الصفحة الرئيسية

الكتب والمؤلفات :

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

  • الكتب والمؤلفات PDF (9)
  • عرفان آل محمد (ع) (17)
  • الإلحاد في مهب الريح (12)
  • قبسات الهدى (14)
  • الثالوث والكتب السماوية (6)
  • الثالوث صليب العقل (8)
  • أنوار الإمامة (6)
  • الوديعة المقهورة (6)

المقالات والأبحاث :

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

  • التوحيد والعدل (13)
  • سيد الأنبياء محمد ص (13)
  • الإمامة والأئمة (28)
  • الإمام عين الحياة (16)
  • أمير المؤمنين عليه السلام (24)
  • السيدة الزهراء عليها السلام (48)
  • سيد الشهداء عليه السلام (47)
  • الإمام المنتظر عليه السلام (9)
  • لماذا صرتُ شيعياً؟ (7)
  • العلم والعلماء (15)
  • الأسرة والمرأة (8)
  • مقالات اجتماعية (19)
  • مقالات عامة ومتنوعة (58)
  • الموت والقيامة (24)

إتصل بنا

أرشيف المواضيع

البحث :




جديد الموقع :


 شَهيدُ الهُدى.. الحُسَينُ بنُ عَليّ (عليه السلام)
 287. الإمام الجواد.. والشيعة في زمن الغيبة!
 286. هَل يُغلَبُ رُسُلُ الله وحِزبُه؟!
 285. هل أراد الله بنا (شرَّاً) فحَجَبَ عنَّا (النَّصر)؟!
 284. لن يُمحَقَ دينُ محمد (ص)!
 283. ما حُكمُ (الجِهَادِ) في أيامنا؟!
 282. الجواد.. إمامٌ يعلمُ ما في النفوس!
 281. ما من خالقٍ.. إلا الله!
 280. هل بينك وبين الله قرابة؟!
 279. المَهديُّ إمامٌ.. تبكيه العيون!

مواضيع متنوعة :


 81. عيدُ الأحزان.. لآل الرّسول !!
 23. لا نريدكم مع الحسين!!
 الفصل الثاني: ظلامَتها وقَهرُها
 176. نِعَمُ الله.. المَنسيَّة!
 244. عجباً لِصَبرِكَ.. يا حسين!
 226. تحدَّثوا.. فإنَّ الحديث جلاءٌ للقلوب!
 115. موائد النور.. لزوار الحسين !
 237. هل (يتمنّى) المؤمنُ الموت؟
 109. عاشوراء.. يومُ الذَّبيح !
 16. هل تكمِّمُ الشريعة الإسلامية الأفواه؟ وتعارض حرية التعبير؟

إحصاءات :

  • الأقسام الرئيسية : 2
  • الأقسام الفرعية : 22
  • عدد المواضيع : 356
  • التصفحات : 694852
  • التاريخ :



















  • القسم الرئيسي : الكتب والمؤلفات .
        • القسم الفرعي : الثالوث والكتب السماوية .
              • الموضوع : فصل4: ألوهية عيسى في الكتب السماوية .

فصل4: ألوهية عيسى في الكتب السماوية

فصل4: ألوهية عيسى في الكتب السماوية

بعدما تبيّن خلوّ الكتب السماوية الثلاثة من أي دليل على عقيدة الثالوث، قد يُستدلُ لهذه العقيدة بما يدلّ على ألوهيّة عيسى وربوبيّته وأنه هو الله تعالى.

وبحسب ما تبيّن في الفصول السابقة، لمّا ثبت أن الله تعالى واحدٌ، فإنّ كل ما يُستدلُّ به على ألوهية مَن سوى الله تعالى (عيسى أو غيره) يكون معارِضاً للتوحيد، فيلزمُ إما القولُ بالتناقض في الكتب السماوية، أو حَملُ أدلة ألوهيّة عيسى على فرض تماميّتها على ضَربٍ من التجوّز والاستعارة والتشبيه وأمثال ذلك مما تقدّم في الفصل الأول. ولا خيار ثالث بحكم العقل والكتب المقدسة نفسها.

وها نحن نستعرض ما استُدِلَّ به على ألوهيته في الكتب الثلاثة.

1. ألوهية عيسى في التوراة

1. الولد يكون إلها قديرا

وردت في رؤيا أشعياء نبوءةٌ تُفَسَّر عادة بولادة المسيح (عليه السلام)، وتتضمن ما يمكن أن يُستدل به على ألوهيته وعلى أنه الله تعالى، وهي: لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْنًا، وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيباً، مُشِيراً، إِلهًا قَدِيراً، أَبًا أَبَدِيًّا، رَئِيسَ السَّلاَمِ(1).

وتقريب الاستدلال أن تسميته باسمٍ عجيبٍ يتضمن إطلاق الألوهيّة عليه (إلهاً قديراً)، وهذا يدل على أن عيسى (عليه السلام) هو الله تعالى.

المناقشة فيه

ويرد عليه أمور:

أولاً: أن العهد القديم نفسه أطلق الألوهية على غير الله تعالى، في موارد عدّة. ورغم أن الإله الحقيقي هو الله تعالى وحده دون شك كما صرّح به العهد القديم(2)، لكنه يُطلِقُ هذا اللفظ أيضاً على مخلوقات الله تعالى دون أن يراد منه الألوهيّة الحقيقيّة والربوبيّة، فقد أُطلِقَ فيه على نبيّ الله موسى (عليه السلام)، حيث ورد في سفر الخروج أن موسى يكون إله هارون:

فَحَمِيَ غَضَبُ الرَّبِّ عَلَى مُوسَى وَقَالَ: «أَلَيْسَ هَارُونُ اللاَّوِيُّ أَخَاكَ؟ أَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ هُوَ يَتَكَلَّمُ، وَأَيْضًا هَا هُوَ خَارِجٌ لاسْتِقْبَالِكَ. فَحِينَمَا يَرَاكَ يَفْرَحُ بِقَلْبِهِ، فَتُكَلِّمُهُ وَتَضَعُ الكَلِمَاتِ فِي فَمِهِ، وَأَنَا أَكُونُ مَعَ فَمِكَ وَمَعَ فَمِهِ، وَأُعْلِمُكُمَا مَاذَا تَصْنَعَانِ. وَهُوَ يُكَلِّمُ الشَّعْبَ عَنْكَ. وَهُوَ يَكُونُ لَكَ فَمًا، وَأَنْتَ تَكُونُ لَهُ إِلهًا(3).

ولو كان للإله في العهد القديم معنىً واحد هو الألوهيّة المطلقة والربوبية الحقّة لكان موسى (عليه السلام) هو خالق هارون وربه وإلهه كما أنّ الله هو خالقنا وربنا وإلهنا، وهذا ما لا قائل به، لذا اضطر مفسرو الكتاب المقدس إلى تأويل الألوهية هنا، فقال القسّ أنطونيوس فكري في شرحه لهذه الآيات: يكون لك فماً أي يتكلم للشعب ولفرعون بما تلقنه أنت له، وأنت تكون له إلهاً أي رئيساً ومرشداً وملقناً لما يقول. والمعنى أن يكون موسى نائباً لله وهرون نائباً عن موسى.

فدلّت الألوهيّة على الرئاسة والإرشاد والتلقين، فلا ضير أن تكون ألوهيّة عيسى في هذه النبوءة (إلهاً قديراً) دالة على رئاسته، كما أشارت لذلك النبوءة نفسها (رَئِيسَ السَّلاَمِ).

وإذا كانت الرئاسة مساويةً للألوهية، وأرادوا أن يلتزموا بألوهيًة المسيح بمعنى أنه الله كونه رئيس السلام، فلا بد من الالتزام بألوهية الشيطان أيضاً، حيث وُصِفَ في الكتاب المقدّس بأنه: رَئِيس هذَا العَالَم(4)، بل وصف بالألوهية صريحاً، ففي رسائل كورنثوس حول وصف الشيطان: الَّذِينَ فِيهِمْ إِلهُ هذَا الدَّهْرِ قَدْ أَعْمَى أَذْهَانَ غَيْرِ المُؤْمِنِينَ(5)، فلا بد حينها من الالتزام بأن الشيطان هو الله (نعوذ بالله).

كذلك دلّ سفر الخروج على أن موسى إله فرعون:

فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «انْظُرْ! أَنَا جَعَلْتُكَ إِلهًا لِفِرْعَوْنَ. وَهَارُونُ أَخُوكَ يَكُونُ نَبِيَّكَ. أَنْتَ تَتَكَلَّمُ بِكُلِّ مَا آمُرُكَ، وَهَارُونُ أَخُوكَ يُكَلِّمُ فِرْعَوْنَ لِيُطْلِقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ أَرْضِهِ(6).

ومجدداً لم يجد القس أنطونيوس فكري بدّاً من تفسيرها بالسيد، فقال: جعلتك إلهًا لفرعون أي جعلتك سيّداً عليه، فلا تخافه ولا ترهب قسوة قلبه.

ثانياً: أن محاولة التخلص من الإشكال بالتمييز بين الإله المطلق الذي هو الله تعالى، وبين الإله المضاف لمألوه محدد، غير موفّقة أيضاً.

وقد حاول القسّ فكري الذهاب إلى ذلك بعد تفسير الإله بالسيد، فقال في تفسيره للآية: ولاحظ أن الإنسان قد يقال له أنه إله.. لكن يكون هناك مضافٌ: إلهاً لفرعون. تكون له إلهاً كما قيلت لموسى بالنسبة لهارون. ولكن الله هو إلهٌ مطلق ولا يضاف له شيء فهو إله الجميع، وهذه التسمية من تواضع الله.

لكنّ المزامير تخالف رأي القس فكري، حيث تطلق لفظ الآلهة على المخاطَبين دون وجود أي مضاف، ففيها: أَنَا قُلْتُ: إِنَّكُمْ آلِهَةٌ وَبَنُو العَلِيِّ كُلُّكُمْ(7).

ويلاحظ أنها لم تُقَيَّد بشيء ولم تُضَف لأحد، فلم تكن آلهة أولادكم مثلاً، ولا آلهة فلان أو فلان. فقد أُطلِقَت هنا على الناس كما أُطلِقَت على عيسى (إلهاً)، وعليه فلو كان عيسى هو الله لكان هؤلاء الناس هم الله أيضاً والعياذ بالله.

وفي المقابل وُصِفَ الله بالألوهية المقيّدَة بفرد أو جماعة، وإن لم يحدّ ذلك من ألوهيته تعالى، كما في كلماته تعالى لإبراهيم (عليه السلام): لأَكُونَ إِلهًا لَكَ وَلِنَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ(8).

ثالثاً: أن جعل النكرة في صفّ الإضافة يؤكد الإشكال.

حيثُ جعل القس الدكتور منيس عبد النور النكرة كالإضافة، فميّز بين الإله المضاف أو النكرة من جهة، وبين الإله المطلق من جهة أخرى، قائلاً: جاء في كتاب «الكليات»: «إن اسم الإله يُطلق على غيره تعالى، إذا كان مضافاً، أو نكرة.. وواضح من نص سفر الخروج أنه لم يُطلق على موسى أنه الله أو الرب أو الغفور أو القدير أو الخالق، ولم يُطلق عليه أنه إله بني إسرائيل أو إله الناس أو إله العالمين، بل قال إنه إله «فرعون» أي أن الله أقامه عصا تأديب لفرعون.. كما أن قوله «جعلتك إلهاً لفرعون» هو تشبيهٌ بليغٌ، حُذفت فيه أداة التشبيه (أي جعلتك كإله لفرعون) فإن فرعون كان يخشى بأس موسى وقوّته، واستغاث به كثيراً وقت الضربات العشر، وكان موسى يأمره ويزجره(9).

وهذا النص يؤكد عدم ألوهية عيسى ألوهيةً مطلقة من وجهين:

الوجه الأول: أنّه يتضمن إقراراً بإطلاق الإله على غير الله تعالى إذا كان نكرة، كما هو الحال في النص محل الشاهد (إلهاً قديراً)، فيثبت أن عيسى ليس هو الله تعالى بضميمة ثبوت المباينة بينه وبين الله تعالى، وإن ساغ إطلاق الألوهية عليه، بحسبهم.

الوجه الثاني: أن اعتبار لفظ (إِلهًا لِفِرْعَوْنَ) نوعاً من التشبيه الذي حُذفت منه أداة الشَّبَه، يفتح الباب أمام الالتزام بأن عيسى (إِلهًا قَدِيراً) هو تشبيهٌ بليغٌ أيضاً حُذِفَت منه أداة الشبه وأُريد منه أن يكون عيسى (كإلهٍ قدير)، أعطاه الله قدرة إحياء الموتى وشفاء المرضى.

وعليه فلا دلالة لهذا النص على أن عيسى هو الله تعالى بوجه.

رابعاً: يُنقَضُ على هذا الدليل أيضاً بما ورد في العهد القديم، حيث ذُكِرَت فيه الآلهة في موارد شتى، وعُدَّ الله أو الربّ أعلى من الآلهة، وأنه لا مثل له بينها وأنه ملك كبير عليها، ولو أُريد من هذه الآلهة الابن والروح القدس لما صحت هذه التعابير لأنهم يعتبرون الابن والروح القدس هم الله أيضاً!

ومن هذه الموارد:

مَنْ مِثْلُكَ بَيْنَ الآلِهَةِ يَا رَبُّ؟ مَنْ مِثْلُكَ مُعْتَزًّا فِي القَدَاسَةِ، مَخُوفًا بِالتَّسَابِيحِ، صَانِعًا عَجَائِبَ؟(10).

لاَ مِثْلَ لَكَ بَيْنَ الآلِهَةِ يَا رَبُّ، وَلاَ مِثْلَ أَعْمَالِكَ(11).

لأَنَّ الرَّبَّ إِلهٌ عَظِيمٌ، مَلِكٌ كَبِيرٌ عَلَى كُلِّ الآلِهَةِ(12).

وللفظ (الآلهة) هنا ثلاث احتمالات:

الاحتمال الأول: أن تكون هناك آلهةٌ حقيقةٌ متعددةٌ، وهو ما ينافي التوحيد، فلا يمكن المصير إليه.

الاحتمال الثاني: أن يكون المراد من الإله هو السيد كما تقدّم، وهذا لا ينافي التوحيد وتستقيم معه العبارة.

الاحتمال الثالث: أن يراد من الإله هو الإله باعتقاد بني إسرائيل، وهذا الوجه إنما يستقيم لو كان في مقام المخاصمة والمحاججة لبني إسرائيل، أو بيان ما يعتقدونه لنكتة أخرى.

