بسم الله الرحمن الرحيم
عندما أخبر الله تعالى ملائكته أنه سيجعل في الأرض خليفة، قالت الملائكة: ﴿أَ تَجْعَلُ فيها مَنْ يُفْسِدُ فيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ﴾ (البقرة30).
لقد سبقَ أن رأى الملائكة سفكاً للدماء قبل آدم عليه السلام، وإفساداً في الأرض.. فقدَّروا أو علموا أن المخلوقات الجديدة ستُعيدُ الكرَّة.
لقد روي عن الصادق عليه السلام قوله: وما علم الملائكة.. لو لا أنهم قد كانوا رأوا من يُفسِدُ فيها ويسفِكُ الدماء (تفسير العياشي ج1 ص29).
فالملائكة قد رأوا من سفك الدماء ما لا نعلمه.
ولكن..
رغم أنَّهم شاهدوا الكثير مما لا نعرفُ مقداره وصورته قبل نشأة آدم عليه السلام.. إلا أن موقفاً في هذه الدُّنيا أثار في الملائكة التَعَجُّب!
وهو صَبرُ سَيِّدِ الشهداء الحسين بن عليٍّ عليه السلام!
لقد ورد في إحدى زيارات الإمام الحسين عليه السلام، المروية عن الإمام الحجة عليه السلام لأحد أبوابه:
وَقَدْ عَجِبَتْ مِنْ صَبْرِكَ مَلَائِكَةُ السَّمَاوَات! (المزار الكبير لابن المشهدي ص504).
للملائكة منزلةٌ عظيمةٌ.. لقد رأوا من عظمة الله شيئاً عجيباً.. وعرفوا من هذا الكون الفسيح ما لا نعلم.. لكنَّ صبر سيد الشهداء أثار تَعَجُّبَهُم!
فعلى أيِّ شيء صَبَرَ سلامُ الله عليه؟
وما قصَّةُ صبرِهِ هذا؟!
لقد روي عن الباقر عليه السلام أنه قال:
أُصِيبَ الحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ (ع) وَوُجِدَ بِهِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَبضعا [بِضْعٌ] وَعشرين [عِشْرُونَ] طَعْنَةً بِرُمْحٍ، أَوْ ضَرْبَةً بِسَيْفٍ، أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ!
فَرُوِيَ أَنَّهَا كَانَتْ كُلُّهَا فِي مُقَدَّمِهِ لِأَنَّهُ (ع) كَانَ لَا يُوَلِّي (الأمالي للصدوق ص164).
هذه أرقامٌ تُنقَل.. تُعَدُّ وتُحصى.. تزيد عن الثلاثمائة.. بين طعنةٍ وضربةٍ ورمية..
لكنَّ كلِّ واحدة منها هي بلاءٌ وامتحانٌ بنفسه.. وإصابةٌ بنفسها..
لها قصَّةٌ.. وفاعلٌ.. ونتيجةٌ وأثرٌ في جسد الحسين الطاهر..
لم يتغيَّر حالُ الإمام، بين أوَّلها وآخرها.. لا فرق عنده في الصبر بين الضربة الأولى والأخيرة.. فهو الإمام الصابر.. الذي عجبت لصبره ملائكة السماء!
إنَّ مِنَ النَّاس من يحتملُ ضربةً وضربتين وثلاث.. ثمَّ يبدأ الضعف والوهن في نفسه.. حتى يتراجع أو يستسلم، أو يفارقه الصبر فيجزع..
لكنَّه عليه السلام كان وبعض من معه كلَّما اشتدَّ الأمر (تُشْرِقُ ألوَانُهُمْ! وَتَهْدَأُ جَوَارِحُهُمْ! وَتَسْكُنُ نُفُوسُهُم!).
فأيُّ عظمةٍ هذه؟!
تشيرُ زيارة الناحية المقدسة تلك إلى بعض ما جرى على الحسين الشهيد.. الذي قاتل قوماً نكثوا بيعته.. وبدؤوه بالحرب.. فطحن جنودهم..
يخاطبه الإمام المنتظر فيقول: فَلَمَّا رَأَوْكَ ثَابِتَ الجَأْشِ، غَيْرَ خَائِفٍ وَلَا خَاشٍ، نَصَبُوا لَكَ غَوَائِلَ مَكْرِهِمْ، وَقَاتَلُوكَ بِكَيْدِهِمْ وَشَرِّهِمْ!
