مقال5: عليٌّ ينير طريق الملحدين
بسم الله الرحمن الرحيم(1)
بعدما تبين فيما سبق إقرار الملحدين بالعجز عن نفي وجود الله تعالى، وبعدما تاهوا في معرفة مصدر الخلق وأقروا بالجهل إقراراً تاماً، كان أفضل ما يرفع الحيرة والجهل بعض كلمات خزان علم الله تعالى وتراجمة وحيه، الذين جعلهم الله تعالى حججه في التبليغ ليثيروا للناس (دفائن العقول)، فيستضيئوا بنور العلم، ويلجؤوا إلى ركن وثيق، فتغمرهم الهداية ويبتعدوا عن سبل الضلال..
وَمَن أولى بذلك من أمير المؤمنين (عليه السلام)..
هذه كلمة قالها علي بن أبي طالب (عليه السلام) في إحدى خطبه في التوحيد:
وكلُّ صانِعِ شيءٍ فمِن شَيءٍ صَنَع، والله لا مِن شيء صنع ما خلق(2)..
أما الفقرة الأولى فمُسَلَّمة عند كل البشر، فلا يتمكن أحد من صنع شيء إلا إن وُجدت عنده المواد ليصنع منها ما يشاء.
وثاني الفقرات محط الرحال.. ما خلقه الله تعالى.. فإنه خلق الأشياء (لا من شيء)، في حين قال الملحدون أن الكون وجد (من لا شيء):
كوننا انبثق -تحديداً- من لا شيء(3)..
وبين (لا من شيء) و(من لا شيء) فرق هائل..
فالأولى تعني فيما تعني أنه خلق الأشياء من غير شيء سابق في الوجود، أي لم يكن هناك شيء فخلق الله تعالى الأشياء.
أما الثانية وهي قولهم (من لا شيء) فإن في العبارة نفسها تهافتاً واضحاً، إذ تثبت (وجود شيء) هو (لا شيء)، فيثبت وجود الشيء وعدمه في آن واحد! وهو التناقض بديهي البطلان.
وقد وضّح الشيخ الكليني رحمه الله ذلك بأوضح بيان في تعليقه على خطبة أمير المؤمنين التي تحسن مراجعتها بقوله:
وهذه الخطبة من مشهورات خطبه (عليه السلام) حتى لقد ابتذلها العامة، وهي كافية لمن طلب علم التوحيد إذا تدبرها وفهم ما فيها، فلو اجتمع ألسنة الجن والإنس ليس فيها لسان نبيّ على أن يبينوا التوحيد بمثل ما أتى به بأبي وأمي ما قدروا عليه..
ألا ترون إلى قوله: لا من شيء كان ولا من شيء خلق ما كان.
فنفى بقوله (لا من شيء كان) معنى الحدوث..
فدفع (عليه السلام) بقوله (لا من شيء خلق ما كان) جميع حجج الثنوية وشبههم .. فقولهم (من شيء) خطأ، وقولهم (من لا شيء) مناقضة وإحالة لأن (من) (توجب شيئاً) و(لا شيء) (تنفيه) فأخرج أمير المؤمنين (عليه السلام) هذه اللفظة على أبلغ الألفاظ وأصحها فقال (لا من شيء خلق ما كان) فنفى (من) إذ كانت توجب شيئاً ونفى (الشيء) إذ كان كل شيء مخلوقاً محدَثا لا من أصل(4)..
وبيّنها الميرداماد كذلك فقال:
فالصحيح ان الله أوجد الاشياء (لا من شيء) لا أنه أوجدها (من لا شيء) أو (من شيء).
فاذا قيل: هل الخالق خلق الاشياء (من شيء) أو (من لا شيء)؟
لم يستحق الجواب بل كان الحق سلب طرفي السؤال جميعاً، واختيار قسم آخر ثالث هو أنه خلقها (لا من شيء).
ثم يجب أن يعلم أنه لا يعني بالعدم واللاشيء الا الانتفاء المحض، أي أنه لا شيء هناك أصلا لا أن هناك شيئا ما يعبر عنه بالانتفاء وباللاشيء، فاذن قولهم «من لا شيء» قول متهافت متناقض، وانما الصحيح (لا من شيء)(5).
لقد أكد الأئمة (عليهم السلام) مراراً على هذا المعنى وبيّنوه بوضوح وأرشدوا العقول له لتهتدي من مكنونات علومهم إن خفي عنها ذلك:
فعن الإمام الصادق (عليه السلام): والله خالق الأشياء لا من شيء كان(6).
وعن أبي الحسن الثاني (عليه السلام): أن كل صانع شيء فمن شيء صنع والله الخالق اللطيف الجليل خلق وصنع لا من شيء(7).
