌ لَا عَزَاءَ لَهَا: ماذا يعني ذلك؟ إن كل ما تفعلونه لا يملأ خلأ وفراغ هذه المصيبة!
ورزية لا خَلَفَ لها!(39): كلُّ هذا ذرّةٌ أمام هذه الكلمة، فأين ضاع حقها؟
هي التي كان أوّلُ أمرها نوراً من عظمة الله، ووسطه الأئمة من الحسن (عليه السلام) إلى الحجة بن الحسن ‘، كلُّهم ثمارُ شجرة وجودها، وآخر أمرها أنها أوّل من يدخل الجنة بأحسن صورة. رغم ذلك.. فهي التي كُسِرَ متنها!!
مَا زَالَتْ بَعْدَ أَبِيهَا مُعَصَّبَةَ الرَّأْسِ نَاحِلَةَ الجِسْمِ: ماذا يعني ناحلة الجسم؟ لم يكن يمرّ يومٌ إلا ويتحول لحمها إلى ماء، وَذَابَ لحمُهَا وَصَارَتْ كَالخَيَال!! إلى أن وصلت إلى حَدّ أنها صارت:
مُنْهَدَّةَ الرُّكْنِ، بَاكِيَةَ العَيْنِ، مُحْتَرِقَةَ القَلْبِ، يُغْشَى عَلَيْهَا سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ(40).
لا إله إلا الله..
فكروا.. كم هي المدة منذ يوم رحلة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى يوم رحلة الزهراء (عليها السلام)؟ كل هذه المدة كان: يُغْشَى عَلَيْهَا سَاعَةً بَعْدَ سَاعَةٍ! فلقد كانت تغشى كل ساعة!
وعن علي (عليه السلام): غَسَلْتُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فِي قَمِيصِهِ، فَكَانَتْ فَاطِمَةُ تَقُولُ: أَرِنِي القَمِيصَ، فَإِذَا شَمَّتْهُ غُشِيَ عَلَيْهَا، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ غَيَّبْتُه(41).
مَاذَا عَلَى مَنْ شَمَّ تُرْبَةَ أَحْمَدَ * * * أَنْ لَا يَشَمَّ مَدَى الزَّمَانِ غَوَالِيَا
صُبَّتْ عَلَيَّ مَصَائِبُ لَوْ أَنَّهَا * * * صُبَّتْ عَلَى الأَيَّامِ صِرْنَ لَيَالِيَا
إنا لله وإنا إليه راجعون.
فاطمة.. أيُّ بدنٍ ووري تحت الثرى!
بسم الله الرحمن الرحيم(42)
اليوم مقدمةُ الأيام الفاطمية، ومن المهمّ أن نفهم أنّا لم نفهم!
هذا هو الإكسير الأعظم، هذا كمال العلم! أيُّ جوهرة هي هذه الجوهرة؟ لم يعرفها أحدٌ، ولا يمكن لأحدٍ أن يعرفها.
الروايات التي وردت في موضوع الصديقة الكبرى (عليها السلام) تثير الحِيرة، إلى حدّ أنّ الفقهاء من الطراز الأول قد تحيّروا في إدراكها، سواءٌ من حيث الإسم أو من حيث المُسمّى.
أما الإسم: لِفَاطِمَةَ (عليها السلام) تِسْعَةُ أَسْمَاءٍ عِنْدَ الله عَزَّ وَجَلَّ، كما عن الصادق (عليه السلام)(43). لفاطمة تسعة أسماء، لكن أين ذلك؟ عند الله تعالى، فإذا كان محلُّ اسمها في مقام (العِنديَّة)، أي عنده تعالى: ﴿عِنْدَ مَليكٍ مُقْتَدِر﴾(44)، فما حال الُمسمّى؟
دون فهم هذه الروايات خرط القتاد!
اليوم نكتفي بحديثٍ واحد، بل ببعضه لا بكلّه، لأن إدراكه كله في بحثٍ واحدٍ في غاية الإشكال.
والحديث ينقله الصدوق أعلى الله مقامه في معاني الأخبار(45)، ولكلٍّ من كتب الصدوق شأنه الخاص، وقد جمع في معاني الأخبار زُبدَةَ معاني الروايات.
والرواية من جهة السند تبدأ بمن يقول ابن طاووس أنّ وثاقته مورد إجماٍع، وتنتهي بسدير الصيرفي، وهو من رجال تفسير عليّ بن إبراهيم القمي.
ومتن الرواية مهمٌّ: عَنِ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ (عليهم السلام)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم): خُلِقَ نُورُ فَاطِمَةَ (عليها السلام) قَبْلَ أَنْ تُخْلَقَ الأَرْضُ وَالسَّمَاءُ: أي جوهرةٍ هذه؟! خُلِقَ نورها قبل خلق الأرض والسماوات.. مرّت مليارات السنوات الضوئية من عمر هذه السماء، وهي مُقدَّمَةٌ في الخلق على كل ذلك!
فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: يَا نَبِيَّ الله، فَلَيْسَتْ هِيَ إِنْسِيَّةً؟
فَقَالَ (صلى الله عليه وآله وسلم): فَاطِمَةُ حَوْرَاءُ إِنْسِيَّةٌ.
قَالَ: يَا نَبِيَّ الله، وَكَيْفَ هِيَ حَوْرَاءُ إِنْسِيَّةٌ؟
قَالَ: خَلَقَهَا الله عَزَّ وَجَلَّ مِنْ نُورِهِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ إِذْ كَانَتِ الأَرْوَاحُ: مبدأ الخلق في وجودها نورُ الله تعالى ﴿الله نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾(46)، وهنا يعجز البرهان ويحارُ العقل، فقد كان مبدأ خلقتها نور الله تعالى.
فَلَمَّا خَلَقَ الله عَزَّ وَجَلَّ آدَمَ عُرِضَتْ عَلَى آدَمَ.
قِيلَ: يَا نَبِيَّ الله، وَأَيْنَ كَانَتْ فَاطِمَةُ؟ أين كانت فاطمة لمّا لم تكن الأرض ولا السماء مخلوقة؟ فكان جوابه المحيّر:
قَالَ: كَانَتْ فِي حُقَّةٍ تَحْتَ سَاقِ العَرْشِ. قَالُوا: يَا نَبِيَّ الله، فَمَا كَانَ طَعَامُهَا؟
قَالَ: التَّسْبِيحُ وَالتَّهْلِيلُ وَالتَّحْمِيدُ: هذا هو طعامها، إذا عُرِفَ ذلك يَفهم البشر حينها كلام سادس الأئمة (عليهم السلام): إِنَّمَا سُمِّيَتْ فَاطِمَةُ لِأَنَّ الخَلْقَ فُطِمُوا عَنْ مَعْرِفَتِهَا(47). فكلُّ الخلق مفطومون عن معرفتها.
فَلَمَّا خَلَقَ الله عَزَّ وَجَلَّ آدَمَ وَأَخْرَجَنِي مِنْ صُلْبِهِ، أَحَبَّ الله عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ صُلْبِي: لم يكن أحدٌ آخر من الأنبياء صُلباً لهذه الجوهرة غيره (صلى الله عليه وآله وسلم).
جَعَلَهَا تُفَّاحَةً فِي الجَنَّةِ، وَأَتَانِي بِهَا جَبْرَئِيل (عليه السلام)، فَقَالَ لِي: السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ يَا مُحَمَّدُ. قُلْتُ: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ الله حَبِيبِي جَبْرَئِيلُ.
فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ رَبَّكَ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ: وليدقق هنا أهل الفقاهة جيداً، ربك يقرئك السلام، وكان هذا جوابه (صلى الله عليه وآله وسلم): قُلْتُ: مِنْهُ السَّلَامُ وَإِلَيْهِ يَعُودُ السَّلَامُ.
قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ هَذِهِ تُفَّاحَةٌ أَهْدَاهَا الله عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْكَ مِنَ الجَنَّةِ، فَأَخَذْتُهَا وَضَمَمْتُهَا إِلَى صَدْرِي: هدية الله تعالى لك، هنا أجر الرسالة، هدية الله لك هذه التفاحة، أخذها (صلى الله عليه وآله وسلم) وضمّها إلى صدره.
قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، يَقُولُ الله جَلَّ جَلَالُهُ: كُلْهَا، فَفَلَقْتُهَا فَرَأَيْتُ نُوراً سَاطِعاً، فَفَزِعْتُ مِنْهُ: مَن شاهد ما شاهد ليلة المعراج، ووصل الى ذلك المكان الذي لا يُدرَك ولا يُوصف، ولم يُدركهُ ملكٌ مقرّب، ولا نبيٌّ مُرسَل، ذهب وطوى كل تلك المراحل، ولكن لما فلَقَ التفاحة وخرج منها نور فَزِعَ منه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه!!
فمن الذي يدرك هذه الجوهرة؟ التي إذا سطع نورها فَزِعَ من رؤيته خاتم الأنبياء، وهو عقل الكلّ، وكلّ العقل، وكلّ الكمال، وكمال الكلّ.
فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَا لَكَ لَا تَأْكُلُ؟ كُلْهَا وَلَا تَخَفْ، فَإِنَّ ذَلِكَ النُّورَ المَنْصُورَةُ فِي السَّمَاءِ، وَهِيَ فِي الأَرْضِ فَاطِمَةُ: والمطلب مهمٌ بقدر أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سأل حينها:
قُلْتُ: حَبِيبِي جَبْرَئِيلُ، وَلِمَ سُمِّيَتْ فِي السَّمَاءِ المَنْصُورَةَ، وَفِي الأَرْضِ فَاطِمَةَ؟
اعرفوها وعرِّفوا الناس بها.. ليعلموا أنّ على هذه البلاد أن تصبح رايةً وعَلَمَاً في إحياء الأيام الفاطمية.. فإذا كان هناك وعيٌ وإدراكٌ وفقاهةٌ لتُفهم هذه الأحاديث، حينها يُعلم أيّ ليلةٍ تلك كانت! وأيُّ بدنٍ ووري تحت الثرى! وأيّ قَبرٍ.. وأيُّ دَفنٍ.. لا إله إلا الله.
قَالَ: سُمِّيَتْ فِي الأَرْضِ فَاطِمَةَ لِأَنَّهَا فَطَمَتْ شِيعَتَهَا مِنَ النَّارِ، وَفُطِمَ أَعْدَاؤُهَا عَنْ حُبِّهَا، وَهِيَ فِي السَّمَاءِ المَنْصُورَةُ: وكل شيء في هذه الجملة، خِتامُه مسكٌ، بحارٌ من العلم والحكمة: وَ ذَلِكَ قَوْلُ الله عَزَّ وَجَلَّ ﴿يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ الله يَنْصُرُ مَنْ يَشٰاءُ﴾ يَعْنِي نَصْرَ فَاطِمَةَ لِمُحِبِّيهَا.
ماذا يعني هذا؟ اسمها في السماء المنصورة، يعني أنّه ذخيرةٌ ليوم القيامة، في ذلك اليوم الذي يقول كل الأنبياء (وانفساه)، ذلك اليوم يوم سلطنة الزهراء (عليها السلام)، في ذلك اليوم تحضر و﴿يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ الله﴾.. ولم يعد هناك وقتٌ لشرح هذه الجملة.
اغتنموا هذه الأيام وتفرّقوا في البلاد، وعرّفوا الناس من كانت، وماذا شاهدت، وماذا حصل معها، وكيف ذهبت، وماذا سوف تفعل.
يقف العقل هنا حائراً، الرواياتُ متظافرةٌ أنها لما سقطت (عليها السلام) إلى الأرض عند ولادتها أشرق نورٌ نَوَّر كل عالم الإمكان. فأيُّ جوهرةٍ هذه؟
نعم، الذي عَرَفَها هو الذي جاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لرؤيته في حرب أحد، ولما نظر رأى بدنه مليئاً بالثقوب حتى أن الفتيلة تدخل في ثقوبه، وما إن وقع نظر الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) عليه حتى بكى، لكنه (عليه السلام) ابتسم، وقال: يا رسول الله، هل ربي راضٍ؟
ولما ضُرِبَ صبيحة التاسع عشر بالسيف الذي اشتُري بألف درهم، والسم بألف درهم، لمّا ضُرِبَ على رأسه صاح جبرائيل بين الأرض والسماء: تَهَدَّمَتْ وَالله أَرْكَانُ الهُدَى، لكن البسمة كانت على شفتيه (عليه السلام) وقال: فزت ورب الكعبة.
مثل هذا، عندما توفيت وسَجّاها وأراد إرجاع الوديعة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: قَلَّ يَا رَسُولَ الله عَنْ صَفِيَّتِكَ صَبْرِي، وَرَقَّ عَنْهَا تَجَلُّدِي .. أَمَّا حُزْنِي فَسَرْمَدٌ وَأَمَّا لَيْلِي فَمُسَهَّدٌ: لا طريق للنوم إلى عينيّ بعد الآن، فحزني وأذى قلبي أبديٌّ.
وَسَتُنْبِئُكَ ابْنَتُكَ بِتَظَافُرِ أُمَّتِكَ عَلَى هَضْمِهَا: وهذه الجملة من أمير المؤمنين لها أهميتها الخاصة.
فَأَحْفِهَا السُّؤَالَ، وَاسْتَخْبِرْهَا الحَالَ: استخبر فاطمة، ويُعلَمُ من هذا ما عانت. وهنا جملةٌ ختم بها (عليه السلام):
نَفْسِي عَلَى زَفَرَاتِهَا مَحْبُوسَةٌ * * * يَا لَيْتَهَا خَرَجَتْ مَعَ الزَّفَرَات
وإنّا لله وإنا إليه راجعون.
نَفَسُ المهموم لظلم الزهراء
بسم الله الرحمن الرحيم(48)
ينقل الشيخ المفيد أعلى الله مقامه روايةً عن أبان بن تغلب عن أبي عبد الله (عليه السلام)، فيها ثلاث جمل:
الجملة الأولى: نَفَسُ المهْمُومِ لِظُلْمِنَا تَسْبِيحٌ.
الجملة الثانية: وَهَمُّهُ لَنَا عِبَادَةٌ.
الجملة الثالثة: وَكِتْمَانُ سِرِّنَا جِهَادٌ فِي سَبِيلِ الله.
والمهمُّ هو قول الإمام في تتمة الحديث: يَجِبُ أَنْ يُكْتَبَ هَذَا الحَدِيثُ بِالذَّهَبِ(49).
والأحاديث التي ورد فيها ما ورد في هذا الحديث قليلةٌ، والمهمّ هو دراية الحديث، فإذا فُهِمَ هذا الحديث يتضح لماذا يجب أن يكتب بالذهب.
نَفَسُ المهْمُومِ لِظُلْمِنَا تَسْبِيحٌ: إنّ درايةَ وفقه الحديث تتوقف على أن يتّضح التسبيحُ في الكتاب والسنة وتُفهَمَ حقيقته، ودون ذلك خرط القتاد.
اقرؤوا المسبِّحَات في القرآن، سواءٌ بصيغة الماضي أو المضارع: ﴿سَبَّحَ لله﴾ ﴿يُسَبِّحُ لله ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الأَرْض﴾، وهذه الكلمة مهمةٌ إلى حَدِّ أن يكون المخاطَب فيها هو الشخص الأول في هذا العالم ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ الغُرُوبِ﴾(50).
وقد عُدَّت الصلاة أعظمَ وظائف الدين، فهي ركنُ الدين، والركوع والسجودُ من أركان الصلاة، وفي الركوع: سبحان ربي العظيم وبحمده.
وفي السجدة التي تُعَدّ منتهى القرب: سبحان ربي الأعلى وبحمده.
وقد ذُكِرَتا في القرآن: التسبيح باسم الربّ العظيم ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظيمِ﴾، والتسبيح باسم الربّ الأعلى﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى﴾، وإذا فُهِمَت حقيقة التسبيح تتضح جملةُ سادس الأئمة (عليه السلام) من جهة دراية الحديث.
إنّ عظمة التسبيح بلغت درجة أن يسبّح الله نفسه عند ذكره أعظمِ فضيلةٍ وهي الإسراء، لأعلى شخصيةٍ في العالم وهو الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿سُبْحانَ الَّذي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى﴾.
وفي قضية يونس قال تعالى: ﴿فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ المسَبِّحين * لَلَبِثَ في بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾: فلو لم يكن يونس من أهل التسبيح كان عليه أن يبقى سجيناً في بطن الحوت إلى يوم البعث.
قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): مَنْ قَالَ سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ كَتَبَ الله لَهُ ألفَ ألفِ حَسَنَة، وَمَحَا عَنْهُ ألفَ ألفِ سَيِّئَةٍ، وَرَفَعَ لَهُ ألفَ ألفِ دَرَجَةٍ(51).
قِيمةُ نَفَسٍ واحدٍ على الظُّلم الذي وقع على فاطمة الزهراء (عليها السلام) هو هذا التسبيح، ولذا قال الإمام (عليه السلام): يَجِبُ أَنْ يُكْتَبَ هَذَا الحَدِيثُ بِالذَّهَبِ.
اغتنموا هذه الأيام، فإذا عرف الإيرانيون هذه المعاني ينبغي أن يكون يوم شهادتها يومَ عويلٍ وعزاء.
أمّا التُرَّهات التي يروِّجُ لها عدةٌ من العوام ولو وضعوا على رأسهم عمامة، والتي يلقونها في نفوس العامة، من أنّ هذا المقدار من العزاء قد تجاوز الحدود، فإنّها تكشف عن حدّ انعدام الوعي والإدراك والعلم عندهم.
ورد في الحديث عن الصادق (عليه السلام) في مناجاته لله تعالى: وَارْحَمِ الصَّرْخَةَ الَّتِي كَانَتْ لَنَا(52): يترحّم رأسُ المذهب ورئيسه لا على البكاء فقط، بل على الصرخة والعويل عليهم.
ينبغي على الناس أن يفهموا مَن كانت الصديقة الكبرى، لم يعرفها أحدٌ ولا يعرفها أحدٌ ولا يمكنهم أن يعرفوها، مَن عَرَفها هو شخصٌ واحد، هو الذي قال عن نفسه عندما أُرجعت الأمانة: يَا لَيْتَهَا خَرَجَتْ مَعَ الزَّفَرَات!
الروايات في هذه الجوهرة محيِّرةٌ، فعن أوَّلها تنصُّ الرواية أنّها خُلِقَت قبل خلف العالم بألف دهر! أمّا آخرها، فغير قابلٍ للقول..
ينقل الشيخ الصدوق أعلى الله مقامه روايةً، وعليكم أنتم الذين بذلتم عمراً وجُهداً لتشييد مباني الأصول، أن تدقِّقوا في هذا الحديث لتعرفوا وتُعَرِّفُوا الناس مقامها، فعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
وَأَمَّا ابْنَتِي فَاطِمَةُ فَإِنَّهَا سَيِّدَةُ نِسَاءِ العَالَمِينَ مِنَ الأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، وَهِيَ بَضْعَةٌ مِنِّي: عقلُ الكلّ وعِلم الكلّ، والهداية الكلية، وصفوة الكل وعبادة الكلّ، صارت هذه الجوهرةُ قسماً منه.
وَهِيَ نُورُ عَيْنِي: هذه الكلمات تحيِّر العقل، هي نور عينه فلو لم تكن لم يكن المصطفى ليرى! أيُّ معنى هذا؟!
وَهِيَ ثَمَرَةُ فُؤَادِي: من كان وجوده ثمرة كل العالم، يقول فاطمة ثمرة وجودي! لا ينتهي الأمر هنا، فالجملة التي نقلها شيخ الطائفة:
وَهِيَ رُوحِيَ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيَّ: روحُ العالم هو الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وروح الأنبياء والمرسَلين هو خاتم النبيين، فأيُّ جوهرة هذه التي صارت روحَ روحِ العالم؟
الآن يُفهم لماذا قال (عليه السلام):
نَفْسِي عَلَى زَفَرَاتِهَا مَحْبُوسَةٌ * * * يَا لَيْتَهَا خَرَجَتْ مَعَ الزَّفَرَات
وَهِيَ الحَوْرَاءُ الإِنْسِيَّةُ، مَتَى قَامَتْ فِي مِحْرَابِهَا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهَا جَلَّ جَلَالُهُ: لا إله إلا الله، مَن كانت؟ وماذا فعلت؟ وماذا حصل معها؟ فالحديثُ لا عن مرَّةٍ، بل كلَّما قامت بين يدي ربها ولم يكن بينها وبين الله حجاب:
زَهَرَ(53) نُورُهَا لِمَلَائِكَةِ السَّمَاءِ كَمَا يَزهَرُ نُورُ الكَوَاكِبِ لِأَهْلِ الأَرْضِ: وههنا حيرة الكمّل، لمن يزهر؟ يزهر للملائكة الذين: أَسْكَنْتَهُمْ سَمَاوَاتِكَ، وَرَفَعْتَهُمْ عَنْ أَرْضِكَ، هُمْ أَعْلَمُ خَلْقِكَ بِكَ(54)، فهؤلاء الملائكة كلُّهُم يتحيّرون من هذا النور الذي يشرق من هذه الروح على العرش، وتصل النوبة لمباهاة الله تعالى، ملائكة السماء بِقَدَميها المتورِّمتين، وهو الغنيِّ على الإطلاق، الحكيم على الإطلاق.
وَيَقُولُ الله عَزَّ وَجَلَّ لِمَلَائِكَتِهِ: يَا مَلَائِكَتِي انْظُرُوا إِلَى أَمَتِي فَاطِمَةَ سَيِّدَةِ إِمَائِي قَائِمَةً بَيْنَ يَدَيَّ، تَرْتَعِدُ فَرَائِصُهَا مِنْ خِيفَتِي، وَقَدْ أَقْبَلَتْ بِقَلْبِهَا عَلَى عِبَادَتِي، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ آمَنْتُ شِيعَتَهَا مِنَ النَّارِ:
ثم قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعدما ذكر هذه المطالب: وَإنِّي لما رَأَيْتُهَا ذَكَرْتُ مَا يُصْنَعُ بِهَا بَعْدِي: ما الذي كان يحلّ بالخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) كُلَّمَا نظر إليها؟ وذَكَرَ ضلعها المكسور!
كَأَنِّي بِهَا وَقَدْ دَخَلَ الذُّلُّ بَيْتَهَا، وَانْتُهِكَتْ حُرْمَتُهَا، وَغُصِبَتْ حَقَّهَا، وَمُنِعَتْ إِرْثَهَا، وَكُسِرَ جَنْبُهَا: ماذا يعني كلامه (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ يعني أنَّهُ كان يرى ما سيجري عليها كلّ هذه المدة. وَأَسْقَطَتْ جَنِينَهَا وَهِيَ تُنَادِي: يَا مُحَمَّدَاهْ، فَلَا تُجَابُ، وَتَسْتَغِيثُ فَلَا تُغَاثُ، فَلَا تَزَالُ بَعْدِي مَحْزُونَةً مَكْرُوبَةً بَاكِيَةً(55).. والباقي غير قابلٍ للقول.
مَا زَالَتْ بَعْدَ أَبِيهَا مُعَصَّبَةَ الرَّأْسِ نَاحِلَةَ الجِسْمِ، مُنْهَدَّةَ الرُّكْنِ(56): شابَّةٌ في الثامنة عشر، ماذا فعلوا بها حتى صارت منهدَّة الركن؟ لا اله الا الله.. ظلّت يغشى عليها كلّ ساعةٍ طيلة 95 يوماً!
ما هي وظيفة الأمّة في مثل هذه المصيبة؟ إمام الزمان سيسألكم جميعاً: ماذا فعلتم لأمّي التي كُسِرَ ضلعها؟
لا ينبغي لهيئات العزاء أن تسمع للدعوات الشيطانية، بل ينبغي على كلّ الهيئات أن تخرج لتعزية ذلك القلب، الذي حمل بَدَنَها على يده وقال: وَسَتُنْبِئُكَ ابْنَتُكَ بِتَظَافُرِ أُمَّتِكَ عَلَى هَضْمِهَا! وإنا لله وإنا إليه راجعون.
يومُ الزهراء.. يومُ عويلٍ وبكاء..
بسم الله الرحمن الرحيم(57)
هذه الأيام أيام شهادة خاتم الأنبياء، هذه الأيام عظيمةٌ جداً، فشهادة السيدة الزهراء شهادة نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)!
فاطمة بضعةٌ منّي: هذا الحديث مورد اتفاق العامة والخاصة، وينبغي على كلّ مسلمٍ من أيّ مذهبٍ كان، وأي ملّة، أن يجعل يوم شهادة السيدة الزهراء (عليها السلام) يوم حزنه، ولا يختص ذلك بالشيعة.
هذا متن الحديث في كل الصحاح، أما فِقهُ الحديث فهناك الصخب..
وظيفتكم الأساسية في هذه الأيام أن تنتشروا جميعاً في البلاد، وثمرة الفقاهة إرشاد خلق الله إلى ما تفرّدت به حبيبة الله.
لا أنا ولا أنت ولا الشيخ الطوسي ولا الشيخ الانصاري أدركنا من هي فاطمة الزهراء، لأن الخلق فُطِمُوا عن معرفتها، كلُّنا مقصرون، لم نعرفها كما هي، ولم نُعَرِّف الآخرين عليها.
أما مَن هي؟ نعرف ذلك من الحديث الصحيح، الذي كان يفتي الشيخ الأنصاري بضرصٍ قاطع في مثل سنده، ويرفع يده عن أصالة الاحتياط الأصولية والفقهية، مع كونه رحمه الله يعدُّ تجسيماً للاحتياط.
ورجال سَنَدِ هذا الحديث موثقون بتوثيق الشيخ المفيد والنجاشي والشيخ الطوسي وابن شهر آشوب، أعاظم مشايخ الرجال والحديث.
وإن كنّا لا نصل إلى فقه الحديث، لكن ما لا يُدرك كلّه لا يُترك كلّه، والمتن عظيمٌ إلى حدِّ أن من يَعرِفُهُ هو قائله.. والحديث هو:
عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ(58): سَأَلَ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنِ الجَفْرِ فَقَالَ: هُوَ جِلْدُ ثَوْرٍ مَمْلُوءٌ عِلْماً. قَالَ لَهُ: فَالجَامِعَةُ؟
قَالَ: تِلْكَ صَحِيفَةٌ طُولُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فِي عَرْضِ الأَدِيمِ، مِثْلُ فَخِذِ الفَالِجِ، فِيهَا كُلُّ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَلَيْسَ مِنْ قَضِيَّةٍ إِلَّا وَهِيَ فِيهَا حَتَّى أَرْشُ الخَدْشِ.
وقد أجاب (عليه السلام) عن هذين السؤالين فوراً، ووصل إلى السؤال الثالث:
قَالَ: فَمُصْحَفُ فَاطِمَةَ (عليها السلام)؟
قَالَ: فَسَكَتَ طَوِيلًا: فاطمة الزهراء قد عرفها جعفر بن محمد (عليه السلام)، سكوته الطويل هنا معبّرٌ جداً، فنُطقه وسكوتُه وكلامُه بحرٌ من الحكمة لأهله.. فسكت طويلاً..
ثُمَّ قَالَ: إِنَّكُمْ لَتَبْحَثُونَ عَمَّا تُرِيدُونَ وَعَمَّا لَا تُرِيدُونَ: هو يعلم ما الخبر.
إِنَّ فَاطِمَةَ مَكَثَتْ بَعْدَ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خَمْسَةً وَسَبْعِينَ يَوْماً: كلُّ مدة بقائها بعده هي هذه، لكن كيف أمضت هذه المدة؟
وَكَانَ دَخَلَهَا حُزْنٌ شَدِيدٌ عَلَى أَبِيهَا، وَكَانَ جَبْرَئِيلُ (عليه السلام) يَأْتِيهَا فَيُحْسِنُ عَزَاءَهَا عَلَى أَبِيهَا، وَيُطَيِّبُ نَفْسَهَا، وَيُخْبِرُهَا عَنْ أَبِيهَا وَمَكَانِهِ، وَيُخْبِرُهَا بِمَا يَكُونُ بَعْدَهَا فِي ذُرِّيَّتِهَا، وَكَانَ عَلِيٌّ (عليه السلام) يَكْتُبُ ذَلِكَ.
وههنا عدة مطالب:
فينبغي أولاً معرفة جبرائيل، اقرؤوا القرآن حتى تعرفوا من هو جبرائيل، ﴿وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى﴾(59)، هذا نصُّ القرآن، مكانُهُ أعلى أمكنة عالم الوجود، بالأفق الأعلى، وهنا فقه الحديث، إذا وفق الله تعالى لتحليل وشرح هذه الأحاديث.
فاطمة بضعةٌ مني: فاطمةُ من نفسه العليّة الخاتميّة، لا من البدن، ونفسُ تلك الجاذبية التي كانت فيه من الأفق الأعلى ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى﴾(60) كانت في ابنته ذات الثمانية عشر عاماً بحكم قوله: (فاطمة بضعة مني). إنها جاذبية الحقيقة الأحمدية، النفس النفيسة المحمدية، وبضعة الخاتمية.
وأيّ مطالب كانت في ذلك المصحف؟ كتبه من كان يقول النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) فيه بالاتفاق: أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها، مثُل هذا كان يحمل القلم بيده ويكتب الحديث بين فاطمة وجبرائيل ‘ ويسجله: وَكَانَ عَلِيٌّ (عليه السلام) يَكْتُبُ ذَلِكَ.