 وبما أن النصارى لا يلتزمون بالاحتمال الأول، وبما أنهم يريدون الهروب من الاحتمال الثاني لأنه يُسقط استدلالهم بأن عيسى إله، لجأ بعضهم إلى الاحتمال الثالث، ومنهم القس موسى وهبه مينا حيث قال: قد يبدو في نص الآية الثامنة ما يؤيد الزعم بأن اليهود كانوا يؤمنون بتعدد الآلهة.. ولكن مراجعة الآية العاشرة تجعل هذا الاستنتاج غير ذي موضوع: أنت وحدك الله. وفي مثل هذه النصوص ترد كلمة إله أو آلهة، ليس باعتبارها تمثل عقيدة الكتاب المقدس، ولكن من حيث قيمتها في نظر عابديها.. القاعدة الأصلية أنه لا يوجد سوى إله حقيقي واحد(13).

ومن الواضح أن هذا الاحتمال منفيٌّ في هذه الآيات، فليس المقام في المزامير86 مقام مخاصمة ومحاججة حتى يقال: أنّ الله فوق الآلهة التي تعتقدون بألوهيتها، إنما هو في مقام المناجاة مع الله تعالى والدعاء والتضرع إليه، فلا يُعقل أن يُراد منه الإله باعتقاد الكفّار وهو في مقام المناجاة مع الله تعالى.

وكذلك في المزامير95: هَلُمَّ نُرَنِّمُ لِلرَّبِّ، نَهْتِفُ لِصَخْرَةِ خَلاَصِنَا. نَتَقَدَّمُ أَمَامَهُ بِحَمْدٍ، وَبِتَرْنِيمَاتٍ نَهْتِفُ لَهُ. لأَنَّ الرَّبَّ إِلهٌ عَظِيمٌ، مَلِكٌ كَبِيرٌ عَلَى كُلِّ الآلِهَةِ(14).

ثم ههنا تساؤل: لماذا أباح النصارى لأنفسهم التصرُّف في معنى التوراة، وعدم حمل الآلهة على الآلهة الحقيقية، للتخلُّص من القول بتعدُّد الآلهة، ولم يتصرّفوا في النصوص التي أودَت بهم إلى القول بالأقانيم الثلاثة وهي صورةٌ أخرى للقول بتعدد الآلهة؟

إنّ ذلك يرجع إلى إسقاط عقيدة الثالوث على الكتاب المقدس، فإنها قد أُسقطت عليه ولم تُستَنبَط وتُستَخرج منه كما يتبين.

خامساً: أن نسخ الكتاب المقدس نفسها مختلفة في ترجمة هذه العبارة (مُشِيراً، إِلهًا قَدِيراً)، ففي حين وردت بهذه الصيغة في كثيرٍ من النسخ، ورد في بعضها (مشاوراً الله جباراً)، كما في طبعة ريتشارد واطس 1671 م، كذلك ذهبت بعض النسخ كالترجمة العربية المبسطة إلى تحوير (إله) إلى (الله)، فكيف يثق القارئ بهذه العقيدة التي تبتني على احتمالاتٍ خالية الدلالة على المراد؟ تفتقر إلى ما يشدُّ أزرها ويشهد لها بالصحة؟!

2. انت ابني، أنا اليوم ولدتك!

في المزامير ما قد يُستدلّ به على أنّه نبوءةٌ عن بنوّة عيسى (عليه السلام) لله تعالى، والتي تعني بدورها ألوهيّة المسيح، وفيها: إِنِّي أُخْبِرُ مِنْ جِهَةِ قَضَاءِ الرَّبِّ: قَالَ لِي: «أَنْتَ ابْنِي، أَنَا اليَوْمَ وَلَدْتُكَ. اسْالنِي فَأُعْطِيَكَ الأُمَمَ مِيرَاثًا لَكَ، وَأَقَاصِيَ الأَرْضِ مُلْكًا لَكَ(15).

بتقريب أن بنوّته لله تعالى وولادة الله تعالى له تعني أنّه الله.

المناقشة فيه

ويلاحظ على ذلك:

أولاً: أن ليس هناك ذكرٌ لعيسى (عليه السلام) ولا إشارة له في النص، فيكون أجنبياً عن نبيّ الله عيسى (عليه السلام).

فإن قيل: دلت قرينتان على كون المراد هو عيسى: أولاهما أنه مسيح الرب كما في الآية2 من نفس السفر: (وَتَآمَرَ الرُّؤَسَاءُ مَعًا عَلَى الرَّبِّ وَعَلَى مَسِيحِهِ)، وثانيهما أنه ابن الرب.

قلنا: أما كونه مسيح الرب، فليس هذا من مختصات نبي الله عيسى (عليه السلام)، ففي العهد القديم عبّر داود عن شاول أنه مسيح الرب: فَقَالَ لِرِجَالِهِ: «حَاشَا لِي مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ أَنْ أَعْمَلَ هذَا الأَمْرَ بِسَيِّدِي، بِمَسِيحِ الرَّبِّ، فَأَمُدَّ يَدِي إِلَيْهِ، لأَنَّهُ مَسِيحُ الرَّبِّ هُوَ»(16).

كذلك عبّر العهد القديم عن داود بأنه مسيح إله يعقوب: فَهذِهِ هِيَ كَلِمَاتُ دَاوُدَ الأَخِيرَةُ: «وَحْيُ دَاوُدَ بْنِ يَسَّى، وَوَحْيُ الرَّجُلِ القَائِمِ فِي العُلاَ، مَسِيحِ إِلهِ يَعْقُوبَ، وَمُرَنِّمِ إِسْرَائِيلَ الحُلْوِ(17).

والسياق هنا يساعد على كون المراد من المسيح هو داوود (عليه السلام)، لأن المزامير مزاميره وهو يقول: (قال لي)، فالخطاب من الله لداوود (عليه السلام)، ويشهد لذلك أيضاً ما في المزمور18: لِذلِكَ أَحْمَدُكَ يَا رَبُّ فِي الأُمَمِ، وَأُرَنِّمُ لاسْمِكَ. بُرْجُ خَلاَصٍ لِمَلِكِهِ، وَالصَّانِعُ رَحْمَةً لِمَسِيحِهِ، لِدَاوُدَ وَنَسْلِهِ إِلَى الأَبَد(18)ِ.

وأمّا أنه ابن الله، فإن العهد القديم قد وصف يعقوب (إسرائيل) بما لم يصف به عيسى، ذاك أنه ابن الله البكر! ففي سفر الخروج: هكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ: إِسْرَائِيلُ ابْنِي البِكْرُ (19).

وعليه فلا شاهد على كون الكلام يدور حول عيسى (عليه السلام).

ثانياً: حتى لو أريد منه عيسى (عليه السلام)، فإنّ النص يُثبت الولادة في زمن محدد (اليوم ولدتك)، فهي ولادةٌ حادثةٌ مسبوقةٌ بالعدم، فلا تدلّ على الأزلية، فإنّ هذا المولود لم يكن ثم كان، مهما كان معنى الولادة، وبالتالي فهو يتنافى مع كونه إلهاً أزلياً.

ثالثاً: أن البنوّة في العهد القديم تدل على معانٍ مختلفة لا علاقة لها بالألوهية، منها الخلقة ومنها النعمة، كما يعترف بذلك مفسرو الكتاب المقدس.

ومن ذلك ما ورد في آخر أسفار العهد القديم، سفر ملاخي عندما أوحي إليه: أَلَيْسَ أَبٌ وَاحِدٌ لِكُلِّنَا؟ أَلَيْسَ إِلهٌ وَاحِدٌ خَلَقَنَا؟ فَلِمَ نَغْدُرُ الرَّجُلُ بِأَخِيهِ لِتَدْنِيسِ عَهْدِ آبَائِنَا؟(20).

فإن الأبوّة تعني الخلقة، يشترك فيها الجميع بحسب العهد القديم، ويقر المفسرون بذلك فيقول ناشد حنا: يتكلم النبي هنا عن الله كالآب لكلنا لكل الشعب. كانت أبوة الله للشعب من وجهين: كالخالق كما يقول بعد ذلك أنه خلقنا كلنا.. فالله آب كخالق مثل نسبة الملائكة كمخلوقات إلى الله.. فالناس والملائكة هم بنو الله بالخلق..

فيما فسرها القديس أثناسيوس الرسولي بأنها بنوّة النعمة: هذا هو حنوّ الله نحو البشرية، إذ هو الخالق صار فيما بعد لهم حسب النعمة أباً أيضاً. يصير هكذا عندما يتقبله الشعب، خليقته، في قلوبهم، كما يقول الرسول: "روح ابنه يصرخ: يا أبا، الآب". هؤلاء هم أولئك الذين إذ يتقبلون الكلمة ينالون سلطاناً منه أن يصيروا أولاد الله، مع كونهم بالطبيعة هم خلائقه(21).

وفي العهدين كثيرٌ من الكلمات التي تُثبت البنوّة لكافة الخلائق، فلا دلالة في البنوّة والولادة على الألوهية والربوبية، دائماً بحسب الكتاب المقدس ومزاميره: قَدِّمُوا لِلرَّبِّ يَا أَبْنَاءَ الله، قَدِّمُوا لِلرَّبِّ مَجْدًا وَعِزًّا(22).

ويقرّ بذلك كبار قديسي النصارى، منهم يوحنا الدمشقي فيقول: الله.. أيضاً أبٌ للذين صنعهم، لأن الله أحقُّ بأن يكون أبانا، وقد أخرجنا من العدم إلى الوجود، من والدينا الذين نالوا منه الوجود والمقدرة على الولادة(23).

ولذا ذُكر أبناءُ الله وبناتُه في أسفارٍ مختلفة من العهد القديم، ففي سفر التكوين: وَحَدَثَ لَمَّا ابْتَدَأَ النَّاسُ يَكْثُرُونَ عَلَى الأَرْضِ، وَوُلِدَ لَهُمْ بَنَاتٌ، أَنَّ أَبْنَاءَ اللهِ رَأَوْا بَنَاتِ النَّاسِ أَنَّهُنَّ حَسَنَاتٌ. فَاتَّخَذُوا لأَنْفُسِهِمْ نِسَاءً مِنْ كُلِّ مَا اخْتَارُوا(24).

وفي سفر التثنية: فَرَأَى الرَّبُّ وَرَذَلَ مِنَ الْغَيْظِ بَنِيهِ وَبَنَاتِهِ(25).

رابعاً: أن علماء النصارى قد اعترفوا بالمعاني المجازية في صفات الله تعالى كما تقدّم في الفصل الأول في باب (النموذج الأول: أعضاء الرب) وتقدّم كلام اللاهوتي الهولندي د. هيرمان بافينك عندما قال: ويستعير الكتاب المقدس لله استعاراتٍ شتى كالشمس والنور والينبوع والعين والصخر والملجأ والسيف والترس والأسد والنسر، والبطل والمحارب.. والأب(26).

وهو صريحٌ في أن استعمال الأبوّة هنا هو استعارةٌ كقولنا أنّه الينبوع أو العين أو السيف والترس، فكيف تُجعَلُ البنوّة والأبوّة دالة على ألوهية عيسى وعلى أزليته؟ وكيف انقلب معناها هنا من معنى مجازيٍّ إلى معنى يترتب عليه الكفر بالله تعالى بنسبة الولد له على نحو الحقيقة؟

3. أزلية عيسى

ورد في سفر أشعياء ما قد يُستدل به على أزلية المسيح، ومن ذلك: تَقَدَّمُوا إِلَيَّ. اسْمَعُوا هذَا: لَمْ أَتَكَلَّمْ مِنَ البَدْءِ فِي الخَفَاءِ. مُنْذُ وُجُودِهِ أَنَا هُنَاكَ» وَالآنَ السَّيِّدُ الرَّبُّ أَرْسَلَنِي وَرُوحُهُ(27).

فسّرها ناشد حنا بقوله: لقد أرسل الله الأنبياء وأخيراً أرسل ابنه. وقوله "منذ وجوده أنا هناك" يعني أنه الأزلي. وهنا نرى الثالوث الأقدس. المرسَل الله الابن كان مع الله منذ وجوده، والمرسِل هو السيد الرب (الله الآب) وروحه أي مرسَل من الروح القدس أيضاً.

المناقشة فيه

يلاحظ على هذا الاستدلال:

أولاً: أنه لا ذكر لعيسى فيه، فإن مطلع هذا السفر: اِسْمَعُوا هذَا يَا بَيْتَ يَعْقُوبَ، المَدْعُوِّينَ بِاسْمِ إِسْرَائِيلَ(28)، ثم يخاطب الله فيه عبده يعقوب: اِسْمَعْ لِي يَا يَعْقُوبُ، وَإِسْرَائِيلُ الَّذِي دَعَوْتُهُ: أَنَا هُوَ. أَنَا الأَوَّلُ وَأَنَا الآخِرُ(29)، ثم عند نهاية الاقتباس من كلام الربّ يقول أشعياء النبي صاحب السفر: وَالآنَ السَّيِّدُ الرَّبُّ أَرْسَلَنِي وَرُوحُهُ(30)، وعليه فالحديثُ حديثُ الربّ، والخطابُ حول النبي يعقوب (عليه السلام)، والناقل والمتكلم هو النبي أشعياء، كلّ هذا بحسب نص العهد القديم.

ثانياً: أن ليس في النص أيّ دلالة على الأزلية، فالمتكلم هو الله تعالى، يقول: لَمْ أَتَكَلَّمْ مِنَ البَدْءِ فِي الخَفَاءِ، بل أرسلت الأنبياء علناً، وينتهي الاقتباس عن كلام الله تعالى في قوله: مُنْذُ وُجُودِهِ أَنَا هُنَاكَ.

فمنذ وجود يعقوب النبيّ الذي يتحدث عنه، كما منذ وجود أي نبي أو مرسل من الأنبياء السابقين إلى اللاحقين، كان الله هناك، فهو الذي أوجدهم، فمنذ وجدوا كان الله موجوداً، وكان قبل وجودهم أيضاً، كما كان الآن عند إرسال أشعياء وكان قبل إرساله.

ثالثاً: أن كلّ ما تقدّم مبنيّ على صحة هذه الترجمة للتوراة، لكن أغلب نسخ العهد القديم تتضمن ما يخالف هذا السياق، ويغيّر المعنى تماماً، فإنها بمعظمها تجعل هذه الفقرة من كلام أشعياء النبي نفسه لا من كلام الله تعالى، فضلاً عن أن تكون من كلام عيسى الذي لا ذكر له في الآيات.

