بسم الله الرحمن الرحيم
لقد وَعَدَ الله تعالى فئتين بالنَّصر مرتين: مَرَّةً في الدُّنيا، ومَرَّةً في الآخرة، وهم الرُّسُل والمؤمنون، فقال تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذينَ آمَنُوا فِي الحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ﴾ (غافر51).
والنَّصرُ مفهومٌ واضِحٌ جَليٌّ، يعني الظَّفَر على العدوّ، والفَلَجَ والغَلَبة على الخَصم، والفوز بالطَّلَب، وتُقَابِلُهُ الهزيمة والإنكسار والخسارة (العين ج8 ص158، ومعجم مقاييس اللغة ج5 ص435).
مِن ثمَّ ظنَّ بَعضُ المؤمنين أنَّ النصرَ حَليفٌ لهم دائماً، وأنَّهم موعودون بالنَّصر الإلهي في هذه الدُّنيا حتماً، فالله لا يخلفُ وعدَه، ولا يتخلَّفُ عن نَصر رُسُله وعباده المؤمنين، وقد قال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا الله يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ﴾ (محمد7).
لكنَّهم غفلوا عن أنَّ ظواهر القرآن لا تؤخذ بمعزِلٍ عن العترة الطاهرة، فَهُم عِدلُ القرآن، وعندهم ظاهره وباطنه، ومحكمه ومتشابهه، وناسخه ومنسوخه.
غفل هؤلاء عن أنَّ النَّصر في الدُّنيا لا يلزم أن يكون فورياً للمؤمنين، بل قد يكون مؤجلاً إلى أجلٍ قد يدركونه وقد لا يُوَفَّقون لذلك، فيكون نصراً مذخوراً لمؤمنين آخرين يأتون في زمنٍ آخر!
وهذا المعنى ليس عزيزاً في كلام الله وكلام أوليائه، كما في قصَّة عيسى عليه السلام، فعن الصادق عليه السلام: إِنْ قُلْنَا لَكُمْ فِي الرَّجُلِ مِنَّا قَوْلًا فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ كَانَ فِي وَلَدِهِ أَوْ وَلَدِ وَلَدِهِ فَلَا تُنْكِرُوا ذَلِكَ!
إِنَّ الله أَوْحَى إِلَى عِمْرَانَ أَنِّي وَاهِبٌ لَكَ ذَكَراً مُبَارَكاً يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَيُحْيِي المَوْتَى بِإِذْنِي، وَجَاعِلُهُ رَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَحَدَّثَ بِذَلِكَ امْرَأَتَهُ حَنَّةَ وَهِيَ أُمُّ مَرْيَمَ، فَلَمَّا حَمَلَتْ بِهَا كَانَ حَمْلُهَا عِنْدَ نَفْسِهَا غُلَاماً ﴿فَلَمَّا وَضَعَتْها﴾ أُنْثَى ﴿قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى.. وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى﴾ لِأَنَّ الْبِنْتَ لَا تَكُونُ رَسُولًا.. فَلَمَّا وَهَبَ الله لِمَرْيَمَ عِيسَى (ع) كَانَ هُوَ الَّذِي بَشَّرَ الله بِهِ عِمْرَانَ وَوَعَدَهُ إِيَّاهُ (تفسير القمي ج1 ص101).
فبشارة الله تعالى لعمران بالولد المبارك الرَّسول لم تكن في ولده المباشر، بل في ابن ابنته مريم عليها السلام.
وبشارة الله للأنبياء والرُّسل والمؤمنين بالنَّصرِ في الدُّنيا، ليست بشارةً بِنَصرٍ في كلِّ حَربٍ يخوضونها، بل بشارةٌ بالنَّصر بمعنيين:
المعنى الأول: النَّصر بالمهدي عليه السلام
والمعنى الثاني: النَّصر في الرَّجعة
أمّا المعنى الأول: النصر بالمهدي (ع)
فقد دلَّت عليه أخبارٌ عديدة، منها ما روي عن الصادق عليه السلام أنَّ الله تعالى لما أسرى بالنبيِّ (ص) إلى السماء حُدِّث عن اختباره بثلاث، منها قتل أهل بيته وظلمهم وقهرهم، ثم قال تعالى بعد ذكر قتل الحسين عليه السلام: ثُمَّ أُخْرِجُ مِنْ صُلْبِهِ ذَكَراً بِهِ أَنْصُرُكَ..