رأى القومُ قُوَّةً كأنَّها قُوَّة عليٍّ الكرَّار.. وخافوا الهزيمة والموت على يديه.. فلجؤوا إلى المكر والخديعة.. مع كثرة عددهم.. وقلَّة ناصريه!
منعوه الماء.. ورشقوه بالسِّهام والنِّبال.. فتحمَّل الأذى في جنب الله..
يقول الإمام المنتظر عجل الله فرجه:
وَأَحْدَقُوا بِكَ مِنْ كُلِّ الجِهَاتِ، وَأَثْخَنُوكَ بِالجِرَاحِ، وَحَالُوا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الرَّوَاحِ، وَلَمْ يَبْقَ لَكَ نَاصِرٌ، وَأَنْتَ مُحْتَسِبٌ صَابِرٌ، تَذُبُّ عَنْ نِسْوَتِكَ وَأَوْلَادِكَ.
لم يكُن قتالاً منصِفاً.. فما قاتلوه كما يفعل أصحاب الشَّرَف والمروءة.. إنَّهم قومٌ انعدمت فيهم المُثُلُ والأخلاق.. فتكالبوا عليه.. وعمدوا إلى كلٍّ مَكرٍ وشَرٍّ يقدرون عليه.. ولم يتركوا له من ناصر..
إنَّ الساعة التي صار فيها الإمام بلا ناصرٍ هي من أشَقِّ الساعات.. لكنَّه كان يحتسبُ ذلك عند الله تعالى، ويصبر على ما ينالُ من أذى في جنب الله.. والملائكة يَعجَبون ويَعجَبون!
كان يَذُبُّ عن نسوته وأولاده ما دام فيه قدرةٌ على ذلك..
حَتَّى نَكَسُوكَ عَنْ جَوَادِكَ، فَهَوَيْتَ إِلَى الأَرْضِ جَرِيحاً، تَطَؤُكَ الخُيُولُ بِحَوَافِرِهَا، وَتَعْلُوكَ الطُّغَاةُ بِبَوَاتِرِهَا، قَدْ رَشَحَ لِلْمَوْتِ جَبِينُكَ، وَاخْتَلَفَتْ بِالانْقِبَاضِ وَالِانْبِسَاطِ شِمَالُكَ وَيَمِينُكَ..
لا حول ولا قوَّة إلا بالله..
كيف احتملت هذه الأرض التي هوى عليها بدناً طاهراً كبدن الحسين عليه السلام؟!
لقد أعدَّها الله لذلك.. ليكون ضريحه فيها قبلة الموالين..
ثمَّ كيف انقادت الخيول لأصحابها فوطأت صدر الحسين؟!
الله يعلم كيف جرى ذلك.. وهو صابرٌ.. والملائكة يعجبون ويعجبون!
لكنَّ الذي يكسر قلب الغيور.. قولُ الإمام المنتظر لجده الحسين عليهما السلام:
تُدِيرُ طَرْفاً خَفِيّاً إِلَى رَحْلِكَ وَبَيْتِكَ، وَقَدْ شُغِلْتَ بِنَفْسِكَ عَنْ وُلْدِكَ وَأَهْلِكَ، وَأَسْرَعَ فَرَسُكَ شَارِداً، وَإِلَى خِيَامِكَ قَاصِداً، مُحَمْحِماً بَاكِياً!
لقد صَبَرَ الحسين عليه السلام أيضاً حين أدار طرفاً خفياً لنسائه وعياله.. وهو لا يقدر على النهوض للذَّبِّ عنهم..
في ساعاته الأخيرة.. كانت بواترُ الطغاة تعلو حُسيناً.. لكنَّ طرفه كان عند رحله وخيامه وعياله! رغم ذلك.. كان صابراً محتسباً!
فيا لله وللصَّبر..
لقد روي عن الصادق عليه السلام قوله:
إِنَّ مَنْ صَبَرَ صَبَرَ قَلِيلًا، وَإِنَّ مَنْ جَزِعَ جَزِعَ قَلِيلًا (تفسير القمي ج1 ص196).