ففي الترجمة السهلة: اقتَرِبُوا إلَيَّ وَاستَمِعُوا إلَى هَذا. مِنَ البِدايَةِ لَمْ أكُنْ أتَكَلَّمُ بِالسِّرِّ، وَمِنْ وَقتِ بِناءِ بابِلَ كُنتُ هُناكَوَالآنَ الرَّبُّ الإلَهُ أرسَلَنِي مَعَ رُوحِهِ.

وفي ترجمة الحياة: منذ البدء لم أتكلم خفية، ولدى حدوثها كنت حاضراً هناك

وفي ترجمة الأخبار السارة: فمن الأول لم أتكلم في الخفية. أنا كنت موجوداً هناك من قبل أن يحدث ما حدث.

وفي ترجمة اليسوعية والكاثوليكية: إني من البدء لم اتكلم في خفية. أنا من قبل أن يحدث الأمر كنت هناك.

وقريبٌ منها كتاب الحياة وترجمة الشريف والترجمة من العبرية، وغيرها من النسخ.

والأول صريح في كون الحديث عن بناء بابل، والباقي يشير إليها على نحو الإشارة، فهي قد وردت قبل أربع آيات من نفس السفر حينما قال: يَصْنَعُ مَسَرَّتَهُ بِبَابِلَ(31).

فالبدء هو بدء بناء بابل، والحديث عن كورش، والمتحدث أشعياء، وهو ينقل بعض كلمات الله تعالى، ولا صلة لعيسى (عليه السلام) بهذه الآيات، ولا إشارة فيها للأزلية.

رابعاً: حتى عند القائل بدلالة النص على الأزلية، أو الاستدلال بنصٍّ آخر على ذلك، فإن في العهد القديم شاهداً على أن الأزلية قد تكون نسبيّة ولا يُراد منها الأزلية المطلقة، فالأزليُّ تارة يُراد به الذي لا بدء له، وتارة يراد به القديم أو المتقدم على آخر وإن كان له بداية، والشاهد على ذلك قوله في الأمثال:

«اَلرَّبُّ قَنَانِي أَوَّلَ طَرِيقِهِ، مِنْ قَبْلِ أَعْمَالِهِ، مُنْذُ القِدَمِ.

مُنْذُ الأَزَلِ مُسِحْتُ، مُنْذُ البَدْءِ، مُنْذُ أَوَائِلِ الأَرْضِ. إِذْ لَمْ يَكُنْ غَمْرٌ أُبْدِئْتُ. إِذْ لَمْ تَكُنْ يَنَابِيعُ كَثِيرَةُ المِيَاهِ(32).

والشاهد هو أن الأزل والبَدء قد فُسّرا هنا ب(أوائل الأرض)، فإن الحديث هو عن بدء الخليقة، فيناسب أن يكون المراد من (قَنَانِي): خلقني.

والشاهد الآخر على ذلك هو قوله: (أُبْدِئْتُ) فقبل هذا لم يكن ثم كانت بدايته هنا، فهي بدايةٌ مسبوقةٌ بالعدم. والنصارى يعتقدون أن هذه الآيات تُحَدِّثُ عن لسان عيسى (عليه السلام).

وفي الكتاب المقدّس نصوصٌ في منتهى الوضوح استُعمل فيها ما هو أصرح من البدء، وهو لفظ (الأزل) وأُريد به الأزل النسبيّ، وإلا لزم كون المخلوقات أزليّة مشاركة لله تعالى في قدمه، حيث ورد في سفر الأمثال: فَإِنِّي أُسْكِنُكُمْ فِي هذَا الْمَوْضِعِ، فِي الأَرْضِ الَّتِي أَعْطَيْتُ لآبَائِكُمْ مِنَ الأَزَلِ وَإِلَى الأَبَدِ(33). وفيه: وَاسْكُنُوا فِي الأَرْضِ الَّتِي أَعْطَاكُمُ الرَّبُّ إِيَّاهَا وَآبَاءَكُمْ مِنَ الأَزَلِ وَإِلَى الأَبَدِ(34).

وهنا استعملت الأزليّة بمعنىً نسبيّ، لأن الآباء والأرض لم يكونوا في الأزل، إنما يراد منه بداية حياتهم ونهايتها، لا الأزل الذي لا بدء له.

على أن في ترجمة الآية الأولى (اَلرَّبُّ قَنَانِي) خلاف معروفٌ بحيث وردت في بعض النسخ (الرب خلقني أولى طرقه قبل أعماله منذ البدء) كالنسخة اليسوعية أو الكاثوليكية، والعهد القديم لزماننا الحاضر، وهي تدلّ على الخلقة لا على الولادة والبنوة.

وفي الترجمة السهلة: (ERV-AR) وردت: شَكَّلَنِي الله مُنذُ البِدايَةِ، أنا أوَّلُ أعمالِهِ. هَيَّأَنِي فِي قَدِيمِ الزَّمانِ، فِي البَدءِ، قَبلَ أنْ تَبدَأَ الأرْضُ.

كذلك تُرجِمَت بالخلق في نسخة شهود يهوه: ‏«يَهْوَهُ خَلَقَنِي بِدَايَةً لِطَرِيقِهِ،‏ أَوَّلَ أَعْمَالِهِ مُنْذُ ٱلْقِدَمِ.

وأما في النسخة الإنجليزية لتوراة اليهود والمترجمة عن النسخة العبرية فقد ورد:

 The LORD made me as the beginning of His way, the first of His works of old. (35).

ولفظ Made تعني: صنع أو ركّب أو أنتج.

كذلك وردت الترجمة بلفظ (خلقني) في (الترجمة السبعينية)، وقد اعترف بعض شراح الاناجيل باحتمال ترجمتها هذه، ومنهم انطونيوس فكري: والكلمة في العبرية "قنا" تحتمل الترجمة السبعينية فنص الآية بحسب السبعينية "الرب خلقني أول طرقه" وهذا ما اعتمد عليه آريوس.

على أن هناك احتمالاً آخر في النص الأخير وهو كون الخطاب مجازياً بأكمله، فيكون المُتحدِّثُ فيه هو (الحكمة)، وذلك بمراجعة الآيات الأولى حيث تمدحُ الحكمة، ثم تتحدث عن لسان الحكمة: (أنا الحكمة..) ثم تأتي سائر الآيات في نفس السياق: لأَنَّ الْحِكْمَةَ خَيْرٌ مِنَ الَّلآلِئِ، وَكُلُّ الْجَوَاهِرِ لاَ تُسَاوِيهَا. «أَنَا الْحِكْمَةُ أَسْكُنُ الذَّكَاءَ، وَأَجِدُ مَعْرِفَةَ التَّدَابِيرِ..

لا يقال: الحكمة لا يمكن أن تتحدث.

لأن المعنى مجازيٌّ تصويري، فالحكمة لا تسكن، ولا تبني بيتاً، ولا تُرسل جواري، ولا تُطعم طعاماً، إلا أن كل هذه المعاني ثبتت لها في هذا السفر والسفر الذي يليه، ففيه: اَلْحِكْمَةُ بَنَتْ بَيْتَهَا. نَحَتَتْ أَعْمِدَتَهَا السَّبْعَةَ. ذَبَحَتْ ذَبْحَهَا. مَزَجَتْ خَمْرَهَا. أَيْضًا رَتَّبَتْ مَائِدَتَهَا. أَرْسَلَتْ جَوَارِيَهَا تُنَادِي عَلَى ظُهُورِ أَعَالِي الْمَدِينَةِ: «مَنْ هُوَ جَاهِلٌ فَلْيَمِلْ إِلَى هُنَا». وَالنَّاقِصُ الْفَهْمِ قَالَتْ لَهُ: «هَلُمُّوا كُلُوا مِنْ طَعَامِي، وَاشْرَبُوا مِنَ الْخَمْرِ الَّتِي مَزَجْتُهَا. اُتْرُكُوا الْجَهَالاَتِ فَتَحْيَوْا، وَسِيرُوا فِي طَرِيقِ الْفَهْمِ»(36).

فيكون النص الثاني أيضاً أجنبياً عن عيسى (عليه السلام) بهذا التقريب.

والخلاصة أنّه ليس هناك من دليل في العهد القديم على أزلية عيسى (عليه السلام)، بل الدليلُ قائم على توحيد الله تعالى وحده.

4. أنه المعبود

ينقل العهد القديم عن النبي دانيال (عليه السلام) رؤيا رآها عن عيسى (عليه السلام) تشير إلى تعبُّد كل الشعوب والأمم له، ففيه عن لسان دانيال:

«كُنْتُ أَرَى فِي رُؤَى اللَّيْلِ وَإِذَا مَعَ سُحُبِ السَّمَاءِ مِثْلُ ابْنِ إِنْسَانٍ أَتَى وَجَاءَ إِلَى القَدِيمِ الأَيَّامِ، فَقَرَّبُوهُ قُدَّامَهُ. فَأُعْطِيَ سُلْطَانًا وَمَجْدًا وَمَلَكُوتًا لِتَتَعَبَّدَ لَهُ كُلُّ الشُّعُوبِ وَالأُمَمِ وَالالسِنَةِ. سُلْطَانُهُ سُلْطَانٌ أَبَدِيٌّ مَا لَنْ يَزُولَ، وَمَلَكُوتُهُ مَا لاَ يَنْقَرِضُ. «أَمَّا أَنَا دَانِيآلَ فَحَزِنَتْ رُوحِي فِي وَسَطِ جِسْمِي وَأَفْزَعَتْنِي رُؤَى رَأْسِي(37).

والتعبُّدُ لا يكون إلا لله تعالى، فيثبت أن عيسى (عليه السلام) هو الله تعالى.

المناقشة فيه

ويلاحظ عليه:

أوّلاً: أن (التعبُّد) بحسب الكتاب المقدّس لا يدلّ على الألوهية دائماً، فقد طلب داوود النبي بحسب العهد القديم من الله تعالى أن يجعل كُلُّ الأُمَمِ تَتَعَبَّدُ لَهُ.

حيث تنسب المزامير لداوود صلوات ورد فيها: اللهمَّ، أَعْطِ أَحْكَامَكَ لِلْمَلِكِ، وَبِرَّكَ لابْنِ المَلِكِ.. وَيَمْلِكُ مِنَ البَحْرِ إِلَى البَحْرِ، وَمِنَ النَّهْرِ إِلَى أَقَاصِي الأَرْضِ.. مُلُوكُ تَرْشِيشَ وَالجَزَائِرِ يُرْسِلُونَ تَقْدِمَةً. مُلُوكُ شَبَا وَسَبَأٍ يُقَدِّمُونَ هَدِيَّةً. وَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ المُلُوكِ. كُلُّ الأُمَمِ تَتَعَبَّدُ لَهُ(38).

كما تنسب له قوله: شَعْبٌ لَمْ أَعْرِفْهُ يَتَعَبَّدُ لِي(39).

وهو ما يرجح أن تكون الترجمة الصحيحة لهذه الآية هي ما ورد في (الترجمة السهلة)، حيث استبدل فيها لفظ (تتعبد له) ب(تخدمه) ففيها: فَسَتَخدِمُهُ كُلُّ الشُّعُوبِ وَالأُمَمِ وَاللُّغاتِ.

كذلك في ترجمة العالم الجديد: لِتَخْدُمَهُ جَمِيعُ ٱلشُّعُوبِ.

ثانياً: أن عيسى نفسه كان يعبد الله تعالى عبادة العبد لربّه، وقد فاجأ إمامُنا الرضا (عليه السلام) جاثليق النصارى بكلامٍ ظاهره الانتقاص من نبيّ الله عيسى (عليه السلام) وهو الذي يُجلّه القرآن الكريم أيُّما إجلال، فقال الإمام (عليه السلام) في سبيل المحاججة والإلزام لا الاعتقاد:

يَا نَصْرَانِيُّ، وَاللَّهِ إِنَّا لَنُؤْمِنُ بِعِيسَى الَّذِي آمَنَ بِمُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وَمَا نَنْقِمُ عَلَى عِيسَاكُمْ شَيْئاً إِلَّا ضَعْفَهُ وَقِلَّةَ صِيَامِهِ وَصَلَاتِهِ!

 قَالَ الْجَاثِلِيقُ: أَفْسَدْتَ‏ والله عِلْمَكَ وَضَعَّفْتَ أَمْرَكَ، وَمَا كُنْتُ ظَنَنْتُ إِلَّا أَنَّكَ أَعْلَمُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ.

قَالَ الرِّضَا (عليه السلام): وَكَيْفَ ذَلِكَ؟

قَالَ الْجَاثِلِيقُ: مِنْ قَوْلِكَ: إِنَّ عِيسَاكُمْ كَانَ ضَعِيفاً قَلِيلَ الصِّيَامِ قَلِيلَ الصَّلَاةِ.

وَمَا أَفْطَرَ عِيسَى يَوْماً قَطُّ وَلَا نَامَ بِلَيْلٍ قَطُّ وَمَا زَالَ صَائِمَ الدَّهْرِ قَائِمَ اللَّيْلِ.

 قَالَ الرِّضَا (عليه السلام): فَلِمَنْ كَانَ يَصُومُ وَيُصَلِّي؟

قَالَ: فَخَرِسَ الْجَاثِلِيقُ وَانْقَطَع(40).

فكيف يكون عيسى هو الله تعالى؟ هل يقرٌّ عاقلٌ بأن الله كان يعبد الله؟! إذاً لما تميّز العابد من المعبود والخالق من المخلوق!

وبهذا يتبيّن خلو العهد القديم من أي دلالة على ألوهيّة عيسى (عليه السلام)، بل دلّ على عبوديته لله تعالى صريحاً.

2. ألوهيّة عيسى في الإنجيل

1. المسيح ربٌّ وإله

استُدِلَّ على ألوهيّة عيسى وربوبيته وأنّه هو الله بعدة نصوص من الإنجيل تفيد أنه ربٌّ وإله، من هذه النصوص كلام توما مع المسيح: أَجَابَ تُومَا وَقَالَ لَهُ:«رَبِّي وَإِلهِي(41).

وينقل إنجيل لوقا عن الملاك قوله: أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ اليَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ المَسِيحُ الرَّبُّ(42).

وفي رسائل بولس: وَلَهُمُ الآبَاءُ، وَمِنْهُمُ المَسِيحُ حَسَبَ الجَسَدِ، الكَائِنُ عَلَى الكُلِّ إِلهًا مُبَارَكًا إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ(43).

ومن كان رباً وإلهاً فهو الله تعالى.