لماذا إذاً وقع الملحدون فيما وقعوا فيه؟!
نسير معهم خطوة بخطوة لنرى كيف ترفع كلمات المعصومين (عليهم السلام) ما اشتبه عليهم شبهة تتلو أخرى وتخرجهم من التناقض.. فكلماتهم (عليهم السلام) ترشد العقول وتنير لها السبيل..
1. بداية الخلق السهلة!
يسلّم الملحدون عموماً وعلماؤهم على وجه الخصوص بأن هذا الكون بديعٌ، وأن نظامه معقد.. وقد كان من الضروري أن يسلك بهم هذا الاعتراف إلى طريق التسليم بأن للكون صانعاً عظيماً جداً، إذ لو كانت المخلوقات على هذا المنتهى من الإبداع فإنها كلها تدل على عظمة هذا الصانع.
وعظمة الصانع تقتضي التسليم بالعجز عن الإحاطة به بعد العجز عن الإحاطة بمصنوعاته ومخلوقاته.. لكن هؤلاء (سبق وقرروا أن لا يعتقدوا بوجوده) طالما أنهم لم يعرفوا كنه حقيقته.. فقالوا أنّه لا بد من شرح بداية (سهلة وبسيطة) يمكن فهمها!! وإلا فهو الإنكار!
يقول أحد علمائهم:
في الحقيقة إن كل العلماء يكافحون ويناضلون من أجل شرح كيف يمكن أن نحصل على النظام البديع والمُعقد للكون، لكنه ناتج عن بدايات سهلة وبسيطة، وبالتالي تكون سهلة على الفهم أيضاً(8)..
إذاً كيف تفسرون نشوء الكون أيها (العلماء)؟ يقولون بنظرية الانفجار الكوني و(التكوين العفوي)!
ثم إن سألتهم عن تفاصيلها أقروا بالجهل مجدداً، فإن النظرية (عصية على الفهم كذلك)!
وترى كل واحد منهم يتهرب من النتيجة التي يوصله إليها التسليم بأن هذا الإبداع الكوني لا بد له من مُبدِع، لأن التسليم بهذا المبدع سيلزم منه التسليم بعدم إمكان الإحاطة بهذا المبدِع، وهم قد التزموا بأنهم يريدون حصراً (بداية تكون سهلة) حيث قال دوكنز:
إذا كنت تتحدث عن الله وتعتبره ذكاءً خلاقاً إذن فأنت تتحدث عن شيء بالغ التعقيد وليس هناك احتمال لوجوده، وهو شيء يتطلب تفسيراً بذاته(9)..
إذاً هربوا من التسليم بالله للوصول إلى شيء قابل للفهم، ثم تاهت بهم السبل فرجعوا إلى التمسك بما أقروا عدم إمكان فهم البداية السهلة له.. إنه التناقض بعينه، ولا يرفعه إلا ما ذكره الأئمة (عليهم السلام).
2. الإله العصي على التفسير
في مقال مشترك للدكتور ريتشارد دوكنز Richard Dawkins (عالم الأحياء) وزميله في الإلحاد جيري كوين Jerry Coyne (أستاذ بيولوجيا أمريكي في جامعة شيكاغو) يقولان:
وأي نظرة فاحصة ودقيقة ستفترض بأن إلهاً ما قد خلق البكتيريا السوطية (على ما فيها من تعقيد ودقة متناهية) سيكون هو بذاته إلهاً بالغ التعقيد.. وبهذا سيتعين علينا إيجاد تفسير لهذا التعقيد الذي عليه هذا الإله المفترض.
ولن يكون حلاً أبداً لهذا التلازم المنطقي أن نأخذ بما يحتج به اللاهوتيون من أن هذا الإله أو (التصميم الذكي) إنما هو عصي على الخضوع للتفسيرات العلمية(10).
لكن زميلهما في الإلحاد أيضاً: بروفيسور الفيزياء (فيكتور ستينغر Victor Stenger) يتناقض معهما تماماً إذ يقول:
الأنظمة المعقدة لا تحتاج قواعد معقدة كي تتطور من اصول بسيطة، إذ يمكنها فعل ذلك بقواعد بسيطة ودون فيزياء جديدة..
ليخلص إلى القول:
بما أن كل ما نحتاجه هو قواعد بسيطة، فالمطلوب على الأغلب صانع بسيط ذو ذكاء محدود(11).
فانظر كيف أوصلهم الإلحاد إلى طلب صانع بسيط ذو ذكاء محدود تارة، وإلى صانع معقّد تارة أخرى..