وفي نسخة أخرى: ثُمَّ أُخْرِجُ مِنْ صُلْبِهِ ذَكَراً أَنْتَصِرُ لَهُ بِهِ.. يَمْلَأُ الْأَرْضَ بِالْعَدْلِ!
صَبَرَ النبيُّ على شدة البلاء الذي نزل عليه وعلى آل بيته، ثم خاطب ربه: وَقَدْ أَخْبَرْتَنِي مِمَّا يَلْقَوْنَ مِنْ بَعْدِي، وَلَئِنْ [وَلَوْ] شِئْتَ لَأَعْطَيْتَنِي النَّصْرَ فِيهِمْ عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيْهِمْ، وَقَدْ سَلَّمْتُ وَقَبِلْتُ وَرَضِيتُ! (كامل الزيارات ص332).
هذا نَصٌّ صريحٌ بأنَّ الله تعالى ما أعطى العترة الطاهرة النَّصر في أيامهم، بل ادَّخَرَهُ لهم على يد المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف.
وهو ما جرى فعلاً، حيثُ خاطب الإمام الحسين عليه السلام ربَّه لما رُميَ ابنه عبد الله بسهمٍ فذُبح في حجره، قال: رَبِّ إِنْ تَكُنْ حَبَسْتَ عَنَّا النَّصْرَ مِنَ السَّمَاءِ فَاجْعَلْ ذَلِكَ لِمَا هُوَ خَيْرٌ! وَانْتَقِمْ لَنَا مِنْ هَؤُلَاءِ القَوْمِ الظَّالِمِين (الإرشاد ج2 ص108).
فلقد حُبِسَ النَّصرُ عن الأئمة الأطهار في أيامهم، وهم معصومون مُطَهَّرُون لا يعصون الله طرفة عين، وأبى الله تعالى أن تجري الأمور إلا بأسبابها، وقد ادَّخَرَ لهم نصراً على يد المهدي المنتظر في الدُّنيا، وآخر يوم يقوم الأشهاد.
وأما المعنى الثاني: النَّصر في الرجعة
فمِمّا دلَّ على ذلك قول الصادق عليه السلام عندما سئل عن آية النَّصر نفسها: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذينَ آمَنُوا فِي الحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ﴾، قال عليه السلام: ذَلِكَ وَالله فِي الرَّجْعَةِ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ أَنْبِيَاءَ كَثِيرَةً لَمْ يُنْصَرُوا فِي الدُّنْيَا وَقُتِلُوا، وَالْأَئِمَّةَ بَعْدَهُمْ قُتِلُوا وَلَمْ يُنْصَرُوا، ذَلِكَ فِي الرَّجْعَة (تفسير القمي ج2 ص259).
حينها لا يرجع إلا مَنْ مَحَضَ الْإِيمَانَ مَحْضاً أَوْ مَحَضَ الشِّرْكَ مَحْضاً (مختصر البصائر ص107).
ورغم أنَّ الإمام الحسين عليه السلام كان موعوداً بالنَّصر: أَشْهَدُ أَنَّ لَكَ مِنَ الله مَا وَعَدَكَ مِنَ النَّصْرِ وَالْفَتْحِ (كامل الزيارات ص217).
إلا أنَّ هذا النَّصر لم يكن في أيامه بل في الرجعة، ففي زيارته: قَتِيلِ العَبَرَةِ، وَسَيِّدِ الأُسْرَةِ، المَمْدُودِ بِالنُّصْرَةِ يَوْمَ الكَرَّةِ! (مصباح المتهجد ج2 ص826).
بهذا يتبيَّن أنَّ المؤمن لم يوعد بالنَّصر في كلِّ آنٍ وحين، كيف ونحن لسنا في دولة الحق، دولة آل محمدٍ عليهم السلام، فعن الباقر عليه السلام: دَوْلَتُنَا آخِرُ الدُّوَلِ، وَلَنْ يَبْقَ أَهْل بَيْتٍ لهُمْ دَوْلَةٌ إِلَّا مُلِّكُوا قَبْلَنَا.. (الغيبة للطوسي ص473).