المناقشة فيه

والاستدلال هنا ينقسم إلى شقين:

الأول: الاستدلال بكونه إلهاً.

والثاني: الاستدلال بكونه ربّاً.

ويلاحظ على الاستدلال الأول (كونه إلهاً):

أولاً: إن الإله في الكتاب المقدّس يطلق على غير الله تعالى، كما أطلق على نبيّ الله موسى (عليه السلام)، وقد تقدّم ذلك في فقرة (الولد يكون إلهاً قديراً أباً) فلتُرَاجع.

ثانياً: أن ألوهية عيسى بحسب الإنجيل تعني الوساطة بين الله تعالى وبين الناس، ولا تعني بحالٍ أنه الله، أشار إلى ذلك الإنجيل نفسه بقوله: لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلهٌ وَاحِدٌ، وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ الله وَالنَّاسِ: الإِنْسَانُ يَسُوعُ المَسِيحُ(44).

فدلّ على أن عيسى (الإنسان) إلهٌ بمعنى أنه الوسيط بين الناس والله تعالى، كما يعتقد المسلمون بأن نبي الإسلام محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الوسيط بين الله تعالى وخلقه، فَوَصفُ عيسى بالإنسان لا يستقيم لو كان المراد من الألوهية هنا هي كونه الله.

ثالثاً: أن إثبات الألوهية لعيسى (عليه السلام)لا يعني أنه الله تعالى، بل تبقى ألوهية الله تعالى ثابتة على عيسى وعلى غيره من الخلق، شهد بذلك إنجيل يوحنا حين قال: قَالَ لَهَا يَسُوعُ:«لاَ تَلْمِسِينِي لأَنِّي لَمْ أَصْعَدْ بَعْدُ إِلَى أَبِي. وَلكِنِ اذْهَبِي إِلَى إِخْوَتِي وَقُولِي لَهُمْ:إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلهِي وَإِلهِكُمْ»(45).

فدلّ على أن الله تعالى هو إله عيسى (عليه السلام) كما هو إله سائر الناس.

رابعاً: أن الألوهيّة قد يراد منها الحُبُّ والاتّباع لا أكثر، كما في إنجيل برنابا: ثم قال يسوع: حقاً إن كل ما يُحبُّه الإنسان ويترك لأجله كلّ شيء سواه فهو إلهه. وهكذا فإن صنم الزاني هو الزانية، وصنم النَّهِم والسكّير جسده(46). وكما في القرآن الكريم: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً﴾(47).

وقد تقدّم مزيدُ جوابٍ على كونه إلهاً في فقرة (الولد يكون إلهاً قديراً) من التوراة فلتراجع.

ويلاحظ على الاستدلال الثاني (كونه ربّاً):

أولاً: أن الرب أيضاً يُطلق في الكتاب المقدّس على غير الله تعالى، فيُطلق مثلاً على رب البيت، كما في إنجيل متى: فَجَاءَ عَبِيدُ رَبِّ البَيْتِ وَقَالُوا لَهُ: يَا سَيِّدُ..(48).

وفيه أيضاً: وَفِيمَا هُمْ يَأْخُذُونَ تَذَمَّرُوا عَلَى رَبِّ البَيْتِ(49).

ثانياً: أن الرب يُطلَق في الكتاب المقدّس على المُعَلِّم، ففي إنجيل يوحنا من حديث يسوع لتلميذين من تلامذة يوحنا أحدهما أندراوس أخ بطرس:

فَالتَفَتَ يَسُوعُ وَنَظَرَهُمَا يَتْبَعَانِ، فَقَالَ لَهُمَا:«مَاذَا تَطْلُبَانِ؟» فَقَالاَ:«رَبِّي، الَّذِي تَفْسِيرُهُ: يَا مُعَلِّمُ، أَيْنَ تَمْكُثُ؟»(50).

فإن الإنجيل نفسه فسّر الرب هنا بمعنى المُعَلِّم، وقد استعملها في المسيح (عليه السلام)، فيُعرَف من كل مورد استُعمِلَت فيه الربوبية في الإنجيل بحق المسيح أن المراد منه المُعَلِّم.

وشَهِدَ لكون المسيح هو المعلم إنجيل متّى أيضاً: وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلاَ تُدْعَوْا سَيِّدِي، لأَنَّ مُعَلِّمَكُمْ وَاحِدٌ المَسِيحُ، وَأَنْتُمْ جَمِيعًا إِخْوَةٌ.. وَلاَ تُدْعَوْا مُعَلِّمِينَ، لأَنَّ مُعَلِّمَكُمْ وَاحِدٌ المَسِيحُ(51).

ثالثاً: لا يمكن الاستدلال على أن الربوبيّة هنا تعني أنه الله، لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي جعل عيسى ربّاً بحسب الإنجيل، ففي أعمال الرسل: فَلْيَعْلَمْ يَقِينًا جَمِيعُ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ أَنَّ الله جَعَلَ يَسُوعَ هذَا، الَّذِي صَلَبْتُمُوهُ أَنْتُمْ، رَبًّا وَمَسِيحاً»(52).

ولذا لا يُصغى إلى ما قاله القسّ الدكتور منيس عبد النور، بحسب الكتاب المقدس على الأقل، فقد قال: إذا أُطلقت كلمة «رب» على غير الله أُضيفت، فيُقال «رب كذا». وأما بالألف واللام فهي مختصَّة بالله. ويُفهم هذا من قرائن الكلام، فإذا قيل «رب المشركين» كان المراد منه معبوداتهم الباطلة، وسمّوها بذلك لاعتقادهم أن العبادة تحقُّ لها، وأسماؤهم تتبع اعتقادهم لا ما عليه الشيء في نفسه، بخلاف ما إذا قيل «رب المؤمنين» فإنه يُفسَّر بالإله الحقيقي المعبود. أما إذا قلنا: الله والرب والغفور والرحمن والرحيم والقدير والخالق والمحيي، فهي مختصَّة به تعالى لا يجوز إطلاقها على غير الله»(53).

لأن الكتاب المقدس أطلق على عيسى لفظ (الرب) ثم صرّح بأنّ الله تعالى هو الذي جعله ربّاً، لذا لم يكن من الممكن الاستدلال بكون عيسى الرب على أنّه الله، لأن الله تعالى هو الذي جعله رّباً، وربوبية الله تعالى ذاتيّة لا جعليّة، فالله مستغنٍ وعيسى محتاجٌ إلى الله تعالى ليُثبِتَ له هذه الربوبية، فهي ربوبيةٌ دون الربوبية الحقة الكاملة لله تعالى.

وقد ورد في إنجيل مرقس: ثُمَّ إِنَّ الرَّبَّ بَعْدَمَا كَلَّمَهُمُ ارْتَفَعَ إِلَى السَّمَاءِ، وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ الله(54).

فلو كان الرب هنا يعني الله لكانت العبارة تفيد أن الله جعل يسوع الله! وأن الله ارتفع وجلس عن يمين الله! وهذا يخالِفُ دلالة العبارة الصريحة في أن الله جعل عيسى ربّاً، والذي قد يعني مُعَلِّماً أو سيّداً، وأنّ عيسى له ربٌ وإلهٌ هو الله.

رابعاً: لا يمكن أن يكون الرب هنا بمعنى الله تعالى لأن ربوبية عيسى منقوضةٌ بولادته وبموته، أما ولادته فلقوله: وُلِدَ لَكُمُ اليَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ المَسِيحُ الرَّبُّ(55)، وأما موته فإن عيسى نفسه يخبر عن موته بلفظ (موت الرب): فَإِنَّكُمْ كُلَّمَا أَكَلْتُمْ هذَا الخُبْزَ وَشَرِبْتُمْ هذِهِ الكَأْسَ، تُخْبِرُونَ بِمَوْتِ الرَّبِّ إِلَى أَنْ يَجِيءَ(56).

والربُّ حيٌّ لا يموت، وعليه فلا دلالة لأي من هذه العبائر على أن عيسى (عليه السلام) هو الله، بل دلالتها تامة على أن الله هو ربُّ عيسى وإلهه، وهو الذي جعله ربّاً وإلهاً بالمعنى الممكن الذي يتناسب وكونه مخلوقاً.

فإن قيل: هناك شاهد من الإنجيل على أنّ الرب هنا يعني أنّه الله وهو التعبير عنه بأنّه (رب الأرباب)، حيث قال: هؤُلاَءِ سَيُحَارِبُونَ الخَرُوفَ، وَالخَرُوفُ يَغْلِبُهُمْ، لأَنَّهُ رَبُّ الأَرْبَابِ وَمَلِكُ المُلُوكِ، وَالَّذِينَ مَعَهُ مَدْعُوُّونَ وَمُخْتَارُونَ وَمُؤْمِنُونَ»(57).

وفيه أيضاً: وَلَهُ عَلَى ثَوْبِهِ وَعَلَى فَخْذِهِ اسْمٌ مَكْتُوبٌ:«مَلِكُ المُلُوكِ وَرَبُّ الأَرْبَابِ»(58).

كان الجواب: بعدما دل الإنجيل على أن الله ربّ عيسى وإلهه، لا بدّ من الالتزام بأن ربّ الأرباب هو الله على نحو الحقيقة، وهو عيسى على نحو المجاز، فهو سيد السادة، ومعلم المعلمين، فإذا كان الحواريون هم المعلِّمون مثلاً وكانوا سادةً كان عيسى سيدهم.

وهي لا تختلف كثيراً عن قول الإنجيل فيه: الكَلِمَةُ الَّتِي أَرْسَلَهَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ يُبَشِّرُ بِالسَّلاَمِ بِيَسُوعَ المَسِيحِ. هذَا هُوَ رَبُّ الكُلِّ(59)، فإن كونه ربّ الكلّ قد فُسّرت بأنه: يسوع المسيح هو ربُّ الكل، رب الأمم مثلما هو رب اليهود(60).

خامساً: أن بعض نسخ الانجيل ترجمت العبارة بشكلٍ خالٍ عن لفظ (الرب) حيث ورد في ترجمة (الشريف): اليَوْمَ وُلِدَ لَكُمْ مُنْقِذٌ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ هُوَ المَسِيحُ مَوْلَانَا. وفي ترجمة (المعنى الصحيح): اليَومَ وُلِدَ مُنقِذُكُم في بَلدةِ النَّبيِّ داودَ! وُلِد المَسيحُ المُنتَظَرُ مَولاكُم.

وعلى هذه الترجمة فلا ذِكرَ للربوبية أبداً.

سادساً: أن في بعض نِسَخ الأناجيل القديمة التي لم تعترف بها الكنيسة ما يشير إلى كون كلّ رسولٍ رباًّ، ففي إنجيل الديداكي الذي يقال أنه كتب بين سنة 70 أو 80 وسنة 100 للميلاد، وهو من أقدم الأناجيل التي وصلت نسخها إلينا نصوصٌ صريحةٌ بذلك منها: أما بخصوص الرسل والأنبياء، فاعلموا أنه وفقاً لتعليم الإنجيل يكون الأمر هكذا: كل رسول يأتي إليكم اقبلوه كربّ(61).. ومنها قوله: يا بنيّ، اذكر ليلاً ونهاراً من يكلمك بكلام الله، أكرمه كربٍّ، لأنه حيث تُقال كلمات الربوبية هناك يكون الرب(62).

وأخيراً.. فإن في الإنجيل ما يؤكد أن الربّ الإله هو الذي يعطي عيسى  فكيف يكون عيسى (عليه السلام) هو الرب الإله؟! ففي إنجيل لوقا عند ذكر قصة البشارة لمريم (عليها السلام): فَقَالَ لَهَا المَلاَكُ:«لاَ تَخَافِي يَا مَرْيَمُ، لأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ الله. وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْنًا وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. هذَا يَكُونُ عَظِيمًا، وَابْنَ العَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ الرَّبُّ الإِلهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ(63).

وعليه فإن كونه ربّ البيت أو ربّ القوم أو ربّ الأقوام له معنى واحد فارد ينطبق على عيسى المخلوق، بخلاف المعنى الذي يُطلق على الله تعالى.

2. وكان الكلمة الله

من أقوى النصوص التي يُستدلّ بها على ألوهيّة المسيح ما ورد في مَطلع إنجيل يوحنا، والذي يفيد بأنّ الكلمة (وتُفَسَّر بعيسى) هو الله، ونص الآيات هو: فِي البَدْءِ كَانَ الكَلِمَةُ، وَالكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ الله، وَكَانَ الكَلِمَةُ الله. هذَا كَانَ فِي البَدْءِ عِنْدَ الله. كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ(64).

فيثبت أن عيسى (عليه السلام) هو الله.

المناقشة فيه

إن الاستدلال بهذا النص على المطلوب يتوقف على ثبوت مقدّمات:

المقدّمة الأولى: أن يُراد من لفظ (البدء): الأزل، فتدلّ حينها على أزلية (الكلمة).

المقدّمة الثانية: أن يُراد من (الكلمة): عيسى (عليه السلام).

المقدمة الثالثة: أن يُقصد من عبارة (كان الكلمة الله) المعنى الحرفي، أي كون عيسى هو الله تعالى.

المقدمة الرابعة: أن يكون المراد من لفظ الجلالة (الله) في الجملتين متعدداً: (وَالكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ الله، وَكَانَ الكَلِمَةُ الله) لئلا يكون الآب هو الابن فيتّحد الأقنومان.

ويلاحظ على المقدّمة الأولى (أن يراد بالبدء الأزل):

أن البَدء لا تعني الأزل في الكتاب المقدّس حصراً، فقد ورد في مطلع سفر التكوين من العهد القديم: فِي البَدْءِ خَلَقَ الله السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ(65)، ولو كان المراد من البدء الأزل لَزِمَ أزليّة السماوات والأرض، بما يستتبع من تعدُّد القديم.

والحال أن العقيدة الحقّة تقتضي وجودَ قديمٍ واحدٍ أزليٍّ غير مسبوق بالعدم هو الله تعالى، لم تُشاركه السماوات ولا الأرض في القِدَم، إذ خلقها فصارت موجودةً بعد أن لم تكن.

كذلك استُعمل لفظ (البدء) في العهد الجديد وأُريد منه بَدء ظهور المسيح، كما ذهب اليه مفسرو الإنجيل، ففي رسائل يوحنا: اَلَّذِي كَانَ مِنَ البَدْءِ، الَّذِي سَمِعْنَاهُ، الَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا، الَّذِي شَاهَدْنَاهُ، وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا، مِنْ جِهَةِ كَلِمَةِ الحَيَاةِ(66).