فَهَذَا مُصْحَفُ فَاطِمَةَ (عليها السلام): وهنا فاء التفريع، لماذا التفريع؟ يُعرَفُ ذلك عندما يُعرَفُ المفرَّعُ عليه، فهذا مصحف فاطمة.
ثم إنّ علم المعصومين الأربعة عشر له ثلاث جهات: الجفر والجامعة ومصحف فاطمة، هذه فاطمة الزهراء، وهذه مكانتها العلمية.
أما مقامها ومنزلتها، فقد سئل سادس الأئمة (عليهم السلام): لِمَ سُمِّيَتْ فَاطِمَةُ الزَّهْرَاءَ؟
قَالَ: لِأَنَّ لَهَا فِي الجَنَّةِ قُبَّةً مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، ارْتِفَاعُهَا فِي الهَوَاءِ مَسِيرَةُ سَنَةٍ، مُعَلَّقَةٍ بِقُدْرَةِ الجَبَّارِ، لَا عِلَاقَةَ لَهَا مِنْ فَوْقِهَا فَتُمْسِكَهَا، وَلَا دِعَامَةَ لَهَا مِنْ تَحْتِهَا فَتَلْزَمَهَا، لَهَا مِائَةُ الفِ بَابٍ، وَعَلَى كُلِّ بَابٍ الفٌ مِنَ المَلَائِكَةِ، يَرَاهَا أَهْلُ الجَنَّةِ كَمَا يَرَى أَحَدُكُمُ الكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الزَّاهِرَ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ، فَيَقُولُونَ: هَذِهِ الزَّهْرَاءُ لِفَاطِمَة(61).
هذا مصحفها وهذه مكانتها، فهل عرفنا فاطمة؟
لقد عرفها أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهو الذي جاء الرسولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) لعيادته في حرب أُحُد، وشاهد بدنه مليئاً بالثقوب، حتى أن الفتيلة تدخل في ثقوبه، ومع كلّ صَبر النبيّ الذي ليس له مثيلٌ، بكى (صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا وقع نظره عليه، صار بلا طاقة وبكى بصوت عالٍ، أمّا عليٌّ فماذا فعل؟ تبسّم وقال: إن هذا في ذات الله لقليل.
من عَرَفَ علياً؟ أيُّ صبرٍ هذا؟ النبيُّ بكى وهو تبسّم!
في ليلة التاسع عشر صاح جبرائيل بين السماء والأرض: تهدمت والله أركان الهدى، لكنه (عليه السلام) ابتسم وقال: فزت ورب الكعبة.
هذه الشخصية قد عرفت فاطمة، مثل هذا الشخص كان على هذه الحال في أُحُد، وعلى هذا الحال في الليلة التاسعة عشر، لكنّه لمّا أراد إرجاع الوديعة وإيصال الجنازة لأبيها قال:
نَفْسِي عَلَى زَفَرَاتِهَا مَحْبُوسَةٌ * * * يَا لَيْتَهَا خَرَجَتْ مَعَ الزَّفَرَات
ما هي وظيفتنا في الفاطمية؟
إنّ مَن كان جبرائيل بين الأرض والسماء يصرخ باسمه: (لا فتى إلا عليّ ولا سيف الا ذو الفقار)، مِثل هذا تمنى لو أنّه مات!
فما وظيفتنا أنا وأنت في هذه البلاد؟ وهي باسمها (عليها السلام)، ما وظيفتنا في يوم شهادتها (عليها السلام)؟
وظيفتنا أن نتبع صرخة وحرقة وأنين أمير المؤمنين، وأن يكون يومُ شهادة السيدة الزهراء يوم عويلٍ في هذه البلاد.
أيتها الهيئات، هل أنتم نيام؟ لا ينبغي أن تبقى هيئةٌ لا تخرج، لماذا؟
لأنّ في كل هيئة تخرج رحمةٌ لقلب سيد الشهداء الجريح، ولصدر الحسن المجتبى المجروح، ولعين إمام الزمان الباكية على أمه (عليها السلام).
جملةٌ واحدةٌ كافية، ممَّن كان تمام العالم تحت رايته، وآدَم ومَن دونه تحت لوائه، مثل هذا يقول، والكلام غير قابل للقول، لكن لا خيار، ينبغي أن يقال، مِثل هذا عندما أرجع الوديعة وسلّم جنازتها لأبيها رسول الله قال: وَسَتُنْبِئُكَ ابْنَتُكَ بِتَظَافُرِ أُمَّتِكَ عَلَى هَضْمِهَا.
اشرحوا هذه الكلمة للناس ليعرفوا وظيفتهم يوم شهادتها، وكيف اجتمعوا على ضربها.
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الزهراء.. نورٌ من نور الله
بسم الله الرحمن الرحيم(62)
اقترابُ الأيام الفاطمية فرصةٌ لإحياء اسم الصدّيقة الكبرى، والمحدَّثة العظمى (عليها السلام).
جميعُنا لم نعرف فاطمة، وعَدَمُ المعرفة هو مقتضى القاعدة، وليس خلاف القاعدة! وهذا يعني أن معرفتها غير ممكنة!
ورد في الرواية المعتبرة: إِنَّمَا سُمِّيَتْ فَاطِمَةُ لِأَنَّ الخَلْقَ فُطِمُوا عَنْ مَعْرِفَتِهَا(63).
كلُّ الخلق وليس الإنس فقط، بما فيهم الجن والملائكة إلى أعلى عليين، كلُّهم فطموا وانقطعوا عن معرفتها، فأيُّ جوهر تكون؟
إن جملةً واحدة في القرآن الكريم كافيةٌ لتجسّد هذه العظمة، فلقد كان كلُّ الخلق وبعثة الأنبياء مقدمةً لخلق وبعثة الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وما يُحيِّرُ هنا هو أن الله تعالى قد مَنَّ على جميع المؤمنين من الأولين والآخرين ببعثة الخاتم، ومَنَّ الله على الخاتم بعَطِيَّة هي الصديقة الكبرى!
قال تعالى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْناكَ الكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر * إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ﴾(64).
لقد ورد في الحديث الشريف: لِفَاطِمَةَ (عليها السلام) تِسْعَةُ أَسْمَاءٍ عِنْدَ الله عَزَّ وَجَلَّ(65).
فمَن كانت أسماؤها (عند الله) فأين مستقر (مُسَمَّاها)؟!
و(العِنديَّة): ﴿عِنْدَ مَليكٍ مُقْتَدِر﴾(66) غيرُ قابلة للإدراك! ويستفاد من هذه الرواية أن واضع الأسماء هو نفس الذات القدّوسية الإلهية.
أما أسماؤها، فكلُّ واحدٍ منها بحرٌ:
الأول: فَاطِمَةُ، وقد ورد في التفسير عن سادس الأئمة (عليهم السلام): إِنَّمَا سُمِّيَتْ فَاطِمَةُ لِأَنَّ الخَلْقَ فُطِمُوا عَنْ مَعْرِفَتِهَا(67)، وإنما تفيد الحصر.
الثاني: الصِّدِّيقَةُ.
الثالث: المُبَارَكَةُ، وهذا الإسم ورد في الإنجيل، ولكنّها مباركةٌ بأيّ بركة؟
بالعلم الحسنيّ، والشجاعة الحسينية، والعبادة السجادية، والمآثر الباقرية، والآثار الجعفرية، والعلوم الكاظمية، والحِجج الرضوية، والجود التقويّ، والنقاوة النقوية، والهيبة العسكرية، والآخر الذي كانت بعثةُ تمام الأنبياء والمرسلين في طريق ظهوره. فثمرة المعصومين (عليهم السلام) من هذه الشجرة الطيبة، هذه هي فاطمة المباركة: ﴿إِنَّا أَعْطَيْناكَ الكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر * إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ﴾.
وَالطَّاهِرَةُ وَالزَّكِيَّةُ وَالرَّضِيَّةُ وَالمَرْضِيَّةُ وَالمُحَدَّثَةُ وَالزَّهْرَاءُ.
ولكل واحدٍ من هذه الأسماء شرحٌ، وهي الحوراء الإنسية، ليست إنسيّة فقط، بل حوراءُ في غطاءٍ إنسانيّ.
هي المباركة وأيُّ بركة! هي الثمرةُ التي لها أحد عشر جوهرة، واحدٌ منها: ابن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، الذي أعطاه الله تعالى زجاجة يجمع فيها دمه، ووضَعَها في قائمة العرش، فهي تهتزّ إلى يوم القيامة!
هذه بركتها، فكيف تكون معرفتها ميسّرة وممكنة؟ ونحن نكتفي بهذه الرواية، المروية في علل الشرائع(68)، وسندها في غاية القوة.
عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: قُلْتُ لَهُ: لِمَ سُمِّيَتْ فَاطِمَةُ الزَّهْرَاءُ زَهْرَاءَ؟ وفِقه هذا الحديث مفصّل وموسّع جداً، فنعرض منه بقدر الميسور.
فقال: لِأَنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَهَا مِنْ نُورِ عَظَمَتِهِ: فمبدؤها هو هذا، هي مخلوقةٌ ولكن من أيّ شيء؟ من نور عظمة الله تعالى، لقد قلتم في الركوع عمراً: (سبحان ربي العظيم)، فمبدأ (العظيم) مَنشَأ خلق فاطمة (عليها السلام).
مِنْ نُورِ عَظَمَتِهِ: مِن نور الله، ومِن عظمة الله، هذا مبدأ خلقها.
فَلَمَّا أَشْرَقَتْ أَضَاءَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ بِنُورِهَا: أي أنّها أشرقت على كلّ عوالم الوجود.
وَغَشِيَتْ أَبْصَارُ المَلَائِكَةِ، وَخَرَّتِ المَلَائِكَةُ لله سَاجِدِينَ: فقه الحديث يحتاج لبحثٍ مفصّل، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصف الملائكة: مِنْ مَلَائِكَةٍ أَسْكَنْتَهُمْ سَمَاوَاتِكَ، وَرَفَعْتَهُمْ عَنْ أَرْضِكَ، هُمْ أَعْلَمُ خَلْقِكَ بِكَ، وَأَخْوَفُهُمْ لَكَ، وَأَقْرَبُهُمْ مِنْك(69)، ومن الملائكة من جاوَزَت السماءَ السابعة رؤوسُهُم، وثبتت في الأرض السابعة أقدامُهم، هؤلاء الملائكة غشيت أبصارهم وخرّوا ساجدين لما رأوا هذا النور!
هذا باطن فاطمة (عليها السلام)، وهذا معنى الزهراء، وهذا سِرُّ عجز الخلق عن معرفتها، كلّ الخلق، وليس الإنسان وحده، ونحن ذكرنا فاطمة (عليها السلام) عُمرَنا، لكنّا لم ندرك حقيقة هذا الإسم. تتمة الحديث:
وَقَالُوا: إِلَهَنَا وَسَيِّدَنَا، مَا هَذَا النُّورِ؟ ينبغي أن تدققوا في فقه الحديث..
فَأَوْحَى الله إِلَيْهِمْ: لمن أوحى الله تعالى؟ لجبرئيل: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلى﴾(70)، وهنا يحار العقل، أوحى لهم تعالى:
هَذَا نُورٌ مِنْ نُورِي: مَن يفهم آية النور يفهم ذلك ﴿الله نُورُ السَّماواتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ﴾(71)، المشكاة هي الزهراء، والمصباح الأول هو الإمام الحسن المجتبى، والمصباح الثاني هو سيد الشهداء (عليهم السلام)، ﴿نُورٌ عَلى نُور﴾: ذلك النور، ذلك الظهور الذي بقي تمام الأنبياء وكلُّ المرسلين في انتظار إشراقه، ﴿يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَنْ يَشاء﴾، فتكون النتيجة أن آية النور فاطمة، والمصباح الأول الحسن بن علي، والمصباح الثاني الحسين بن علي، و﴿نُورٌ عَلى نُور﴾: وليُّ العصر، آخر أبنائها المعصومين (عليهم السلام). وبعد أن قال تعالى: هَذَا نُورٌ مِنْ نُورِي، قال:
أَسْكَنْتُهُ فِي سَمَائِي، خَلَقْتُهُ مِنْ عَظَمَتِي، أُخْرِجُهُ مِنْ صُلْبِ نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِي، أُفَضِّلُهُ عَلَى جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ: فما أضعه في صلب خير الأنبياء هو سيِّدة النساء، سيدة نساء المؤمنين، سيدة نساء بني آدم، سيدة نساء أهل الجنة.
ولفهم هذا المطلب، ينبغي معرفة من هُنّ نساء أهل الجنة؟ إحداهنّ آسية بنت مزاحم، وهي التي أوتَدَ فرعونُ يديها ورجليها وألقى على صدرها رحىً عظيمة وبقيت على إيمانها، هذه الجوهرةُ أَمَةٌ للصدّيقة الكبرى، أفلا يكون فَهمُ مقاماتها فوق تصورنا؟
وَأُخْرِجُ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ أَئِمَّةً يَقُومُونَ بِأَمْرِي، يَهْدُونَ إِلَى حَقِّي، وَأَجْعَلُهُمْ خُلَفَائِي فِي أَرْضِي بَعْدَ انْقِضَاءِ وَحْيِي: النتيجة أن فاطمةَ لؤلؤةٌ، وكلُّ ما بين العلم الحسنيّ إلى الغيبة الإلهية لولي العصر، كلُّه جواهرُ هذه اللؤلؤة، ولقد كانت هذه اللؤلؤة أجرَ رسالة خاتم الأنبياء.
هذه شَمَّةٌ من مقام الصديقة الكبرى، وهذا مبدأ هذه الجوهرة.
لقد رَأَى النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فَاطِمَةَ وَعَلَيْهَا كِسَاءٌ مِنْ أَجِلَّةِ الإِبِلِ، وَهِيَ تَطْحَنُ بِيَدَيْهَا، وَتُرْضِعَ وَلَدَهَا، فَدَمَعَتْ عَيْنَا رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم).. فَأَنْزَلَ الله ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى﴾(72)، هذا فِقه الحديث، أنّ ما أعطاه الله للخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) هو أثرُ طحن فاطمة بيديها، ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى﴾.
البحث مفصَّلٌ، والمناسبة القادمة مهمةٌ جداً، وصاحبُ العزاء وليّ العصر صاحب الزمان (عليه السلام).
ضَيَّعَا حق الزهراء.. ودُفِنَا في بيت الرسول!
بسم الله الرحمن الرحيم(73)
مع اقتراب الأيام الفاطمية، فإن موضوع البحث اليوم هو الصديقة الكبرى (عليها السلام).
إنّ لفاطمة تسعة أسماءٍ عند الله، أحد هذه الأسماء (المباركة)، ولمَّا يكون واضِعُ الإسم هو الله تعالى فإنّ البركة غير قابلة للوصف، بل غير قابلة للإدراك.
من الحِلم الحسنيّ إلى الغيبة الإلهيّة لوليّ العصر، كلُّه من بركات وجود هذه المرأة. فكيف تُدرَكُ هذه البركة؟
وثمرة وجودها هو المهدي (عليه السلام) طاووس أهل الجنة، تتحقق على يديه ثمرة الخلق وبعثة جميع الأنبياء، فكلُّ الأنبياء والأولياء كانوا في طريق ظهوره.. هذا معنى اسم المباركة، وللأسف فقد ضُيِّعَ هذا الحق، وأوّل من تكفل بإضاعة الحق استند إلى هذه الرواية: ما تَرَكتُ لأمتي صدقة.
والذي قال هذا الكلام وأخذَ فدك بناء عليه، صارَ بعد ذلك بنفسه مُكَذِّبَاً لهذه الرواية، وهذا من العجائب، حيث أن الراوي نفسه كذّب الرواية نفسها، حيث طلب من عائشة عند موته أن يُدفَنَ في بيت الرسول: عُمَرَ أَرْسَلَ إِلَى عَائِشَةَ ائْذَنِى لِى أَنْ أُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيَّ(74).
فإن كان ما تركه النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) صدقةً، فإنّ إِذنَ عائشة خطأ!
وإن كان إذنُ عائشة معتبراً، فإنّ الصدقة خطأ!
نتيجة البحث، على مبنى أبي بكر:
أنه بمقتضى دليل غصب فدك، فإن وظيفة كلِّ مسلمٍ الآن نبشُ قَبرِ الرَّجُلَين، وإخراجُ ما بقي من أجسادهما، لأن الغصبَ مُسَلّمٌ، وحكمَ الدفن في المغصوب وجوبُ النبش بإجماع الجميع.
هذه القاعدة وهذه النتيجة. فكيف ضاع هذا الحق؟
نحن لم نَقُل أنّ نبش القبر واجبٌ، وأنّه ينبغي إخراج جنازتيهما، بل هذا قول (الصديق)! لماذا؟ لأنّه قد طُرِحَ في بحث حجية الظواهر أنّه لا إشكال في حجية الدلالة المطابقية والدلالة الإلتزامية، وأنها حجّةٌ في اللازم البيّن.
ونتيجة هذا المبنى الذي لا يقبل النقاش، أن بيان (الصديق) في مقابل الصدّيقة الكبرى من أن (ما تركناه صدقة) يدلُّ بالدلالة الإلتزامية أنّ لكلِّ مؤمنٍ ممن كان مورداً لهذه الصدقة حقّ الإعتراض على دفنهما.
ونتيجة لازم كلام أبي بكرٍ في جواب الصديقة الكبرى أنّ ما ترك الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) صدقة، وأن الصدقة حقٌ لجميع المسلمين.
وهنا يُطرَح هذا السؤال: هل كان دفنهما بإذن جميع المسلمين أم لا؟
وليس بين النفي والإثبات منزلة أخرى، ولّما لم يكن هناك إذٌن، فلا محالة يثبت حق كلّ مسلم، هذا مقتضى الحق، والنتيجة سلطنة المسلمين على نبش القبر وإخراج هذين الشخصين. وهذا بيان أبي بكر، لحجيّة الدلالة الإلتزامية.
والمهمُّ هو البرهان القاطع: لقد جمع المأمون علماء المسلمين من أقطار الدنيا للبحث في مسألة فدك، وكانت نتيجة المجلس إجماع الكل على أن فدك قد غُصِبَت، وأنها ملك الصديقة الكبرى.
أصبح وجه الزمان قد ضحكا * * * برد مأمون هاشم فدكاً
فكيف تُحَلُّ هذه التناقضات؟ هذا دليل غصب الصديقة الكبرى.
أما عظمتها، فهي فوق التصور، إنّ اسمها في إنجيل عيسى (المباركة)، وثمرة هذا الوجود الحكومة العالميّة للمهدي الموعود (عليه السلام).
هذا أثر هذه البركة، من الحِلم الحسنيّ إلى الغيبة الإلهية للوليّ، كلُّه ثمار هذه الشجرة.
وهي المصداق الأتمّ لهذه الآية: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾(75).
إن شاء الله تسافرون جميعاً في هذه الأيام وتُبيِّنون عظمة هذا المقام للناس لكي تُعرَف عظمة المصيبة بقدر الميسور، هذا تكليفكم. وأمّا تكليف الهيئات، فينبغي على الجميع أن يخرجوا ويعرفوا مَن كانت، وماذا حصل.
عندما أراد (عليه السلام) تسليم الجنازة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ الله.. لَقَدِ اسْتُرْجِعَتِ الوَدِيعَةُ، وَأُخِذَتِ الرَّهِينَةُ، وَاخْتُلِسَتِ الزَّهْرَاء(76).
ماذا يعني الاختلاس؟ يا رسول الله، خُطِفَت فاطمةُ من يدِ عليّ، هذا معنى الاختلاس.
عندما وصلت الضربة إلى رأس عليٍّ وتراءى الموت وصاح أمين الوحي بين الأرض والسماء: تهدّمت والله أركان الهدى، قال (عليه السلام) مبتسماً: فزت ورب الكعبة.
لكنّه هنا نفض يده من تراب القبر وقال:
نَفْسِي عَلَى زَفَرَاتِهَا مَحْبُوسَةٌ * * * يَا لَيْتَهَا خَرَجَتْ مَعَ الزَّفَرَات
قالت لعلي (عليه السلام): إِذَا أَنَا مِتُّ فَغَسِّلْنِي بِيَدِكَ وَحَنِّطْنِي وَكَفِّنِّي وَادْفِنِّي لَيْلاً..
كلًّ شيء كان ليلاً، لا تُعلِم بي أحداً.. هكذا ذهبت غريبة، لكن الله تعالى يعلم ذلك القبر المخفي.. الله تعالى يعلم عظمة ذلك الدفن ليلاً.
ثم قال (عليه السلام): وَسَتُنْبِئُكَ ابْنَتُكَ بِتَظَافُرِ أُمَّتِكَ عَلَى هَضْمِهَا.
هذه الجملة كافية، هي نفسها تخبرك كيف أنّ أمتّك وقف بعضها مع بعض، وضربوا فاطمة (عليها السلام)، لقد تظافرت الأمة على هضمها، وكان الدفن ليلاً، والقبر بلا علامة!
ينقل خامس الأئمة (عليه السلام) عن جابر بن عبد الله الأنصاري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ تُقْبِلُ ابْنَتِي فَاطِمَةُ عَلَى نَاقَةٍ مِنْ نُوقِ الجَنَّة.. ٍ قَوَائِمُهَا مِنَ الزُّمُرُّدِ الأَخْضَرِ، ذَنَبُهَا مِنَ المِسْكِ الأَذْفَرِ، عَيْنَاهَا يَاقُوتَتَانِ حَمْرَاوَانِ، عَلَيْهَا قُبَّةٌ مِنْ نُورٍ يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا، دَاخِلُهَا عَفْوُ الله وَخَارِجُهَا رَحْمَةُ الله(77): فعَفوُ الله ظاهر هودجها، ورحمةُ الله باطن هودجها، تلك الرحمة التي وَسِعَت كل شيء، مركزها ومبدؤها ومنتهاها فاطمة الزهراء (عليها السلام).
ما يُحَيِّرُ العقول هو نداء جبرئيل بأعلى صوته: ِ غُضُّوا أَبْصَارَكُمْ حَتَّى تَجُوزَ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فَلَا يَبْقَى يَوْمَئِذٍ نَبِيٌّ وَلَا رَسُولٌ وَلَا صِدِّيقٌ وَلَا شَهِيدٌ إِلَّا غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ حَتَّى تَجُوزَ فَاطِمَة.. هكذا ترد المحشر..
فَتَسِيرُ حَتَّى تُحَاذِيَ عَرْشَ رَبِّهَا جَلَّ جَلَالُهُ.. فَإِذَا النِّدَاءُ مِنْ قِبَلِ الله جَلَّ جَلَالُهُ: يَا حَبِيبَتِي وَابْنَةَ حَبِيبِي سَلِينِي تُعْطَيْ..
فَتَقُولُ: إِلَهِي وَسَيِّدِي: ذُرِّيَّتِي وَشِيعَتِي وَشِيعَةَ ذُرِّيَّتِي وَمُحِبِّيَّ وَمُحِبِّي ذُرِّيَّتِي.
ويكون ختم المحشر بأن تُخرِج قميصاً مقطّعاً مصبوغاً بالدم، تضعه على رأسها، وتقول: يا رب شيعتي.
فما هي وظيفتكم في الأيام الفاطمية؟ اذهبوا الى الأماكن المحرومة، وعَرِّفُوا الناس بفضائلها التي لا تُعَدُّ ولا تُحصى.
ووظيفة الناس أن تخرج كلّ الهيئات يوم شهادتها في المواكب، حتى يوضع ذلك كمَرهَمٍ على جراح ولي العصر إمام الزمان (عليه السلام).
المصيبة كبيرةٌ إلى حدِّ أنّا لسنا قادرين على شرح عظمتها، ولا قادرين على إدراكها، لكن تتضح عظمة المطلب من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام)، عندما نفض يده من تراب القبر وقال:
نَفْسِي عَلَى زَفَرَاتِهَا مَحْبُوسَةٌ * * * يَا لَيْتَهَا خَرَجَتْ مَعَ الزَّفَرَات
اللهم بحق فاطمة وأبيها، وبعلها وبنيها، والسرّ المستودع فيها، لا تفرق بيننا وبينها وذريتها المعصومين أبداً.
المصيبة العظمى.. شهادة الصديقة الكبرى
بسم الله الرحمن الرحيم(78)
مع اقتراب الأيام الفاطمية، فإنّ المصيبة العظمى هي شهادة الصديقة الكبرى، ووظيفتكم جميعاً في هذه الأيام بيان عظمة هذه السيدة.
إن أحداً لم يعرف هذه الجوهرة.
لكلِّ موجود أصلٌ (مبدأ) ومنتهى (مآل ونهاية) ووسط، فما هو المبدأ؟ وما هو المنتهى؟ وما هو الوسط؟ إذا فُهمت هذه الكلمات الثلاث تُعرف الصديقة الكبرى.
أما أصلها، فأفضل من كل الكلام، كلمات من كانوا عارفين بجواهر الوجود: لِمَ سُمِّيَتْ فَاطِمَةُ الزَّهْرَاءُ، زَهْرَاءَ؟ ما سر هذا الاسم؟ هذا السؤال الذي وُجِّهَ لصادق آل محمد (عليه السلام)، فقال (عليه السلام): لِأَنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَهَا مِنْ نُورِ عَظَمَتِهِ(79): الكلّ يقف مذهولاً هنا من الشيخ الطوسي إلى الشيخ الأنصاري!
المبدأ: خَلَقَهَا مِنْ نُورِ عَظَمَتِهِ، فمبدأ وجودها الخلق من نور عظمة الله، هذا أصلُ فاطمة الزهراء، فمَن فَهِمَ هذه الجملة؟
من يفهم آية النور يفهم هذه الجملة: ﴿الله نُورُ السَّماواتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فيها مِصْباحٌ المِصْباحُ في زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ﴾، فمشكاة آية النور فاطمة الزهراء، والمصباح الأول الامام الحسن المجتبى، والمصباح الثاني خامس آل العباء، ونهاية الآية ﴿يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ﴾، وختم الآية ولي العصر صاحب الزمان (عليه السلام).
هذا أصلها، يقول الإمام: فَلَمَّا أَشْرَقَتْ أَضَاءَتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِنُورِهَا: كل السماوات السبع والأرضين أشرقت من نور روح فاطمة الزهراء، هذه فاطمة الزهراء فهل عرفها أحد؟ والمطلب مهمٌ إلى حدّ أنّه: غَشِيَتْ أَبْصَارَ المَلَائِكَةِ: صارت مخفيةً عن عيون الملائكة، فليس لجبرائيل طاقةٌ لرؤية نور باطن فاطمة الزهراء (عليها السلام)، هذه معرفتها.
وَخَرَّتِ المَلَائِكَةُ لله سَاجِدِينَ: كل الملائكة، سجد جميع الملائكة، فأيُّ نور هو هذا؟
وَقَالُوا: إِلَهَنَا وَسَيِّدَنَا، مَا هَذَا النُّورُ؟ فَأَوْحَى الله إِلَيْهِمْ: أنتم أهل العلم، تفكّروا في هذه الجملة اليوم واستخرجوا منها الجواهر.
فَأَوْحَى الله إِلَيْهِمْ: هَذَا نُورٌ مِنْ نُورِي: هذا كلامُ الله تعالى للملائكة عن الصديقة الكبرى!
نُورٌ مِنْ نُورِي، وَأَسْكَنْتُهُ فِي سَمَائِي: العقل يقف حائراً مذهولاً!
خَلَقْتُهُ مِنْ عَظَمَتِي: الأصل والمبدأ في خلق فاطمة الزهراء عظمة الله، فماذا تعني هذه الجملة؟ قلتم عمراً في الركوع: (سبحان ربي العظيم)، وهذا العظيم خلق فاطمة الزهراء من عظمته، هذا أصل وجودها.
هَذَا نُورٌ مِنْ نُورِي: النور الاول نكرةٌ، وهذه النكرة أعرف المعارف فلماذا جاءت نكرة؟ ما هو وجه التنكير؟ يتضح وجه التنكير في هذا الحديث الذي يحيّر العقول عن سادس الأئمة (عليه السلام): إِنَّمَا سُمِّيَتْ فَاطِمَةُ لِأَنَّ الخَلْقَ فُطِمُوا عَنْ مَعْرِفَتِهَا(80): كلُّ الخلق، بمن فيهم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل مفطومون عن معرفة فاطمة ومقطوعون عن ذلك!
هذا أصل ومبدأ وجودها، أما منتهى هذا الوجود، فينبغي أولاً فهم القيامة، ماذا تعني القيامة؟ ﴿وَبَرَزُوا لله الواحِدِ القَهَّارِ﴾(81)، في هذه القيامة يبرز كل الخلائق لله الواحد القهار، وفي مثل هذا اليوم يكون كلّ الانبياء من آدم لعيسى تائهين، في مثل هذا اليوم تظهر فاطمة على ناقةٍ عليها قبةٌ باطنها عفو الله وظاهرها رحمة الله، ينادي المنادي من بطنان العرش: يَا مَعْشَرَ الخَلَائِقِ غُضُّوا أَبْصَارَكُمْ حَتَّى تَجُوزَ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، فتصل لقائمة العرش وهناك يختم المحشر.
فجأة، والكلّ في غفلة، تخرجُ قميصاً ملطخاً بالدم تضعه على رأسها، وتقول: يا رب شيعتي. يأتي جبرائيل ناقلاً سلام الله طالباً أن تُنزِلِ القميص عن رأسها: يَا فَاطِمَةُ سَلِي حَاجَتَك.