وعن الصادق عليه السلام: دَوْلَةُ إِبْلِيسَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَهُوَ يَوْمُ قِيَامِ القَائِمِ (تأويل الآيات الظاهرة ص780).
وعن الباقر عليه السلام: إِذَا قَامَ القَائِمُ (ع) ذَهَبَتْ دَوْلَةُ البَاطِل (الكافي ج8 ص287).
ولطالما قتل أنبياء الله ورسله، قال تعالى: ﴿وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَق﴾ (آل عمران181).
وقد أخطأ من أوجب على الله تعالى النَّصر في كلِّ حَربٍ، فإنَّ المؤمن ينتظر من الله تعالى إحدى الحسنيين: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْن﴾ (التوبة52).
وهما في حديث الصادق عليه السلام:
1. أَمَا إِنَّكُمْ إِنْ بَقِيتُمْ حَتَّى تَرَوْا مَا تَمُدُّونَ إِلَيْهِ رِقَابَكُمْ شَفَى الله صُدُورَكُمْ وَأَذْهَبَ غَيْظَ قُلُوبِكُمْ وَأَدَالَكُمْ عَلَى عَدُوِّكُمْ..
2. وَإِنْ مَضَيْتُمْ قَبْلَ أَنْ تَرَوْا ذَلِكَ مَضَيْتُمْ عَلَى دِينِ الله.. (المحاسن ج1 ص170).
وما يمدُّ إليه الشيعة رقابهم هو ظهور الإمام الحجة الذي به يذهب الله غيظ القلوب، ويشف به الصدور، ويُديلهم وينصرهم على عدوهم.
وإن لم يبلغوا ذلك وقتلوا، كانت الشهادة في سبيل الله إحدى الحسنيين.
وأصرح منه ما في الحديث الشريف في تفسير الحسنيين: إِمَّا مَوْتٌ فِي طَاعَةِ الله، أَوْ إِدْرَاكُ ظُهُورِ إِمَام (الكافي ج8 ص286).
هل أراد الله بنا شرَّاً؟!
ما تَقدَّمَ كان مختصَّاً بقتال المؤمنين حيث ينبغي أن يقاتلوا، فإن الله قد ينصرهم، وقد يحجب عنهم النَّصر ويؤجله لحكمةٍ.
لكنَّ هناك صُوَراً يكون المؤمنون فيها من أهل التقصير، فيخالفون أمرَ الله تعالى، كما لو تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فسلَّط عليهم شرارهم بما كسبت أيديهم! حينها يعجز هؤلاء حتى عن الدِّفاع عن أنفسهم!
وكما لو أثاروا الغبرة، فإنَّها ترتدُّ عليهم، وتؤذيهم، ولا يُنصَرون!
وفيما روي عن الإمام الكاظم عليه السلام عبرةٌ للمؤمنين.. فكما جعل الله تعالى الذبابة مضرب مثلٍ في القرآن، روي عن الكاظم عليه السلام أنه قال: إِذَا أَرَادَ الله بِالذَّرَّةِ (أو بالنملة) شَرّاً أَنْبَتَ لَهَا جَنَاحَيْنِ فَطَارَتْ فَأَكَلَهَا الطَّيْر (تحف العقول ص403).
وهذا المعنى عجيبٌ منه عليه السلام، فإنَّ مِنَ النَّاس مَن يمدُّه الله تعالى بما يقدم به على ما فيه ضُرُّه أو هلاكه!
إنَّ الله تعالى لا يريد بالعباد شَرَّاً أبداً، لكنَّه قد يطبع على قلوبهم بأفعالهم، كما في الحديث: مَنْ أَرَادَ الله بِهِ شَرّاً طَبَعَ عَلَى قَلْبِهِ، فَلَا يَسْمَعُ وَلَا يَعْقِلُ (تفسير القمي ج2 ص303).