وفسّرها ناشد حنا بقوله: عرفنا أن "البدء" هنا هو بدء ظهور الابن له المجد في الجسد أي بدء تجسد المسيح.

فهذان موردان من العهد القديم والجديد قد أريد من البدء بهما البدء النسبيّ لا المطلق، فلم يكن بدء الخليقة ولا بدء تجسد عيسى أزلياً، رغم استعمال لفظ البدء فيه دون إشارة إلى نسبيته، وما ذاك إلا لوضوحه بعد القطع بأن الله تعالى وحده الأزلي.

كذلك ورد في إنجيل يوحنا: أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ، وَشَهَوَاتِ أَبِيكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا. ذَاكَ كَانَ قَتَّالاً لِلنَّاسِ مِنَ البَدْءِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الحَقِّ لأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَقٌّ(67).

فإنه يُثبِت على تفسيرهم كون إبليس أزلياً.

لا يقال: هذا قرينته معه بخلاف ما تقدم، والقرينة هي كونُه قَتّالاً للناس من البدء فيكون المراد بدء وجود الناس.

لأنّنا نقول: القرينة في عيسى أوضح، لثبوت أن الأزلية منحصرةٌ بالواحد الأحد، وأنّ الله تعالى كان ولم يكن معه شيء، ولثبوت كون عيسى (عليه السلام) مخلوقاً بصريح الإنجيل، فغاية ما تدلُّ عليه هذه الآيات هو تقدُّم وجود الكلمة على ما سواها من مخلوقات الله تعالى.

أما شهادة الإنجيل حول خلق عيسى (عليه السلام)، فبوصفه أنّه: بِكْرُ كُلِّ خَلِيقَةٍ(68). وأنّه: بَدَاءَةُ خَلِيقَةِ الله(69). أو: بِدَايَةُ خَلِيقَةِ ٱللهِ، على ما في ترجمة العالم الجديد، و: رأس خليقة الله، كما في ترجمة الآباء الدومنيكان.

والقول بأن المراد من (البدء) في آيات يوحنا هو معنىً خاص يختلف عما في سائر الموارد كما يقول بعض علماء النصارى(70) هو تَحَكُّمٌ لا وجه له، فإن الشواهد تؤكد على نفي الأزلية لعدم ظهور اللفظ في الأزلية أولاً كما تبيّن، ولقيام القرائن على عدم إرادة الأزلية ثانياً بعد وصف عيسى بأنه مخلوق.

نعم ورد في بعض نسخ الانجيل استعمال لفظ (الأزل) بدلاً من (البدء) في ذيل الآية، مع الحفاظ على لفظ (البدء) في صدرها، ويظهر أنه من اجتهادات وتفسير المترجمين لخلوّ أكثر النسخ منه، فلو كانت تدلّ على معنى الأزل صريحاً لترجموه إليها لموافقته لمعتقدهم في أزلية عيسى، ولمّا كان أغلبها قد ترجمها بالبدء مع مخالفتها لعقيدتهم يكون الراجح هو ما ذكرناه من عدم دلالتها على الأزل.

كذلك ترجمه بعضهم ب(الأصل) كما في ترجمة الشريف: فِي الأَصْلِ كَانَ الكَلِمَةُ.

فلا تتضمن هذه الآيات ما يثبت الأزلية لعيسى (عليه السلام) بلفظ (البدء).

ويلاحظ على المقدّمة الثانية (أن يراد بالكلمة عيسى):

أنّ الكلمة في الإنجيل تطلق على عيسى (عليه السلام) وعلى غيره، فهي تطلق على كلام الله تعالى، كما في رسالة يعقوب: وَلكِنْ كُونُوا عَامِلِينَ بِالكَلِمَةِ، لاَ سَامِعِينَ فَقَطْ خَادِعِينَ نُفُوسَكُمْ(71).

وأقرّ المفسرون بإرادة الكتاب المقدس منها، فقال وليم ماكدونالد: علينا أن نُتَرِجم الكتاب المقدس إلى عمل؛ وينبغي للكلمة أن تتجسّد في حياتنا.

وقال عالم اللاهوت الهولندي د. هيرمان بافينك: الكتب المقدسة.. تعلن مراراً وتكراراً وتؤكد أنها بوصفها كتابات، فهي أيضاً كلمة الله(72).

فلا وجه لجعلها مختصّةً بعيسى (عليه السلام) دون قرينة، فيحتمل أن يكون المراد منها كلام الله تعالى، بمعنى أوامره ولو على سبيل الاحتمال، ويشهد له تتمة الآيات: كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ: فبكلمات الله خلق الله الخلق، كما يعتقد بذلك المسلمون: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(73).

ويلاحظ على المقدّمة الثالثة (أن يُقصَد بها المعنى الحرفي):

أولاً: ان نسخ الانجيل تختلف في ترجمة هذه الفقرة، ففي ترجمة العالم الجديد لشهود يهوه اختلافٌ كبيرٌ عن النص المعروف:

 فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ،‏ وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللهِ،‏ وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ إِلٰهًا.‏ هٰذَا كَانَ فِي ٱلْبَدْءِ عِنْدَ ٱللهِ.‏ بِهِ وُجِدَ كُلُّ شَيْءٍ،‏ وَبِغَيْرِهِ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ.‏

وعلى هذه الترجمة فإن كون الكلمة إلهاً لا تعني أنها الله أبداً، كما تقدّم من كون لفظ الإله يُستخدم في أنبياء الله تعالى كما استعمل في موسى (عليه السلام)، وعليه يدلّ على أن الله تعالى جعل عيسى إلهاً بالمعاني المتقدمة، فهو سيّدٌ ومعلّمٌ، هذا لو سلّمنا دلالتها على عيسى.

كذلك ورد في ترجمة الشريف SAB: فِي الأَصْلِ كَانَ الكَلِمَةُ. وَكَانَ الكَلِمَةُ عِنْدَ الله. وَالكَلِمَةُ هُوَ ذَاتُ الإِلَهِ، فَإِنَّهُ كَانَ فِي الأَصْلِ عِنْدَ الله.

وفي ترجمة ابن العسال: في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وإلهاً كان الكلمة. هذا كان منذ الأزل عند الله.

وفي الأناجيل الأربعة المترجمة عن القبطية سنة 1935 (لحبيب جرجس) عين ما ورد في ترجمة ابن العسال.

وهذه الترجمات كلّها تفيد أن الكلمة كان إلهاً، وقد تقدّم بيان استعمال الإله في غير الله تعالى.

نعم ورد في ترجمة العسال والقبطية (منذ الأزل) وقد عالجناها في المقدمة الأولى.

كذلك اختلفت عنهم ترجمة: المعنى الصحيح لإنجيل المسيح TMA فقد ورد فيها: في البَدءِ، قَبلَ خَلقِ الكَونِ، كانَ الكَلِمةُ - كَلِمةُ الله. وكانَ الكَلِمةُ مَعَ الله، وكانَ قائِماً في ذاتِ الله.

وعلى هذه الترجمة يستقيم المعنى بشكلٍ بديعٍ بما لا يُعارِضُ الأصول العقلية ولا النقلية، فتكون الآية دالّة على أن الكلمة كان عند الله بمعنى علم الله تعالى بكُتُبِه وآياته قبل إنزال الكتب وخلق الخلق وإرسال الرسل، وهو موافقٌ لعقيدة النصارى والمسلمين، والشاهد على ذلك هو كون صفات الله عين ذاته(74) فيكون المراد من: قائماً في ذات الله، أي ثابتاً في علم الله، كما ورد عندنا في الأحاديث الشريفة عن المعصومين ^: عَنْ مَنْصُورِ بْنِ حَازِمٍ قَالَ: سَالتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام): هَلْ يَكُونُ اليَوْمَ شَيْ‏ءٌ لَمْ يَكُنْ فِي عِلْمِ الله بِالأَمْسِ؟

قَالَ: لَا، مَنْ قَالَ هَذَا فَأَخْزَاهُ الله.

قُلْتُ: أَ رَأَيْتَ مَا كَانَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، أَ لَيْسَ فِي عِلْمِ الله؟

قَالَ: بَلَى، قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الخَلْقَ(75).

وفي حديث آخر: عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) أَنَّهُ قَالَ: مَا بَعَثَ الله عَزَّ وَجَلَّ نَبِيّاً قَطُّ إِلَّا وَفِي عِلْمِ الله عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ إِذَا أَكْمَلَ لَهُ دِينَهُ كَانَ فِيهِ تَحْرِيمُ الخَمْرِ وَلَمْ تَزَلِ الخَمْرُ حَرَاماً(76).

كلّ هذه الاختلافات شواهدُ على عدم إرادة المعنى الحرفيّ منها، فلا يثبت بذلك كون عيسى هو الله.

ثانياً: أن اليهود غالباً ما يعبّرون عن الله ب(كلمة الله) أو أمره أو ملائكته، يظهر ذلك مما ورد في سفر الخروج في النسخ المعروفة: وَأَخْرَجَ مُوسَى الشَّعْبَ مِنَ المَحَلَّةِ لِمُلاَقَاةِ الله، فَوَقَفُوا فِي أَسْفَلِ الجَبَلِ(77).

لكنها وردت في التوراة السومرية ترجمة أبو الحسن إسحاق الصوري: وأخرج موسى القوم للقاء ملائكة الله من المعسكر. ووقفوا في أسفل الجبل.

وفي تفسير التوراة بالعربية: للكاهن سعديا بن جاؤون بن يوسف الفيومي: فأخرج موسى القوم ليتلقى أمر الله من العسكر، فوقفوا أسفل الجبل.

لذا كتب شارح الانجيل ديفيد جوزيك في شرحه لمطلع إنجيل يوحنا: غالباً ما يشير معلمو اليهود إلى الله (خاصة عند الحديث عن شخصه) مستخدمين تعبير (الكلمة).. فحسب التفكير اليهودي القديم يجوز استخدام العبارة كلمة الله بدلاً من الله(78).

وعلى هذا التفسير يكون المراد من الآيات أنه في البدء أي بدء الخلق كان أمر الله، وكل شيء به كان، أي كان كل شيء بأمر الله تعالى، وتكون الآية نصاً على جواز استخدام لفظ الكلمة أو كلمة الله أو أمر الله بدل اسم الجلالة (الله).

ثالثاً: أنّ في الكتاب المقدّس شواهدُ على إطلاق اسم الجلالة على غير الله تعالى، كإطلاقه على ملائكته لكونهم الناقلين لرسالته، كما ينقل سفر التكوين عن يعقوب قوله: وَقَالَ لِي مَلاَكُ اللهِ فِي الْحُلْمِ: يَا يَعْقُوبُ. فَقُلْتُ: هأَنَذَا. فَقَالَ: ارْفَعْ عَيْنَيْكَ وَانْظُرْ.. أَنَا إِلهُ بَيْتِ إِيلَ(79).

فالمراد من عبارة: (إله بيت إيل) هو الله تعالى، لكن المتكلّم وهو الملاك قال عن نفسه (أنا إله بيت إيل)، وإنّما صحّ هذا الاستعمال بحسب الكتاب المقدّس كون الملاك ناقلاً لكلام الله تعالى، وهو نظير نسبة الفعل للفاعل والآمر معاً، كما في قوله: فَضَرَبَ الرَّبُّ الشَّعْبَ، لأَنَّهُمْ صَنَعُوا الْعِجْلَ الَّذِي صَنَعَهُ هَارُونُ(80).

فإذا كان الكتاب المقدّس قد صحّح وصف الملاك نفسه بما ينقله عن الله تعالى، وصحّح نسبة الفعل للآمر والفاعل، فإن كلّ نصٍّ دلّ على وصف عيسى بصفات الله يُحمَلُ على كون الصفات حقيقية لله تعالى، وعيسى رسولُه هو الواسطة في نقلها أو التعبير عنها في إنجيله، وكلُّ نصٍّ دلّ على أن الفاعل لفعل عيسى هو الله لا يثبت ألوهية عيسى بل يثبت أن الله تعالى هو الآمر لعيسى (عليه السلام).

كلُّ هذا بحسب الكتاب المقدس.

على أن فيه موارد أخرى رأى فيها مَنوح وامرأته (ملاك الرب) بصورة رجل، فقالا: قَدْ رَأَيْنَا الله(81).

رابعاً: أن في كلمات علماء النصارى ما يؤكد عدم حرفيّة هذه الألفاظ بالمعنى الذي يستدلون به، وذلك عند اعترافهم بعدم ورود نصٍّ يدل على أن عيسى هو الله، ومن هؤلاء الاب فاضل سيداروس حيث يقول: من اللافت للنظر أنه لم يرد مرة واحدة على لسانه أنّه (الله)، بل كان يعتبر نفسه (الابن) لأن ما يهمه في الأمر إنما هو علاقته البنويّة. فلا كيان له إلا في داخل علاقته بالآب، علاقة الابن الذي يَقتَبِلُ حياته من أبيه(82).

وما يَهُمُّنا من هذا الاعتراف هو التصريح بعدم ورود نصٍّ يدل على أن عيسى هو الله، وهو عين ما قلناه في تفسيرنا لهذا النص (وكان الكلمة الله).

ويلاحظ على المقدّمة الرابعة (تعدُّد معاني لفظ الجلالة):

أن المسلمين يعتقدون بأن لفظ الجلالة (الله) لا يطلق إلا على الذات الإلهية المقدّسة، ولا يصح إطلاقه على أحد سوى الذات المقدسة لا على نحو الحقيقة ولا على نحو المجاز.

لكن الأمر ليس محلَّ اتّفاقٍ عند النصارى، إذ لو أريد من لفظ الجلالة (الله) معنىً واحد في الموردين (وَالكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ الله، وَكَانَ الكَلِمَةُ الله): لَلَزِمَ على عقيدة النصارى كون الآب هو الابن، أي كون الله الآب هو الله الابن، أي لَصَارَ الأقنومان الأول والثاني أقنوماً واحداً أي شخصاً واحداً ولارتفع التمايز بينهما، وهذا إشكالٌ عويصٌ على فهمهم لهذا لآية، لذا لجؤوا إلى التصرُّف في فهم الآيات، فقال القسّ منسّى يوحنا ما يلي:

قال أحد المُفسِّرين: قال يوحنا الإنجيلي «والكلمة كان عند الله» وفي هذا القول أمران: أولاً: أنَّ الابن كان أقنوماً مُميَّزاً عن الآب. ثانياً أنَّه مع ذلك بينهما اتِّحاد كامل واتِّفاق تامّ في كُلّ رأي وقضاء وعمل. وقال أيضاً: «وكان الكلمة الله» ومعناه أنَّه مساوٍ للآب في الجوهر، أي أنَّ له صِفات الآب نفسها وقوّته، واستحقاقه الإكرام والطّاعة والعبادة التي يستحقها الآب. ولفظة الله هنا، تختلف عنها في الجملة التي قبلها، ومعناها هُنا جَوهَرُ اللاهوت(83).