فكلُُّ من صَبَرَ في الدُّنيا كان صبرُهُ قليلاً في قبال ما سيناله في الآخرة.. لكنَّ صبر الحسين رغم أنه كان في الدُّنيا.. ما كان قليلاً.. بل كان عظيماً إلى حَدِّ أن تعجَّبَت له ملائكة السماء!
يأمر الإمام الصادق بالصبر في جميع الأمور، لأنَّ الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وآله وأمره بالصبر ﴿وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ﴾، فَصَبَرَ صلى الله عليه وآله على ما يقولون، وعلى ما يُنزِلُون به من بلاء.. فإنهم: قَابَلُوهُ بِالعَظَائِمِ وَرَمَوْهُ بِهَا، فَضَاقَ صَدْرُهُ.. ثُمَّ كَذَّبُوهُ وَرَمَوْهُ..
فَصَبَرَ رَسُولُ الله (ص) فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، ثُمَّ بُشِّرَ فِي الأَئِمَّةِ مِنْ عِتْرَتِهِ، وَوُصِفُوا بِالصَّبْرِ ﴿وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا﴾.
وإذا كان الصبر رأس الإيمان.. فكيف لا يكون صبرُ الإمام العظيم عظيماً؟!
لقد أمر تعالى بالصبر الجميل: ﴿فَاصْبِرْ صَبْراً جَميلا﴾، وهو: صَبْرٌ لَيْسَ فِيهِ شَكْوَى إِلَى النَّاسِ.
فما اشتكى الإمام الحسين عليه السلام إلى أحدٍ سوى إلى ربه.
لقد ألقى الحجةَ على القوم.. ثمَّ صَبَر.. وهو العالم بأنَّ جزاء الصبر نصراً ومدداً من الله تعالى..
هو العالم بسنة الله تعالى، وبقوله عزَّ وجل: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا﴾.
كان الإمامُ يعلم أنَّ النصر آتٍ لا محالة.. لكنَّ الحكمة اقتضت تأجيله وتأخيره.. إلى يوم ظهور المنتظر.. ويوم الكرَّة.. ويوم القيامة..
لذا خاطب عليه السلام ربَّه لما رُميَ ابنه عبد الله بسهمٍ فذُبح في حجره.. قال: رَبِّ إِنْ تَكُنْ حَبَسْتَ عَنَّا النَّصْرَ مِنَ السَّمَاءِ فَاجْعَلْ ذَلِكَ لِمَا هُوَ خَيْرٌ! وَانْتَقِمْ لَنَا مِنْ هَؤُلَاءِ القَوْمِ الظَّالِمِين (الإرشاد ج2 ص108).
لأيِّ صبرٍ يتعجَّبُ الملائكة وسائر العباد؟!
لصبره وهو يرى دماء ولده تسيل وهو في حجره؟!
أم لصبره وهو يرى ولده الآخر يموت على صدره.. فيخاطبه قائلاً: على الدنيا بعدك العفا!
أم لصبره عندما احترق قلبه على ولده.. وهو الذي نقول في زيارته:
بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي مِنْ مُقَدَّمٍ بَيْنَ يَدِي أَبِيكَ، يَحْتَسِبُكَ وَيَبْكِي عَلَيْكَ، مُحْتَرِقاً عَلَيْكَ قَلْبُهُ، يَرْفَعُ دَمَكَ بِكَفِّهِ الى أَعْنَانِ السَّمَاءِ لَا يَرْجِعُ مِنْهُ قَطْرَةٌ، وَلَا تَسْكُنُ عَلَيْكَ مِنْ أَبِيكَ زَفْرَةٌ (كامل الزيارات ص239).
أم لصبره وهو قائمٌ على رأس القاسم بقية الحسن عليه السلام.. يقول له: عَزَّ وَالله عَلَى عَمِّكَ أَنْ تَدْعُوَهُ فَلاَ يُجِيبَكَ، أَوْ يُجِيبَكَ ثُمَّ لاَ يَنْفَعَكَ، صَوْتٌ وَالله كَثُرَ وَاتِرُهُ وَقَلَّ نَاصِرُهُ!
أم لصبره وصدرُ القاسم على صدره! يحمله ليضعه مع ابنه وسائر القتلى؟!
أم لصبره على عبد الله بن مسلم بن عقيل الذي (اعتوره الناس فقتلوه)!