وعن الصادق عليه السلام: إذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ شَرّاً فَأَذْنَبَ ذَنْباً أَتْبَعَهُ بِنِعْمَةٍ لِيُنْسِيَهُ الِاسْتِغْفَارَ وَيَتَمَادَى بِهَا (الكافي ج2 ص452).
فالله تعالى لا يريد بعباده إلا الخير، لكنَّهم بقبيح فِعالهم يرتكبون ما يكون سبباً في سلبهم التوفيق، وإيكالهم إلى أنفسهم، وحتى استدراجهم من قبل الله تعالى.
إنَّ من الناس من يصيرُ بِعَمَاهُ مثالاً لقول أمير المؤمنين عليه السلام عندما رأى رجلاً يسعى على عدوٍّ له بما فيه إضرارٌ بنفسه، أي يقدم على شيءٍ يضرُّ به عدوَّه ويضرُّ به نفسه، فقال عليه السلام: إِنَّمَا أَنْتَ كَالطَّاعِنِ نَفْسَهُ لِيَقْتُلَ رِدْفَه! (نهج البلاغة ح296 أو 302).
فهذا الرَّجل أراد أن يؤذي عدوَّه الذي جلس خلفه على الفرس أو الناقة، فطعن نفسه ليصيب عدوَّه! وليس هذا من العقل في شيء أبداً!
نَحنُ لا نَعرِفُ هل أنَّ الله تعالى حَجَبَ عنّا النصر اليوم ليزيد في بلائنا وامتحاننا ودرجاتنا وقُربنا منه تعالى، كما حجبه عن كثيرٍ من أنبيائه ورسله وجعل صبرهم في ميزان حسناتهم، وباباً للرِّفعة عنده تعالى.
أم أنَّه تعالى حَجَبَه عنّا لأنّا استصغرنا أمر عدونا وقد نُهينا عن ذلك، وأَثَرنَا الغبرة فارتدَّت علينا، وأعجبتنا كثرتنا فلم تغنِ عنا شيئاً، وتركنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فسلَّط علينا من لا يرحمنا.
أم لغير ذلك من الأسباب..
وكيفما كان.. فإنَّ المؤمن العاقل هو الذي ينظر كلَّ يومٍ فيما قدَّم، ويحاسب نفسه قبل أن يحاسَب، فإن أخطأ استغفر وتاب وأناب، ورجع إلى ربِّه عالماً أن النَّصر إن كُتِبَ له فلا يكون بكثرة العدد والعدَّة، بل بالتوكل على الله ثمَّ الصبر.
لا يشكُّ المؤمنون أنَّ النصر من عند الله، وأنَّه إن نَصَرَهم فلا غالب لهم، وإن خذلهم فلا ناصر لهم، لكنَّهم يعلمون أنَّ الله تعالى قد يحجب النصر ليبتلي عباده، قال تعالى: ﴿وَلَوْ يَشاءُ الله لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ﴾ (محمد4).
لذا.. لم يبق لدينا بعد العَودِ إلى الله، والنَّظَرِ فيما أوصَلَنَا إلى ما نحن فيه، ومحاسبة أنفسنا، والصبر والتحمُّل.. لم يبق إلا الدُّعاء، ففيه النجاة من الأعداء بعد العمل بالأسباب.
قَالَ النَّبِيُّ (ص): أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى سِلَاحٍ يُنْجِيكُمْ مِنْ أَعْدَائِكُمْ وَيُدِرُّ أَرْزَاقَكُمْ؟!
قَالُوا: بَلَى.
قَالَ: تَدْعُونَ رَبَّكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَإِنَّ سِلَاحَ المُؤْمِنِ الدُّعَاءُ (الكافي ج2 ص468).
نسأل الله تعالى أن يرفع هذه الغمَّة عن المؤمنين، وأن يخذل عدوَّهم، ويردَّ كيده إلى نحره، ويحفظهم بحفظه، ويرعاهم برعايته، وأن ينظر إليهم إمامُهم المهدي المنتظر نظرة عطف وشفقة ينتشلهم بها مما هم فيه عاجلاً غير آجل.
رَبِّ إني مغلوبٌ فانتصر..
ولا حول ولا قوَّة إلا بالله
الثلاثاء 10 جمادى الأولى 1446 الموافق 12-11-2024 م