فقال أن لفظ (الله) الأول دالٌّ على أقنوم الآب، أي الله الآب، بمعنى أن عيسى الأقنوم كان عند (الله) أي عند الله الآب.

وأن لفظ (الله) الثاني دالٌّ على (جوهر الله) لا على أقنومه، فيكون عيسى هو الله بمعنى اشتراكه مع الله في الجوهر.

نقول: هذا تصرُّفٌ في فهم الآية بلا شاهدٍ ولا قرينة، بل هذا إسقاطٌ لعقيدة الثالوث على الآيات، ولو ساغ التصرُّف بظاهرها لحلّ الإشكال العويص عليهم، فإنَّ تَصَرُّفَنَا بظاهرها أولى من تصرفهم، لأن تصرُّفَنَا مما تحتمله اللغة وتُرشِدُ إليه وتدلُّ عليه القرائن، بخلاف ما ذهبوا إليه.

ومن القرائن على ما ذهبنا إليه هو دلالة الكتاب المقدس على توحيد الله تعالى توحيداً مطلقاً كما تقدم في الفصل الثاني، ودلالته على نفي تشبيهه بخلقه، ودلالته على أن كل ما عند عيسى فمن الله، وبناء عليه يكون مفاد الآية حينها أن عيسى هو الطريق إلى الله، كما عبّر الكتاب المقدّس عن ملاك الله أنه الله، كما تدل على أن عيسى هو أقرب الناس إليه تعالى، دون أي دلالة على الأقانيم الثلاثة.

ويتوقف استدلالهم بهذه الآية على أن يكون المراد من (الله) في كل مورد معنى مختلف عن المورد الآخر، وهو ما لا شاهد عليه، فخرج الاستدلال عن ظاهر اللفظ إلى معانٍ أسقطت عليه.

وما ذهب إليه بعض شُرّاح الإنجيل كبنيامين بنكرتن من وجود قرينة على هذا التفسير هو دعوى بلا دليل، فبعد الاعتراف بخطورة الاشكال بقوله: لو وردت هذه الجملة بلا قرينتها لكان ممكنًا أنّ أحدًا يزعم أن الكلمة هو الله، والله هو الكلمة، وأنهُ لا يوجد تثليث الأقانيم.

يعود فيقول: ولكن كلام البشير واضحٌ مُفَصَّلٌ كلهيب سيف متقلب لحراسة مجد المسيح الخاص، ويعلن لنا بهذه العبارات القصيرة أنهُ موجود من الأزل، وأنهُ الله في الجوهر وأقنوم خاصّ.

أما ما هي القرينة التي يعتمدون عليها؟ فهي عقيدتهم نفسها من الاعتقاد بأن عيسى (عليه السلام) مساو لله في الأزلية الجوهر، أي أنه يستدل بالمُدَّعى!

ثم يقول بنكرتن: لفظة الله هي اسمٌ للجلالة الإلهية وتطلق على كلٍّ من الأقانيم، فإذا قيل: في البدء خلق الله السماوات والأرض، فالمقصود بذلك هو الله الابن كما يتضح من هذه الآية ومن شهادات أخرى كثيرة.. فإيجاد جميع الكائنات من لا شيء هو من أفعال الله الذي شاء وأوجدها بقدرتهِ. ولكن ذلك ينسب للأقنوم الثاني على سبيل الإيجاب والسلب لأن الوحي يقول أيضاً: وبغيرهِ لم يكن شيء مما كان.

وهو هنا يستدلُّ مجدداً بالمُدّعى، فإن الدعوى هي أن لفظ (الله) وهو اسم الجلالة مُشتَرَكٌ يطلق على الذات المقدسة وعلى عيسى (الذي يشترك مع الله في جوهره حسبما يقولون)، ولكي يَتِمّ الدليل عندهم لا بد من التسليم بفهمهم لهذه الآية، ولكي تُفهَم الآية كما يقولون لا بدّ من التسليم بما يقولون من كون الله مشترَكاً بين عيسى والله، ومن اتصافهما بجوهر واحد!

هذا وللقديس يوحنا الدمشقي كلماتٌ مهمةٌ يعتبر فيها أن (الآب والابن) هما اسمان خاصان لأقنومين، أما (الله والرب) فهما اسمان مشتركان، يقول:

ان تسمية الله هي في الواقع مشتركة بين الآب والابن(84).. ان الآب والابن هما اسمان خاصان لهذين الأقنومين، بينما الله والرب هما اسمان مشتركان.. ليس للفظة الله معنى أرفع من لفظة الرب، وليس للفظة الرب معنى أقل رفعة من لفظة الله(85).. ليس الابن دون الآب، وليس لاسم الرب قيمة أقلّ من اسم الله، لهذا يطلق الكتاب هاتين التسميتين على الآب والابن على السواء(86).

ويلاحظ على كلماته: أن اعتبار تسمية (الله) مشتركة بين الذات الإلهية وبين عيسى لا يدلُّ على اتصاف عيسى بصفات الذات الإلهية المقدسة، بضميمة الاعتراف بكون الرب كذلك مشتركاً، وكونه ليس أقل قيمة من اسم الله.

حيث أنه قد ثبت استعمال الربوبية لغير الذات المقدسة دون أن تثبت صفات الذات المقدسة لمن استعملت فيه الربوبية.

بعبارة أخرى: كما ثبت (بحسب الكتاب المقدس دوماً) ان الرب هو اسمٌ مشترك يُستعمل في الذات الإلهية المقدسة وفي عيسى (عليه السلام) وفي غيرهما دون أن يلزم من ذلك وصف من سوى الله تعالى بصفاته، كذلك (على القول بأن الله اسم مشترك) فلو سلمنا بإطلاقه على عيسى في الآية لا يكون فيه أي دلالة على اتصافه بصفات الذات الإلهية المقدسة، جمعاً بين إطلاق اللفظ عليه وبين وصفه بصفات الإنسان المخلوق.

لكلّ ما تقدّم يتضح عدم دلالة هذا النص على ألوهيّة عيسى (عليه السلام) بوجه.

3. بُنُوَّة المسيح لله

استُدِلَّ على ألوهيّة المسيح بأنّه ابن الله تعالى. والنصوصُ في بنوّته كثيرةٌ في الإنجيل، من أهمّها: بَدْءُ إِنْجِيلِ يَسُوعَ المَسِيحِ ابْنِ الله(87).

ومنها: الله، بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيمًا، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُق كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ، الَّذِي جَعَلَهُ وَارِثًا لِكُلِّ شَيْءٍ، الَّذِي بِهِ أَيْضًا عَمِلَ العَالَمِينَ.. صَائِرًا أَعْظَمَ مِنَ المَلاَئِكَةِ بِمِقْدَارِ مَا وَرِثَ اسْمًا أَفْضَلَ مِنْهُمْ. لأَنَّهُ لِمَنْ مِنَ المَلاَئِكَةِ قَالَ قَطُّ:«أَنْتَ ابْنِي أَنَا اليَوْمَ وَلَدْتُكَ»؟ وَأَيْضًا:«أَنَا أَكُونُ لَهُ أَبًا وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ابْنًا»؟ وَأَيْضًا مَتَى أَدْخَلَ البِكْرَ إِلَى العَالَمِ يَقُولُ:«وَلْتَسْجُدْ لَهُ كُلُّ مَلاَئِكَةِ الله»(88).

يقول مفسر الإنجيل وليام ماكدونالد في تفسير هذه الآيات: عندما يوصف الرب يسوع بأنه ابن الله، فهذا يعني أنه مساوٍ لله.

فالإستدلال بها يكون من جهة دلالتها على مساواته (عليه السلام) لله تعالى، وعلى أزليته (عليه السلام).

المناقشة فيه

والمناقشة فيها من جهتين: جهة الأبوّة، وجهة البنوّة.

1. جهة الأبوّة

يُلاحَظُ أن من أسماء الله في الإنجيل (الآب).

وبغضّ النظر عن صحّة هذه التسمية من عدمها(89)، نسيرُ مع الإنجيل في تسميته هذه لنرى هل تدل هذه النصوص فيه على مساواة عيسى لله تعالى أم لا؟ بعد التسليم بكون عيسى ليس الآب، بل يُطلِقُ عليه الكتاب المقدس لفظ (الابن)، اذ لو كان عيسى الابن هو الآب لم تتعدد الأقانيم.

ومن الواضح أن الآب (بحسب الإنجيل) هو ربُّ السماء والأرض وما فيهما وما بينهما، وهو ربُّ عيسى وإلهه، فكيف يكون مساوياً له؟

ورد في إنجيل متى: فِي ذلِكَ الوَقْتِ أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ: «أَحْمَدُكَ أَيُّهَا الآبُ رَبُّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هذِهِ عَنِ الحُكَمَاءِ وَالفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ(90).

فعيسى (عليه السلام) يحمد الآب الذي هو الله تعالى بحسب الإنجيل، فكيف يكون عيسى هو الله؟!

وليست أبوّة الآب مختصة بعيسى في الإنجيل، فقد عُدَّ الآبُ أباً للمؤمنين أيضاً: فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ(91).

وفي الإنجيل أيضاً: لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ(92).

وفيه: فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ(93).

وقد أمر الإنجيلُ الناسَ بالدعاء لأبيهم قائلاً: فَصَلُّوا أَنْتُمْ هكَذَا: أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ(94).

وفيه: فَإِنْ كُنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلاَدَكُمْ عَطَايَا جَيِّدَةً، فَكَمْ بِالحَرِيِّ أَبُوكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، يَهَبُ خَيْرَاتٍ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ! (95).

وهذه الأبوّة عامّةٌ للجميع، ففي إنجيل متى: وَلاَ تَدْعُوا لَكُمْ أَبًا عَلَى الأَرْضِ، لأَنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ(96).

وهذا الآب إلهٌ للكلّ بمن فيهم المسيح: إِلهٌ وَآبٌ وَاحِدٌ لِلْكُلِّ، الَّذِي عَلَى الكُلِّ وَبِالكُلِّ وَفِي كُلِّكُمْ(97).

وفي رسائل بولس لكنيسة كُورِنْثُوسَ: نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ الله أَبِينَا وَالرَّبِّ يَسُوعَ المَسِيحِ(98).

ثم إنّ ثبوتَ أبوّة الله تعالى للمسيح ولآدم وللمؤمنين هو دليلٌ على مغايرتهم لله تعالى، وهو دليلٌ على نفي ألوهيتهم بحسب الكتاب المقدّس دائماً، إذ دلّ على أن الله (الآب وليس عيسى) هو الإله الحقيقيّ وحده، وذلك بنصّ كلام عيسى (عليه السلام) نفسه:

تَكَلَّمَ يَسُوعُ بِهذَا وَرَفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ وَقَالَ:«أَيُّهَا الآبُ، قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ. مَجِّدِ ابْنَكَ لِيُمَجِّدَكَ ابْنُكَ أَيْضًا، إِذْ أَعْطَيْتَهُ سُلْطَانًا عَلَى كُلِّ جَسَدٍ لِيُعْطِيَ حَيَاةً أَبَدِيَّةً لِكُلِّ مَنْ أَعْطَيْتَهُ. وَهذِهِ هِيَ الحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلهَ الحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ المَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ. أَنَا مَجَّدْتُكَ عَلَى الأَرْضِ. العَمَلَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي لأَعْمَلَ قَدْ أَكْمَلْتُهُ(99).

فالحياة الأبدية بحسب هذا النص إذاً ترتكز على أمرين:

الأول: معرفة الإله الحقيقي، وهو الله وحدَه، وهو المُرسِل.

والثاني: معرفة المُرسَل، وهو يسوع المسيح.

وكلُّ ألوهيةٍ لعيسى المسيح (عليه السلام) أو لغيره كموسى (عليه السلام) أو لغيرهما ممن ورد ذكرهم في الكتاب المقدّس هي ألوهيّة غير حقيقة.. إضافيّة.. مجازيّة.. ما شئت عنها فعبِّر.

وهذا النص وأمثاله من نصوصٍ كثيرةٍ يُثبِتُ المباينة بين الله تعالى المرسِل وبين عيسى النبيّ المرسَل.

ولا يُعقل أن يكون يسوع المسيح هو الإله الحقيقيّ أيضاً، لثبوت التغايُر بين المرسِل والمرسَل وبين المُعطي والمعطَى.

كذلك يُثبت الإنجيل لله تعالى وحده رب الأرباب صفةَ عدم الموت (بذاته)، فعيسى قد مات (بحسب عقيدة النصارى)، لكنّ الله تعالى وحده لا يموت، فكيف يكون عيسى مساوياً لله؟

ففي بعض رسائل بولس: أُوصِيكَ أَمَامَ الله الَّذِي يُحْيِي الكُلَّ، وَالمَسِيحِ يَسُوعَ الَّذِي شَهِدَ لَدَى بِيلاَطُسَ البُنْطِيِّ بِالاعْتِرَافِ الحَسَنِ: أَنْ تَحْفَظَ الوَصِيَّةَ بِلاَ دَنَسٍ وَلاَ لَوْمٍ إِلَى ظُهُورِ رَبِّنَا يَسُوعَ المَسِيحِ، الَّذِي سَيُبَيِّنُهُ فِي أَوْقَاتِهِ المُبَارَكُ العَزِيزُ الوَحِيدُ: مَلِكُ المُلُوكِ وَرَبُّ الأَرْبَابِ، الَّذِي وَحْدَهُ لَهُ عَدَمُ المَوْتِ، سَاكِنًا فِي نُورٍ لاَ يُدْنَى مِنْهُ، الَّذِي لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَاهُ، الَّذِي لَهُ الكَرَامَةُ وَالقُدْرَةُ الأَبَدِيَّةُ. آمِينَ(100).

فإنّ الله هنا في هذا النص ليس هو المسيح جزماً، وهو الوحيد الذي له عدم الموت، والذي لم يره الناس، فيما مات يسوع المسيح، ورآه الناس، فكيف تَثبُتُ المساواة بين الله تعالى وبين عيسى؟!