الحاجة التي تطلبها: يَا رَبِّ أَرِنِي الحَسَنَ وَالحُسَيْن(82).
الحسن بكبده المسموم، والحسين مع الرأس المقطوع، هكذا تحضر في المحشر.. هذا المنتهى!
أما الوسط: لِمَ سُمِّيَتْ زَهْرَاء؟ يقول الإمام السادس: لِأَنَّهَا كَانَتْ إِذَا قَامَتْ فِي مِحْرَابِهَا زَهَرَ نُورُهَا لِأَهْلِ السَّمَاءِ كَمَا يَزْهَرُ نُورُ الكَوَاكِبِ لِأَهْلِ الأَرْضِ.
هذه آثار باطنها: يزهر نورها لملائكة السماء، أيُّ باطن هذا؟ نورها يتجلى من باطنها للعرش لما تقف في محرابها، وقد قامت في محراب عبادتها حتى تورمت قدماها. هذا قيامها في محراب العبادة.. وهذا المبدأ والمنتهى والوسط.
على عموم الهيئات أن تخرج في هذه الفاطمية، وتشارك في تعزية القلب المقدس لأمير المؤمنين (عليه السلام)، على الجميع أن يخرجوا لإحياء المناسبة.
مهمتكم جميعاً تنبيه الناس، لتعزية قلب من جاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لرؤيته في حرب أحد، ورأى بدنه مليئاً بالثقوب حتى أن الفتيلة تدخل في ثقوبه، فبكى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لكنّه (عليه السلام) قال: إن ذلك في ذات الله قليل.
ولما ضُرِبَ صبح اليوم التاسع عشر على رأسه كانت البسمة على شفتيه (عليه السلام) وقال: فزت ورب الكعبة.
لكنه نفسه قال عند دفنها:
نَفْسِي عَلَى زَفَرَاتِهَا مَحْبُوسَةٌ * * * يَا لَيْتَهَا خَرَجَتْ مَعَ الزَّفَرَات
إلهي بحق فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها، لا تفرق بيننا وبينها طرفة عين ابداً.
الإمام الحسن عليه السلام
الفقه الأكبر: معرفة الإمام!
بسم الله الرحمن الرحيم(83)
يومُ الجمعة يوم شهادة السّبط الأكبر، والفقه الأكبر هو معرفة الإمام، ووههنا مطلبان:
الأول: أن الله تعالى سمى الإمام (الحسن) وفق النصوص المعتبرة عند العامة والخاصة، فمن يسميه الله تعالى (الحسن) يكون اسمه هو الأحسن، فخَلقُه حسنٌ، وخُلُقُه حسنٌ، واسمُه حسنٌ، وأثَرُه حسنٌ، حَسَنٌ في حَسَن.
الثاني: ورد في الرواية المعتبرة عند العامة والخاصة أنّ من أحب الحسن أحبه الله تعالى، فعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحبَّهُ وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّه(84).
وهذا البحث إكسيرٌ أحمر، فأيُّ مقامٍ هذا الذي يجعل محبَّه محبوباً لله تعالى؟ وكونه محبوباً لله يحير العقل.
أما معاملته مع الله، فكانت أنّه إذا قام إلى الصلاة ارتعدت مفاصله واصفرّ لونه، وارتعاد المفاصل واصفرار اللون عند الصلاة نتيجة ارتباطه بالله تعالى.
أما معاملته مع الخلق، فقد كان مارّاً في بعض حيطان (بساتين) المدينة، فرأى أسود بيده رغيفٌ يأكل ويطعم الكلب لقمة، إلى أن شاطره الرغيف، فقال له الحسن (عليه السلام): ما حملك على أن شاطرته ولم تُغابنه فيه بشيء؟
فقال: استحت عيناي من عينيه أن أغابنه.
فقال له: غلام من أنت؟ فقال: غلام أبان بن عثمان..
فمرَّ واشترى الغلام والحائط، وجاء إلى الغلام، فقال: يا غلام قد اشتريتك، قال: فقام قائماً، فقال: السمع والطاعة لله ولرسوله ولك يا مولاي، قال: وقد اشتريت الحائط، وأنت حرٌّ لوجه الله، والحائط هبةٌ مني إليك(85).
أَتَتْ فَاطِمَةُ بِابْنَيْهَا الحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ إِلَى رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فِي شَكْوَاهُ الَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَانِ ابْنَاكَ وَرِّثْهُمَا شَيْئاً.
فَقَالَ: أَمَّا الحَسَنُ فَإِنَّ لَهُ هَدْيِي وَسُؤْدُدِي، وَأَمَّا الحُسَيْنُ فَإِنَّ لَهُ جُودِي وَشَجَاعَتِي(86).
فالإمام الحسن وارث سيادة سيّد الأنبياء، وهذا السيد الوارث لسيادة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو ظلّ الله الممدود لجميع ما سواه.
ينبغي تشجيع الهيئات ليخرجوا يوم الجمعة في عزاء صاحب الكَبِدِ المسموم، والقبر المهدوم، تسليةً لقلب ولي الله الأعظم أرواحنا فداه.
الإمام الحسين عليه السلام وعاشوراء
أيتام آل محمد.. وخلع الكرامة في عاشوراء
بسم الله الرحمن الرحيم(87)
الأيام القادمة على حَدٍّ من العظمة يعجز العقل عن إدراكها، ويقصُرُ البيان عن ذلك، فلم يفهم أحدٌ ما هو يوم عاشوراء، وماذا حصل فيه، وما ترتَّبَ على ذلك من أثر.
لَا يَوْمَ كَيَوْمِكَ يَا أَبَا عَبْدِ الله(88): هذا كلام حجة الله، إنّ الأيامَ مشتملةٌ على حوادث متعددة، كيوم نوحٍ وسفينته، وإبراهيمَ ومقاماته، ويوم موسى ويوم عيسى (عليهم السلام) ويوم الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويوم أمير المؤمنين (عليه السلام)، ولكن كلام الإمام: لَا يَوْمَ كَيَوْمِكَ يَا أَبَا عَبْدِ الله.. وهنا يحار العقل، ولأنّا لم نفهم لم نستفد كما ينبغي.
في هذه الأيام يهِبُّ النسيمُ من كربلاء، مع الربيع الذي يحيي القلوب، وعلى من تلبَّسَ بهذا اللباس (لباس رجال الدين) أن يستفيد من هذه الفرصة وينشر حقائق المذهب ويبثّها في عقول عامة الناس.
إنّ في كلّ رواية من روايات أهل البيت مدينةُ علمٍ، وهي في الواقع بحرٌ لأهل الفقاهة، ولرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) روايةٌ في سطرٍ، لكنّ هذا السطر يتضمن كُتُبَاً، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): أَرْبَعٌ تَلْزَمُ كُلَّ ذِي حِجًى مِنْ أُمَّتِي، قِيلَ: وَمَا هُنَّ يَا رَسُولَ الله؟ فَقَالَ:
اسْتِمَاعُ العِلْمِ: وينبغي أن تُفهم هيئة الاستفعال، ومجيؤها على مادة السمع، وتعلُّقها بالعلم، فماذا يعني ذلك؟ لا مجال لشرح فقه الحديث، والاشارةُ كافية: اسْتِمَاعُ العِلْمِ أولاً.
ثانياً: وَحِفْظُهُ: حفظ العلم ماذا يعني؟
الثالث: وَالْعَمَلُ بِهِ: لكن كلُّ الكمال في الكلمة الأخيرة.
الرابع: ونَشرُهُ: نَشرُ ذلك العلم، فلو عَمِلَ أهل العلم والحوزة العلميّة، هل كانت تبقى أرضيّة للترويج لمخالفي المذهب في هذه الدولة؟
الويلُ لنا في يوم الحساب، إذا ما سُئلنا: لَبِستُم هذا الثوب، وسلكتم هذا السلك، وجلستم على سفرتنا، فهل نشرتم ذخائرنا؟ إنّ حبَّ الراحة والكسل عند طلاب العلم سبب سوء حظنا.
لقد انتهت أيام التفقُّه، وجاءت أيام الإنذار: كلُّ مَن يتمكن في هذا الزمان ويُقَصِّر ينبغي أن يستعد للجواب غداً، والحسرة في فوات هذه الذخائر، من أنّي كنت أتمكن في أيام عاشوراء أن أُخرِجَ شخصاً من الضلالة، لماذا لم أفعل ذلك؟
وفي متن الحديث التالي خصوصيةٌ، والمعوّل على الفهم بعد القراءة لنتجنب الخسران، والرواية عن أبي محمد العسكري (عليه السلام)، ومتها:
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ العَسْكَرِيُّ (عليه السلام): حَضَرَتِ امْرَأَةٌ عِنْدَ الصِّدِّيقَةِ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ (عليها السلام) فَقَالَتْ: إِنَّ لِي وَالِدَةً ضَعِيفَةً وَقَدْ لُبِسَ عَلَيْهَا فِي أَمْرِ صَلَاتِهَا شَيْءٌ، وَقَدْ بَعَثَتْنِي إِلَيْكِ أَسْأَلُكِ، فَأَجَابَتْهَا فَاطِمَةُ (عليها السلام) عَنْ ذَلِكَ، فَثَنَّتْ فَأَجَابَتْ، ثُمَّ ثَلَّثَتْ إِلَى أَنْ عَشَّرَتْ فَأَجَابَتْ: أي أن الأسئلة قد وصلت إلى عشرةٍ، ممن كانت مستغرقةً في الله وفي سبيل الله، مع تلك المشاغل تكرّر السؤال إلى عشر مرات.
ثُمَّ خَجِلَتْ مِنَ الكَثْرَةِ فَقَالَتْ: لَا أَشُقُّ عَلَيْكِ يَا ابْنَةَ رَسُولِ الله.
قَالَتْ فَاطِمَةُ (عليها السلام): هَاتِي وَسَلِي عَمَّا بَدَا لَكِ، أَ رَأَيْتِ مَنِ اكْتُرِىَ يَوْماً يَصْعَدُ إِلَى سَطْحٍ بَحَمْلٍ ثَقِيلٍ، وَكِرَاهُ مِائَةُ الفِ دِينَارٍ، أيَثْقُلُ عَلَيْهِ؟
جوابُها (عليها السلام) محيِّرٌ، فبدل أن تعتذر منها المرأة كأنّها قالت أّنّ لَكِ المنّة! هل تعامَلنا هكذا مع أيتام آل محمد في الأحكام والعقائد ومسائل الدين؟
فَقَالَتْ: لَا. فَقَالَتْ: اكْتُرِيتُ: التعبيرات محيِّرةٌ، أنت أعطيتني أجرة، وأنا اكتريت هذه الأشياء لك، لكن ماذا حصَّلتُ قِبالها؟
اكْتُرِيتُ أَنَا لِكُلِّ مَسْأَلَةٍ بِأَكْثَرَ مِنْ مِلْءِ مَا بَيْنَ الثَّرَى إِلَى العَرْشِ لُؤْلُؤاً: أجري مقابل كلِّ مسألةٍ من مسائلك هو هذا، وقد أعطانيه الله.
ماذا خسر مَن يتّخذ هذه الأيام أيام استراحة؟ وماذا ربح من يذهب للناس المنقطعين عن إمامهم، ويعلمهم مسائل دينهم؟
ما بين الأرض والعرش لؤلؤاً في جواب مسألةٍ من المسائل، بما فيها من مجرّاتٍ في السماء الأولى، إلى أن تصل للسماء السابعة، واللوح والقلم والكرسي والعرش ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾، من الأرض للعرش أجرُ جوابِ مسألةٍ واحدة، الرواية محيرةٌ فعلاً.
تقول (عليها السلام): فَأَحْرَى أَنْ لَا يَثْقُلَ عَلَيَّ.
سَمِعْتُ أَبِي (صلى الله عليه وآله وسلم) يَقُولُ: إِنَّ عُلَمَاءَ شِيعَتِنَا يُحْشَرُونَ فَيُخْلَعُ عَلَيْهِمْ مِنْ خِلَعِ الكَرَامَاتِ عَلَى قَدْر كَثْرَةِ عُلُومِهِمْ وَجِدِّهِمْ فِي إِرْشَادِ عِبَادِ الله: هذه خِلَعٌ من الله تعالى، فما هي خِلَعه تعالى؟ إن تلك الخِلَع بقدر علومهم أولاً، وبقدر نشر هذه العلوم.
مَن علَّمتَ؟ أيَّ شبهةٍ دَفَعتَ؟ أيّ مسألةٍ حللتَ للجاهل؟ أيّ عقيدة أحكمت؟ الخلع بقدر هذا ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ﴾﴿وَالوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ﴾.
الحديث مفصّلٌ ولا وقت لتمامه، لكنّ الكلمة الأخيرة هي المهمّة هنا:
حَتَّى يُخْلَعُ عَلَى الوَاحِدِ مِنْهُمْ ألفُ ألفِ خِلْعَة مِنْ نُورٍ، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادِي رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ: أَيُّهَا الكَافِلُونَ لِأَيْتَامِ آلِ مُحَمَّدٍ (عليهم السلام)، النَّاعِشُونَ لَهُمْ عِنْدَ انْقِطَاعِهِمْ عَنْ آبَائِهِمُ الَّذِينَ هُمْ أَئِمَّتُهُمْ، هَؤُلَاءِ تَلَامِذَتُكُمْ وَالأَيْتَامُ الَّذِينَ كَفَلْتُمُوهُمْ وَنَعَشْتُمُوهُمْ، فَاخْلَعُوا عَلَيْهِمْ خِلَعَ العُلُومِ فِي الدُّنْيَا، فَيُخْلَعُونَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أُولَئِكَ الأَيْتَامِ عَلَى قَدْرِ مَا أَخَذُوا عَنْهُمْ مِنَ العُلُوم،ِ حَتَّى إِنَّ فِيهِمْ (يَعْنِي فِي الأَيْتَامِ) لَمَنْ يُخْلَعُ عَلَيْهِ مِائَةُ الفِ خِلْعَة.. إلى أن يقول:
وَ قَالَتْ فَاطِمَةُ (عليها السلام): يَا أَمَةَ الله، إِنَّ سِلْكاً مِنْ تِلْكِ الخِلَعِ لَأَفْضَلُ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ ألفَ ألفِ مَرَّةٍ(89).
إلى أين يصل هذا الحساب؟ ماءة ألف خلعة! وكلُّ خيطٍ من كلِّ خلعةٍ ألفُ ألفِ ضعف ما طلعت عليه الشمس!! هذا أجر من يذهب في عاشوراء هذه إلى المناطق المحرومة ويُعين أيتام آل العصمة.
ماذا فعلوا (عليهم السلام) لحفظ هذا الدين؟ وماذا فعلنا نحن؟
من هو الإمام الرابع؟
في يوم القيامة وفي العرصات ينادي المنادي: أَيْنَ زَيْنُ العَابِدِين؟(90).
لقد سبق الأنبياء، فإنّ نتيجة الخِلقة عبادة الله، وشخصٌ واحدٌ هو زين العابدين من الأولين والآخرين، وهو الذي أوصلَهُ عملُهُ مع الله إلى هذا، وقع ولده في البئر، وكان مصلياً، وتصاعد الصوت من الأهل، لكنه لم يتحرك حتى أنهى صلاته مع تعقيباته، فجاء إلى البئر وأخرج الطفل، قالوا: يا ابن رسول الله لم لم تقطع صلاتك؟
كان جوابه: كُنْتُ بَيْنَ يَدَيْ جَبَّارٍ، لَوْ مِلْتُ بِوَجْهِي عَنْهُ لَمَالَ بِوَجْهِهِ عَنِّي(91)!
كلُّ العالم لا يساوي شيئاً أمام هذه الكلمة!
مثل هذا وقعت عينه على يتيم أبي الفضل العباس، عُبيد الله بن العباس بن عليّ، ما إن وقع نظره على الطفل حتى ارتفع صوتُه وأنينُه، وكان قوله أنّه لم يمرّ يومٌ أشدّ على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من يوم أحد، لأنّه فقد فيه عمه حمزة سيد الشهداء (عليه السلام)، واليوم الثاني في غزوة مؤتة عندما فقد جعفر بن أبي طالب ‘، وبعد هاتين الكلمتين قال هذه الجملة: وَلَا يَوْمَ كَيَوْمِ الحسَيْن.
ثم نظر إلى وجه ذلك اليتيم وقال جملةً كلَّما أتذكَّرُها أتحيَّر، قال: وَإِنَّ لِلْعَبَّاسِ عِنْدَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَنْزِلَةً يَغْبِطُهُ بِهَا جَمِيعُ الشُّهَدَاءِ يَوْمَ القِيَامَةِ(92).
ما هي هذه المنزلة؟ جميع الشهداء يغبطونه على ذلك المقام! حمزة سيد الشهداء (عليه السلام) يغبط العباس بن علي (عليه السلام) على منزلته! جعفر الطيار الذي يطير مع الملائكة في الجنة يغبط مقام العباس عند الله! ماذا فعل حتى وصل إلى هنا؟ العقل يتحيَّر، والأمر ليس قابلاً للكلام.
وصل إلى الفرات، وكان أكثر عطشاً من الجميع، جلس قربَه، مدَّ يده إلى الماء وأخرجه، وأصل المسألة ههنا، كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) راضياً بأن يشرب، وعليٌّ (عليه السلام) راضٍ، وسيد الشهداء (عليه السلام) يطلب ذلك من الله، كان يعرف كلَّ ذلك، لكنّه ذكر الحسين (عليه السلام)، وكان قوله:
يا نفسُ من بعد الحسين هوني * * * وبعده لا كنت أو تكوني
ملأ القربة وخرج من الشريعة، وكمنوا له، ماذا حصل؟ الأمر غير قابل للكلام، أقول هذا المقدار الذي تُعلَم به منزلته: قطعوا يده اليمنى، ولما وقع بصره على يده المقطوعة قال:
والله إن قــطعتم يـميني * * * إني أحامي أبداً عن دينــي
وعن إمامٍ صادق اليقين * * * نجل النبيّ المصطفى الأمين
هكذا أجاب عن قطع يده اليمنى، وما مرَّ وقتٌ حتى سقطت يده اليسرى أيضاً، ولما وقع بصره عليها قال:
قد قطعوا ببغيهم يساري * * * فأصلِهِم يا ربّ حرّ النار
والمهم هنا: فَقَدَ يداه، وبقيت قربة الماء، كلُّ أمله في أن يوصل الماء إلى الخِيم، ثم رأى أنّ الماء سال على الأرض، فلنفكِّر: تبدَّدَ أملُه بهذا الشكل، وجاء السهم إلى عينه.. لو اصطدم شيءٌ بعيننا ماذا نفعل؟ فكيف لو كان سهماً؟
حافظ على نفسه أيضاً، ثم ضربوه بعمودٍ على رأسه، وعند وقوعه على الأرض، كيف وقع؟ من يقع يضع يديه على الأرض أولاً.. لكن..
قال جملةً لم يقلها في كل عمره: في كل عمره كان يقول: يا سيدي، يا مولاي، أما ذلك اليوم قال: يا أخي أدرك أخاك.
جاء من كان حِفظُ العالم به، وقطبُ دائرة الإمكان، وقف إلى جانب ذلك البدن وقال جملةً، وينبغي أن تُفهم حقيقة الأمور من هذه الجملة، لقد شاهَدَ قبل ذلك قتلَ عليٍّ الأكبر، وأحضر جنازته للمخيم، لكنه لم يقل حينها مثل هذه الجملة أبداً. وقف بجانب بدنه وقال: الآن انكسر ظهري. لم يقل: آلمني، قال: انكسر ظهري، وانقطع رجاي.
ثم جاء إلى الخيم، لِمَ لَم يحضر بدنه؟ أحضر كل الأبدان، لكنّ هذا البدن بقي. لماذا؟ لا يمكنني أن أقول. إذا رفع عضواً سقط الآخرُ الى الأرض.
ركض الأطفال جميعاً؟ ماذا حصل؟ لم يتكلم بأي كلمة، ذهب رأساً إلى خيمة أخيه وأسقط عمود الخيمة!
عن لسان صادق أهل البيت (عليه السلام): سَلَامُ الله، وَسَلَامُ مَلَائِكَتِهِ المُقَرَّبِينَ وَأَنْبِيَائِهِ المُرْسَلِينَ.. عَلَيْكَ يَا ابْنَ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ.. بَعَثَكَ الله فِي الشُّهَدَاءِ.. وَرَفَعَ ذِكْرَكَ فِي عِلِّيِّينَ، وَحَشَرَكَ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ(93).
أين هي (عِلِّيونَ)؟ هناك رفع الله اسم أبي الفضل العباس، مثل هذا كان جندياً في سبيل دين الله، وبهذا الشكل!
هذه أيام عاشوراء، اسعوا لتعريف الناس بعظمة المصيبة، المصيبةُ ثقيلةٌ جداً، وقد أُمِرَ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يجمع دم الحسين، لقد أعطاه الله قارورةً، وعندما قُطِعَ رأس الحسين (عليه السلام) كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جالساً هناك، فوضع الدم في القارورة، ثمّ أخذها إلى السماء، وكلما وصل إلى سماءٍ كانت ترتجف وتقشعِّر، حتى وصل إلى الكرسي فاقشعرّت، ثم إلى العرش فوضع قارورة الدم في أظلّة العرش، ولا تزال تقشعرُّ إلى يوم القيامة.
السلام على الحسين، وعلى علي بن الحسين، وعلى أصحاب الحسين.
عاشوراء.. هداية من الضلالة والجهالة!
بسم الله الرحمن الرحيم(94)
قال تعالى: ﴿وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾(95)، وفي هذا الكتاب كل ما يلزم لسعادة الإنسان، وأفضل ما يقوم به أهل العلم في حياتهم مختَصَرٌ في عبارتين من القرآن الكريم:
الأولى: ﴿لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ﴾.
الثانية: ﴿وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ﴾ (96).
التفقُّه في الدين والإنذار يورث التشابُه مع الأنبياء، فإنّ مقام النبوّة هو مقام الإنذار ﴿يا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِر * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ﴾(97).
ونحن مقبلون على أيامٍ غير قابلة للإدراك، فواقعة عاشوراء فوق الإدراك وفوق البيان، إنها قضيةٌ من القضايا التي لا تدرَك ولا توصَف.
روايات أمّ سلمة وشهادة الحسين (عليه السلام) مما اتفق عليها الفريقان، ومن ذلك رؤياً رأت فيها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أشعث أغبر وعلى كريمته الغبار والتراب.
وهذه الجملة تحيِّر كل من يذكرها من الفقهاء، تروي فتقول:
فقلت: بأبي وأمّي، مالي أراك يا رسول الله مغبراً أشعث؟ ما هذا الغبار والتراب الذي أراه على كريمتك ووجهك؟
فقال لي: يا أمّ سلمة، لم أزل هذه الليلة أحفر قبر ولدي الحسين (عليه السلام) وقبور أصحابه(98)، وفي رواية أخرى: مَا زِلْتُ اللَّيْلَةَ أَحْفِرُ قُبُوراً لِلْحُسَيْنِ وَأَصْحَابِهِ(99).
عقل الكلِّ وأشرف الكائنات يحفر قبراً للحسين (عليه السلام)!
لقد ورد في زيارة أصحاب الحسين (عليه السلام): السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَبْرَارَ الله(100)، وهذه الكلمات محيّرةٌ للعقول! لقد كان هؤلاء أبرار الله! وقد قال الإمام (عليه السلام) فيهم قولاً في ليلة عاشوراء، وهي الليلة التي خطب فيها خطبة لم يخطب مثلها في عمره!
وبعد أن حمد الله وأثنى عليه قال: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ أَصْحَاباً أَوْفَى وَلَا خَيْراً مِنْ أَصْحَابِي، وَلَا أَهْلَ بَيْتٍ أَبَرَّ وَلَا أَوْصَلَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي(101).
وعَدَمُ علمه عِلمٌ بالعدم ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾، فمثله (عليه السلام) يقول في ذلك الجمع: لَا أَعْلَمُ أَصْحَاباً أَوْفَى وَلَا خَيْراً مِنْ أَصْحَابِي، هذا مقام أصحابه. وقد وُجِدَت جنازةُ غلامٍ أسود كان معه بعد عشرة أيام، فكان وجهه كفلقة القمر، وقد عطّرت رائحته العطرة كلّ الجوّ في نينوى(102).
لماذا؟ لكلمتين قالهما له الإمام (عليه السلام) عندما جاء ليستجيزه فلم يجزه، ذلك أنه جاء للراحة لا للمِحنة، قال له الغلام الأسود: إِنَّ رِيحِي لَمُنْتِنٌ، وَحَسَبِي لَلَئِيم، وَلَوْنِي لَأَسْوَد.
لقد رفع الإمام (عليه السلام) رأسين ووضعهما على ركبتيه: أحدهما: رأس أشبه الناس خَلقاً وخُلقاً ومنطِقاً برسول الله، وثانيهما: رأس هذا الغلام!
ثم قال جملتين: اللّهمّ بيّض وجهه، وطيّب ريحه، وفعلت هاتان الكلمتان فعلَهما، وبعد عشرة أيام كان هواء نينوى معطراً به.
هذه هي الأيام القادمة، لقد انقضت فترة التفقُّه في الدين، وهذه أيام الإنذار، فاعلموا قدر هذه النعمة، ولا ينبغي أن تُحرَموا من هذه السعادة، إنّها الأيام التي: بَذَلَ مُهْجَتَهُ فِيكَ لِيَسْتَنْقِذَ عِبَادَكَ مِنَ الضَّلَالَةِ وَالجَهَالَةِ، وَالعَمَى وَالشَّكِّ وَالِارْتِيَاب(103).
فينبغي عليكم جميعاً، فرداً فرداً، الاقتداء به (عليه السلام) عملاً، وهذا مقامٌ غير قابلٍ للإدراك ولا للوصف!
روى الطبرسي في الاحتجاج عن الإمام الحادي عشر (عليه السلام): قَالَ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ (عليه السلام): فَقِيهٌ وَاحِدٌ: ليس أيُّ فقيه، تفقهوا في هذه الكلمات جيداً.
يُنْقِذُ يَتِيماً مِنْ أَيْتَامِنَا، المُنْقَطِعِينَ عَنَّا وَعَنْ مُشَاهَدَتِنَا، بِتَعْلِيمِ مَا هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ: مَن هم أيتامنا؟ الجُهَّال الذين انقطعوا عن مشاهدتنا، فإذا أنقذ هذا الفقيهُ ذلك اليتيم كان ذلك:
أَشَدُّ عَلَى إِبْلِيسَ مِنْ ألفِ عَابِدٍ، لِأَنَّ العَابِدَ هَمُّهُ ذَاتُ نَفْسِهِ فَقَطْ، وَهَذَا هَمُّهُ مَعَ ذَاتِ نَفْسِهِ ذَوَاتُ عِبَادِ الله وَإِمَائِهِ، لِيُنْقِذَهُمْ مِنْ يَدِ إِبْلِيسَ وَمَرَدَتِهِ، فَلِذَلِكَ هُوَ أَفْضَلُ عِنْدَ الله مِنْ ألفِ عَابِدٍ وَألفِ ألفِ عَابِدَة(104).
لماذا كان أفضل من ألف عابد؟ لأنه أنقذ يتيماً.
روايةٌ أخرى عن الإمام الحادي عشر (عليه السلام): قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ (عليه السلام): عُلَمَاءُ شِيعَتِنَا مُرَابِطُونَ فِي الثَّغْرِ الَّذِي يَلِي إِبْلِيسَ وَعَفَارِيتَهُ، يَمْنَعُوهُمْ عَنِ الخُرُوجِ عَلَى ضُعَفَاءِ شِيعَتِنَا، وَعَنْ أَنْ يَتَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ وَشِيعَتُهُ وَالنَّوَاصِبُ.
أَلَا فَمَنِ انْتَصَبَ لِذَلِكَ مِنْ شِيعَتِنَا كَانَ أَفْضَلَ مِمَّنْ جَاهَدَ الرُّومَ وَالتُّرْكَ وَالخَزَرَ ألفَ ألفِ مَرَّةٍ، لِأَنَّهُ يَدْفَعُ عَنْ أَدْيَانِ مُحِبِّينَا وَذَلِكَ يَدْفَعُ عَنْ أَبْدَانِهِم(105).
من أنقذ يتيماً جاهلاً من أيتام إمام الزمان، وعلَّمَهُ وظائفه الدينية كان أفضل من كل هؤلاء المجاهدين في سبيل الله، أفضل ممن جاهد الروم والترك والخزَر، لماذا؟ لقد بيّن الإمام العلّة في ذلك، لأن أولئك يدفعون عن الأبدان وهؤلاء عن الأديان.
هنيئاً لمن يستفيد من أيام العطلة في عاشوراء، ويذهب للمناطق المحرومة التي لا يذهب إليها أحد، ويضمن سعادته الأخروية للأبد.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ ‘: أَوْحَى الله تَعَالَى إِلَى مُوسَى (عليه السلام): حَبِّبْنِي إِلَى خَلْقِي، وَحَبِّبْ خَلْقِي إِلَيَّ. قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَفْعَلُ؟
قَالَ: ذَكِّرْهُمْ آلَائِي وَنَعْمَائِي لِيُحِبُّونِي، فَلَئِنْ تَرُدَّ آبِقاً عَنْ بَابِي، أَوْ ضَالًّا عَنْ فِنَائِي، أَفْضَلُ لَكَ مِنْ عِبَادَةِ مِائَةِ سَنَةٍ بِصِيَامِ نَهَارِهَا وَقِيَامِ لَيْلِهَا(106).