أم لصبره على فتىً من آل الحسين، قال عنه قائلهم: رميت فتىً من آل الحسين ويده على جبهته فأثبتُّها فيها! وجعلت أنضنض سهمي حتى نزعته من جبهته! وبقي النصل فيها! (جمل من أنساب الأشراف للبلاذري ص406).
آهٍ ثمَّ آهٍ لصبرك يا حسين..
لقد روت بعضُ المصادر أنَّ الحسين لما مُنِعَ الماء، واستسقى، فما أجابوه.. جاءه رجلٌ بماءٍ.. أعطاهُ قدحاً من الماء..
خالفَ هذا الرَّجلُ أصحابه وأعطى الحسين قدحاً..
لكن.. يقال أنهَّ: لما وضعه في فيه رماه الحُصَين بن نمير بسهم، فدخل فَمَه! وحال بينه وبين شرب الماء، فوضع القدح من يده (الأخبار الطوال للدينوري ص258).
ويقال أنه: جعل يتلقى الدم بيده، ويحمد الله! (الطبقات الكبرى ج1 ص472).
فلا حول ولا قوَّة إلا بالله.. أيُّ بلاءٍ هذا.. وأيُّ صبرٍ عليه..
هذا واحدٌ من بلاءاتٍ كثيرة رأتها ملائكة السماء.. وعجبت من صبره عليها..
بلاءاتٌ في أهله وعياله عليه السلام.. وأخرى في نفسه الشريفة..
يُروَى أنَّ شمراً نادى في الناس:
ما بالكم تحيدون عن هذا الرجل؟ ما تنتظرون؟ اقتلوه ثكلتكم امهاتكم! فحملوا عليه من كل جانبٍ، فضربه زرعة بن شريك التيمي على كفه اليسرى، وضُرِبَ على عاتقه، ثم انصرفوا عنه وهو ينوء ويكبو (جمل من أنساب الأشراف ج3 ص409).
فلا حول ولا قوَّة إلا بالله.
كلُّ هذا كان قبل الواقعة العظمى..
قبل أن يطعنوه بالرمح ويوقعوه عن جواده..
وقبل أن يحتزّوا الرأس المبارك الطاهر..
وقبل أن يُحمل الرأس الشريف!
وقبل أن يوطؤوا الخيل صدره..
فلا حول ولا قوة إلا بالله.
نعم.. كيف لا تعجَبُ ملائكة السماء.. وقد رَأَت ما رَأَت..
نحنُ نعجبُ من بعض ما نقرأ.. ولا نستطيع فهمَه ولا إدراك حقيقته..
لقد نُقِلَت عن سِنَان اللعين كلماتٌ لا يزالُ العقلُ فيها حائراً..
عندما سأله الحجاج كيف صَنَعَ بالحسين عليه السلام.. فقال:
دَسَرْتُهُ بِالرُّمْح دَسْراً !! وَهَبَرْتُهُ بِالسَّيْفِ هَبْراً !! (جمل من أنساب الأشراف ص418).
الدَّسرُ هو الطَّعن.. والهَبرُ هو القَطع في اللحم !! الذي يوغِلُ فيه!
فلا حول ولا قوة إلا بالله..
هذا بعضُ ما نقله التاريخ مما يحارُ العقل فيه..
وسواه مما نُعرِضُ عن ذكره..
لكنَّنا نعلمُ أنَّ الله تعالى سيجزيه أعظم الجزاء..
قال تعالى: ﴿وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (النحل96).
ها هم المؤمنون يكرِّرون في سجدة الشكر ما كان يدعو به الإمام الكاظم عليه السلام، بعد ذكر الأئمة الأطهار، فيقولون كما قال عليه السلام:
اللَّهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُكَ دَمَ المَظْلُومِ ! ثَلَاثاً (الكافي ج3 ص325).
اللهم إننا ننشدك دم المظلوم الصابر.. أن تُعَجِّل في الأخذ به.. وأن تجعلنا ممَّن يكرُّ معه في رجعته.. وينتصرُ له.. وينتقم من قاتليه، وأن تجزيه أحسن جزاء الصابرين.
وإنا لله وإنا إليه راجعون
ليلة الجمعة، الليلة الثانية من محرم 1445 هـ، الموافق 20 – 7 – 2023 م