إنه الغوص في الجهل والاستغراق في الأوهام فيما خص الخالق..
ثم أنظر كيف يستبعد هؤلاء فكرة وجود الإله الخالق الكامل بحجة أنه عصي على الخضوع للتفسيرات العلمية، في حين يقبلون بـ(التكوين العفوي للكون) وخلال (جزء من الثانية في الانفجار العظيم) كما يقولون.
فليرنا هؤلاء أي تفسير علمي يمكن أن يبينوا لنظريتهم العفوية، وفي أي مختبر ثبت عندهم (تكون عفوي) ناشئ من بساطة ليست عصية على الفهم!
إنهم بأنفسهم يصرحون بأنه:
ليس بمقدور أحد أن يفهم تفاصيل شيء كالانفجار العظيم(12).
وهو التناقض مجدداً.. ولا يرتفع إلا وفق كلمات المعصومين (عليهم السلام).
3. التناقض ثالثاً: كيف وجد الخالق؟
يواجه الملحدون مشكلة في استيعاب كيف وجد الخالق؟
يقول دوكنز:
ومرة أخرى المشكلة التي يثيرها المصمم نفسه هي أكبر: كيف وجد أساساً؟(13)
إنه يسلم بأن احتمال وجود طائرة معقدة لوحدها (دون صانع) احتمال ضعيف جداً، ولكنه يقول:
لو وجدت طائرة معقدة فإن احتمال وجود موجد لها معقد أكثر منها أيضاً يكون احتمالاً أكثر ضعفاً!!
وقد وقع هنا في مغالطة واضحة البطلان.. فإن وجود طائرة معقدة لا يكون دليلاً على عدم وجود صانع، بل يكون دليلاً على وجوده. بغض النظر عن معرفتنا بكيفية وجوده.
فإنا ندرك بالبداهة أنا لو وجدنا طائرة مصنوعة بتقنية متطورة جداً، لأدركنا أن هناك من صنعها سواء عرفنا من هو أم لا، وسواء عرفنا من صنعه أم لا.
وسواء كان هو مصنوعاً من صانع آخر، أم لم يكن مصنوعاً.
فنفس وجود الكون المعقد لا يكون دليلاً على عدم وجود الصانع، بل يكون دليلاً على وجوده، وعلى استغنائه عن الموجد.
بيان ذلك:
أنه إن كان احتمال تكوُّن الطائرة بدون مُكَوِّن ممتنعاً، فهذا لا يعني إلا شيئا واحداً أنّ لها صانعاً.
وهذا الصانع إما أن نفرض أن له صانعاً أو أنه ليس له صانع.
فعلى الفرض الثاني تمّ المطلوب وهو ثبوت صانع لا صانع له.
وعلى الفرض الأوّل.. نبحث عن صانعه إلى أن ينتهي الأمر إلى (أول صانع موجود): وحينها فإن (أول صانع موجود) لا موجد له بلا إشكال لأنا فرضناه الصانع الأول، وهذا هو ربنا..
إذ القول بأنه (أول صانع) وأن (له صانعاً) تناقض بيّن، فلا بد أن يكون (موجوداً دون أن يوجده أحد).
فإنا لما فرضنا أنه أول موجود، يمتنع أن يكون له موجد.
نعم يثبت بهذا أنه موجود غير مسبوق بالعدم، غير محتاج إلى أحد..
وبهذا يتضح أن الخالق تعالى على الفرضين هو خالق كل شيء غير مخلوق ولا مسبوق بالعدم.. وهو إله المسلمين.
بعبارة أخرى:
أنّه إن كان لا بد (بحسب التسلسل المنطقي) أن نؤمن بأن أول مخلوق قد أوجده خالق، فلا معنى لإنكار لا بدية الإيمان بحجة أنه سيولد لنا سؤالاً ثانياً، إنما يجب ان نؤمن بذلك ثم نبحث عن جواب السؤال الثاني.
وبعبارة ثالثة:
إن كانت نتيجة المعادلة 1 + 1 = 2 ولم نعرف تفاصيل الرقم 2 فلا يعني هذا إنكار كون النتيجة 2 بل لا بد من الإيمان بها ثم البحث عن تفاصيل الرقم2.
وبعد التسليم بأنه لا بد من خالق للكون كما لا بد من صانع للطائرة، ينتقل الكلام لصفات هذا الخالق..
ولا يمكن رفع إشكال التناقض إلا بكون الإله خالقاً غير مخلوق، غير مسبوق بالعدم، خالق الأشياء لا من شيء، وهو إلهنا وربنا الله تبارك وتعالى أحسن الخالقين.