هذه الكلمات محيِّرة، إن رددتَ آبقاً لباب الله كان ذلك أفضل من عبادة مئة سنة!! فلا تُفَوِّتُوا هذه الفرصة وتُضَيِّعُوها من أيديكم!
ومَن كانت هذه أيامه فخَتم الكلام كلامُه: عن الإمام أبي محمد الحسن العسكري (عليه السلام) قال: قال الحسين (عليه السلام):
مَنْ كَفَلَ لَنَا يَتِيماً قَطَعَتْهُ عَنَّا مَحَبَّتُنَا بِاسْتِتَارِنَا، فَوَاسَاهُ مِنْ عُلُومِنَا الَّتِي سَقَطَتْ إِلَيْهِ حَتَّى أَرْشَدَهُ وَهَدَاهُ قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: أَيُّهَا العَبْدُ الكَرِيمُ المُوَاسِي لِأَخِيهِ، أَنَا أَوْلَى بِالكَرَمِ مِنْكَ، اجْعَلُوا لَهُ يَا مَلَائِكَتِي فِي الجِنَانِ بِعَدَدِ كُلِّ حَرْفٍ عَلَّمَهُ ألفَ ألف قَصْرٍ، وَضُمُّوا إِلَيْهَا مَا يَلِيقُ بِهَا مِنْ سَائِرِ النَّعِيم(107).
هذا كلام سيد الشهداء (عليه السلام)! وهذه أيام محرَّمٍ على الأبواب، إنّ لكم بكلّ حرفٍ تُعَلِّموه شخصاً من إِحكامٍ للعقيدة، أو تهذيبٍ للأخلاق، أو تعليمٍ للأحكام، لكم بكلِّ حرف من ذلك ألفُ ألفِ قصرٍ في الجنة، فلا تضيّعوا هذه العطيّة.
ماذا فَعَلَ سيّد الشهداء؟ وماذا فعلنا نحن؟ بَذَلَ مُهْجَتَهُ فِيكَ.. لماذا؟
لِيَسْتَنْقِذَ عِبَادَكَ مِنَ الضَّلَالَةِ وَالجَهَالَةِ: فينبغي على من كانوا له أتباعاً أن يدرسوا ويتفقهوا في أيام الدرس، وأن يُرشِدوا أيتام وليّ العصر في أيام العطل.
في كل هذه الروايات ورد التعبير بكفالة اليتيم، ولهذا سرٌّ، قال النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم): أَنَا وَكَافِلُ اليَتِيمِ كَهَاتَيْنِ فِي الجَنَّةِ.
الإصبعان: أحدهما أعلى وأطول، والآخر أقصر، ولكنهما متصلان، هكذا يكون كافل اليتيم مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الجنة، فإذا كانت كفالة يتيم زيدٍ وعمرو هكذا، فما حال كفالة يتيم وليّ العصر؟ لا تذهب هذه السعادة من بين أيديكم! ﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ﴾ (108).
عندما يُبَيِّنُ أمير المؤمنين (عليه السلام) حال الموت يقول: فَغَيْرُ مَوْصُوفٍ مَا نَزَلَ بِهِم، اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِمْ سَكْرَةُ المَوْتِ وَحَسْرَةُ الفَوْت: فلا ينبغي ان تبتلوا بحسرات الفوت مع سكرات الموت!
أيُّ أيامٍ هي هذه؟! أيامُ من قال عنه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): قُرَّةُ عَيْنِي وَرَيْحَانَتِي وَثَمَرَةُ فُؤَادِي(109): مَن كان قرّة عين 124 ألف نبيّ، كانت قرة عينه في الحسين (عليه السلام).
يقول جبرائيل للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إِنَّ الله قَدْ حَكَم.. عَلَى هَذَا الحُسَيْنِ أَنْ يَمُوتَ مَذْبُوحاً(110).
يُذبَحُ (عليه السلام) ذبحاً قال عنه الامام الثامن (عليه السلام) لابن شبيب: يَا ابْنَ شَبِيبٍ إِنْ كُنْتَ بَاكِياً لِشَيْءٍ فَابْكِ لِلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) فَإِنَّهُ ذُبِحَ كَمَا يُذْبَحُ الكَبْش(111).
ثم قال جبرائيل للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إِنَّ الله قَدْ حَكَم.. عَلَى هَذَا الحُسَيْنِ أَنْ يَمُوتَ مَذْبُوحاً، وَإِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةً مُسْتَجَابَةً، فَإِنْ شِئْتَ كَانَتْ دَعْوَتُكَ لِوَلَدَيْكَ الحَسَنِ وَالحُسَيْنِ، فَادْعُ الله أَنْ يُسَلِّمَهُمَا مِنَ السَّمِّ وَالقَتْل.
فَقَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم): يَا جَبْرَئِيلُ أَنَا رَاضٍ بِحُكْمِ رَبِّي، لَا أُرِيدُ إِلَّا مَا يُرِيدُهُ.
قال هذا جدُّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، لكن ما الذي جرى عليه يوم عاشوراء؟! إنه غير قابل للبيان.. قومٌ بالسيوف وقومٌ بالرماح وقومٌ بالحجارة! كم يتحمل البدن؟
وَلَوْ تَرَاهُ يَا آدَمُ وَهُوَ يَقُولُ: وَا عَطَشَاهْ، وَا قِلَّةَ نَاصِرَاهْ، حَتَّى يَحُولَ العَطَشُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّمَاءِ كَالدُّخَانِ، فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ إِلَّا بِالسُّيُوفِ وَشُرْبِ الحُتُوف(112).
كان هذا قوله: إلهي.. رضا بقضائك وتسليماً لأمرك.. لا معبود سواك يا غياث المستغيثين. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ماذا فعلت عاشوراء بقلب الزهراء؟!
بِسْم الله الرحمن الرحيم(113)
إن تِبيان كلّ شيءٍ في القرآن الكريم، والقرآن يُبيّن أن اختيار (الأحسن) تكليفٌ ووظيفةٌ للجميع، لأن غير الأحسن إما حسنٌ وإمّا قبيحٌ، وفي كليهما الحسرة، أما القبيح: فالحسرة على أدائه والإقدام عليه، وأما الحسن: فالحسرة فيه على ترك الأحسن، والنتيجة: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى الله﴾(114).
إنّ أيامَ التبليغ قادمةٌ، فاغتنموا العُمرَ واصرِفوه في الدعوة لله تعالى، وبابُ الله تعالى هو وليّ العصر وإمام الزمان عجل الله فرجه.
وأما كيف ينبغي أن تُصرف أيام التبليغ؟ ففيما تبيِّنُهُ هاتان الكلمتان اللتان قالهما الله تعالى لموسى بن عمران: فَلَئِنْ تَرُدَّ آبِقاً عَنْ بَابِي، أَوْ ضَالًّا عَنْ فِنَائِي، أَفْضَلُ لَكَ مِنْ عِبَادَةِ مِائَةِ سَنَةٍ بِصِيَامِ نَهَارِهَا وَقِيَامِ لَيْلِهَا(115).
فهذا أفضلُ من صيام كليم الله موسى وقيامه، كلُّ واحدةٍ منهما أفضل من صيام كليم الله ماءة عام كلّ النهار وقيامه كلّ الليالي! أولاهما هو أن تَرُدَّ عبداً آبقاً للمولى، فسأل موسى (عليه السلام) عن تفسير العبد الآبق، وجاء الخطاب: العَاصِي المُتَمَرِّد، أي أن يتوب العاصي.
الثاني أن يرشد ضالاً، فمن هو الضال؟ قال تعالى لموسى: الجَاهِلُ بِإِمَامِ زَمَانِهِ تُعَرِّفُه: أي الذي لم يصل لباب وليّ العصر، فالإرشاد إلى هذا الباب هو إرشاد الضالّ، وهذه وظيفتكم جميعاً في أيام عاشوراء.
أمّا يوم سيد الشهداء فماذا كان؟ ذلك غير قابل للبيان، والحجة في بيان ثامن الأئمة (عليه السلام): إِنَّ يَوْمَ الحُسَيْنِ أَقْرَحَ جُفُونَنَا، وَأَسْبَلَ دُمُوعَنَا!
نحن لم ندرك عاشوراء! هذا كلام ثامن الأئمة أنّ يوم الحسين أقرح جفوننا، أي جَرَحَها، لكن مَن كان الحسين (عليه السلام)؟ لم يعرفه أحد!
في اليوم الاول الذي جاء فيه للدنيا أعاد لفطرس ريشَه وجناحَه حتى عرج إلى السماء وصعد للملأ الأعلى! أما اليوم الأخير فغير قابل للإدراك والبيان، فلا يوم كيومك يا أبا عبد الله.
إلى أين ذهب في يومه الأخير؟ ترك ما سوى الله وذهب للملأ الأعلى.
هناك روايةٌ محيِّرَةٌ وهي أنّ أهل المدينة سمعوا فجأةً صوت عويلٍ يأتي من بيت أمّ سلمة، فاجتمعوا ليعرفوا ما الذي يجري في بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، سألوا عن ذلك فقالت: رأيت الآن خاتم النبين في الرؤيا حاسر الرأس والقدمين، يعلوه الغبار. قلت: يا رسول الله ما هذه الحالة؟ قال: الآن عدت من محلّ قتله.. كنت أحفر قبراً للحسين، هذا التراب تراب قبر الحسين.. لم نعرفه (عليه السلام)!
يحدِّثُ رسول الله عن ليلة المعراج: ذهبت للملأ الأعلى حتى وصلت للسماء السابعة وتجاوزتها، ووصلت للّوح وتجاوزته، ووصلت للقلم وتجاوزته، ووصلتُ للكرسيّ وهي الكرسي التي ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ﴾، وتجاوزت الكرسي، ووصلتُ للعرش وتجاوزته، ووصلت للحُجُب: حجاب العظمة وحجاب العلم وحجاب الكبرياء وحجاب الجبروت وتجاوزتها كلها، ووصلت لقاب قوسين أو أدنى.
هناك رأيت قد كتب: إنّ الحسينَ مصباحُ الهدى وسفينةُ النجاة.
فِقه هذا الحديث مفصَّلٌ لا يسمح الوقت للتعرُّض له، والمهم فقرتان:
الأولى: إنّ الحسين مصباح الهدى: وهي الجنبة العِلمية.
الثانية: وسفينة النجاة: وهي الجنبة العَمَلية.
الحسين مصباح الهداية، فمنتهى آمال جميع الأنبياء والمرسلين رأسه المقطوع! والحسين سفينة النجاة بوجوده المقدس، وهذه الجنبة العملية.
ولكن متى تظهر سفينة النجاة؟
عندما تقوم القيامة الكبرى: ﴿إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ الله شَديد﴾، في ذلك اليوم: ﴿فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ المُرْسَلين﴾، فأيُّ يوم هو هذا اليوم الذي يُسأل فيه موسى بن عمران وعيسى بن مريم ‘؟
فصل الخطاب أمرٌ واحد: كلُّ واحدٍ من الأنبياء يقول: وانفسي.. فالأنبياء والأمم كلهم عاجزون، فجأةً يظهر هودجٌ، ظاهره عفو الله، وباطنه رحمة الله، ومِن هذا الهودج تخرج مُخَدَّرَةٌ تقف على يمين العرش.
كل الأنبياء والأمم قلقون: ما الخبر؟
فجأةً ترفعُ قميصاً قديماً ملطَّخاً بالدم وتضعه على رأسها، يقول جبرئيل: يا أمَةَ الله، أي فاطمة، الله تعالى يهديك السلام ويقول: أطلبي ما تريدين، لكن أنزلي هذا القميص عن رأسك، تقول هناك: يا رب شيعتي..
عاشوراء على الأبواب، فما كان بيان ثامن الأئمة عالم آل محمد؟ قال: إِنَّ يَوْمَ الحُسَيْنِ أَقْرَحَ جُفُونَنَا، وَأَسْبَلَ دُمُوعَنَا، وأذلَّ عزيزنا.
والى أين وصل الامر؟ لا يمكن بيان ذلك، ستبقى حقيقة هذه المصيبة إلى أن نصل إلى يوم القيامة.
أنتم جميعاً من أهل الفقاهة، تفكّروا في هذه الجُمَل حول الدم، الدم الذي قيل عنه: أَشْهَدُ أَنَّ دَمَكَ سَكَنَ فِي الخُلْدِ، وَاقْشَعَرَّتْ لَهُ أَظِلَّةُ العَرْشِ: والقشعريرة في اللغة رجفةٌ خاصة.
وَبَكَى لَهُ جَمِيعُ الخَلَائِق، وَبَكَتْ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرَضُونَ السَّبْعُ وَمَا فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ، وَمَنْ يَتَقَلَّبُ فِي الجَنَّةِ وَالنَّارِ مِنْ خَلْقِ رَبِّنَا، وَمَا يُرَى وَمَا لَا يُرَى(116):
تفكروا جميعاً، المصيبة التي وقعت على أهل السماوات والأرَضين تركت هذا الأثر فيهم! فماذا فعلت يا ترى في قلب فاطمة الزهراء؟!
تقول الرواية المعتبرة أنّها ترى واقعة عاشوراء كلّ يومٍ عدة مرات، ثمّ يغشى عليها، هذا ما يجري على الصديقة الكبرى، فما هي وظيفتكم في أيام عاشوراء؟ أن تُبَيِّنُوا عظمة هذه المصيبة للعالم.
وما تقوم به الهيئات من لَطمٍ وضرب بالزناجير كلُّهُ قليل، فالمصيبة وصلت إلى حدّ أن يقول المعصوم (عليه السلام): لا يوم كيومك يا أبا عبد الله.
أربعين الإمام الحسين عليه السلام
أيتام الغريب.. طعمة الأعداء
بسم الله الرحمن الرحيم(117)
اليوم مقدمة الأربعين، ومِمّا يتميز به هذا المجلس هو زيارة صاحب العصر والزمان، وقولنا فيها: اللَّهُمَّ أُجَدِّدُ لَهُ فِي هَذَا اليَوْمِ وَفِي كُلِّ يَوْمٍ، عَهْداً وَعَقْداً وَبَيْعَةً لَهُ فِي رَقَبَتِي، وهو ما ينبغي قراءته مع دعاء العهد بعد صلاة الصبح، وقد قرأنا هذا الدعاء، لكن هل فهمناه؟
أما العهدُ اليوميّ فهو مع قطب دائرة الإمكان، ومَن بيُمنِه رُزِقَ الورى، وبوجوده ثبتت الأرض والسماء: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾(118)، وأما العقد، فقد قال فيه تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالعُقُودِ﴾(119).
وأما البيعة، فهي من مادة البيع، وحَدُّها أن تبيعه نفسك، المطلب عميقٌ وثقيلٌ جداً، ولا طريق غير الدعاء، والمخاطَب عصارة الأنبياء، وأيُّ شرف أعظم من ذلك وأيُّ نعمة؟!
إنّ متعلق العهد والعقد والبيعة: واجْعَلْنِي اللَّهُمَّ مِنْ أَنْصَارِهِ، ولأنّ ذلك فوق طاقتنا وَرَدَ كدعاء، أن نكون من: (أَنْصَارِهِ) ثم (أَشْيَاعِهِ) ثم (الذَّابِّينَ عَنْهُ) ثم (المُسْتَشْهَدِينَ بَيْنَ يَدَيْه).
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾(120): رحم الله الناصر لهم، والنُّصرَةُ بالقلب واليد واللسان، وهنيئاً لمن وصل للثلاثة، فمَن سَمِعَ صوت استنصارهم ولم ينصرهم أكبّه الله على منخريه في النار، ومن نصرهم بقلبه ولسانه كان معهم، ليس كالشعاع مع الشمس، بل في درجتهم.
لقد قرأتم الدعاء سَنةً، وحان وَقتُ العمل بالدعاء، والوظيفة لكلٍّ منّا فرداً فرداً، في مقابل ما يسببه أهل الشُّبُهات والانحراف والضلال، وفي مقابل حالةٍ من البطالة في المجتمع، حيثُ شبابٌ في سن الزواج عاطلون عن العمل، وحيث حطّ الفقر رحاله، ووصل الأمر إلى أن تبيع فتاة عمرها 22 سنة كليَتَهَا لتعيش، فتقدّم بعض الفرق المنحرفة النساء، وبعضها الأموال!
أين دورنا؟ هذه وظيفتنا كلنا، إنّ أيتام العبد الغريب (عليه السلام) يصبحون طعمة الأعداء، ولا أحد يجيب نداءه: هل من ناصر ينصرني؟
اذهبوا إلى القرى والأرياف، فعالمٌ يُنتَفَعُ بعلمه أفضلُ من ألفِ عابدٍ ممن تُقبَل عبادته، ولا تتأخروا عن هذه السعادة، قال تعالى: ﴿ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ (121): مِمَّا عَلَّمْنَاهُمْ يَبُثُّون.
العلم الذي أعطاه الله لكم: آيةٌ محكمةٌ وبها تثبيتُ عقائد الناس، وسُنَّةٌ قائمةٌ وبها تهذيبُ أخلاق الناس، وفريضةٌ عادلةٌ وبها تعليم الأحكام.
كلُّ من عنده هذه الأمور أفضلُ من ألفِ عابد، فبمثل العالم الناطق المستعمِلِ لعلمه قِوامُ الدين.
في أيام التحصيل تحصيلٌ، وفي أيام التبليغ تبليغٌ، احصلوا على هذه السعادة، قال تعالى: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ﴾ أيام اشتغالكم، ﴿وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ﴾ يوم فراغكم.
اذهبوا للناس وأخبروهم من هو الذي قُتل؟ ولماذا قدَّمَ روحه؟ وكيف قُتِل؟
خرج إلى القاسم بن العلاء الهمداني وكيل أبي محمد (عليه السلام)، وقد عاش 113 سنة، وأدرك ثلاث أئمة: الإمام الهادي والعسكري والحجة (عليهم السلام): أَنَّ مَوْلَانَا الحُسَيْنَ (عليه السلام) وُلِدَ يَوْمَ الخَمِيسِ لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنْ شَعْبَانَ، فَصُمْهُ وَادْعُ فِيهِ بِهَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِحَقِّ المَوْلُودِ فِي هَذَا اليَوْمِ، المَوْعُودِ بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ اسْتِهْلَالِهِ وَوِلَادَتِهِ، بَكَتْهُ السَّمَاءُ وَمَنْ فِيهَا، وَالْأَرْضِ وَمَنْ عَلَيْهَا، وَلمَّا يَطَأْ لَابَتَيْهَا، قَتِيلِ العَبَرَةِ وَسَيِّدِ الأُسْرَةِ، المَمْدُودِ بِالنُّصْرَةِ يَوْمَ الكَرَّةِ، المُعَوَّضِ مِنْ قَتْلِهِ أَنَّ الأَئِمَّةَ مِنْ نَسْلِهِ، وَالشِّفَاءَ فِي تُرْبَتِهِ، وَالْفَوْزَ مَعَهُ فِي أَوْبَتِهِ، وَالْأَوْصِيَاءَ مِنْ عِتْرَتِهِ بَعْدَ قَائِمِهِمْ وَغَيْبَتِهِ(122).
المُعَوَّضِ مِنْ قَتْلِهِ أَنَّ الأَئِمَّةَ مِنْ نَسْلِهِ: تسعُ أئمةٍ من نسله، فماذا فعل حتى كان أجره زين العابدين والصحيفة السجادية، والباقر و.. ومن يوصِلُ تمام الِخلقة إلى ثَمَرَتِها، وبعثة الأنبياء الى النتيجة المرجوّة منها، فهو ثمرةٌ وأجرٌ لشهادته (عليه السلام).
نختم بهذه الجملة من الدعاء: ِ اللَّهُمَّ وَهَبْ لَنَا فِي هَذَا اليَوْمِ خَيْرَ مَوْهِبَةٍ، وَأَنْجِحْ لَنَا فِيهِ كُلَّ طَلَبَةٍ، كَمَا وَهَبْتَ الحُسَيْنَ لِمُحَمَّدٍ جَدِّهِ، وَعَاذَ فُطْرُسَ بِمَهْدِهِ، فَنَحْنُ عَائِذُونَ بِقَبْرِهِ مِنْ بَعْدِهِ.
القيامة في هذه الجملة، هِبَةُ الله لخاتم الأنبياء هو سيد الشهداء، فما الذي وجده فطرس في مهده؟ وماذا يجد من يذهب لقبره؟ تفصيله في بحث آخر.
السلام عليكم أيُّها الربانيون
بسم الله الرحمن الرحيم(123)
العشرة الأخيرة من صفر قد اقتربت، وهي عند أهل العلم في كلمتين، فبرنامج الطلاب هو برنامجٌ قد عيّنه الله تعالى، وليس محتاجاً لتعيين زيدٍ وعمرو، وذلك البرنامج في جملتين: الجملة الأولى: ﴿لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ﴾، والجملة الثانية: ﴿وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ﴾(124)، ولا ثالث لهما، غاية الأمر أنّه ينبغي العمل لفهم هاتين الكلمتين، وينبغي اغتنام الوقت، فكم هو عمري وعمرك؟ إنّ كلَّ نَفَسٍ من أنفاسنا جزءٌ من هذا العمر، وسواء شئنا أم لم نشأ سيصل هذا العمر إلى آخر جزءٍ منه، فإذا جاء الأجل لا تقديمَ ولا تأخير.
وينبغي أن يعطي كلُّ نَفَسٍ محصولاً، والمحصول في كلمتين: الأولى: التفقُّه في الدين، وفَصلُهُ الأيام الماضية، والثانية: الإنذار، وفَصلُهُ العشرة الأخيرة من صفر، فهنيئاً لمن فَهِمَ ذلك، واستفاد من هذا العمر.
إنّ معرفة رجال العلم فَنٌّ بنفسه، ومن ذلك أن للميرزا الشرازي خصوصياتٌ، حيث أنّ أصل أفكار النائيني الذي يُعَدُّ فحل فحول المتأخرين توجد في أفكار الميرزا الشيرازي، ولم يكن عند الميرزا فرصةٌ لِلِّقاء مع أحدٍ مَعَ مشاغله العلمية والمشاكل الاجتماعية، وفي أحد الأيام طرق أحد المعممين بابَه بلباس بالٍ، وقال للحاجب: عندي عملٌ مع الميرزا، قال الحاجب: الوصول للميرزا غير مُيَسَّرٍ حتى للأعلام فضلاً عنك، فقال: قل للميرزا: فلانٌ على الباب.
لما قال له الحاجب أن شيخاً على الباب بلباس بالٍ يقول ذلك، وذكر اسمه تغيَّرَ لون الميرزا، فلبس ثيابه وجاء بنفسه إلى الباب، قدَّمَ الشيخ على نفسه وسار خلفه، تحيّر كلُّ الأعلام مثل الأستاذ الحاج الشيخ عبد الكريم، والميرزا محمد تقي الشيرازي، تحيَّر كل الأعيان من تصرُّفِه.
أجلس الشيخ مكانه وجلس أمامه وتحدَّث معه مدةً وخلا به، ثم تحرك الميرزا إلى الباب وغادر الشيخ، ثم تابعه الميرزا بنظره إلى أن غاب.
تحير الجميع مما حصل، فسأل المقربون الميرزا: ما هذا التصرف؟ ومن هذا الشيخ؟
قال: أقول كلمةً واحدة: أنا حاضرٌ لأن أعطي كل ما فعلته طيلة عمري مقابل أن تُكتب أعمال هذا الشيخ في صحيفتي.
زاد كلامه حيرتهم، فقالوا: ما القصة؟
تأمّلوا جيداً كيف فازوا وخسرنا، قال الميرزا: كنت أنا وهذا الشيخ في بحثٍ واحد، وكان مستقبله واعداً أكثر مني، جاء يوماً إليّ وقال: لقد شَخَّصتُ تكليفي، قلت: بماذا؟ قال: تكليفي بعد أن وجدتُ منطقةً لا ذِكر فيها لأهل البيت، وكل أهل تلك المنطقة جاهلون بالمذهب، تكليفي أن أذهب لهناك.
قلت له: ماذا تفعل؟ قال: أسكن في المسجد، وأبني مكتباً في المسجد، وأدرّس أولادهم من الألفباء، هذا ما سأفعله منذ الآن.
انقلب حال الميرزا الشيرازي، وقال: ذهب إلى تلك المنطقة وعاش ذلك الفحل بتلك العيشة، عاش في المسجد وأنشأ مكتباً وأعلن للناس أنّه سيدرّس مجاناً، وكان الناس يطلبون من الله تعالى ذلك.
بدأ مع الأولاد من الألفباء، ومرت الحياة هكذا مع هذا الرجل، وعندما كان الليل يجنّ كان يذهب إلى الشوارع ويأخذ الخبز اليابس الذي كان يبقى من سفراتهم ويرمونه. هذا قوته وهذا عمله، تغير الأطفال فتغيرت كل تلك المنطقة بفعله.
أطلب من الله تعالى أن يحسب كل أعمالي: علمي وتدريسي وصلاة الليل كلها في صحيفته، وأن يكتب ما فعله في صحيفتي!! لقد جاهدوا في الله حق جهاده.
هذا الشيخ كان له هذا الاعتبار عند الميرزا، فما بالك باعتباره عند إمام الزمان؟
هذا ما ينبغي اغتنامه، لا تتعطلوا، اذهبوا للمناطق المحرومة وأحيوا المذهب، فإذا تابَ مذنبٌ، أو تعلَّمَ جاهلٌ مسألةً واحدة، فكم هو أجرُكُم في ذلك؟ أجرُكُم أَجرُ إحياء تمام البشر، ﴿مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَميعاً﴾، فمن أحيا إنساناً فكأنما أحيا كلّ الناس من البدو للختم، ويقول حجة الله تعالى أنّ إحياء النفس بإخراجها من الضلال إلى الهداية.
لا تفقدوا هذا الفوز العظيم، منذ عاشوراء كان هذا السلام يُقرَأُ كلّ يوم ههنا، وأيُّ سلامٍ هو هذا، فهل فهمناه؟
السلام عليك يا أبا عبد الله، وعلى الأرواح التي حلت بفنائك..
فمن كان المخاطَب كلَّ يومٍ؟ هل عرفناه؟ وهل عرفنا تلك الأرواح؟
أدّعي وأُثبِتُ هذا الإدعاء بقدرةٍ علمية، أنّا لو جمعنا العلماء من الشيخ الطوسي للشيخ الأنصاري فإنهم عاجزون عن دَرك روحٍ من تلك الأرواح التي حلّت بفنائه!
إذا كانت هذه الدائرة فما حال معرفة القطب والمركز؟
إنّ أمرَ أصحابه وأنصاره يحيِّرُ العقل، فاستفيدوا جميعاً من هذه الفرصة، اذهبوا جميعاً، وليأخذ كلُّ واحدٍ منكم بيد من يقدر.
بهذه الكلمات يُعلَم أن الجميع عاجزون عن إدراكهم، وعن معرفة من كانوا وما فعلوا، لمسلم بن عوسجة كلماتٌ، ولكلّ كلمةٍ منها حساب، حيث أن طَرَفَ الخطاب هو لوح الوجود المحفوظ، وكتاب الله المبين، وقلب عالم الإمكان، مَن كان السرّ والعلن عنده سيّان، الكلام مقابله وبهذه الطريقة أيضاً عجيبٌ، قال مسلم: والله: فشرع أولاً بذكر الله تعالى.
لَوْ عَلِمْتُ أَنِّي أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُحْرَقُ ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُذْرَى، يُفْعَلُ ذَلِكَ بِي سَبْعِينَ مَرَّةً: أليس العالم عاجزاً عن إدراك ذلك؟ قَدِّم يَدَكَ من النار لترى!
مَا فَارَقْتُكَ: قال ذلك وجلس.
ثم قال زهير: وَالله لَوَدِدْتُ أَنِّي قُتِلْتُ ثُمَّ نُشِرْتُ ثُمَّ قُتِلْتُ، حَتَّى أُقْتَلَ هَكَذَا أَلْفَ مَرَّةٍ: لا مرة ولا مرتين، لو قتلت ألف مرة.
وَأَنَّ الله تَعَالَى يَدْفَعُ بِذَلِكَ الْقَتْلَ عَنْ نَفْسِكَ وَعَنْ أَنْفُسِ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَانِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ(125): وددتُ لو قتلت ألف مرة ليبقى القاسم بن الحسن، قال ذلك وجلس.
قال: ارفعوا رؤوسكم، وأشار لكل واحد إلى قصره في الجنة، تلك غرفتك، وتلك غرفتك، فالعالم في قبضته.
هذا سيد الشهداء، وهؤلاء أصحابه، فمن هم هؤلاء؟ وكيف كانوا؟ وكيف أصبحوا؟ ما كان أولهم وما حصل في آخر أمرهم؟
هذا ما قلته أن العلماء من شيخ الطائفة إلى الشيخ الأنصاري كلُّهم عاجزون عن درك حقيقة تلك الأرواح التي حلت بفنائه (عليه السلام) وأناخت برحله.