على أنّ فتح الباب أمام القول بأن الله هو (آب) يجعل الأمور بلا ضابطةٍ، ويفتح الباب أمام ما ورد في بعض الأناجيل المنحولة التي لم تقبلها الكنيسة، كوجود آبٍ لهذا الآب! ففي البردية رقم 1081من برديات البَهنسا(101):.. قال لهم المخلص: .. إن إشعاع الذّكاء هذا يُعَلِّمُكُم أن تجدوا الإيمان الذي يُظهره الآب الذي لا أب له. مَن له أذنان للسمع فليسمَع. ان سيّد الأشياء كلّها ليس الآب بل الجدّ! لأن الآب هو فقط مصدرُ ما سوف يحدث. لكنَ أباه هو الجَدّ، إلهُ كلّ الأشياء منذ البدء حتى الأزمنة البعيدة(102).

ومع قبول النصارى لوصف الله تعالى بالأبوّة، وإنكار المانع العقليّ من ذلك، فليس لهم ما يحتجّون به على القائلين بوجود أبٍ لهذا الأب وهو الجدّ!

كذلك ستكون حجّتهم خاسرةً أمام القائل بأن عيسى هو الآب لكل شيء! بل أنّه الآب والابن! وإن كان هذا القول باطلاً في نفسه، وهو قول المورمون(103): وسيُدعى يسوع المسيح، ابن الله، أب السماء والأرض، خالق كل الأشياء منذ البداية(104).

ويقولون: إن المسيح كان الإله، الآب لكل الأشياء(105).

وفيه: أودّ أن تفهموا أن الله نفسه سيأتي بين بني البشر وأنه سيفتدي قومه. ولأنه ظهر في الجسد فسيُدعى ابن الله مُخضِعاً الجسد لإرادة الرب، فهو الآب والابن! الآب لأنّه تَخَلَّقَ بقوّة الله، والابن بسبب الجسد، وهكذا أصبح الآب والابن. وكلاهما إله واحد، نعم الآب الأزلي للسماء والأرض(106).

وهكذا ينفتح الباب أمام أقوالٍ أشدٌّ بطلاناً لا تستندُ إلى أي دليل كما لم يستند القول بالثالوث وبألوهية عيسى إلى أيّ دليل، حيث لم يثبت أن عيسى هو الله بوجهٍ من الوجوه بحسب الكتاب المقدّس من جهة الأبوّة.

2. جهة البنوة

من الواضح أن بنوّة الله المذكورة في الإنجيل لا تدلّ على المساواة أبداً بين الآب والابن، فقد استعمل الكتابُ المقدَّسُ البنوّة في غير المسيح أيضاً في موارد كثيرة، منها بنوّة آدم لله تعالى، كما في إنجيل لوقا: .. بْنِ أَنُوشَ، بْنِ شِيتِ، بْنِ آدَمَ، ابْنِ الله(107).

وهي بنوّة خاصّة لآدم (عليه السلام) هنا، فلو كانت تعني المساواة لله للزم مساواة آدم لله تعالى أيضاً.

بل استُعمِلَت البنوّة في المؤمنين في موارد كثيرة، وقد استعمل الإنجيل لفظي (أبناء الله) و(أولاد الله)، في موارد عدّة، منها ما في رسائل يوحنا: اُنْظُرُوا أَيَّةَ مَحَبَّةٍ أَعْطَانَا الآبُ حَتَّى نُدْعَى أَوْلاَدَ الله! مِنْ أَجْلِ هذَا لاَ يَعْرِفُنَا العَالَمُ، لأَنَّهُ لاَ يَعْرِفُهُ. أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، الآنَ نَحْنُ أَوْلاَدُ الله، وَلَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ مَاذَا سَنَكُونُ(108).

ومنها: لأَنَّكُمْ جَمِيعًا أَبْنَاءُ الله(109).

وأعطى لهذين اللفظين (أبناء الله) و(أولاد الله) معانٍ عدّة يصحّ استعمالها في عيسى كما استعملت في غيره، ومن ذلك:

1. الإيمان بالله: في الكتاب المقدس ارتباطٌ بين الإيمان بالله والبنوّة والولادة: وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ الله، أَيِ المُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ(110).

2. الانقياد لله: لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَنْقَادُونَ بِرُوحِ الله، فَأُولئِكَ هُمْ أَبْنَاءُ الله(111).

واستعمل عيسى (عليه السلام) البنوّة والولادة بهذا المعنى احتجاجاً على من ينتسب لإبراهيم ولا يعمل بعمله، فقال لهم: «لَوْ كُنْتُمْ أَوْلاَدَ إِبْرَاهِيمَ، لَكُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالَ إِبْرَاهِيمَ!(112).

وفي نسخة أخرى: لو كنتم أبناء إبراهيم لفعلتم أفعال إبراهيم(113).

وهو شاهدٌ على أن المراد بالولد والابن واحد.

وأول المؤمنين بالله تعالى والمنقادين له هم أنبياء الله ورسله.

ولذا فإن عيسى بعد أن نفى انتساب هذه الفئة لإبراهيم (عليه السلام) بسبب مخالفتهم لمنهاجه، أثبت لهم البنوّة لإبليس مع أنهم ليسوا أبناءه حقيقة إنما هم من صنف البشر، فقال لهم: أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ، وَشَهَوَاتِ أَبِيكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا(114).

وفسّرها وليم ماكدونالد بقوله: وهذا لا يعني أنهم قد وُلدوا من إبليس، كما يولد المؤمنون من الله. لكنه يعني، كما قال اغسطينوس، إنهم كانوا أولاد إبليس بمشابهته. لقد كانوا، بطريقة حياتهم، يعلنون علاقتهم بإبليس.

فيكون عيسى ابن الله بمعنى إيمانه بالله وانقياده له تعالى، كما كان القوم أبناء ابليس بمعنى اتباعهم لطريقه.

3. صناعة السلام: طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ، لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ الله يُدْعَوْنَ(115)، وقد وصف عيسى (عليه السلام) في الكتاب المقدس بأنه: رَئِيس السَّلاَمِ(116).

فيكون ابن الله بمعنى أنه مبعوث الله لأجل السلام.

4. البنوّة بمعنى الخلقة أي أن الله خلقهم، فقد اعترف مفسرو الانجيل بأن المراد من البنوّة قد يكون الخَلق، فقال مفسر الإنجيل وليام ماكدونالد في شرحه على الآيات محل البحث: إن الملائكة، بشكل جماعي، مذكورٌ عنهم أنهم أبناء الله (أي1: 6؛ مز89: 6)، لكن المعنى هنا لا يتعدى كونهم مخلوقات.

فلماذا صارت البنوّة في المسيح تدل على مساواته لله تعالى؟ والبنوّة في الملائكة تدل على الخِلقَة؟

هذا تفسيرٌ بالرأي لا شاهد له من الإنجيل.

وقد اعترف بعض شرّاح الانجيل بعدم دلالة هذه الآيات على الأزلية، فقال ناشد حنا في تفسيره: وقبل كل شيءٍ يجب أن نستبعدَ من أذهاننا بالتمام فكرة "الولادة" فالابن ليس مولوداً من الله في الأزل، لا ولادة روحية ولا طبيعية.

وقد فسّر بعض علماء النصارى البنوّة لله بأنها تدل على كونه (جاء من عند الله)، قال القمص زكريا بطرس: في قولنا المسيح ابن الله لا نقصد أنّ المسيح جاء عن طريق تزاوج على طريقة ما. فقولنا «ابن» لا نقصد بها العلاقة الجسديّة أو الولادة التناسليّة، وإنّما نقول «المسيح ابن الله» أي أنّه جاء من عند الله. فالله هو روحٌ، لذا تنبع بنوّة المسيح من أبوّة الله الروحيّ(117).

فهم مع قولهم بالأزلية لا يعتقدون بإمكان الاستدلال عليها بالبنوّة، لأنّها لا تتضمن معنى الأزلية، بل تعني أنه جاء من عند الله بِحَسَبِهِم، وهو ينسجم مع الخِلقة، والخِلقَةُ تقتضي العبوديّة، بل لعلّ من معاني البنوّة في الإنجيل العبوديّة التي تقابل الألوهيّة لمقام التقابل، كما في الإنجيل: مَنْ يَغْلِبْ يَرِثْ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَكُونُ لَهُ إِلهًا وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ابْنًا(118).

 نعم قد يُستَدَلُّ على أنّ لبنوّة عيسى معنىً مختلفاً لأن الإنجيل قد ذكر أنّه (الابن الحبيب) وأنّه (الابن الوحيد).

ومن هذه النصوص ما تحدّث عن ارتفاع عيسى (عليه السلام) إلى السماء: وَصَوْتٌ مِنَ السَّمَاوَاتِ قَائِلاً:« هذَا هُوَ ابْني الحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ»(119).

ومنها: فَإِذْ كَانَ لَهُ أَيْضًا ابْنٌ وَاحِدٌ حَبِيبٌ إِلَيْهِ، أَرْسَلَهُ أَيْضًا إِلَيْهِمْ أَخِيراً، قَائِلاً: إِنَّهُمْ يَهَابُونَ ابْنِي! (120).

ومنها: لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ الله العَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ(121).

وفي يوحنا: الله لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ الوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ(122).

قال هلال أمين: كلمة "الوحيد" تُرينا نسبته الخاصة الأزليّة للآب وهو ينفرد بهذه النسبة.

وقال وليام ماكدونالد: أمّا الرب يسوع المسيح فهو ابن الله الوحيد، وما من ابنٍ آخر نظيره. إنه دائماً قريبٌ من الله الآب قُربًا مميَّزًا، وله مكانة خاصة عنده. كما أنّه كان، وما زال، في حضن الآب، حتى خلال وجوده هنا على الأرض. كان واحدًا مع الله ومساوياً لله.

وقال الدكتور القس لبيب ميخائيل: وتسمِيَةُ المسيح باسم «الابن الوحيد» تُبعِدُ أيّ وجه للمقارنة بين بنوّته لله وبنوّة الملائكة والناس(123).

ويظهر أن المفسرون قد بالغوا كثيراً في مثل هذه التفسيرات، بل أسقطوها إسقاطاً على الألفاظ، فهل يتضمن لفظ (الوحيد) في أي لغة من اللغات مثل هذه المعاني؟ الأزلية والمساواة؟

يمكن الجواب على كلامهم بحسب الإنجيل بمِثَالٍ يُقَرِّبُ الفكرة للأذهان كما يلي:

نلاحظ أن الانجيل قد أطلق لفظ (السيد) على المالك بقوله: فَقَالَ السَّيِّدُ لِلْعَبْدِ: اخْرُجْ إِلَى الطُّرُقِ(124).

ثم أطلقه على المسيح بقوله: أَخَذُوا السَّيِّدَ مِنَ القَبْرِ، وَلَسْنَا نَعْلَمُ أَيْنَ وَضَعُوهُ(125).

ثم أطلقه على الله تعالى بقوله: أَيُّهَا السَّيِّدُ، أَنْتَ هُوَ الإِلهُ الصَّانِعُ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ(126).

ومع إطلاق لفظ السيد على المصاديق الثلاثة هذه، عبّر عن الله بأنّه السيد الوحيد: وَيُنْكِرُونَ السَّيِّدَ الوَحِيدَ: الله، وَرَبَّنَا يَسُوعَ المَسِيحَ(127).

اذاً كيف نتعامل مع مثل هذه النصوص التي وردت في الإنجيل؟

الاحتمال الأول: أن نقول بالتعارض، فكيف يصحّ وصفُ الإنسان العاديّ بالسيّد ووصف المسيح بالسيّد ووصف الله بالسيّد، ثم وصف الله وحده بهذه الصفة ونفيها عن الآخرين؟ إذ سيكون النص الرابع معارضاً للنَصَّين الأولين.

الاحتمال الثاني: أن نقول بأن النفي إنما كان لأعلى مراتب السيادة وأتمّها، فلا يراد نَفيُ السيادةِ حقيقةً عن غير الله تعالى، بل يُرادُ نَفيُ أعلى مراتبها، أو نَفيُ كونها سيادةً ذاتيةً غير محتاجة إلى أحد، فيكون المراد أن لا سيّد مستغنٍ إلا الله، وسيادة الآخرين وإن كانت ثابتة إلا أنها بمرتبة أدنى تتضمن الاحتياج إلى الله تعالى الخالق القادر.

ولا شكّ أن النصارى لا يقبلون التعارض في الإنجيل، وإنما سيسارعون إلى اختيار الاحتمال الثاني الذي ذكرناه، وهو ما تُساعد عليه اللغة والاستعمالات العُرفية.

وفي موردنا حول البنوّة تجري القاعدة نفسها، فإما أن نقول بالتعارض بين بنوّة الناس لله تعالى (ودائماً بحسب الكتاب المقدس) وحبّ الله لهم كما أثبته الكتاب المقدس، وبين حصر البنوّة والحب بعيسى (عليه السلام) وحده.

وإما أن نقول بأن أعلى مراتب الحبّ وأعلى مراتب البنوة (التي فسّرها الكتاب المقدس بالإيمان بالله والإنقياد له) مختصّة بالمسيح (عليه السلام)، ولا تشمل سائر الناس.

ويتعين اختيار الثاني لدفع التعارض، فيكون الدليلُ قاصراً عن إثبات ألوهيّة عيسى (عليه السلام).

ولهذا الاستعمال نظيرٌ في العهد القديم، حينما جاء الأمر لإبراهيم (عليه السلام): «خُذِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ، الَّذِي تُحِبُّهُ، إِسْحَاقَ، وَاذْهَبْ إِلَى أَرْضِ الْمُرِيَّا، وَأَصْعِدْهُ هُنَاكَ مُحْرَقَةً عَلَى أَحَدِ الْجِبَالِ الَّذِي أَقُولُ لَكَ»(128).

وهنا كان إبراهيم والداً لإسماعيل واسحاق، فقد تقدّم في الأصحاحات السابقة إنجابه لهما، وطرده لهاجر بناء على طلب سارة، وما جرى عليها وعلى ولدها، ثم جاء دور الامتحان.

فقوله: (خذ ابنك وحيدك)، لا يدل على أنه الابن الوحيد فعلاً، إنما يدل على أنه الابن المحبب له والأقرب، كما تشير إلى ذلك القرينة الداخلية في النص: (وحيدك، الذي تحبه).

وبهذا لا يدل قول: (الابن الوحيد) في عيسى (عليه السلام) على أن الآخرين ليسوا أبناء الله، وإلا لحصل التعارض، كما هو الحال هنا في إبراهيم وأولاده، وإنما يدل على مِزيَةٍ إضافيّةٍ وخصوصيّةٍ في عيسى هي شدّة قربه لله تعالى وحبّ الله له أكثر ممن أرسله إليهم، لذا انتخبه وانتجَبَه وأرسله مُزَوَّداً بالكرامات اللّازمة لإتمام مهمته وإيصال الحجة الإلهية للناس.