ليس على الملحدين إلا التأمل في كلمات المعصومين (عليهم السلام).. ولا سبيل لنقلها كلها ههنا وهي معروفة مشهورة.. وكلها ترشد العقل إلى سبيله..
لقد صرحوا (عليهم السلام) بذلك.. فعن الرضا (عليه السلام): بِصُنْعِ الله يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ وَبِالْعُقُولِ تُعْتَقَدُ مَعْرِفَتُه(14).
ما أجمل هذه العبائر:
إِنَّ الشُّكَّاكَ جَهِلُوا الأَسْبَابَ وَالمعَانِيَ فِي الخِلْقَة.. ِ فَخَرَجُوا بِقَصْرِ عُلُومِهِمْ إِلَى الجُحُودِ وَبِضَعْفِ بَصَائِرِهِمْ إِلَى التَّكْذِيبِ وَالْعُنُودِ حَتَّى أَنْكَرُوا خَلْقَ الأَشْيَاءِ وَادَّعَوْا أَنَّ تَكَوُّنَهَا بِالْإِهْمَالِ لَا صَنْعَةَ فِيهَا وَلَا تَقْدِيرَ وَلَا حِكْمَةَ مِنْ مُدَبِّرٍ وَلَا صَانِع...
فَهُمْ فِي ضَلَالِهِمْ وَغَيِّهِمْ وَتَجَبُّرِهِمْ بِمَنْزِلَةِ عُمْيَانٍ دَخَلُوا دَاراً قَدْ بُنِيَتْ أَتْقَنَ بِنَاءٍ وَأَحْسَنَهُ وَفُرِشَتْ بِأَحْسَنِ الفُرُشِ وَأَفْخَرِه.. وَوُضِعَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مَوْضِعَهُ عَلَى صَوَابٍ مِنَ التَّقْدِيرِ وَحِكْمَةٍ مِنَ التَّدْبِيرِ فَجَعَلُوا يَتَرَدَّدُونَ فِيهَا يَمِيناً وَشِمَالًا، وَيَطُوفُونَ بُيُوتَهَا إِدْبَاراً وَإِقْبَالاً، مَحْجُوبَةً أَبْصَارُهُمْ عَنْهَا، لَا يُبْصِرُونَ بُنْيَةَ الدَّارِ وَمَا أُعِدَّ فِيهَا، وَرُبَّمَا عَثَرَ بَعْضُهُمْ بِالشَّيْءِ الَّذِي قَدْ وُضِعَ مَوْضِعُهُ وَأُعِدَّ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ وَهُوَ جَاهِلٌ لِلْمَعْنَى فِيهِ وَلِمَا أُعِدَّ وَلِمَاذَا جُعِلَ كَذَلِكَ، فَتَذَمَّرَ وَتَسَخَّطَ وَذَمَّ الدَّارَ وَبَانِيَهَا.
فَهَذِهِ حَالُ هَذَا الصِّنْفِ فِي إِنْكَارِهِمْ مَا أَنْكَرُوا مِنْ أَمْرِ الخِلْقَةِ وَثَبَاتِ الصَّنْعَة(15)..
ومسك الختام.. عن أمير المؤمنين (عليه السلام): وَلَا تَسْتَطِيعُ عُقُولُ المُتَفَكِّرِينَ جَحْدَهُ لِأَنَّ مَنْ كَانَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ فِطْرَتَهُ وَمَا فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ وَهُوَ الصَّانِعُ لَهُنَّ فَلَا مَدْفَعَ لِقُدْرَتِه(16).
صدق علي بن أبي طالب أمير المؤمنين.. فإنهم وإن جحدوا الخالق بألسنتهم، إلا أنه ليس للعقل أن يجحده تعالى، فكل ما في السماوات والأرض يرشد إليه.. تبارك وتعالى أحسن الخالقين..
(1) نشر هذا المقال في الثاني من صفر 1439 للهجرة.
(2) الكافي ج1 ص135.
(3) لورانس كراوس Lawrence Krauss في: كون من لا شيء ص22.
(4) الكافي ج1 ص136.
(5) التعليقة على أصول الكافي ص330.
(6) الكافي ج1 ص114.
(7) الكافي ج1 ص120.
(8) ريتشارد دوكنز في حوارات سيدني ص35-36.
(9) حوارات سيدني ص35-36.
(10) حوارات سيدني ص221.
(11) كتاب: الله.. الفرضية الفاشلة! ص69-70.
(12) وهم الإله ص148.
(13) وهم الإله ص121.
(14) توحيد الصدوق 35.
(15) توحيد المفضل ص44 وما بعدها.
(16) توحيد الصدوق ص32.