كان خاتم النبيين وعصارة الخلقة (صلى الله عليه وآله وسلم) سائراً مع جماعة من أصحابه، ومرّ بأطفالٍ يلعبون، فجلس على قدميه على الأرض، وأخَذَ من بين هؤلاء الأطفال الذين يلعبون طفلاً، تقول الرواية:
فَجَلَسَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عِنْدَ صَبِيٍّ مِنْهُمْ، وَجَعَلَ يُقَبِّلُ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَيُلَاطِفُهُ، ثُمَّ أَقْعَدَهُ عَلَى حَجْرِهِ وَكَانَ يُكْثِرُ تَقْبِيلَهُ: لا مرة ومرّتين وثلاثة، يكثر تقبيله، تحيَّر الجميع، فما الامر، وماذا يعني كل هذا اللطف؟
فَسُئِلَ عَنْ عِلَّةِ ذَلِكَ، فَقَالَ (صلى الله عليه وآله وسلم): إِنِّي رَأَيْتُ هَذَا الصَّبِيَّ يَوْماً يَلْعَبُ مَعَ الْحُسَيْنِ، وَرَأَيْتُهُ يَرْفَعُ التُّرَابَ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْهِ، وَيَمْسَحُ بِهِ وَجْهَهُ وَعَيْنَيْهِ، فَأَنَا أُحِبُّهُ لِحُبِّهِ لِوَلَدِيَ الحُسَيْنِ، وَلَقَدْ أَخْبَرَنِي جَبْرَئِيلُ أَنَّهُ يَكُونُ مِنْ أَنْصَارِهِ فِي وَقْعَةِ كَرْبَلَاءَ(126).
حبيبُ الله يقول: هذا الطفل حبيبي لحبّه لولدي الحسين، هكذا كان أولهم حتى صار آخرهم هكذا، وهؤلاء أصحابه، فكيف به هو؟!
للأسف مرَّ العمر ولم نفهم ماذا تعني عاشوراء، وماذا تعني كربلاء، ومَن هو سيد الشهداء، ومَن هم أصحابه. هم الذين يقف حجّة الله، الإمام السادس مقابل قبرهم ويقول (عليه السلام):
السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا الرَّبَّانِيُّونَ: جملةٌ محيرة للعقول.
السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا شِيعَةَ الله: مَن هم هؤلاء حتى صاروا شيعة الله؟ مَن يتمكن مِن فَهم هذه الكلمات؟
أَنْتُمْ خِيَرَةُ الله: أقول هذا ليُعلَم أنّه إن كانت الذرّة هكذا فما حال الشمس؟ هؤلاء ذراتٌ كانت تدور حوله (عليه السلام) ولهم هذا المقام، فما مقامه هو؟
اخْتَارَكُمُ الله لِأَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام)، وَأَنْتُمْ خَاصَّتُهُ: وشرح هذه الكلمات يحتاجُ إلى فرصةٍ أخرى.
أقول هذا الكلام لتعرفوا ما هي القضية، ومَن هو سيد الشهداء، وهذا النصُّ مهمٌ، حيث يروي شيخ المحدثين الصدوق عن ابن عباس في ليلة قتل سيّد الشهداء، والظاهر أنّ ذلك كان في ليلة الحادي عشر، حيث رأى رسولَ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المنام وبيده قارورة، فسأل عنها فقال أنها: دماءُ الحُسَين وأصحابه أرفَعُهَا إلى الله تعالى: هنا يتضح كيف أنه هل يمكن للعلماء من الشيخ الطوسي إلى الشيخ الأنصاري أن يفهموا ما فعل هؤلاء حتى صار دمهم مخلوطاً مع دم سيد الشهداء؟!
ثم يأتي الشخص الأول في عالم الإمكان، ونبيُّ آخر الزمان، يأتي إلى كربلاء ويأخذ دمهم ويضعه في قارورة يقول عنها لابن عباس: أرفَعُها الى الله تعالى!
فأيُّ مرتبةٍ وصل إليها دمُ ذلك الفتى الأسود؟ وما حال إكسير هؤلاء كلهم؟ الإمام نفسه (عليه السلام)؟
ماذا فعل؟ وإلى أين وصل عمله؟ نحن عاجزون عن البيان ﴿ وَالْفَجْر * وَلَيالٍ عَشْر * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْر﴾ ونهاية الأمر: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً﴾.
رفعها (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن إلى أين وصلت؟ لقد رُفِعَت دماءُ أصحابه إلى العرش، فإلى أين يُرفَعُ هو (عليه السلام)؟ إنّ ذلك لا يُدرَك ولا يوصف.
أيُّ نبيٍّ فعل الفعل الذي فعله هو (عليه السلام)؟ تأمّلوا كم هي المسافة بين الصدر والرأس، وكم يمكن أن تتحمل من جراحات؟
يقول سادس الأئمة (عليه السلام) أن الإمام الحسين (عليه السلام) قد أصيب بثلاثماءة وبضعة وعشرين جرحاً وضربة سيفٍ ورمية سهم، كلُّها اجتمعت في هذا المكان، رغم ذلك كيف كان حاله؟ قال: إلهي رضا بقضائك، وتسليماً لأمرك، لا معبود سواك يا غياث المستغيثين.
نداءٌ يوم القيامة: أين زوار الحسين؟!
بسم الله الرحمن الرحيم(127)
اقتربت العشرة الأخيرة من صفر، مع قدوم الأربعين، وقد قال الإمام الصادق (عليه السلام): رَحِمَ الله مَنْ أَحْيَا أَمْرَنَا(128). وفي هذه الجملة القصيرة تفصيلٌ:
أولاً: ممّن صدر الدعاء؟ لقد صدر ممن كانت إرادته متصلة بالإرادة التي ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾(129)، ممّن كان قلبُه وعاءُ مشيئة الله تعالى.
ثانياً: ما الذي طلبه الإمام؟ لقد طلب رحمة الله تعالى لـ(مَنْ أَحْيَا أَمْرَنَا)، وقد نصّ القرآن على أن ﴿وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾(130).
هذا الشهر وهذه الأيام، هي أيامُ إحياء أمرهم، وينبغي القيام بفعلٍ يكون مطابقاً للقرآن الكريم، فليكن المحور والقطب هو كلام الله تعالى، فقِسمٌ للتفقه وقسمٌ للإنذار، والسعيد هو من يوفق في هذه الأيام لِيُعَرِّف قلباً بالله تعالى، ويَصِلَ روحاً بالأئمة المعصومين (عليهم السلام)، فيصدق عليه: رَحِمَ الله مَنْ أَحْيَا أَمْرَنَا.
الأمر الذي ينبغي إحياؤه هو معرفة الإمام، الحكمة الكبرى هي معرفته بقدر الميسور، فإن سيد الشهداء ليس قابلاً للإدراك من أيِّ أحد، وليس قابلاً للوصف، لا هو (عليه السلام) ولا عمله.
مع التأمل في الروايات بدرايةٍ يتضح حينها الأثر العظيم، وههنا مطلبان راجعان إليه (عليه السلام): أحدهما زيارته، وثانيهما إقامة العزاء عليه.
وكلمات أهل بيت العصمة محيّرة للعقول، وهذه الروايات في كمال الاعتبار، فلا تحتاج إلى سند، والإعجاز ههنا، إذ متى قال الإمام الصادق (عليه السلام) هذه الجملة؟ قالها عندما كان باب الحرم مغلقاً خوفاً من حكومة آل مروان، مع قلّة الزوار، هذا إن تمكن أحدٌ من الوصول للحرم أحياناً، وهذا البيان معجزة عظمى، ويحكي كيف كان يرى (عليه السلام)، قال: إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ: أَيْنَ زُوَّارُ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ؟
فَيَقُومُ عُنُقٌ مِنَ النَّاسِ لَا يُحْصِيهِمْ إِلَّا الله تَعَالَى(131): انظروا اليوم، إلى هذا الاعجاز.. ثم ما يحيّر عقَل كلّ حكيم، وفِكرَ كلّ فقيه أنّه من هنا وما بعد ذلك، فإنّ الله تعالى يتكلّم مع زوار قبره (عليه السلام)!
فَيَقُولُ لَهُمْ: مَا أَرَدْتُمْ بِزِيَارَةِ قَبْرِ الحُسَيْنِ (عليه السلام): أي ما كان قصدكم من الزيارة؟
فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ أَتَيْنَاهُ حُبّاً لِرَسُولِ الله وَحُبّاً لِعَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ، وَرَحْمَةً لَهُ مِمَّا ارْتُكِبَ مِنْهُ: بهذا الحبّ تحرّكت بنا أقدامنا.
فَيُقَالُ لَهُمْ: هَذَا مُحَمَّدٌ وَعَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَالحَسَنُ وَالحُسَيْنُ، فَالحَقُوا بِهِمْ فَأَنْتُمْ مَعَهُمْ فِي دَرَجَتِهِمْ.. ببركة مَن هذا المقام؟
عَنْ عَبْدِ الله بْنِ زُرَارَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) يَقُولُ: إِنَّ لِزُوَّارِ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليه السلام) يَوْمَ القِيَامَةِ فَضْلًا عَلَى النَّاسِ. قُلْتُ: وَمَا فَضْلُهُمْ؟
قَالَ: يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ قَبْلَ النَّاسِ بِأَرْبَعِينَ عَاماً، وَسَائِرُ النَّاسِ فِي الحِسَابِ وَالمَوْقِفِ(132).
من أين جاءت كل هذه المقامات؟
ثم ما يحير العقل هو قوله (عليه السلام): مَنْ أَتَى قَبْرَ الحُسَيْنِ (عليه السلام) مَاشِياً كَتَبَ الله لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ وَبِكُلِّ قَدَمٍ يَرْفَعُهَا وَيَضَعُهَا عِتْقَ رَقَبَةٍ مِنْ وُلْدِ إِسْمَاعِيلَ(133).
فكم لزواره بمسيرهم وحركة أقدامهم من تحرير رقابٍ من ولد إسماعيل؟ هذا في زيارته، أما البكاء عليه، فإن الأفضل أن يُتلى متن الحديث، وراويه أبو بصير ليث بن البختري المرادي، فمن هو؟
عن أبي عبد الله (عليه السلام): بَشِّرِ المُخْبِتِينَ بالجنّة، بُرَيْدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ العِجْلِيُّ، وَأَبُو بَصِيرٍ لَيْثُ بْنُ البَخْتَرِيِّ المُرَادِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَ زُرَارَة(134)، فالمخبتون أربعة أشخاص، أركانٌ أربعة أحدهم أبو بصير.
يقول: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) أُحَدِّثُهُ فَدَخَلَ عَلَيْهِ ابْنُهُ فَقَالَ لَهُ: مَرْحَباً، وَضَمَّهُ وَقَبَّلَهُ وَقَالَ: حَقَّرَ الله مَنْ حَقَّرَكُمْ، وَانْتَقَمَ مِمَّنْ وَتَرَكُمْ، وَخَذَلَ الله مَنْ خَذَلَكُمْ، وَلَعَنَ الله مَنْ قَتَلَكُمْ، وَكَانَ الله لَكُمْ وَلِيّاً وَحَافِظاً وَنَاصِراً، فَقَدْ طَالَ بُكَاءُ النِّسَاءِ وَبُكَاءُ الأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَمَلَائِكَةِ السَّمَاءِ، ثُمَّ بَكَى، وَقَالَ: يَا أَبَا بَصِيرٍ، إِذَا نَظَرْتُ إِلَى وُلْدِ الحُسَيْنِ أَتَانِي مَا لَا أَمْلِكُهُ بِمَا أَتى إِلَى أَبِيهِمْ وَإِلَيْهِمْ(135).
هؤلاء الجهال الذين يتحدّثون بنغمة أنّ هذا العزاء وصل لحدّ الإفراط، المصيبة أنهم في منتهى الجهل!
اغتنموا هذا وصيروا فقهاء وعلماء كي تتمكنوا من إحقاق حق أهل البيت، ثم قال الإمام (عليه السلام): فَقَدْ طَالَ بُكَاءُ النِّسَاءِ وَبُكَاءُ الأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَمَلَائِكَةِ السَّمَاءِ: إن بكاء الأنبياء من موسى بن عمران وإبراهيم الخليل وغيرهم (عليهم السلام)، والشهداء والصديقين جميعاً قد طال ليبقى مستمراً على ذلك الرأس المقطوع..
متن الحديث: ثُمَّ بَكَى، وَقَالَ: يَا أَبَا بَصِيرٍ، إِذَا نَظَرْتُ إِلَى وُلْدِ الحُسَيْنِ أَتَانِي مَا لَا أَمْلِكُهُ بِمَا أَتَى إِلَى أَبِيهِمْ وَإِلَيْهِمْ.
يَا أَبَا بَصِيرٍ، إِنَّ فَاطِمَةَ (عليها السلام) لَتَبْكِيهِ وَتَشْهَقُ، فَتَزْفِرُ جَهَنَّمُ زَفْرَةً لَوْ لَا أَنَّ الخَزَنَةَ يَسْمَعُونَ بُكَاءَهَا وَقَدِ اسْتَعَدُّوا لِذَلِكَ: ويتضح من هذه الرواية أن السيدة الزهراء (عليها السلام) لم تفعل ذلك مرّة أو مرتين، بل كانت دائماً ما تفعل ذلك، وأنّ جهنم تزفر لشهقتها ويستعد الخزنة لعلمهم بذلك، وكلما ارتفع صوتها (عليها السلام) يغلقون أبواب جهنم: مَخَافَةَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا عُنُقٌ أَوْ يَشْرُدَ دُخَانُهَا فَيُحْرِقَ أَهْلَ الأَرْضِ فَيَحْفَظُونَهَا (فَيَكْبَحُونَهَا) مَا دَامَتْ بَاكِيَةً وَيَزْجُرُونَهَا: لئلا تخرج شعلةٌ أو دخان من النار فيهلك أهل الأرض، هذا الأثر في جهنم.
وَ يُوثِقُونَ مِنْ أَبْوَابِهَا مَخَافَةً عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ، فَلَا تَسْكُنُ حَتَّى يَسْكُنَ صَوْتُ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءَ.. والحديث طويلٌ لا يكفيه الوقت فنعرض لقسم منه فقط:
فَلَا تَزَالُ المَلَائِكَةُ مُشْفِقِينَ يَبْكُونَهُ لِبُكَائِهَا وَيَدْعُونَ الله وَيَتَضَرَّعُونَ إِلَيْهِ، وَيَتَضَرَّعُ أَهْلُ العَرْشِ وَمَنْ حَوْلَهُ، وَتَرْتَفِعُ أَصْوَاتٌ مِنَ المَلَائِكَةِ بِالتَّقْدِيسِ لله مَخَافَةً عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ: هذا هو عزاء ذلك الرأس المقطوع، هذه هي مصيبة ذلك البدن المقطع، كلُّ حملة العرش يبكون، لأنّ صوت أمه الزهراء ارتفع، فاعرِفُوا الإمام الحسين وعرّفوه للناس.
وَلَوْ أَنَّ صَوْتاً مِنْ أَصْوَاتِهِمْ يَصِلُ إِلَى الأَرْضِ لَصَعِقَ أَهْلُ الأَرْضِ، وَتَقَطَّعَتِ الجِبَالُ وَزُلْزِلَتِ الأَرْضُ بِأَهْلِهَا.
قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنَّ هَذَا الأَمْرَ عَظِيمٌ.
قَالَ: غَيْرُهُ أَعْظَمُ مِنْهُ، مَا لَمْ تَسْمَعْهُ.
ما معنى هذه الجملة؟ معناها أنا حتى الآن لم نعرض حقيقة المصيبة، ما قلناه هو هذا لكن ما احتفظنا به أعظم من هذا. ثم قال هذه الجملة التي تحرق القلب:
ثُمَّ قَالَ لِي: يَا أَبَا بَصِيرٍ أَمَا تُحِبُّ أَنْ تَكُونَ فِيمَنْ يُسْعِدُ فَاطِمَةَ (عليها السلام)؟
فَبَكَيْتُ حِينَ قَالَهَا فَمَا قَدَرْتُ عَلَى المَنْطِقِ، وَمَا قَدَرَ عَلَى كَلَامِي مِنَ البُكَاءِ..
أيتها الهيئات، هذا هو العزاء، نخشى أن تصبح الهيئات والمواكب ألعوبةً بيد السياسات، نخشى من خيانة دمه (عليه السلام)، وخيانة بكاء والدته (عليها السلام).
وَبَذَلَ مُهْجَتَهُ فِيكَ: فينبغي أن يكون البذلُ لله فقط ليس إلا، ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً﴾(136).
قال لأبي بصير: ألا تريد أن تساعد أمي فاطمة في العزاء؟
ثُمَّ قَامَ إِلَى المُصَلَّى يَدْعُو، فَخَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهِ عَلَى تِلْكَ الحَالِ، فَمَا انْتَفَعْتُ بِطَعَامٍ وَمَا جَاءَنِي النَّوْمُ وَأَصْبَحْتُ صَائِماً وَجِلًا حَتَّى أَتَيْتُهُ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ قَدْ سَكَنَ سَكَنْتُ وَحَمِدْتُ الله حَيْثُ لَمْ تَنْزِلْ بِي عُقُوبَةٌ.
أبو بصير فهم ما الأمر.. والباقي غير قابل للبيان.
فُرَص الخير.. في أيام الحسين عليه السلام
بسم الله الرحمن الرحيم(137)
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): الفُرْصَةُ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ، فَانْتَهِزُوا فُرَصَ الخَيْر، وكلماته (عليه السلام) دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق، ودراية كل جملة وفقهها تحتاجُ إلى تأملٍ كبير.
إنّ الفرصة تمر كما يمرّ السحاب، وتشبيه الفرصة بالسحاب بابٌ من العلم، السحاب منشأٌ للمطر، وبالمطر حياة الأرض، والفرصة كالسحاب ينبغي أن تمطر مطر الرحمة على الحياة، فتثمر الخيرات من هذا المطر.
فَانْتَهِزُوا فُرَصَ الخَيْر: أيام الأربعين، شهادة خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم)، شهادة الإمام الحسن بن علي (عليه السلام)، والإمام علي بن موسى (عليه السلام)، كلُّها ربيعٌ يهيئ القلوب المنتظِرة للرحمة والفقاهة.
نتيجة هذه الدروس والأبحاث هو نجاة الناس في عصر الغيبة من ظلمات الجهل والشُّبُهات.
اغتنموا هذه الأيام، انقضت العشرة الأخيرة من صفر العام الماضي كأن لم تكن، فهنيئاً لمن استفادَ من هذه الفرصة، وعرَّفَ قلباً على الله تعالى، وبذرَ بذور معرفة إمام الزمان، وهذه السَّنَةُ أيضاً ستنقضي، فلا تخسروا هذه الفرصة.
مسؤوليتنا ثقيلةٌ، إذا كنتم تتفكرون في هذا الدعاء الذي نقرأه كل يوم، فإن الأمر باعثٌ على الذهول، ما هي هذه الكلمات؟
اللهم اجعلني من أنصاره وأعوانه والذابين عنه: افعل بي يا إلهي ما يجعلني من أنصاره وأعوانه، والمهم هو (والذابين عنه): اجعلني ممن يذبّ ويدفع عنه عليه السلام.
إنّ زمن الغيبة هو عصر الامتحان الكبير لكم، لأن مسؤولية كفالة أيتام أمير المؤمنين (عليه السلام) في عصر الغيبة بعُهدَةِ من تَلَبَّسَّ بلباس خدمته (عليه السلام).
اسعوا أن تجدوا منطقةً محرومة، فالنفوسُ مستعدةٌ هذه الأيام، وينبغي الاستفادة من هذا الاستعداد في ربيع الأربعين ونسيم شهادة أركان الدين، لأنّ القلوب مستعدة، وينبغي زرع بذور المعرفة والطاعة، ومعرفة الله تعالى، ومعرفة وليّ العصر، مَن مِنه الوجود، ومَن بِهِ الوجود.
إذا تمكنتم في هذه الأيام أن تُعَرِّفُوا شخصاً بِمَن مِنهُ الوجود، ومَن به الوجود، فإن لكم أجر 100 سنةٍ، صلاة ليلها وصوم نهارها، يُكتب في صحيفتكم. ماذا فعل أصحابه؟
قـــوم إذا نــودوا لدفع ملمّـــــة * * * والناس بين مدعّس ومكردس
لبسوا القلوب على الدروع وأقبلوا * * * يتهــافتون على ذهاب الأنفس
لبسوا القلوب على الدروع، وذهبوا للميدان ليُعطوُا أرواحهم ويحيوا هذا الدين وهذا المذهب، والمهم هو فقه الأحاديث لا روايتها، بل درايتها، ونحن نكتفي بروايتين، وتتم الحجة بهذا على الجميع، وإن توفرت لنا فرصةٌ نبحث في فقه هاتين الروايتين باختصار، وفي كل جملةٍ بابٌ من العلم.
عن أبي محمد العسكري (عليه السلام) قال: قال علي بن أبي طالب (عليه السلام): مَنْ كَانَ مِنْ شِيعَتِنَا عَالِماً بِشَرِيعَتِنَا، وَأَخْرَجَ ضُعَفَاءَ شِيعَتِنَا مِنْ ظُلْمَةِ جَهْلِهِمْ إِلَى نُورِ العِلْمِ الَّذِي حَبَوْنَاهُ بِهِ، جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَعَلَى رَأْسِهِ تَاجٌ مِنْ نُورٍ، يُضِيءُ لِأَهْلِ جَمِيعِ تِلْكَ العَرَصَاتِ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ لَا يَقُومُ لِأَقَلِّ سِلْكٍ مِنْهَا الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا.
ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ مِنْ عِنْدِ الله: يَا عِبَادَ الله هَذَا عَالِمٌ مِنْ بَعْضِ تَلَامِذَةِ آلِ مُحَمَّدٍ، أَلَا فَمَنْ أَخْرَجَهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ حَيْرَةِ جَهْلِهِ فَلْيَتَشَبَّثْ بِنُورِهِ، لِيُخْرِجَهُ مِنْ حَيْرَةِ ظُلْمَةِ هَذِهِ العَرَصَاتِ إِلَى نَزْهِ الجِنَانِ.
فَيُخْرِجُ كُلَّ مَنْ كَانَ عَلَّمَهُ فِي الدُّنْيَا خَيْراً، أَوْ فَتَحَ عَنْ قَلْبِهِ مِنَ الجَهْلِ قُفْلًا، أَوْ أَوْضَحَ لَهُ عَنْ شُبْهَةٍ(138).
ودراية هذه الرواية مهمة، وفي كلِّ جملةٍ منها بحثٌ، ونحن نتعرض لبعضها على نحو الإشارة.
مَنْ كَانَ مِنْ شِيعَتِنَا عَالِماً بِشَرِيعَتِنَا: العلم نورٌ يقذفه الله في قلب من أراد أن يهديه، والشرط الأول أن يكون من شيعتنا وأتباعنا، والشرط الثاني أن يكون عالماً بشريعتنا.
وَأَخْرَجَ ضُعَفَاءَ شِيعَتِنَا مِنْ ظُلْمَةِ جَهْلِهِمْ إِلَى نُورِ العِلْمِ الَّذِي حَبَوْنَاهُ بِهِ: فالعلم ليس بالدّرس فقط، الدرس هو المقتضي، أما العلَّةُ التامة فبعد أن يصبح المقتضي توأماً مع شرائطه، والشرائط على قسمين: مكمّلُ الفاعل، ومتمّمُ القابل، وثالثاً رفع الموانع، حينها يظهر الأثر.
جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ: وله خصوصيتان، إحداهما على الرأس والأخرى على البدن، وكلمات الأئمة في قمّة الفصاحة والبلاغة، وفيها بيان تمام الدقائق.
وَعَلَى رَأْسِهِ تَاجٌ مِنْ نُورٍ يُضِيءُ لِأَهْلِ جَمِيعِ تِلْكَ العَرَصَاتِ: بين النور والضياء فرقٌ، وفِقه الحديث في غاية الإشكال، ﴿هُوَ الَّذي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالقَمَرَ نُوراً﴾، وتعبيره هنا (عليه السلام): تَاجٌ مِنْ نُورٍ يُضِيءُ لِأَهْلِ جَمِيعِ تِلْكَ العَرَصَاتِ، فأيُّ نورٍ لهذا التاج حتى يضيء كلّ عرصات المحشر؟ هذا في الرأس.
أما البدن: وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ لَا يَقُومُ لِأَقَلِّ سِلْكٍ مِنْهَا الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا: فلنعرف الدنيا أولاً حتى نفهم الحديث، ونص القرآن ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الكَوَاكِبِ﴾(139)، فكلُّ هذه الكواكب التي يصلنا نورها بعد مليارات السنوات الضوئية من مسير النور، وهو الذي يسير في كل ثانية 300 ألف كيلومتر، كل هذه الدنيا بما فيها لا تساوي أقلّ سلكٍ من تلك الحلة! هذا الرأس وهذا البدن..
أمّا ما يحيِّرُ أهل المحشر شاؤوا أم أبوا فهو قوله (عليه السلام):
ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ مِنْ عِنْدِ الله: يَا عِبَادَ الله هَذَا عَالِمٌ مِنْ بَعْضِ تَلَامِذَةِ آلِ مُحَمَّدٍ أَلَا : و(ألا) هنا للتنبيه، وفيها لطائف من جهة دراية الحديث.
فَمَنْ أَخْرَجَهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ حَيْرَةِ جَهْلِهِ فَلْيَتَشَبَّثْ بِنُورِهِ: أيُّ نورٍ هذا، كلُّ مَن استفاد منه يتشبث به، ﴿الله نُورُ السَّماواتِ وَالأَرْضِ﴾ ينال مثل هذا النور.
لِيُخْرِجَهُ مِنْ حَيْرَةِ ظُلْمَةِ هَذِهِ العَرَصَاتِ إِلَى نَزْهِ الجِنَانِ، فَيُخْرِجُ كُلَّ مَنْ كَانَ عَلَّمَهُ فِي الدُّنْيَا خَيْراً: وهذه الجملة الأولى، وهنا ثلاث مطالب: الأول: مَنْ كَانَ عَلَّمَهُ فِي الدُّنْيَا خَيْراً، وكلمة الخير إشارة إلى بيان عيسى (عليه السلام): إِنَّ مُعَلِّمَ الخَيْرِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ دَوَابُّ الأَرْضِ، وَحِيتَانُ البَحْرِ، وَكُلُّ ذِي رُوحٍ فِي الهَوَاءِ، وَجَمِيعُ أَهْلِ السَّمَاءِ وَ الأَرْض(140)، هذا أثر تعليم الخير.
أَوْ فَتَحَ عَنْ قَلْبِهِ مِنَ الجَهْلِ قُفْلًا: والتعبير عجيبٌ، وهنا إشارة الى تلك الآية ﴿أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها﴾، فما هو مفتاح قفل الجهل؟ كلماتُ أهل بيت العصمة، بيِّنوا الحقيقة للناس، اقرؤوا لهم كلمات ومواعظ المعصومين الأربعة عشر، افتحوا قلوبَهم من أقفال الجهالات.
أَوْ أَوْضَحَ لَهُ عَنْ شُبْهَةٍ: هذه إشارات عن التبليغ: تعليم الخير وفتح أقفال الجهالات وإزالة الشبهات، اجعلوا هذا الحديث رسالة لسَفَرِكم، فما تكون النتيجة وما الثمرة؟
كربلاء عرش الله!
بسم الله الرحمن الرحيم(141)
هذه أيام التعطيل في شهر صفر، وعليكم جميعاً أن تسعوا لتكون حياتكم مرآةً ومصداقاً للقرآن الكريم: فأيام التحصيل للتفقه في الدين، وأيام التعطيل لتبليغ شرائع الدين، هذه الحياة هي نهج القرآن.
﴿لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ﴾ هذا أولاً في أيام التحصيل، ﴿وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُم﴾ هذا ثانياً في أيام التعطيل، فلا تدعوا هذه الفرصة تفوتكم، واعرفوا قيمتها.
هذا الحديث محيرٌ للعقول، والسَّنَدُ محكَمٌ، أما المتن: فخطاب الله تعالى لموسى بن عمران عن أمرين، إن أتى بواحدٍ منهما فله أجرٌ يفوق عبادة مئة عام بصيام نهارها وقيام ليلها، قيامٌ بالصلاة من الليل للصباح، وصومٌ كلّ يوم!
أحد هذين العَمَلين في كفة، ومئة عامٍ من العمل بلياليه وأيامه في كفةٍ أخرى!
المخاطَب هو موسى بن عمران، والمخاطِب هو الله تعالى، إنّه أمرٌ محير، قال: ربي هناك عملٌ له هذا الثواب؟ بقيام ليله وصيام نهاره؟ جاء الجواب: نعم، سأل: ما هو؟ جاء الجواب:
1. رد الآبق: بأن يتوب العاصي.
2. رد الضال وارشاده: أن تُعَرِّفَ شخصاً على إمام زمانه.
نحن لم نعرف قدر العمر! وهذا التعطيل فرصةٌ لاستغلال هذه الجوهرة! وينبغي أن يكون برنامج كلّ سفرٍ أموراً ثلاثة:
الأول: إحكام العقائد، والثاني: تهذيب الأخلاق، والثالث: تعليم الأحكام، هذا هو العمل، أما الأثر والجزاء: فإنّ من أحيا نفساً فكأنما أحيا الناس جميعاً، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَميعا﴾، وقال الإمام (عليه السلام) أنّ تأويلها الأعظم هو أنّ تُخرِجَ نفساً: مِنْ ضَلَالٍ إِلَى هُدًى(142)، وكلاهما نكرة: (ضَلَالٍ) و(هُدًى)، فقد يقال: (من الضّلال إلى الهدى)، لكن متن الحديث ليس كذلك، بل: (مِنْ ضَلَالٍ إِلَى هُدًى)، يعني أن تُعَلِّمَه مسألةً واحدةً من مسائل الصلاة أو العبادة أو المعاملات أو العقود أو الإيقاعات والأحكام.
كذلك أن يتوبَ عاصٍ، أيٌّ من هذا يصبح كعبادة مئة سنةٍ بقيام لياليها وصيام أيامها، وهذا هو برنامج التعطيل، لكن المهم هو أن عمرنا قد انقضى ولم نفهم أهمية ذلك وقدره!
المرحوم الحائري فَحلٌ، وهذه الحوزة إحدى ثمرات شجرة وجوده، كان في مجلس الميرزا الشيرازي يقرأ العزاء، والميرزا الشيرازي يلطم على صدره، هكذا كان الأمر ذلك اليوم، وهذا حال هذه الأيام!
للأسف لم نعرف سيد الشهداء (عليه السلام).
إن فقه الحديث مهم، فرواية الحديث شيءٌ ودرايته شيء آخر، وقبل الحديث إقرؤوا القرآن لتعرفوا حقيقة الإيمان والمؤمن، يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ﴾ وإنما تفيد الحصر:
1. ﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾
2. ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾
3. ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ﴾
4. ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾: (أي ممّا علّمناهم يبّثون).
هذا الإيمان وهذه علاماته، فالمؤمنون الذي نزلت في وصفهم سورةٌ في القرآن: ﴿قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ هذا أول أمرهم، أما آخره: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾. هذا المؤمن وهذا الإيمان.
والآن نطرح الرواية، وهي عن ابي محمد الحسن العسكري (عليه السلام):
عَلَامَاتُ المُؤْمِنِ خَمْسٌ: صَلَاةُ الإِحْدَى وَالْخَمْسِينَ، وَزِيَارَةُ الأَرْبَعِينَ، وَالتَّخَتُّمُ فِي اليَمِينِ، وَتَعْفِيرُ الجَبِينِ، وَالْجَهْرُ بِ بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ(143).
فزيارة الأربعين علامة الإيمان، والإيمان في القرآن هو ما تقدم، وهذه الزيارة لا قريب وبعيد فيها، كلُّكُم بعدَ هذا المجلس توضؤوا واذهبوا إلى مكانٍ مكشوفٍ مرتفع، وقولوا ثلاث مرات: صلى الله عليك يا أبا عبد الله، تصبحون من زوار الأربعين، ومن المؤمنين أصحاب علامة الإيمان.
لم يعرف الناس من هو الامام الحسين (عليه السلام)، وجملةٌ واحدةٌ تُحَيِّرُ العقول، وهي من كلام رأس ورئيس المذهب وهي: أَشْهَدُ أَنَّ دَمَكَ سَكَنَ فِي الخُلْدِ، وَاقْشَعَرَّتْ لَهُ أَظِلَّةُ العَرْشِ: والقشعريرة في اللغة رجفةٌ خاصة.
وَبَكَى لَهُ.. مَا يُرَى وَمَا لَا يُرَى(144): فما هي دائرة (مَا يُرَى)؟ كلُّ شيءٍ من السماء للأرض، من أعلى عليين إلى أسفل سافلين، أما (مَا لَا يُرَى): فلا أحد يعلم ما في ذلك العالم إلا الله، كلُّ ما يُرى وكل ما لا يُرى قد بكاه في ذلك الوقت، فمن زار الحسين بكربلاء كان كمن زار الله في عرشه.
هذه عاشوراء، وكربلاء صارت عرش الله، وزيارته صارت زيارة الذات المقدسة لله، هذه جملةٌ، وجملةٌ أخرى: أَشْهَدُ أَنَّ دَمَكَ سَكَنَ فِي الخُلْدِ، فأين منشأ هذه الجملة؟ منشؤها في رؤيا أم سلمة، لمّا سمع أهلُ المدينة صوت بكاءٍ يرتفع فجأة من بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فاجتمعوا جميعاً، وسألوا أم سلمة عن ذلك، قالت: رأيت الآن خاتم النبين في الرؤيا على حالٍ لم أره عليه أبداً، حاسِرَ الرأس والقدمين، يعلوه الغبار، وبيده زجاجةٌ من الدم.
قلت: يا رسول الله ما هذه الحالة؟
قال: هذه الزجاجة أعطاني الله إياها، فيها دم الحسين (عليه السلام) مِن محلّ قتله، أوصِلُها إلى أعلى عليين، ويقول سادس الأئمة (عليه السلام) أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وضع زجاجة الدم في أظلة العرش، ومنذ أن وُضِعَت هناك اهتزت قوائم العرش وستبقى إلى يوم القيامة.. هذا دمه.. وهذه كربلاؤه..
عَنِ الحُسَيْنِ بْنِ بِنْتِ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ قَالَ: خَرَجْتُ فِي آخِرِ زَمَانِ بَنِي مَرْوَانَ إِلَى زِيَارَةِ قَبْرِ الحُسَيْنِ (عليه السلام) مُسْتَخْفِياً مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى كَرْبَلَاءَ، فَاخْتَفَيْتُ فِي نَاحِيَةِ القَرْيَةِ حَتَّى إِذَا ذَهَبَ مِنَ اللَّيْلِ نِصْفُهُ أَقْبَلْتُ نَحْوَ القَبْرِ، فَلَمَّا دَنَوْتُ مِنْهُ أَقْبَلَ نَحْوِي رَجُلٌ فَقَالَ لِي: انْصَرِفْ مَأْجُوراً فَإِنَّكَ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ.
فَرَجَعْتُ فَزِعاً حَتَّى إِذَا كَادَ يَطْلُعُ الفَجْرُ أَقْبَلْتُ نَحْوَهُ حَتَّى إِذَا دَنَوْتُ مِنْهُ خَرَجَ إِلَيَّ الرَّجُلُ فَقَالَ لِي: يَا هَذَا إِنَّكَ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ.
فَقُلْتُ لَهُ: عَافَاكَ الله، وَلِمَ لَا أَصِلُ إِلَيْهِ؟ وَقَدْ أَقْبَلْتُ مِنَ الكُوفَةِ أُرِيدُ زِيَارَتَهُ، فَلَا تَحُلْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ عَافَاكَ الله، وَأَنَا أَخَافُ إِنْ أَصْبَحَ فَيَقْتُلُونِّي أَهْلُ الشَّامِ إِنْ أَدْرَكُونِي هَاهُنَا.
قَالَ: فَقَالَ لِيَ: اصْبِرْ قَلِيلاً، فَإِنَّ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ (عليه السلام) سَأَلَ الله أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي زِيَارَةِ قَبْرِ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، فَأَذِنَ لَهُ، فَهَبَطَ مِنَ السَّمَاءِ فِي سَبْعِينَ الفَ مَلَكٍ (145).
موسى (عليه السلام) يطلب حاجته، وبعد مدة يجيز الله له أن يأتي تحت قبة الحسين (عليه السلام) لتُستجاب حاجته، هذا سيد الشهداء.. فَمَن عرفه؟
تراب قبره آيةٌ من آيات القرآن، فالقرآن شفاءٌ وتربته شفاء، وتحت قبته إجابة دعاء الأنبياء والأولياء.
وخِتام الكلام فصلُ الخطاب في المحشر، ففي شدّة يوم الحساب التي تصل إلى حدِّ أنّ الجميع من آدم إلى عيسى بن مريم، الجميع يقولون: وانفساه.. في هذا اليوم ينزل جبرئيل على خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويأتي مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى قبر الصديقة الكبرى، ويخرجونها من قبرها، ويُركبونَها على هودجٍ ظاهره عفو الله، وباطنه رحمة الله، ويحضرونها إلى يمين عرش الله، فتُخرِجُ قميصَهُ القديم الملطّخ بالدم وتضعه على رأسها. فصل خطاب المحشر في هذه الكلمة.
في اليوم الأول الذي جاء فيه للدنيا أخذته الصديقة الزهراء (عليها السلام) ووضعته في حجر خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يضع لسانه في فمه فيكتفي به ولا يحتاج الحليب، وبمهده أعيد لفطرس ريشه وجناحه حتى عرج إلى السماء وصعد للملأ الأعلى! هذا يومه الأول.
أما يومه الأخير، فليس عندَ أحدٍ خبرٌ عن ذلك، المطلب يندرج في هذه الآية: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ﴾ لكن إلى أي حَدٍ كان اطمئنان هذه النفس؟ إلى حدٍّ حَيَّرَ جبرئيل (عليه السلام).
بعد ما جرى في نهر العلقمي، وبعدما وقف على نعش أشبه الناس خلقاً وخُلُقا ومنطقاً برسول الله، وبعد الصلاة على جنازة طفله ذي الستة أشهر، كان إطمئنان نفسه إلى حد قوله: رضاً بقضائك، وتسليماً لأمرك، لا معبود سواك، يا غياث المستغيثين! هذا اطمئنان نفسه.
اعملوا على تشجيع جميع الهيئات والمواكب للخروج أيام الأربعين، ففي خروج كل هيئةٍ وموكبٍ تسليةٌ لقلب إمام الزمان، وهو الذي يعلم ما الذي جرى على جده، حتى قال:
فَلَئِنْ أَخَّرَتْنِي الدُّهُورُ، وَعَاقَنِي عَنْ نَصْرِكَ المَقْدُورُ.. لَأَنْدُبَنَّكَ صَبَاحاً وَمَسَاءً.. الليل بكاء! والنهار بكاء! لكن أيُّ بكاء؟!
لَأَبْكِيَنَّ عَلَيْكَ بَدَلَ الدُّمُوعِ دَماً: حتى لو نزل الدَّمُ بدل الدمع على رأسك المقطوع سأبكيك!
السلام عليك يا أبا عبد الله، وعلى الأرواح التي حلت بفنائك، عليك مني سلام الله ما بقي الليل والنهار.
أنتم يا زوار الأربعين، كلُّكُم في ضيافة الامام (عليه السلام)، اقرؤوا سورة ﴿قل هو الله احد﴾ في الطريق ليلاً ونهاراً. والحمد لله رب العالمين
الإمام الكاظم عليه السلام
الإمام المعذّب في قعر السجون
بسم الله الرحمن الرحيم(146)
إنما يُعرَفُ الإمام بالعلم وإجابة الدعوة(147).
إنّ أهم مبحثٍ بين كلّ المباحث هو مبحث الإمامة، ووجهُ هذه الدعوى أن الإمام حرفُ ربطٍ بين الإنسان وخالق العالم، فلو لم يكن الإمام لم تكن هناك إنسانيةٌ مطلقاً.
نحن لم نفهم هذه المباحث: أَنْتُمُ السَّبِيلُ الأَعْظَمُ وَالصِّرَاطُ الأَقْوَم(148).
وأيّ معانٍ في كلمة (السَّبِيلُ)؟! وأهمُّ منها وصفها ب(الْأَعْظَمُ)! ثم أي مباحث في (الصِّرَاطُ)؟! وأيُّ دقائق في (الْأَقْوَم)؟!
على كل حال كلُّنا عوام! ومنشأ ذلك أنّا غفلنا عن فقه دقائق ولطائف الروايات، وكل واحدةٍ منها بحرٌ عميق!
إن الإمام يربط بين الخالق والخلق: بِيُمْنِهِ رُزِقَ الوَرَى، وَبِوُجُودِهِ ثَبَتَتِ الأَرْضُ وَالسَّمَاء: هذا مقامه في عالم التكوين!
أما في عالم التشريع، فإنّ فقه هذا الحديث يحتاجُ إلى كتابٍ ومجالس، ولا أقلّ من أن نغتنم ونغترف شيئاً من هذا البحر ببركة صاحب يوم الغد الذي لم نعرفه أبداً!
إنّ الإمام هو الرائد والمهيمن، والإمامة هي الريادة والهيمنة، فهناك مُقتَدَىً ومُقتَدٍ، إمامٌ ومأمومٌ، والنسبة هي الإمامة.
إن كلّ إنسان مركبٌ، وقد جمعت فيه الجمادات والنباتات والحيوانات: فعناصر البدن من مواد الجماد، والرشد والنمو من آثار النبات، والشهوة والغضب من نتائج حيوانيتنا، وما يكون به الإنسان إنساناً جوهران: أحدهما العقل، وثانيهما الإرادة.
فماذا صنع الإله الحكيم على الإطلاق؟! ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ﴾ فالتركيب الأوّل من الروح والبدن، وهناك العقل والحواس: إذا غلب الهوى فمصيره في أسفل السافلين، وإذا غلب العقل فثمرته أعلى عليين، ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى * فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوى﴾(149)، فالجنة مأوى مثل هذا الإنسان.
وعلى أيِّ حال: الأول هو العقل والثاني هو الإرادة، والإمام هو إمام العقل والإرادة عند البشر، والإمامة مقولة مشكِّكَة، فينبغي في الإمامة العامة أن يكون شخص الإمام في النقطة الأعلى التي لا تُتَصَوَّرُ نقطةٌ فوقها من حيث العلم، وعلى هذا قامت أدق البراهين، لأن دعامة الإنسان العقل، وكمال العقل بالعلم، فينبغي أن يكون الإمام في نهاية نهايات العلوم، ومن جهة الإرادة ينبغي أن تصل الإرادة إلى حدٍّ تفنى في إرادته تعالى ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾(150)، فمثل هذا يصبح إماماً!
للأسف، قد انقضى العمر ولم نفهم جواهر الزيارة الجامعة: بِكُمْ يُنَزِّلُ الغَيْثَ، وَبِكُمْ يُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِه(151)، هذا في نظام الكون، فلولا الحجة لساخت الأرض بأهلها.
أما في نظام الشرع: بِنَا عُرِفَ الله، وَبِنَا عُبِدَ الله، نَحْنُ الأَدِلَّاءُ عَلَى الله، وَلَوْلَانَا مَا عُبِدَ الله(152).
ولقد كان الإمام أبو إبراهيم موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) مظهر ذلك العلم وتلك القدرة.
إنه يثير الحيرة فعلاً، ومقامه يحير العقل! وللأسف، فإنّا لم نعرفه أبداً، ولو كنّا قد عرفناه ما كان حال بلدنا غداً كما هو عليه هذه الأيام! الأسواق مفتوحةٌ وكلٌّ مشغولٌ بنفسه! وإنما صرنا كذلك لأنّا لم نعرف من الذي فُقد في مثل يوم غد، وأيّ جوهر كان!
لقد كانت مدة حياته خمسة وخمسين سنة، وقد شرعت مرحلة الإمامة الفعلية في العشرين من عمره، وابتُلِيَ بالمنصور الدوانيقي، واختُبِرَ بحكومة هارون، ثم في أيِّ سجنٍ كان لسبع سنوات؟! مَن كان أسيراً لمن؟! وأيُّ تسليمٍ ورضىً كان عنده؟!
لهارون أعدى أعدائه جملةٌ تُعَدُّ حجّةً لما سأله ابنه المأمون: مَنْ هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي قَدْ أَعْظَمْتَهُ وَأَجْلَلْتَهُ وَقُمْتَ مِنْ مَجْلِسِكَ إِلَيْهِ فَاسْتَقْبَلْتَهُ وَأَقْعَدْتَهُ فِي صَدْرِ المَجْلِسِ، وَجَلَسْتَ دُونَهُ، ثُمَّ أَمَرْتَنَا بِأَخْذِ الرِّكَابِ لَه؟
قَالَ: هَذَا إِمَامُ النَّاسِ وَحُجَّةُ الله عَلَى خَلْقهِ وَ خَلِيفَتُهُ عَلَى عِبَادِهِ.. يَا بُنَيَّ إِنَّهُ لَأَحَقُّ بِمَقَامِ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مِنِّي وَمِنَ الخَلْقِ جَمِيعاً(153).
فمَن كان حتى انعكست صورته هكذا في قلب هارون؟!
أما ما ورد في زيارته: .. السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا نُورَ الله فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا إِمَامَ الهُدَى، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا عَلَمَ الدِّينِ وَالتُّقَى، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا خَازِنَ عِلْمِ النَّبِيِّينَ، السَّلَام عَلَيْكَ يَا خَازِنَ عِلْمِ المُرْسَلِينَ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا نَائِبَ الأَوْصِيَاءِ السَّابِقِينَ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مَعْدِنَ الوَحْيِ المُبِينِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا صَاحِبَ العِلْمِ اليَقِينِ، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا عَيْبَةَ عِلْمِ المُرْسَلِين(154).
ذِكرُها يحيّر العقل! اقرؤوا سورة النور وافهموا آية النور: ﴿الله نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾، ونور النور هو موسى بن جعفر! السلام عليك يا نور الله، ما الذي يمكن قوله؟! فكلُّ جملةٍ منها بحرٌ.
المطلوب منا جميعاً أن نعرفه وأن نُعرِّفَه للناس، ولضيق الوقت نكتفي بحديثٍِ واحدٍ صحيح السند، والشيخ الأنصاري يرفع يده عن الاحتياط الفقهي بمثل هذا الحديث ويفتي بضرصٍ قاطع.
عَلِيِّ بْنِ يَقْطِينٍ قَالَ: اسْتَدْعَى الرَّشِيدُ رَجُلًا يُبْطِلُ بِهِ أَمْرَ أَبِي الحَسَنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ (عليه السلام) وَيَقْطَعُهُ وَيُخْجِلُهُ فِي المَجْلِسِ، فَانْتُدِبَ لَهُ رَجُلٌ مُعَزِّمٌ، فَلَمَّا أُحْضِرَتِ المَائِدَةُ عَمِلَ نَامُوساً عَلَى الخُبْزِ، فَكَانَ كُلَّمَا رَامَ خَادِمُ أَبِي الحَسَنِ (عليه السلام) تَنَاوُلَ رَغِيفٍ مِنَ الخُبْزِ طَارَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَاسْتَفَزَّ هَارُونَ الفَرَحُ وَالضَّحِكُ لِذَلِكَ.
هارون مع حكمه للأقاليم وثروته، أحضر مثل هذا الرجل القادر، ولما صار الغذاء يطير بسحر هذا الساحر، وكان كلّ المجلس قلقاً، وهارون يضحك بكامل سروره فرحاً من تأثير هذا المجلس في الدولة:
فَلَمْ يَلْبَثْ أَبُو الحَسَنِ (عليه السلام) أَنْ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى أَسَدٍ مُصَوَّرٍ عَلَى بَعْضِ السُّتُورِ فَقَالَ لَهُ: يَا أَسَدَ الله خُذْ عَدُوَّ الله.
قَالَ: فَوَثَبَتْ تِلْكَ الصُّورَةُ كَأَعْظَمِ مَا يَكُونُ مِنَ السِّبَاعِ، فَافْتَرَسَتْ ذَلِكَ المُعَزِّمَ، فَخَرَّ هَارُونُ وَنُدَمَاؤُهُ عَلَى وُجُوهِهِمْ مَغْشِيّاً عَلَيْهِمْ، وَطَارَتْ عُقُولُهُمْ خَوْفاً مِنْ هَوْلِ مَا رَأَوْهُ.
لمّا أفاق هارون وندماؤه لم يجدوا غير الصورة على الستار.
ماذا فعل موسى (عليه السلام)؟ لقد رمى عصاه فابتلعت سِحر السَّحَرة، وكانت جِسماً، أمّا ما فعله الإمام (عليه السلام) فكان مِن صورةٍ، والتفاوت بينهما كما بين الأرض والسماء.
فَلَمَّا أَفَاقُوا مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ حِينٍ قَالَ هَارُونُ لِأَبِي الحَسَنِ (عليه السلام): أَسْأَلُكَ بِحَقِّي عَلَيْكَ لمَّا سَأَلْتَ الصُّورَةَ أَنْ تَرُدَّ الرَّجُلَ.
فَقَالَ: إِنْ كَانَتْ عَصَا مُوسَى رَدَّتْ مَا ابْتَلَعَتْهُ مِنْ حِبَالِ القَوْمِ وَعِصِيِّهِمْ، فَإِنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ تَرُدُّ مَا ابْتَلَعَتْهُ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ(155).
هذا معنى أنّ الإمام يعرف بالعلم وإجابة الدعوة.
غداً يومُ خروجه من السجن، لكن بأيِّ كيفية؟ خرج على النعش، هناك على جسر بغداد، كيف كان بَدَنُه؟ ذِي السَّاقِ المَرْضُوضِ بِحَلَقِ القُيُودِ!
كان الحديد سبع سنوات على قدمه، فماذا يفعل بالعظم؟! وأين كان ذلك؟
فِي قَعْرِ السُّجُونِ وَظُلَمِ المَطَامِير، فما هو المطمور؟ تلك الأماكن التي تُحفَرُ تحت الأرض يسمونها مطمورة، سجنٌ تحت الأرض.
فما هي وظيفة الشيعة في هذه الدولة غداً أمام هذه الساق المرضوضة وظُلَم المطامير؟
السعداء هم أهل العراق، وأيُّ سعادة، والأمرُ محيِّرٌ فعلاً، هنيئاً لهم، لو كنت هناك لقبّلتُ أقدامَكُم، أقدامُكُم تاجُ رأسنا يا زوار الكاظمين.
يُقتَلون مع نسائهم وأولادهم، ويكملون طريقهم!
يا شباب إيران الغيارى، قوموا بما ينبغي لئلا تخجلوا غداً أمام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)!
ينبغي على كل الهيئات أن يخرجوا، ويلطموا رؤوسهم وصدورهم، لتشييع جنازة المنادى عليه.. والباقي لا يمكن بيانه.. لا إله إلا الله.
الإمام الهادي عليه السلام
الإمام الهادي.. بحرٌ من العلم الزخّار
بسم الله الرحمن الرحيم(156)
ثالث أيام هذا الشهر شهادةُ أمينِ وحي الله تعالى، مَن كانت عظمته العلميّة والعمليّة تحيِّرُ عقلَ المتبحرين في مختلف العلوم.
المهم هو أنّ وظيفتكم معرفة الإمام، وطريق معرفته بالعلم، وقد مرّ العمر وما غُصنَا في كلماتهم (عليهم السلام)، ولم نحصَل حتى على قطرةٍ من بحر علمهم الزخار.
الإعجاز العلمي هو أن أساس الدين ثلاث كلمات:
الكلمة الأولى: معرفة الله، والكلمة الثانية: معرفة رسول الله، والكلمة الثالثة: معرفة خليفة الله ورسوله، وهذه المباحث الثلاثة العميقة، تتبين على يد مستخرج اللئالي من بحر الحكمة الإلهية هذا، لذا أقرَأُ متن كلامه (عليه السلام)، ثم مَن كان أهلاً يتأمل ويرى أيّ أبواب تُفتَحُ منه:
فَتْحُ بْنُ يَزِيدَ الجُرْجَانِيُّ، قَالَ: ضَمَّنِي وَأَبَا الحَسَنِ الطَّرِيقُ حِينَ مُنْصَرَفِي مِنْ مَكَّةَ إِلَى خُرَاسَانَ، وَهُوَ صَائِرٌ إِلَى العِرَاقِ، فَسَمِعْتُهُ وَهُوَ يَقُولُ: مَنِ اتَّقَى الله يُتَّقَى، وَمَنْ أَطَاعَ الله يُطَاعُ.
جُمِعَت في هاتين الجملتين كلُّ الوظائف العمليّة تجاه الخالق، سواءٌ القلبية والروحية، أو العملية، والإعجاز في العلم أن المطلب قد بُيِّن وقد بُيِّنَت ثمرته أيضاً، فمن اتقى الله اتقاه الجميع، فالأول هو العمل القلبي، والثاني هو ثمرة ذلك العمل:
وَمَنْ أَطَاعَ الله يُطَاعُ: فمن أطاع الله يكون مُطاعاً، لا مطاعاً من البشر، بل مطاعاً بقولٍ مطلق، فثمرة الطاعة لله أن يصبح المُطيعُ مطاعاً على الاطلاق، وهذه بحارٌ من العلم والحكمة.
وبعد أن قال هذه الجملة قال: أَمَرَنِي بِالْجُلُوسِ، وَأَوَّلُ مَا ابْتَدَأَنِي بِهِ أَنْ قَالَ: يَا فَتْحُ مَنْ أَطَاعَ الخَالِقَ لَمْ يُبَالِ بِسَخَطِ المَخْلُوقِ، وَمَنْ أَسْخَطَ الخَالِقَ فَأَيْقنَ أَنْ يُحِلَّ بِهِ الخَالِقُ سَخَطَ المَخْلُوقِ: ولما أنهى هذه المرحلة بدأ بالمرحلة التي ينبغي أن يدركها إبراهيم الخليل وموسى الكليم وعيسى المسيح (عليهم السلام):
وَإِنَّ الخَالِقَ لَا يُوصَفُ إِلَّا بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ: قول هذه العبارة يحيّر العقل، وقد أبطل بهذا النفي والاستثناء كلَّ ما حاكه البشر عن الله تعالى، فالواصف هو، والموصوف هو، وما نُسِبَ لله تعالى من غيره من الواصفين كلُّهُ مردود، ثم ذكر البرهان، فإن المدّعى توأمٌ للبرهان والاستدلال الذي تدركه كلّ العقول عندما تصل إلى البلوغ:
وَأَنَّى يُوصَفُ الخَالِقُ الَّذِي تَعْجِزُ الحَوَاسُّ أَنْ تُدْرِكَهُ، وَالْأَوْهَامُ أَنْ تَنَالَهُ، وَالخَطَرَاتُ أَنْ تَحُدَّهُ، وَالْأَبْصَارُ عَنِ الإِحَاطَةِ بِهِ: والمدرَك على أقسامٍ ثلاثة ليس لها رابعٌ: إما مدرَكٌ بالحسّ، وهو إدراك المحسوسات، وإما مُدرَكٌ بالوهم، وهو إدراك الموهومات، فإنّ الصور الجزئية مدركاتٌ للحواس، والمعاني الجزئية مدركاتٌ للأوهام، وأما الحقائق الكليّة فهي مدركات الخطرات، وههنا تُطفَأ الأنوار الثلاثة: الحواس من الإحساس، والأوهام من التوهم، والعقول من التعقُّل، ذاك المدَّعَى وهذا برهانه. ثم يوضحه أيضاً:
جَلَّ عَمَّا يَصِفُهُ الوَاصِفُونَ، وَتَعَالَى عَمَّا يَنْعَتُهُ النَّاعِتُونَ: جلّ وتعالى: الحُّس يريد إدراكَه، وكلُّ الحواس مخلوقةٌ منه، فكيف يمكن أن يتمكن المخلوق من نَيل الخالق؟ وإذا أرادت الأوهام أن تتوهمه فهي أيضاً مصنوعةٌ منه، فأيُّ مصنوعٍ يمكنه إدراك الصانع؟ هذا البِناء لا يدرك البَنَّاء، وهذه الخريطة لا تُحِيطُ براسِمِها، وهذه الصورة لا تُدرِكُ مصوِّرَها.
نَأَى فِي قُرْبِهِ، وَقَرُبَ فِي نَأْيِهِ، فَهُوَ فِي نَأْيِهِ قَرِيبٌ، وَفِي قُرْبِهِ بَعِيدٌ: فهو بعيدٌ في عين قربه، وقريبٌ في عين بعده، ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ﴾، ومعيّته في حدِّ أن قربه يعني أنّه معك في كل ذرةٍ من ذرات وجودك، ولو لم يكن لم تكن، ولكن في عين الوقت مع كونه قريباً إلى هذا الحدّ، فإنه بعيدٌ إلى حدّ أن كل الموجودات مَحوٌ هناك، أَضَاءَ بِنُورِهِ كُلَّ ظَلَامٍ، وَأَظْلَمَ بِظُلْمَتِهِ كُلَّ نُور.
من جهةٍ: ﴿الله نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾، ومن جهةٍ أخرى: أَظْلَمَ بِظُلْمَتِهِ كُلَّ نُور!
والقيامة الكبرى في العلم هنا:
كَيَّفَ الكَيْفَ فَلَا يُقَالُ: كَيْفَ؟ وَأَيَّنَ الأَيْنَ فَلَا يُقَالُ: أَيْنَ؟ هو مُكَيِّف كلّ الكيفيات، فمَن كان مُكيّفَ الكّيف، كيف يمكن أن يقال (كيف هو)؟ فكلُّ كيفٍ من صناعته، وهو مؤيّن الأين، وخالق الأين والأينية، فكيف يقال عنه: أين؟
هذا هو الإمام العاشر، وهذه علامة الأنبياء من آدم إلى عيسى بن مريم، غاية الأمر أنا كلّنا جاهلون، فمتى عرفناه؟! ثم قال:
إِذْ هُوَ مُنْقَطِعُ الكَيْفِيَّةِ وَالْأَيْنِيَّةِ: روحي وأرواح العالمين لتراب مرقده الفداء، بهم (عليهم السلام) يُعرَفُ الله، فلو لم تصدر هذه البيانات منهم لكنا في غوغاء المتوهمين، وفي أفكار المتفكرين، وكلُّه مستغرقٌ ومحجوبٌ عنه تعالى، وهو (عليه السلام) الذي أفهمنا معنى: الله أكبر.
هُوَ الوَاحِدُ الأَحَدُ: لم يعد هناك وقتٌ لشرح هذه الكلمات، ابتدأ أولاً بـ: هو، لماذا؟ هو يعرف، يا هو، يا من لا هو إلا هو.
هوَ هو، وغيره كله (هذا)، و(هو) تنحصر بواحدٍ، ثم وصل إلى (الْوَاحِدُ) ثم (الْأَحَدُ)، وفي هذا الترتيب أيضاً (شقُّ القمر) فهو (واحدٌ أحد).
الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ، فَجَلَّ جَلَالُهُ(157).
هذا إمام المذهب، إلى هذا الحدِّ مجهولُ القدر حتى عندنا نحن، فكيف إذا وصلت النوبة للآخرين؟! ثم في تتمة الحديث له كلامٌ عن الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد أبطل (عليه السلام) جذور الوهابية بجملةٍ أخرى، وله كلامٌ أيضاً عن الإمامة، وقد أبطل كل المذاهب الأربعة بآيتين، هذا هو أمين الوحي.
إنّ وظيفة أهل العلم أن يُخرِجُوا الناس من خلف سحائب الجهل، إنّ مسؤوليتنا ثقيلة، فإذا سُئلنا أنا وأنت غداً ما الذي قدّمناه له (عليه السلام) فماذا سنقول؟
هنيئاً لمن يذهب إلى البلاد، ويعرف الناس به (عليه السلام)، رحم الله من أحيا أمرَنا.
هنيئاً لمن يرفع راية العزاء في يوم مصيبته، ويواسي وليّ العصر، ويضرب الصدر والرأس على أبيه (عليه السلام)، هنيئاً لمن يؤدي وظيفته العملية، وما حال من جلس جانباً بعيداً عن دوره ووصفه!
ينقل قطب الدين الراوندي علم الأعلام عن أبي هاشم الجعفري، قال: قلت: يا ابن رسول الله، أنا ساكنٌ في بغداد، وأنت في سرّ من رأى، فإذا أردتُ أن آتي لزيارتك وأعود إلى بيتي يستغرق ذلك أربعة أيام، فماذا أفعل مع شوق رؤياك وضعف بدني ودابتي العاجزة؟!
ولما رأى أنّ هذا المشتاق يتحدث هكذا بنيةٍ صادقةٍ قال له جملة واحدة هي: قَوَّاكَ الله يَا أَبَا هَاشِمٍ وَقَوَّى بِرْذَوْنَك(158)، بمجرد أن قال الإمام (عليه السلام) هذه الجملة صار هذا الرجل يصلى صلاة الصبح في بغداد، وصلاة الظهر في سامراء مقتدياً بالإمام العاشر، والعصر في بيته في بغداد، بهذه الجملة.
يروي أبو هاشم أيضاً فيقول: خَرَجْتُ مَعَ أَبِي الحَسَنِ (عليه السلام) إِلَى ظَاهِرِ سُرَّ مَنْ رَأَى نَتَلَقَّى بَعْضَ القَادِمِينَ، فَأَبْطَئُوا، فَطُرِحَ لِأَبِي الحَسَنِ (عليه السلام) غَاشِيَةُ السَّرْجِ فَجَلَسَ عَلَيْهَا.. فَشَكَوْتُ إِلَيْهِ قُصُورَ يَدِي وَضِيقَ حَالِي، فَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى رَمْلٍ فَنَاوَلَنِي مِنْهُ أَكُفّاً وَقَالَ: اتَّسِعْ بِهَا يَا أَبَا هَاشِمٍ، وَاكْتُمْ مَا رَأَيْتَ.
فَخَبَأْتُهُ مَعِي، وَرَجَعْنَا فَأَبْصَرْتُهُ فَإِذَا هُوَ يَتَّقِدُ كَالنِّيرَانِ ذَهَباً أَحْمَرَ.
فَدَعَوْتُ صَائِغاً إِلَى مَنْزِلِي وَقُلْتُ لَهُ: اسْبُكْ لِي هَذَا، فَسَبَكَهُ وَقَالَ: مَا رَأَيْتُ ذَهَباً أَجْوَدَ مِنْهُ(159).
ذاك لسانهُ ودعوته، وهذه يدُه وفعله.
الإمام الهادي.. أمينُ الله على وحيه
بسم الله الرحمن الرحيم(160)
كان البحث في فروع نقل الخمس من بلدٍ لآخر..
ومِنَ الجهة العلمية فإنّ القدر المتيقن من نواب إمام العصر في زمان الغيبة هو الأعلم من سائر العلماء، فالأعلم هو المتيقن، ومع وجود الأعلم يكون غير الأعلم مشكوكاً، ومقتضى الأصل الاقتصار على القدر المتيقن في من ثبتت ولايته، فالكبرى هي الرجوع للأعلم.
أما من جهة الصغرى، فمن هو الأعلم؟ وما هي طريق تشخيص الأعلم؟ هل الأعلم هو الأكثر اطّلاعاً؟ أم الأكثر تأليفاً كما ادّعى كاشف الغطاء؟
الحقُّ في المسألة أن كثرة التأليف ليست المناط، ولا الأمور الأخرى التي ذُكِرَت هي المناط، فمناط الأعلمية هو كونه الأدقّ نظراً في المسائل الفقهية، فكلُّ من كانت دقّة نظره وعمق فكره أكبر فهو أعلم العلماء، هذه الكبرى وهذه الصغرى.
العلمية واضحةٌ، مَن كان من أهل العلم فإنّه قادرٌ شاء أم أبى على تشخيص أنّ هذا الدرس أدق أو ذاك الدرس، هذا الفكر أو ذاك الفكر، هذه هي الطريق، فلا كثرة التأليف هي المناط ولا الشهرة والاسم، فتمام المناط هو عبارةٌ عن تحصيل السَّعة العلمية والدقة النظرية.
لم يكن عند المرحوم السيد عبد الهادي الشيرازي أيّ مؤلّف، لكن بعد وفاة المرحوم السيد أبو الحسن الاصفهاني، فإن السيد الميلاني أرجعَ أقاربه للسيد الشيرازي، لأنه كان أدقّ نظراً.
هذه المسألة هي المدار في التقليد من حيث الكبرى حيث ينبغي الرجوع للأعلم، ومن حيث الصغرى فإنّ الأعلمية والأدقية هي في الآراء العلمية، كما لو صِرتَ مريضاً وتعدد الأطباء، فلمن ينبغي الرجوع؟ للأعلم في الطب في هذا المرض.
ولو كان الأعلم تقياً، فإن كون غيره أتقى ليس مرجحاً لغيره، نعم لو كانا في مستوىً واحدٍ في العلميّة فإن الأتقى مرجح، لكن هذه الأرجحية لا تعيّن الرجوع إليه، فإن كان الآخر الأعلم تقياً فإنه يكفي بمقدار كونه عادلاً، ولا يلزم الأعدل، لكن الأعلمية لازمة.
هذا ثابتٌ بالفطرة في كل الأمور، فمَن مرضَ عليه الرجوع للخبراء في الطب، ومن ابتُلي بمعاملات الأرض ينبغي أن يرجع للمهندس المعماري، وفي كل هذا إن كان هناك اختلافٌ بين الأعلم وغير الأعلم فإنّ الفطرة حاكمةٌ بالتبعيّة للأعلم.
وهذه الفطرة في الفقه هي الأصل في المطلب، ويمكن استفادة ذلك من الآيات: ﴿يَرْفَعِ الله الَّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجات﴾.
أما هذه الدنيا، فقد اختلط الحابل فيها بالنابل، فصار عليٌّ جليس بيته وهو أعلم من في الأرض!
يُروى أن الخضر لما لاقى موسى ‘: أَقْبَلَ طَائِرٌ عَلَى هَيْئَةِ الخُطَّافِ، فَنَزَلَ عَلَى البَحْرِ، وَأَخَذَ بِمِنْقَارِهِ فَرَمَى بِهِ إِلَى الشَّرْقِ، ثُمَّ أَخَذَ ثَانِيَةً فَرَمَى بِهَا إِلَى الغَرْبِ، ثُمَّ أَخَذَ ثَالِثَةً فَرَمَى بِهَا إِلَى الشَّمَالِ، ثُمَّ أَخَذَ رَابِعَةً فَرَمَى بِهَا إِلَى الجَنُوبِ، ثُمَّ أَخَذَ خَامِسَةً فَرَمَى بِهَا إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ أَخَذَ سَادِسَةً وَرَمَى بِهَا إِلَى الأَرْضِ، ثُمَّ أَخَذَ مَرَّةً أُخْرَى فَرَمَى بِهَا إِلَى البَحْرِ.
وَجَعَلَ يُرَفْرِفُ وَطَارَ.. إِذْ بَعَثَ الله مَلَكاً فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ.. قَالَ: إِنَّهُ يَقُولُ (أي الطائر): وَحَقِّ مَنْ شَرَّقَ المَشْرِقَ، وَغَرَّبَ المَغْرِبَ، وَرَفَعَ السَّمَاءَ، وَدَحَى الأَرْضَ، لَيَبْعَثَنَّ الله فِي آخِرِ الزَّمَانِ نَبِيّاً اسْمُهُ مُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وَلَهُ وَصِيٌّ اسْمُهُ عَلِيٌّ (عليه السلام) وَعِلْمُكُمَا جَمِيعاً فِي عِلْمِهِ، مِثْلُ هَذِهِ القَطْرَةِ فِي هَذَا البَحْرِ(161).
هذا عليٌّ (عليه السلام)، لكن بعد رسول الله جلس عُمَرُ مكانه! أجلسوه وهو لم يكن يعرف مسائل الصلاة! لم يكن يعرف مسألة الكلالة في الإرث!
هذه الفطرة.. لقد كان عليٌّ (عليه السلام) الأعلمَ في كلّ شيء، لكنّ المسلمين بعد خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم) عَمِلُوا خلاف هذه الفطرة، ومن العجائب أنّ صحيح البخاري ينقل في ثلاث موارد عن الخاتم صلى الله عليه وآله نفسه: عليٌّ مني وأنا من علي.
فبماذا يجيب شيخ الأزهر؟ ان اجتمع كل علماء الحجاز وأجابوا على هذا السؤال.. فأنا أوّلُ سني!
من جهةٍ عليٌّ أعلمُ الكلّ بإجماع الكل! ومن جهةٍ أخرى أبو بكر يقول بإقراره: وُلِّيتُكُم ولست بخيركم! ان زغت فقوِّمُوني!
هذا إقرار أبي بكر، أما عمر فكان فعله أسوأ من أبي بكر، فقد صار خليفةً وهو لا يعرف الصلاة! ثمّ عثمان.. وأمره غير قابل للبيان!
فلنعلم قيمة هذه النعمة التي نحن فيها، ولا نحيد عن طريق عليٍّ وأولاده!
غداً شهادة الإمام العاشر (عليه السلام)، فهل عرفنا نحن الإمام العاشر؟
ورد في حديث اللوح تعبيرُ الله تعالى عن الإمام العاشر (عليه السلام) بأنّه: أَمِينِي عَلَى وَحْيِي: أي أنّ الوحي المنزل على 124 ألف نبي كلُّه عند الإمام العاشر (عليه السلام)، فثبت بقول الله تعالى (أَمِينِي عَلَى وَحْيِي) أنّ أمين كلّ الوحي من آدم (عليه السلام) إلى الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الإمام علي النقي (عليه السلام).
فهل فَهِمنا هذه الكلمة؟ ما هي معرفتنا نحن بإمامنا العاشر؟ قبل أن تصل النوبة للآخرين.
لقد صمّم المتوكل على إذلال الإمام (عليه السلام)، والمتوكل العباسي بلا دين، وكان قد بنى الملوية في سامراء، وكان يصعد بالحصان إلى قمتها، وكلّ رجال البلد كانوا أسفلها، وكان يعطي أمراً أن يكونوا جميعاً مشاةً وهو الراكبُ وحده، وكان الإمام العاشر يسير مشياً في ركاب المتوكل، فسأله عن حاله فأجاب: أَنَا أَكْرَمُ عَلَى الله مِنْ نَاقَةِ صَالِحٍ ﴿تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾(162)، وهذا وعدٌ ليس في طريقه كذب، وفي الليلة الثالثة قَتَلَ ابنُ المتوكل أباه، هذه هي الإحاطة.
في أيام المتوكل كانت أمور الجيش قد أنيطت بالأتراك، وكان رأس ورئيس الترك (بغاء) ويروي أبو هاشم الجعفري أنّ الإمام (عليه السلام) قال:
اخْرُجُوا بِنَا حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى تَعْبِيَةِ هَذَا التُّرْكِيِّ، فَخَرَجْنَا فَوَقَفْنَا، فَمَرَّتْ بِنَا تَعْبِيَتُهُ، فَمَرَّ بِنَا تُرْكِيٌّ فَكَلَّمَهُ أَبُو الحَسَنِ (عليه السلام) بِالتُّرْكِيَّةِ، فَنَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ، فَقَبَّلَ حَافِرَ دَابَّتِهِ، قَالَ: فَحَلَّفْتُ التُّرْكِيَّ وَقُلْتُ لَهُ: مَا قَالَ لَكَ الرَّجُلُ؟
قَالَ: هَذَا نَبِيٌّ. قُلْتُ: لَيْسَ هَذَا بِنَبِيٍّ. قَالَ: دَعَانِي بِاسْمٍ سُمِّيتُ بِهِ فِي صِغَرِي فِي بِلَادِ التُّرْكِ مَا عَلِمَهُ أَحَدٌ إِلَى السَّاعَة(163).
أيُّ إحاطةٍ هي هذه؟ الإمام العاشر (عليه السلام) في سامراء مطَّلِعٌ على كلّ شيء، غاية الأمر، أن الجهل قد أصاب الجميع!
ولو كان هناك عِلمٌ لكان ينبغي على هذه الدولة أن تكون من رأسها لقدمها صفاً ولواءً واحداً في العزاء والمأتم!
قولُ هذه العبارة سهلٌ، لكن معرفتها من أصعب الأمور: أَمِينِي عَلَى وَحْيِي، عليُّ بن محمد الهادي (عليه السلام).
الإمام العسكري عليه السلام
الإمام محيطٌ بعوالم الوجود
بسم الله الرحمن الرحيم(164)
ونحن على مشارف شهادة الأمام أبي محمد الحسن بن علي العسكري (عليه السلام)، فإنّ معرفة الامام من أوجب الواجبات. وهنا بحثان:
أحدهما: البحث الكبروي: من هو الإمام؟
ثانيهما: البحث الصغروي: من هو الإمام الحادي عشر؟
وكلُّ واحدٍ منهما بحرٌ لا يُدرك قعره. أما: من هو الإمام؟
الْإِمَامُ وَاحِدُ دَهْرِه(165)، ولهذه الجملة شرحٌ مفصل، فهناك تعابير ثلاثة: الأول هو الزمان: وهو وعاء الزمانيات والماديات، والثاني هو الدهر: وهو وعاء المجردات، والثالث هو السرمد، ولكلّ عبارةٍ شرحٌ مفصل، فالإمام واحدُ دهره، لا واحدُ زمانه فقط، فيكون الزمان والزمانيات مشمولان، وكذلك المُجرَّدات عن الزمان، كلّها تحت سيطرة أوامر وليّ العصر. ويكون المستثنى هو (السرمد) فقط، وهو المرتبط بذي الجلال والاكرام.
لذا قال: الْإِمَامُ وَاحِدُ دَهْرِه، لا واحد زمانه، لأنه يشمل الزمانيات والمجرّدات فهي تحت سيطرة قطب دائرة الوجود، هذه الكبرى.
أما الصغرى: مَن هو الامام الحادي عشر؟
الأمر محيِّرٌ، شابٌ في سن الثمانية والعشرين، ورد التعبير عنه في حديث اللوح بما يحيّر العقل، حتى توقف في فهم هذه الكلمة أمثال الشيخ الطوسي والشيخ الأنصاري، وتعبير حديث اللوح عن الإمام الحادي عشر هو:
الخَازِن لِعِلْمِي(166): إن قول هذه الجملة يُحيِّرُ العقول، غاية الامر أنه لا فقه! فَفِقهُ الله الأكبر معرفة الامام.
إنّ علمَ الله تعالى هو العلمُ الذي لا يعزب عنه مثقال ذرّة، فالعلم الربوبي يحير العقل! وتعبير حديث اللوح عن الإمام الحادي عشر محيّر: الخَازِن لِعِلْمِي!
ذاك العلم الذي ﴿وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ كلُّه مخزون ٌعند هذا الشاب ذي الثمانية والعشرين عاماً، فهو الخَازِن لِعِلْمِي.
ينبغي أولاً معرفة كلمة (الخازن)، وثانياً (علمي).
الخزينة والخزانة محيطةٌ، فهو (عليه السلام) المُحيط.. لكن بأيِّ مُحَاطٍ؟ إنه محيطٌ (بعلم الله)، وعلم الله تعالى لا حدَّ له ولا عدَّ له، فما هو مقام المحيط بما لا حدَّ له ولا عدَّ له؟ هذا تعبير حديث اللوح.
أما العبارة التي وردت في زيارته المعتبرة فإنها تحيّر العقل أيضاً: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا نُورَ الله فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْض: هذا هو الإمام الحادي عشر، إنه نور الله، إذا فهمنا آية النور: ﴿الله نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾.
الزيارة هي الصغرى في القياس، والآية هي الكبرى، ونتيجة هذا القياس من الشكل الأول هو أن هذا الشاب ذو الثمانية والعشرين عاماً محيطٌ بتمام عوالم الوجود.. هذه شَمّةٌ من حديث اللوح وَمِمَّا ظهر من مقامه.
روى أبو هاشم: إِنَّ أَبَا مُحَمَّدٍ (عليه السلام) (العسكري) رَكِبَ يَوْماً إِلَى الصَّحْرَاءِ فَرَكِبْتُ مَعَهُ، فَبَيْنَا نَسِيرُ وَهُوَ قُدَّامِي وَأَنَا خَلْفَهُ إِذْ عَرَضَ لِي فِكْرٌ فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَيَّ قَدْ حَانَ أَجَلُهُ، فَجَعَلْتُ أُفَكِّرُ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ قَضَاؤُهُ، فَالتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ: يَا أَبَا هَاشِمٍ الله يَقْضِيهِ. ثُمَّ انْحَنَى عَلَى قَرَبُوسِ سَرْجِهِ فَخَطَّ بِسَوْطِهِ خَطَّةً فِي الأَرْضِ وَقَالَ: انْزِلْ فَخُذْ وَاكْتُمْ.
فَنَزَلْتُ فَإِذَا سَبِيكَةُ ذَهَبٍ، قَالَ: فَوَضَعْتُهَا فِي خُفِّي وَسِرْنَا فَعَرَضَ لِيَ الفِكْرُ.
فَقُلْتُ: إِنْ كَانَ فِيهَا تَمَامُ الدَّيْنِ، وَإِلَّا فَإِنِّي أُرْضِي صَاحِبَهُ بِهَا، وَيَجِبُ أَنْ نَنْظُرَ الآنَ فِي وَجْهِ نَفَقَةِ الشِّتَاءِ وَمَا نَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِيهِ مِنْ كِسْوَةٍ وَغَيْرِهَا.
فَالتَفَتَ إِلَيَّ ثُمَّ انْحَنَى ثَانِيَةً وَخَطَّ بِسَوْطِهِ خَطَّةً فِي الأَرْضِ مِثْلَ الأُولَى ثُمَّ قَالَ: انْزِلْ فَخُذْ وَاكْتُمْ. قَالَ: فَنَزَلْتُ وَإِذَا سَبِيكَةُ فِضَّةٍ فَجَعَلْتُهَا فِي خُفِّيَ الآخَرِ(167).
ماذا تعني هذه الجملة: يَا أَبَا هَاشِمٍ الله يَقْضِيهِ؟ ثم هكذا يقلِبُ التراب إلى ذهبٍ وفضة! فمتى عرفناه (عليه السلام)، هذه القضية محيرة، فهو أولاً محيطٌ بتمام الأفكار، وثانياً: مُقَلِّبُ جواهر الوجود.
لقد قال أنّ الله يقضي دينك، وانحنى فخطّ بسوطه الأرض، ومعنى ذلك: أنا يد الله، أنا يدُ قدرة الله الذي يقضي دينك، هذا هو الامام الحادي عشر، وحياته تُحيِّر العقل.
وظيفتكم جميعاً إرشاد الناس، ببيان عظمته، فهو الخَازِن لِعِلْمِي، ماذا يعني ذلك؟ إنّ كل خزينةٍ محيطةٌ وما يُخَزَّن فيها مُحاطٌ به، فهل للشيخ الطوسي والشيخ الأنصاري قدرة إدراك مقام مَن كان محيطاً بعلم الله؟
هذا البلدُ بلدُ إمام الزمان، وكلّكم قد جلستم على مائدة سفرة إحسانه، فماذا فعلتم لأجل أبيه؟!
نحن يا وليَّ العصر ليس لنا إلا القصور والتقصير.
إن شاء الله تخرج كل الهيئات يوم شهادته، ولا يَدَعوا هذه الفرصة تفوتهم، ففي خروج كل هيئة تسليةٌ لوليّ العصر وهو قطب دائرة الإمكان.
اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه، في هذه الساعة وفِي كل ساعة، ولياً وحافظا وقائداً وناصراً، حتى تسكنه أرضك طوعاً وتمتعه فيها طويلاً. آجرك الله يا بقية الله بمصابك بأبيك أبي محمد الحسن بن علي العسكري (عليه السلام).
الإمام المهدي عليه السلام
المهديّ.. محقِّقُ كلّ حق
بسم الله الرحمن الرحيم(168)
مع اقتراب تعطيل الدروس، وأيام شعبان وشهر رمضان، ينبغي على كلِّ واحدٍ منكم أن يهيء نفسَهُ، لأنَّ المسؤولية ثقيلةٌ جداً، وسيأتي يوم الحسرة والندامة.
إنّ رأس المال الغالي الذي لا يمكن معرفة قيمته آخِذٌ في الزوال، فينبغي تحديدُ أفضل عَمَلٍ اليوم، وينبغي تحصيل أعلى مقامٍ ممكن، وطريق معرفة ذلك هم هُداة الأمر (عليهم السلام).
هذه الرواية محيّرةٌ لأهل الفقه والرجال والحديث: يَعْقُوبُ بْنُ يَزِيدَ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ هَاشِمٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ سَيْفِ بْنِ عَمِيرَة، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: عَالِمٌ يُنْتَفَعُ بِعِلْمِهِ أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ سَبْعِينَ أَلْفَ عَابِدٍ(169).
السند في كمال الاعتبار، فَرِجالُهُ موثَّقُون، ويشتمل على ابن أبي عمير، وهو الذي أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه، أمّا مضمون الحديث الذي يحير كلّ فقيهٍ متبحّر، فإنّه يدلّ على أنّ عبادة سبعين ألف عابدٍ ممن قُبِلَت عبادتهم عند الله في كفة الميزان يوم غدٍ تكون مرجوحةً، ويَرجُحُ عليها عِلمُ عالمٍ يُنتَفَعُ بعلمه، فأيُّ فرصةٍ هذه التي تذهب من يدنا؟
إنّ في هذا الزمن مسؤوليةٌ صعبةٌ، وهي حِفظُ أيتام أهل البيت من الشبهات، مع المشاكل المادية والشبهات الاعتقادية، فما أهمية صيانة هؤلاء الأيتام في هذا الزمن لمن تفقه خلال العام، وما يوجب ذلك عليهم؟
قال تعالى: ﴿الم * ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾، و﴿الم﴾ من الحروف التي يتركب منها الإسم الأعظم المخفي، وهو معهم (عليهم السلام)، فتبدأ الآية بمثل هذه الجملة، ثم بإسم الإشارة البعيد ﴿ذَلِكَ الكِتَابُ﴾، وتخصُّ عدم الريب بطبقةٍ خاصّة، حيث حُرِمَ الجميع إلا هذه الطائفة ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ فَمَن هم هؤلاء؟ ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ (170).
وفي نظم وترتيب كلام الله إشاراتٌ لأهل التحصيل والتأويل، فذَكَرَ أولاً الإيمان بالغيب، وثانياً إقامة الصلاة، وثالثاً ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ وكان بيان الإمام: مِمَّا عَلَّمْنَاهُمْ يَبُثُّون.
هذه وظيفتكم فرداً فرداً، أن تستفيدوا من فرصة هذه العطلة، لتحكيم العقائد، وتهذيب الأخلاق، وتعليم الأحكام، انشروا هذه الأمور الثلاثة فهي الحدُّ الأعلى للاستفادة يوم الحسرة الكبرى، وحَصِّلُوا شأناً عند الله في هذه الأيام.
ما هي الطريق لذلك؟ ماذا ينبغي أن تعملوا؟ إنّ أنفاسَنا لا تنفع، وفي هذا الزمن ينبغي الحصول على مساعدةٍ، فما هي طريق المساعدة؟
إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي، لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما أبداً.
تمسّكوا بالقرآن، وبإمام الزمان فهو روح القرآن، وإلى أيّ مكانٍ ذهبتم أوصوا الناس أولاً أن يقرؤوا القرآن كل يوم ولا يتركونه، لأنّه دون بَذرة الهداية والتعليم لا يمكن الوصول إلى الثمرة أبداً، فالقرآن ربيع القلوب، يحي قلبَكم وقلبَ من يستمع إليكم بعد رياح الربيع، فتدخل الآية المحكمة والفريضة العادلة والسنة القائمة للقلوب وتثمر.
يجب أن يكون الهدف أمرين لا ثالث لهما: أحدهما الله تعالى، والآخر طريق الله، وينبغي أن يُشطَبَ على كلّ أحدٍ وشيءٍ غير الله وصراط الله.
الله سبحانه وتعالى مَن مِنهُ الوجود، وإمام الزمان مَن بِهِ الوجود، هذا الابتداء، وما يُبتَدَأُ به، وليس لأحدٍ آخر أثرٌ ولا محلٌّ ولا مكانة.
عَرِّفُوا الناس بالله تعالى، وبَيِّنوا لهم آيات الله ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَق﴾.
للأسف أنّا لم نفهم القرآن، إنّ طريق التبليغ والهداية هي آيات الله في الآفاق والأنفس، فأروها لهم حتى تُزيلَ الحجب وتستيقظ الفطرة ﴿وَفي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ﴾ ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ﴾.
إنّ النظر في آيات السماوات والأرض يُعَرِّفُ النفوس والقلوب بالحق.
عرِّفُوا الناس بإمام الزمان، وبطريق معرفته، فما هي طريق معرفته؟ ما هي الطريق إليه؟ لأن الوصول إلى الله بغيره محال.
أَنْتُمُ السَّبِيلُ الْأَعْظَمُ، وَالصِّرَاطُ الْأَقْوَم: اقرؤوا الزيارات وافهموها وبيِّنوها للناس، من هو (عليه السلام)؟ سنقرأ متن عدَّةِ كلماتٍ من الزيارات، عسى أن يُشرِقَ نورُ معرفةِ الله تعالى في القلوب:
السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا خَلِيفَةَ الله: وعندما يظهر تُظَلِّلُه غمامةٌ، وينادي منادٍ: هَذَا المَهْدِيُّ خَلِيفَةُ الله فَاتَّبِعُوه: فماذا يعني (خليفة الله)؟
يا من لا يعلم ما هو إلا هو، فمَن كان خليفةً ومستخلَفاً عنه تعالى هل يمكن وصف مقامه؟ هذا أولاً.
وثانياً (وخليفة آبائه المهديين) فكلّ ما كان عندهم جُمِعَ في وجوده (عليه السلام).
السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا بَابَ الله الَّذِي لَا يُؤْتَى إِلَّا مِنْهُ: فلا طريق لله تعالى إلا من طريقه.
السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا سَبِيلَ الله الَّذِي مَنْ سَلَكَ غَيْرَهُ هَلَكَ: وليس هناك من استثناء، فهو حصرٌ مطلق.
السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا نُورَ الله الَّذِي لَا يُطْفَى: في كلّ القرآن سورةٌ واحدة عن النور، وفيها آيةٌ عن النور، والنور في تلك الآية هو الحجة بن الحسن صاحب الزمان (عليه السلام).
السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا حُجَّةَ الله الَّتِي لَا تَخْفَى، السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا حُجَّةَ الله عَلَى مَنْ فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ: فليس من أحدٍ خارجٌ عنها، من حَمَلَةِ العرش إلى أسفل السافلين.
السَّلَامُ عَلَيْكَ سَلَامَ مَنْ عَرَفَكَ بِمَا عَرَّفَكَ بِهِ الله، وَنَعَتَكَ بِبَعْضِ نُعُوتِكَ الَّتِي أَنْتَ أَهْلُهَا وَفَوْقَهَا(171): هذه إشاراتٌ فقط، ماذا تعني هذه الجملة؟ تعني أن كلّ ما عرَّفهُ الله عنه فهو (بعض نعوته)، وأنّه هو فوق كلّ ذلك! فهل عرفناه؟!
فكلُّ ما قاله الله تعالى دون مقامك.
يا ولي العصر، سامحنا، فلم نعرفك، ولم نُعرِّف الناس بك، مَرَّ العمرُ ولم نفهم. وختم الكلام هنا: أَشْهَد.. أَنَّكَ خَازِنُ كُلِّ عِلْم!
تدبروا في القرآن ﴿وَما أُوتيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَليلاً﴾، فكلُّ علوم الأولين والآخرين قليلة، بينما صار (عليه السلام) خازناً لكل علم، فما من علمٍ إلا وفي مخزن وجوده.
وَفَاتِقُ كُلِّ رَتْقٍ، وَمُحَقِّقُ كُلِّ حَقٍّ: هذه الكلمة التي ليس له فيها شريكٌ من الأولين والآخرين، فكلُّهُم محقِّقون، لكن لبعض الحق، ومبطِلون، لكن لبعض الباطل، أمّا الوحيد الذي يحقق طبيعيّ الحق في العالم فهو (عليه السلام)، كُلِّيٌ منحَصِرٌ بفرد، يُزيلُ كلّ فردٍ من أفراد الباطل.
هذا هو (عليه السلام)، مُحِقُّ كلّ حقٍ، ومبطل كلّ باطل.
وعندما جاء إلى الدنيا قال هذه الكلمة: ﴿وَقُلْ جاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً﴾.
إن شاء الله تحيون اسمه في أيام التعطيل هذه، في المدارس والمجالس، فإذا نَظَرَ نظرةً يقلب العالم.
اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن، صلواتك عليه وعلى آبائه، في هذه الساعة وفي كل ساعة، ولياً وحافظاً وقائدا ًوناصراً، حتى تسكنه أرضك طوعاً، وتمتعه فيها طويلاً، اللهم لا تفرّق بيننا وبينه أبداً.
المهدي طاووس أهل الجنة
بسم الله الرحمن الرحيم(172)
اللَّهُمَّ بِحَقِّ لَيْلَتِنَا هَذِهِ وَمَوْلُودِهَا: أيُّ ليلة هذه الليلة؟
إنّ أهمية كلِّ ظرفٍ ترتبط بمظروفه، وليلة نصف شعبان ظَرفُ وجودِ وميلاد من لا يُدرَك ولا يوصف، وللأسف فإنّ العمر قد انقضى ولم نَعرف ولم نصل!
العقل مبهوتٌ وحيرانٌ في شخصية إنسانٍ وردت في شأنه كلمتان:
الكلمة الأولى: المُنْتَهَى إِلَيْهِ مَوَارِيثُ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَدَيْهِ مَوْجُودَةٌ آثَارُ الْأَصْفِيَاء، ولا يتأتّى شرح هاتين الكلمتين مِن كلّ أحد.
أما الكلمة الأولى: المُنْتَهَى إِلَيْهِ مَوَارِيثُ الْأَنْبِيَاءِ، فما هي مواريث الأنبياء؟
الإرث الأوّل: إرث آدم، وهو ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا﴾.
والإرث الثاني: ما كان عند نوحٍ فكلّه عنده.
والثالث إرث إبراهيم: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾(173)، وكلُّ هذه الكلمات في صدره.
والرابع إرث موسى كليم الله: ﴿وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً﴾(174)، وهو الذي تمنى أن يعيطه الله تعالى مقامات الحجة بن الحسن، فأُجِيب: أين أنت وأين هو؟
هذا إمام الزمان، وظيفتكم جميعاً معرفته، وتعريف الناس به.
عيسى بن مريم تمنى أن يبقى حياً حتى يصلي خلفه، وقد اتفق العامة والخاصة على أن مَن أمَّ قوماً وفيهم مَن هو أفضل منه لا يزال أمرُهم إلى سفال.
فعندما يظهر (عليه السلام) يكون افتخارُ عيسى بن مريم (عليه السلام) وشَرَفُه أن يكون أوّل مأمومٍ لهذا الإمام، ويكونُ حاملَ لواء جيشه، وهو الذي قال فيه تعالى: ﴿يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ المُقَرَّبِينَ﴾، فهو في القرآن كلمة الله وروح الله ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾، وهو الذي تكلم في المهد: ﴿قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً﴾(175).
العقل حيرانٌ، فعنده (عليه السلام) مواريث الأنبياء من آدم (عليه السلام) للخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومواريث تمام الأوصياء من هبة الله شيث إلى أبي محمد الحسن بن علي العسكري (عليه السلام)، وكلُّ هؤلاء قد بيّنوا حرفين من العلم، لكنّه (عليه السلام) يأتي بـ 28 حرفاً من العلم، ويضع يده على رؤوس العباد، وكلُّ رأسٍ يخرج من تحت يده يصبح فيه عقل أربعين رجلاً، هذه بركة يده.
نص القرآن: ﴿وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها﴾، وفي التفسير المعتبر عن الإمام المعصوم أنّ نور الرب الذي أشرق على الأرض هو الإمام الحجة بن الحسن (عليه السلام)، فأيُّ مقامٍ هو هذا؟
لقد نقل العامة والخاصّة الرواية التالية: المَهْدِيُّ طَاوُسُ أَهْلِ الجَنَّة، الجنة التي هي مركز الجمال والكمال، وهي التي يُعطى لأهل الخلد فيها ما هو أعلى من جمال يوسف، كلُّ ذلك يُمحَى أمام جماله.
في الجنة التي تضمُّ آدم إلى الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأمير المؤمنين إلى الحسن بن علي العسكري (عليهم السلام)، طاووس أهل هذه الجنة هو صاحب العصر! ههنا يحار العقل.
يذكر الشيخ الطوسي في مصباح المتهجّد هذا الدعاء لهذه الليلة:
اللَّهُمَّ بِحَقِّ لَيْلَتِنَا وَمَوْلُودِهَا: أيُّ مولود؟ الذي إذا ولد: بَعَثَ الله مَلَكاً فَكَتَبَ عَلَى عَضُدِهِ ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلاً﴾، وكلُّ كمالات البشر من آدم للخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) تنتهي إلى كلمتين: الصدق والعلم للروح، والعدل للجسم.
المسيح كلمة الله: ﴿بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ المَسيح﴾، وهذه الكلمة قد تمّت هذه الليلة ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ﴾.
في هذه الليلة أشرَقَت الأرض بنور ربها وهو الحجّة بن الحسن (عليه السلام)، وهو الذي جُمِعَ فيه شيئان من الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم): اسْمُهُ اسْمِي، وَكُنْيَتُهُ كُنْيَتِي، وهذه لم تُجمَع لأحدٍ حتى للأئمة (عليهم السلام)، وأُعطِيَ اسمُ الخاتم وكنيته حصراً لمولود هذه الليلة.
لكن الأهم من ذلك، اقرؤوا القرآن وتأملوا قوله تعالى: ﴿جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالقَمَرَ نُوراً﴾ فعبر عن الشمس بالضياء، وعن القمر بالنور، لكن أين نور القمر وأين ضياء الشمس من نور الله تعالى وضيائه؟ وإمام الزمان هو نور الله وضياؤه المُشرِق، فهو شمسٌ وقمرٌ لكن ليسَ قمر السماء، ولا شمس الفلك، إنما شمس الله وقمر الله، هذا ولي العصر، فأين مَن يعرفه؟! وأيُّ عقلٍ تصل يده إلى مقامه؟
هنيئاً لأولئك الذين صاروا في محلّ ومورد عنايته، وهنيئاً لمن يكون قرب قبر جده الحسين (عليه السلام) هذه الليلة، فهو أيضاً (عليه السلام) هذه الليلة قرب قبره (عليه السلام).
دلّ الحديث الصحيح السند والذي يحيِّرُ العقل أنّه ما مِن ملكٍ مقرّب كجبرائيل وميكائيل وإسرافيل، ولا نبيٍّ مرسَلٍ كموسى وعيسى وإبراهيم (عليهم السلام)، إلا ولهم حاجةٌ واحدةٌ وهي أن يأذن الله تعالى لهم بزيارة قبر الحسين بن علي (عليه السلام).
عَنِ الحُسَيْنِ بْنِ بِنْتِ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ قَالَ: خَرَجْتُ فِي آخِرِ زَمَانِ بَنِي مَرْوَانَ إِلَى زِيَارَةِ قَبْرِ الحُسَيْنِ (عليه السلام) مُسْتَخْفِياً مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى كَرْبَلَاءَ، فَاخْتَفَيْتُ فِي نَاحِيَةِ القَرْيَةِ حَتَّى إِذَا ذَهَبَ مِنَ اللَّيْلِ نِصْفُهُ أَقْبَلْتُ نَحْوَ القَبْرِ، فَلَمَّا دَنَوْتُ مِنْهُ أَقْبَلَ نَحْوِي رَجُلٌ فَقَالَ لِي: انْصَرِفْ مَأْجُوراً فَإِنَّكَ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ.
فَرَجَعْتُ فَزِعاً حَتَّى إِذَا كَادَ يَطْلُعُ الفَجْرُ أَقْبَلْتُ نَحْوَهُ حَتَّى إِذَا دَنَوْتُ مِنْهُ خَرَجَ إِلَيَّ الرَّجُلُ فَقَالَ لِي: يَا هَذَا إِنَّكَ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ.
فَقُلْتُ لَهُ: عَافَاكَ الله، وَلِمَ لَا أَصِلُ إِلَيْهِ؟ وَقَدْ أَقْبَلْتُ مِنَ الكُوفَةِ أُرِيدُ زِيَارَتَهُ، فَلَا تَحُلْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ عَافَاكَ الله، وَأَنَا أَخَافُ إِنْ أَصْبَحَ فَيَقْتُلُونِّي أَهْلُ الشَّامِ إِنْ أَدْرَكُونِي هَاهُنَا.
قَالَ: فَقَالَ لِيَ: اصْبِرْ قَلِيلاً، فَإِنَّ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ (عليه السلام) سَأَلَ الله أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي زِيَارَةِ قَبْرِ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، فَأَذِنَ لَهُ، فَهَبَطَ مِنَ السَّمَاءِ فِي سَبْعِينَ الفَ مَلَكٍ (176).
فهذه حاجة موسى بن عمران يطلبها تحت قبّة سيّد الشهداء، وهو الذي جُعِلَت إجابة الدعاء تحت قبّته، هذا إمام الزمان وهذا جده ‘.
في هذه الليلة يأتي للدنيا من كان موعود 124 ألف نبيّ، يأتي للدنيا من بوجوده تمّت الكلمة، وعظمت النعمة، ولما جاء للدنيا ﴿تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ﴾، فقد تجلى صدق وعدل الله تعالى في وجود مولود نصف شعبان.
هذه الليلة، في الساعة الحادية عشر، ينبغي على الجميع تلاوة دعاء الفرج، باسم الامام الحادي عشر (عليه السلام)، عسى أن يكون بين كلّ هذه النفوس التي ترفَعُ يديها للدعاء شخصٌ مورد عنايته (عليه السلام)، وببركة نفسه ينظر إلينا جميعاً نظرة لطف.
اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن، صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة، ولياً وحافظاً وقائداً وناصراً ودليلاً وعيناً حتى تسكنه أرضك طوعاً وتمتعه فيها طويلاً.
المهدي ضياء الله ونوره
بسم الله الرحمن الرحيم(177)
ليلة النصف من شعبان على الأبواب، لا الظَّرفُ فيها قابلٌ للبيان ولا المظروف!
إنّ أهمية الزمان تُعرَفُ بوقوع الحدث فيه، والمظروف في ليلة النصف من شعبان هو أملُ جميع الأنبياء من آدم للخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم).
ونحن لسنا أبداً في المرتبة التي نُدرِكُ فيها عظمة تلك الليلة، ولا المولود الذي وُلِدَ فيها.
وإن أراد أحدٌ معرفته ففي كلمتين: ضياء الله المشرق ونوره المتألق.
يحار الجميع في هاتين الكلمتين، من الشيخ الطوسي الى الشيخ الأنصاري.
قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً﴾، فالشمس ضياءٌ والقمر نورٌ، لكن الإمام (عليه السلام) ضياءٌ ونورٌ معاً، ولكن أيّ ضياء؟! ضياء الله ونور الله!
في القرآن المجيد سورةٌ باسم سورة النور، وهذه السورة مشتملةٌ على آية النور، وتفسير تلك الآية قد ورد عن سادس الائمة (عليهم السلام) في الآية المباركة ﴿يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ﴾ أنه القائم المهدي (عليه السلام).
الذات القدوس تعالى يهدي لنوره من يشاء، عندما: يَخْرُجُ المَهْدِيُّ وَعَلَى رَأْسِهِ غَمَامَةٌ فِيهَا مُنَادٍ يُنَادِي: هَذَا المَهْدِيُّ خَلِيفَةُ الله فَاتَّبِعُوهُ(178)، هذا المهدي، لكن أيُّ مهدي؟! خليفة الله.
إنّ ظهورَه وظهورَ حكومة الله تعالى للوجود فوق التقرير والبيان: بِيُمْنِهِ رُزِقَ الوَرَى، وَبِوُجُودِهِ ثَبَتَتِ الأَرْضُ وَالسَّمَاء..
لا شكَّ أن الامام ينبغي أن يكون بحكم العقل والشرع أفضل من المأموم، ودليل هذا المدعى في نص القرآن: ﴿أَفَمَنْ يَهْدي إِلَى الحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى﴾(179)، والمهم هو فقه الحديث، وهاتان الجملتان كافيتان اليوم لأهل التدبر.
من هو عيسى؟ قال تعالى: ﴿بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ المَسيحُ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجيهاً فِي الدُّنْيا وَالآخِرَة﴾(180)، وعيسى هذا بعدما رفعه الله، وأيُّ رَفعٍ كان رَفعُه؟! ﴿وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا﴾(181)، ينزل من مقام القرب عند الله ويكون نزوله عين صعوده، ينزل فيقتدي بوليّ الله الأعظم!
إمامُ الزمان هو من يفتخر المسيح كلمةُ الله وروحُ الله أن يكون مأموماً له عند الوفود إلى الله تعالى.
هذا برهانٌ على أفضلية إمام الزمان على أنبياء أولي العزم: نوحٌ وموسى وعيسى وخليل الله (عليهم السلام)، فكلُّهم تحت شعاع شمس سماء الولاية، وهذا هو المقام الأول.
وقد اتفق العامة والخاصة على هذه الكبرى التي هي مورد إجماع كلّ المسلمين، أنّ الإمام أفضل من المأموم، ونتيجة هذه الكبرى في مقام التطبيق على الصغرى أفضليّة وليّ العصر على الأنبياء والمرسلين أولي العزم من الرسل، يستثنى منهم شخصٌ واحدٌ وهو جدّه الأمجد (صلى الله عليه وآله وسلم).
أما موسى بن عمران، فمن هو؟ قال تعالى: ﴿وَكَلَّمَ الله مُوسى تَكْليماً﴾(182)، وقال تعالى: ﴿وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا﴾(183)، وموسى نفسه هو الذي خاطبه الله تعالى: ﴿فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالوادِ المُقَدَّسِ طُوىً﴾(184)، ولما تجاوز مقام كليم الله، وكُشِفَ له الحجاب عن مقام المهدي ولي العصر (عليه السلام) وشاهده، تمنى هذا المقام! لكن قال له الله: أين أنت وأين هذا المقام؟
هذا المقام مختصٌ بوليّ العصر صاحب الزمان، من نسل النبي الخاتم الذي يملأ الله الأرض به عدلاً وقسطاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً.
والمهم هو أن مقامه (عليه السلام) ليس قابلاً للوصف! لماذا؟ لقد قام البرهان الناطق أن أصحابه أنفسهم غير قابلين للوصف!
يضع يده على رؤوسهم فيعطي كلَّ واحدٍ منهم عقلَ أربعين رجلاً، ويعطي لكلِّ واحدٍ قبضةَ سيف عليها كلمةٌ من العلم الربوبي، ومن تلك الكلمة يُفتَح ألف باب من العلم، فيصبح كلُّ واحد من أصحابه عنده عقل أربعين رجلاً! فقيمة كلّ واحدٍ منهم فوق إدراك وتصوّر كل أهل العالم!
والمهم هو فهم هذا المقام: نُورُكَ المُتَأَلِّقُ، وَضِيَاؤُكَ المُشْرِق: ضياء الله ونور الله كلاهما اجتمعا في وجوده، وهذا برهان ناطقٌ أن المنادي ينادي: هَذَا المَهْدِيُّ خَلِيفَةُ الله فَاتَّبِعُوهُ، فيُعَرِّفُه للناس أنه إمامُ الزمان ليعرفوه.
يصل الخطاب لموسى بن عمران أنك إن فعلتَ أحد أمرين كان أفضل من صيام ماءة عام كلّ يوم وقيام كل ليلة حتى الصباح، يسأل موسى الله تعالى عن هذين العملين، ليأتي الجواب: أن تَرُدَّ آبقاً عن بابي، أو ضالاً عن فنائي، ثم يسأل (عليه السلام) عن تفسير هاتين الكلمتين، فيأتيه الخطاب: أما رد الآبق فتوبة العاصي، وأما إرشاد الضال فالهداية إلى إمام الزمان.
اعرفوه وعرفوه للناس: هو ضياء الله، وضياء الله مشرقٌ على كلّ ما سِواه، بِيُمْنِهِ رُزِقَ الوَرَى، وَبِوُجُودِهِ ثَبَتَتِ الأَرْضُ وَالسَّمَاء، وإذا ارتفع ظلُّه آناً عن العالم تنعدم كل السماوات والكواكب وطبقات الارض.
أما ظهوره، فمتى؟
إن تاريخ ظهوره ليس مُعَيّناً، فهي تلك الساعة التي ﴿إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُو﴾، أما وقت ظهوره فهو يوم عاشوراء، في الوقت الذي يُرفع فيه ستار الخيمة فيُرى الرأسُ المقطوعُ مرفوعاً على القنا.
في ذلك الحين يتكئ على الكعبة وتخرج جملةٌ من لسانه المبارك: يا لثارات الحسين..
(1) ألقيَ هذا البحث يوم الأربعاء 17 ذي الحجة 1434 هـ الموافق 23-10-2013 م.
(2) الأمالي ص125-126.
(3) الخطبة الأولى في نهج البلاغة.
(4) آل عمران83.
(5) آل عمران19.
(6) البقرة128.
(7) النحل89.
(8) المؤمنون1-3.
(9) الأنفال2.
(10) تفسير القمي ج1 ص367.
(11) ألقيَ هذا البحث يوم الأربعاء 11 شعبان 1437 هـ الموافق 18-5-2016 م.
(12) المستدرك على الصحيحين ج3 ص108.
(13) الأحزاب33.
(14) المستدرك على الصحيحين ج3 ص108.
(15) صحيح البخاري ج4 ص5، وصحيح مسلم ج7 ص121.
(16) ألقيَ هذا البحث يوم الثلاثاء 28 جمادى الأولى 1434 هـ الموافق 9-4-2013 م، ونشرناه على شبكة الانترنت تحت عنوان: الصديقة الكبرى هي (المجهولة قدراً).
(17) وردت هذه العبارة ضمن التوسُّل بالسيدة الزهراء، يراجع زاد المعاد، مفتاح الجنان ص400.
(18) إبراهيم48.
(19) معاني الأخبار ص396.
(20) النور35.
(21) البقرة31.
(22) النجم8و10.
(23) النساء113.
(24) الروم4و5.
(25) الخطبة202.
(26) ألقيَ هذا البحث يوم الأربعاء 10 جمادى الأولى 1435 هـ الموافق 12-3-2014 م، ونشرناه على شبكة الانترنت تحت عنوان: الزهراء علّة بقاء الدين، وكلُّ ما يقام في ذكراها قليل!
(27) ميزان الاعتدال ج 2 ص 618، نظم درر السمطين ص180، كنز العمال ج12 ص110، لسان الميزان ج4 ص16، سبل الهدى والرشاد ج 10ص 386، ينابيع المودة ج2 ص322، ومصادر أخرى.
(28) الواقعة1-6.
(29) الواقعة7.
(30) الواقعة10-11.
(31) الأنعام132.
(32) الكوثر1-3.
(33) ينابيع المودة ج2 ص137، ذخائر العقبى ص48، تاريخ دمشق ج13 ص334.
(34) إبراهيم48.
(35) الملك1-2.
(36) الزمر23.
(37) الزمر18.
(38) علل الشرائع ج1 ص180.
(39) بحار الأنوار ج43 ص191.
(40) بحار الأنوار ج43 ص181.
(41) بحار الأنوار ج43 ص157.
(42) ألقيَ هذا البحث يوم الأحد 10 جمادى الأولى 1436 هـ الموافق 1-3-2015 م، ونشرناه على شبكة الانترنت تحت عنوان: يوم القيامة يوم سلطنة الزهراء عليها السلام!
(43) الأمالي للصدوق ص592.
(44) القمر55.
(45) معاني الأخبار ص396.
(46) النور35.
(47) تفسير فرات ص581.
(48) ألقيَ هذا البحث يوم الثلاثاء 26 جمادى الأولى 1436 هـ الموافق 17-3-2015 م.
(49) الأمالي للمفيد ص338.
(50) ق39.
(51) معاني الأخبار ص411.
(52) الكافي ج4 ص583، كامل الزيارات ص117.
(53) وردت في بعض النسخ بلفظ (ظَهَرَ).
(54) نهج البلاغة الخطبة109.
(55) الأمالي للصدوق ص113.
(56) بحار الأنوار ج43 ص181.
(57) ألقيَ هذا البحث يوم الأحد 12 جمادى الأولى 1437 هـ الموافق 21-2-2016 م، ونشرناه على شبكة الانترنت تحت عنوان: الحزن على الزهراء لا يختص بالشيعة.
(58) الكافي ج1 ص241.
(59) النجم7.
(60) النجم5-6.
(61) مناقب آل أبي طالب ج3 ص330.
(62) ألقيَ هذا البحث يوم الأربعاء 10 جمادى الأولى 1438 هـ الموافق 8-2-2017 م، ونشرناه على شبكة الانترنت تحت عنوان: الأيام الفاطمية فرصةٌ لإحياء أمر الصدّيقة الكبرى.
(63) تفسير فرات ص581.
(64) الكوثر1-3.
(65) الأمالي للصدوق ص592.
(66) القمر55.
(67) تفسير فرات ص581.
(68) علل الشرائع ج1 ص180.
(69) نهج البلاغة الخطبة109.
(70) النجم5-6-7.
(71) النور35.
(72) مناقب آل أبي طالب ج3 ص342.
(73) ألقيَ هذا البحث يوم الأربعاء 24 جمادى الأولى 1438 هـ الموافق 22-2-2017 م، ثم أضاف سماحة الشيخ بعض التوضيحات حوله صبيحة يوم السبت 5 جمادى الثاني 1438 هـ الموافق 4-3-2017 م قبيل درس الفقه، فمزجنا أهمّ ما فيه مع هذا البحث.
(74) صحيح البخاري ج8 ص153.
(75) إبراهيم24-25.
(76) الأمالي للمفيد ص282.
(77) الأمالي للصدوق ص18.
(78) ألقيَ هذا البحث يوم الأربعاء 27 جمادى الأولى 1439 هـ الموافق 14-2-2018 م.
(79) الإمامة والتبصرة ص133.
(80) تفسير فرات ص581.
(81) إبراهيم 48.
(82) تفسير فرات ص446.
(83) ألقيَ هذا لبحث المختصر صباح يوم الأربعاء 5 صفر 1439 هـ الموافق 25-10-2017 م بعد مجلس عزاء السيدة رقية (عليها السلام)، وقبيل شهادة الإمام الحسن الزكي (عليه السلام).
(84) مناقب آل أبي طالب عليهم السلام ج4 ص25، صحيح البخاري ج3 ص20 وج7 ص55، صحيح مسلم ج7 ص129.
(85) تاريخ بغداد ج 6 ص 33.
(86) الإرشاد ج2 ص7.
(87) ألقيَ هذا البحث يوم الإثنين 22 ذي الحجة 1434 هـ الموافق 28-10-2013 م، قبيل أيام عاشوراء لعام 1435 للهجرة، وكان ختام كلامه أشبه بمجلس عزاء حسيني، عظم الله لنا وله ولكم جميعاً أجرنا بمصاب سيد الشهداء (عليه السلام).
(88) الأمالي للصدوق ص116.
(89) التفسير المنسوب للإمام العسكري (عليه السلام) ص340-341.
(90) الأمالي للصدوق ص331.
(91) دلائل الإمامة ص198.
(92) الأمالي للصدوق ص462.
(93) كامل الزيارات ص257.
(94) ألقيَ هذا البحث صبيحة يوم الأربعاء 23 ذي الحجة 1436 هـ الموافق 7-10-2015 م.
(95) الأنعام59.
(96) التوبة122.
(97) المدّثر1-3.
(98) مدينة المعاجز ج4 ص193.
(99) أمالي المفيد ص319.
(100) المزار ص164.
(101) الإرشاد ج2 ص91.
(102) عن الباقر (عليه السلام): فوجدوا جوناً بعد عشرة أيّام تفوح منه رائحة المسك رضوان الله عليه (تسلية المجالس ج2 ص293).
(103) كامل الزيارات ص228.
(104) الإحتجاج ج1ص 17.
(105) الإحتجاج ج1ص 17.
(106) تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) ص342.
(107) الإحتجاج ج1ص 16.
(108) مريم39.
(109) كامل الزيارات ص67.
(110) بحار الأنوار ج44 ص242.
(111) أمالي الصدوق ص130.
(112) بحار الأنوار ج44 ص242.
(113) ألقيَ هذا البحث يوم الأربعاء 22 ذي الحجة 1438 هـ الموافق 13-9-2017 م.
(114) فصلت33.
(115) تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) ص342.
(116) ألقيَ هذا البحث يوم الأربعاء 22 ذي الحجة 1438 هـ الموافق 13-9-2017 م.
(117) ألقيَ هذا البحث قبيل أربعين الإمام الحسين (عليه السلام) لعام 1434 هـ.
(118) المؤمنون8.
(119) المائدة1.
(120) محمد7.
(121) البقرة2-3.
(122) مصباح المتهجد ج2 ص826.
(123) ألقيَ هذا البحث يوم الثلاثاء 14 صفر 1435 هـ الموافق 17-12-2013 م.
(124) التوبة122.
(125) الإرشاد ج2 ص92.
(126) بحار الأنوار ج44 ص242.
(127) ألقيَ هذا البحث قبيل أربعين الإمام الحسين (عليه السلام) عام 1436 هـ.
(128) قرب الإسناد ص32، وقريبٌ منه ما في الكافي ج2 ص176 وغيره.
(129) يس82.
(130) الزخرف32.
(131) كامل الزيارات ص141.
(132) كامل الزيارات ص137.
(133) كامل الزيارات ص134.
(134) رجال الكشي، إختيار معرفة الرجال ص170.
(135) كامل الزيارات ص82.
(136) الفجر27-28.
(137) ألقيَ هذا البحث يوم الأربعاء 12 صفر 1437 هـ الموافق 25-11-2015 م.
(138) تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) ص339.
(139) الصافات6.
(140) بصائر الدرجات ج1 ص3.
(141) ألقيَ هذا البحث يوم الأربعاء11 صفر 1439 هـ الموافق 1-11-2017 م.
(142) الكافي ج2 ص211.
(143) الكافي ج2 ص211.
(144) ألقيَ هذا البحث يوم الأربعاء 22 ذي الحجة 1438 هـ الموافق 13-9-2017 م.
(145) كامل الزيارات ص112.
(146) ألقيَ هذا البحث يوم السبت 24 رجب 1435هـ الموافق 24-5-2014 م.
(147) إشارة إلى ما في الحديث: فَدَلَالَةُ الْإِمَامِ فِيمَا هِيَ؟ قَالَ: فِي الْعِلْمِ وَاسْتِجَابَةِ الدَّعْوَة (عيون أخبار الرضا ج2 ص200).
(148) عيون أخبار الرضا ج2 ص274.
(149) النازعات40-41.
(150) يس82.
(151) من لا يحضره الفقيه ج2 ص615.
(152) التوحيد للصدوق ص152.
(153) عيون أخبار الرضا عليه السلام ج1 ص91.
(154) بحار الأنوار ج99 ص14.
(155) الأمالي للصدوق ص148.
(156) ألقيَ هذا البحث الأربعاء 30 جمادى الثاني 1435 هـ الموافق 30-4-2014 م.
(157) كشف الغمة ج2 ص386.
(158) الخرائج والجرائح ج2 ص672.
(159) الخرائج والجرائح ج2 ص673.
(160) ألقيَ هذا البحث يوم الأحد 2 رجب 1437 هـ الموافق 10-4-2016 م، وبعدما تعرَّض سماحة الشيخ لبعض المسائل الفقهية تعرَّض لجملةٍ من المطالب الاعتقادية ثم عرّج على ذكرى شهادة الإمام الهادي (عليه السلام).
(161) الروضة في فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) لابن شاذان القمي ص153.
(162) إعلام الورى بأعلام الهدى ص363.
(163) إعلام الورى بأعلام الهدى ص360.
(164) ألقيَ هذا البحث يوم الأحد 7 ربيع الأول 1439 هـ الموافق 26-11- 2017 م.
(165) عن الإمام الرضا (عليه السلام) كما في الكافي ج1 ص201.
(166) الكافي ج1 ص527.
(167) الخرائج و الجرائح ج1 ص421.
(168) ألقيَ هذا البحث يوم 18 رجب 1434 هـ الموافق 29-5-2013 م.
(169) بصائر الدرجات ج1 ص6.
(170) البقرة1-3.
(171) المزار الكبير لابن المشهدي ص586.
(172) ألقيَ هذا البحث يوم السبت 14 شعبان 1437 هـ الموافق 21-5-2016 م.
(173) البقرة124.
(174) مريم52.
(175) مريم30.
(176) كامل الزيارات ص112.
(177) ألقيَ هذا البحث يوم الثلاثاء 14 شعبان 1439 هـ الموافق 1-5-2018 م.
(178) كشف الغمة ج2 ص470.
(179) يونس35.
(180) آل عمران 45.
(181) مريم57.
(182) النساء164.
(183) مريم52.
(184) طه12.