والأمر نفسه عندنا نحن المسلمين (مع عدم قبولنا بأبوّة الله لأحد)، فقد ورد وصف النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) في بعض الزيارات: وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ لَا حَبِيبَ إِلَّا هُوَ وَأَهْلُه‏(129).

فالحبُّ التام بأعلى مراتبه له (صلى الله عليه وآله وسلم) ولعترته الطاهرة ^ حصراً، والحبّ بمراتبه الأدنى لمن هم في مراتب أدنى من القرب له تعالى ثابتٌ جزماً.

فالمنفي عن غيره (صلى الله عليه وآله وسلم) هو أعلى مراتب الحب.. وكذا في عيسى (عليه السلام).. الابن الوحيد أي ليس هناك ابنٌ آخر له هذه الخصائص والكرامات في زمنه.

أما أن نفسّرها كما فعل شراح الإنجيل، بأنها تعني المساواة لله تعالى، وأنها تعني الأزليّة، ففضلاً عن عدم وجود شاهدٍ على ذلك في اللّغة ولا في الإنجيل، نجدُ أن الإنجيل يُكَذِّبُ هذا المعنى، ويُثبِتُ خضوع الابن الحبيب الوحيد لله تعالى، فكيف يكون مساوياً له حينها؟

ذكر بولس في رسائله: وَمَتَى أُخْضِعَ لَهُ الكُلُّ، فَحِينَئِذٍ الابْنُ نَفْسُهُ أَيْضًا سَيَخْضَعُ لِلَّذِي أَخْضَعَ لَهُ الكُلَّ، كَيْ يَكُونَ الله الكُلَّ فِي الكُلِّ(130).

وعليه فلا دلالة للأبوّة والبنوّة على المساواة بين الله وعيسى بوجهٍ من الوجوه، بل هي على عدم المساواة أدلّ، وهي صريحةٌ في خضوع عيسى لله تعالى.

ولنا شواهد عدّة من الإنجيل أيضاً على مثل هذه الاستعمالات، فضلاً عن لفظ (السيد) المتقدم، نذكر منها (البُغض)، فقد ورد في إنجيل لوقا: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَيَّ وَلاَ يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَامْرَأَتَهُ وَأَوْلاَدَهُ وَإِخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ، حَتَّى نَفْسَهُ أَيْضاً، فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذاً(131).

فقد دلّ على لزوم بُغض النفس والأهل والاخوة كمقدمة للتّلمذة عند المسيح، لكن الإنجيل في موارد أخرى ذم المبغض لأخيه بعدما مدحه هنا، ففيه: مَنْ قَالَ: إِنَّهُ فِي النُّورِ وَهُوَ يُبْغِضُ أَخَاهُ، فَهُوَ إِلَى الآنَ فِي الظُّلْمَةِ. مَنْ يُحِبُّ أَخَاهُ يَثْبُتُ فِي النُّورِ وَلَيْسَ فِيهِ عَثْرَةٌ. وَأَمَّا مَنْ يُبْغِضُ أَخَاهُ فَهُوَ فِي الظُّلْمَةِ، وَفِي الظُّلْمَةِ يَسْلُكُ، وَلاَ يَعْلَمُ أَيْنَ يَمْضِي، لأَنَّ الظُّلْمَةَ أَعْمَتْ عَيْنَيْهِ(132).

وفيه أيضاً: كُلُّ مَنْ يُبْغِضُ أَخَاهُ فَهُوَ قَاتِلُ نَفْسٍ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ كُلَّ قَاتِلِ نَفْسٍ لَيْسَ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ ثَابِتَةٌ فِيهِ(133).

قال وليم ماكدونالد في شرح (لوقا14: 26): كان يشدّد بالحريّ على ضرورة أن تكون المحبة له عظيمة جدًا بشكل تبدو كل محبة أخرى بمثابة بغضة بالمقارنة مع المحبة للمسيح.. نحتاج أن نبغض نفوسنا أيضاً. وفي هذه الحال، يكون المسيح، لا الذات، هو محور حياتنا.. لقد كانت كلمات المخلّص هذه مطلقة: إننا لا نقدر أن نكون له تلاميذ إذا لم نحبّه فوق كل شيء، أكثر من أفراد عائلاتنا، بل أكثر من أنفسنا. ولا مجال لأيّ حلٍّ وسط.

فعدّوا أمره ببغض النفس والأهل والأخوة نوعاً من المحبة البسيطة مقابل المحبة الهائلة التي يجب أن يُكِنّها المؤمن بالمسيح له، وهكذا تكون البنوّة الحقيقيّة الوحيدة، بمعنى أن بنوة الآخرين أي محبة الله لهم وعطفه عليهم ورعايته لهم مهما بلغت لا تُعدّ محبةً أمام محبة الله لرسوله عيسى (عليه السلام)، لأنه أفضل من كان في زمانه وقد أرسله الله لهداية الناس.

ونشير هنا إلى محاولة بعضهم التفرقة بين الابن والولد، فقال: لم ُيذكر أبدًا أن المسيح "ولد الله" بل "ابن الله" فالتوالد حالة جسدية أما الأبوّة فحالة روحية(134).

وقال القس الدكتور لبيب ميخائيل: هنا يتبلور الخطأ في مفهوم القرآن لمعنى بنوّة المسيح.. إن المسيح الذي يتحدث عنه الكتاب المقدس ليس «ولد» الله بل «ابن الله».. الله لم يتخذ ولداً. لأنه لو كان المسيح «ولد الله» لكان الله سابقاً له في الوجود كما يسبق الأب ابنه.. لكن المسيح هو «ابن الله» وتعبير الابن يعني المساواة في الأزلية وفي الذات(135).

والحال أن النصّ نفسه الذي استدلوا به على بنوته انما يذكر كما تقدم: أَنْتَ ابْنِي أَنَا اليَوْمَ وَلَدْتُكَ، فينصُّ على الولادة، وإذا كان التوالد حالةً جسديةً فإن النصّ الإنجيليّ يقول: أنا اليوم ولدتك، أي أن الولادة جسدية لا روحية كما يقول القس ميخائيل.

والنصارى لا يلتزمون بذلك، لذا لم يكن هناك من فرق بين (ولد الله) و(ابن الله)، فإن صح أن يقول (ولدتك) كان الناتج (ولداً) لأن الفعل (ولدتك).

ومحاولة التخلُّص من الإشكال بكون النص (أنا اليوم ولدتك) حدثت في الزمان فكان هذا عن التجسد لا عن الولادة الأزلية(136)، هو اعترافٌ بعدم إمكان الاستدلال بالنص محلّ البحث: أنت ابني.. أنا اليوم ولدتك. وهو المطلوب.

وأخيراً، فقد حاول بعض النصارى نسبة هذه العقيدة للقرآن الكريم، بالقول أنّ اعتقاد القرآن بكون عيسى بلا أبٍ يلزم منه وجود أبٍ غير بشريّ، قال القمص إبراهيم لوقا أن آيات القرآن الكريم: دعت المسيح ابن مريم، فوجب أن يكون لهذا الابن أبٌ كسائر المواليد من أنثى، لأن المعلولَ لا بُدَّ له من علّة، فالبنوّة تقتضي أبوّة. وأب المسيح إمّا أن يكون أباً بشرياً كسائر الآباء، وحينئذ يصبح المسيح شخصاً عادياً، والمسيحية والإسلامية تنزهان المسيح عن ذلك. وإما أن يكون هذا الآب أباً غير بشري، حتى يستقيم القول إنه كلمةٌ من الله. وقد انتفى أن يكون للمسيح أبٌ بشري، فوجب أن يكون له آب فائق الطبيعة هو الله سبحانه وتعالى(137).

نقول: صحيحٌ أن المعلول لا بدّ له من علّة، ولكن وجود الإنسان ليس معلولاً مطلقاً للأب والأم، بدليل وجود آدم وحواء بلا أبٍ وأم، فلا يوصفان بالبنوّة رأساً، أما عيسى (عليه السلام) فلما وُصِفَ بأنّه ابنُ مريم دلّ ذلك على توقف وجوده على وجود أمّه مريم، دون أبٍ بشريٍّ لثبوت ولادته من غير أبٍ بشري، فلا يلزم من ذلك وجودُ أبٍ له أبداً، لأنّ بنوته لمريم (عليها السلام) لا تقتضي بنوّته لأبٍ أيضاً، كما لم يقتضِ وجودُ آدم وحواء (عليهما السلام) وجود أبٍ لهما.

نعم بحسب الطبيعة البشرية لا يحصل التوالد إلا من أبٍ وأمّ، لكن الله قادرٌ على الخلق بلا أب كما في عيسى وبلا أب وأم كما في آدم وحواء.

ولو قلنا بأن البنوّة الطبيعية هي علّة تامّة للزم أن لا يكون بالإمكان خَلقُ آدم من غير أبٍ بشري، وهذا باطل باتفاق المسلمين والنصارى.

والخلاصة أن أياًّ من نصوص الأبوّة والبنوّة على فرض صحة الإنجيل خاليةٌ من الدلالة على مساواة عيسى لله تعالى.

تتميم: مناظرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للنصارى في بنوّة عيسى لله

روينا عن أئمتنا المعصومين ^ عن أمير المؤمنين (عليه السلام) مناظرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أهل خمسةٍ من الأديان بينهم النصارى، واحتجاجهم على كون عيسى ابن الله بما ورد في الإنجيل، فقال لهم (صلى الله عليه وآله وسلم): فَإِنْ كُنْتُمْ بِذَلِكَ الْكِتَابِ تَعْلَمُونَ فَإِنَّ فِيهِ: (أَذْهَبُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ)، فَقُولُوا: إِنَّ جَمِيعَ الَّذِينَ خَاطَبَهُمْ عِيسَى كَانُوا أَبْنَاءَ الله كَمَا كَانَ عِيسَى ابْنَهُ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ عِيسَى ابْنَهُ(138).

وهذا الجواب النَقضيُّ منه (صلى الله عليه وآله وسلم) لا مَخرَجَ لهم منه، فقد نقلوا عن عيسى (عليه السلام) في الإنجيل قوله: «لاَ تَلْمِسِينِي لأَنِّي لَمْ أَصْعَدْ بَعْدُ إِلَى أَبِي. وَلكِنِ اذْهَبِي إِلَى إِخْوَتِي وَقُولِي لَهُمْ: إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلهِي وَإِلهِكُمْ»(139)، وهذا النصُّ إن كان يُثبِتُ بُنُوّة عيسى لله تعالى، فهو يُثبتها للناس أيضاً من نفس الوجه، فينبغي أن يكون كلّ واحد منهم هو الله.

ثم أعطاهم (صلى الله عليه وآله وسلم) الحلّ في جوابٍ آخر بعد أن أُسقط في يدهم، فقال: أَنْتُمْ إِنَّمَا حَكَيْتُمْ لَفْظَةَ عِيسَى وَتَأَوَّلْتُمُوهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا لِأَنَّهُ إِذَا قَالَ: (أَذْهَبُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ) فَقَدْ أَرَادَ غَيْرَ مَا ذَهَبْتُمْ إِلَيْهِ وَنَحَلْتُمُوهُ.

وَمَا يُدْرِيكُمْ لَعَلَّهُ عَنَى أَذْهَبُ إِلَى آدَمَ أَوْ إِلَى نُوحٍ، وَأَنَّ الله يَرْفَعُنِي إِلَيْهِمْ وَيَجْمَعُنِي مَعَهُمْ، وَآدَمُ أَبِي وَأَبِيكُمْ وَكَذَلِكَ نُوحٌ، بَلْ مَا أَرَادَ غَيْرَ هَذَا.

قَالَ: فَسَكَتَ النَّصَارَى وَقَالُوا: مَا رَأَيْنَا كَالْيَوْمِ مُجَادِلًا وَلَا مُخَاصِماً مِثْلَكَ(140).

فيكون المراد من الأب هو آدم ونوح (عليهما السلام) وليس الله تعالى، لأنّ الله تعالى ليس أباً لأحد من مخلوقاته.

وفي هذه المناظرة يسأل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اليهود القائلين بأن عزيراً ابن الله: مَا الَّذِي دَعَاكُمْ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ عُزَيْراً ابْنُ الله؟

قَالُوا: لِأَنَّهُ أَحْيَا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ التَّوْرَاةَ بَعْدَ مَا ذَهَبَتْ، وَلَمْ يَفْعَلْ بِهَا هَذَا إِلَّا لِأَنَّهُ ابْنُهُ.

فَقَالَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فَكَيْفَ صَارَ عُزَيْرٌ ابْنَ الله دُونَ مُوسَى وَهُوَ الَّذِي جَاءَ لَهُمْ بِالتَّوْرَاةِ وَرُئِيَ مِنْهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ مَا قَدْ عَلِمْتُمْ؟

وَلَئِنْ كَانَ عُزَيْرٌ ابْنَ الله لِمَا ظَهَرَ مِنْ إِكْرَامِهِ بِإِحْيَاءِ التَّوْرَاةِ فَلَقَدْ كَانَ مُوسَى بِالبُنُوَّةِ أَوْلَى وَأَحَقَّ.

وَلَئِنْ كَانَ هَذَا الْمِقْدَارُ مِنْ إِكْرَامِهِ لِعُزَيْرٍ يُوجِبُ لَهُ أَنَّهُ ابْنُهُ فَأَضْعَافُ هَذِهِ الْكَرَامَةِ لِمُوسَى تُوجِبُ لَهُ مَنْزِلَةً أَجَلَّ مِنَ البُنُوَّةِ، لِأَنَّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ إِنَّمَا تُرِيدُونَ بِالبُنُوَّةِ  الدَّلَالَةَ عَلَى سَبِيلِ مَا تُشَاهِدُونَهُ فِي دُنْيَاكُمْ مِنْ وِلَادَةِ الْأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادَ بِوَطْءِ آبَائِهِمْ لَهُنَّ فَقَدْ كَفَرْتُمْ بِالله وَشَبَّهْتُمُوهُ بِخَلْقِهِ وَأَوْجَبْتُمْ فِيهِ صِفَاتِ المحْدَثِينَ، فَوَجَبَ عِنْدَكُمْ أَنْ يَكُونَ مُحْدَثاً مَخْلُوقاً وَأَنْ يَكُونَ لَهُ خَالِقٌ صَنَعَهُ وَابْتَدَعَهُ.

قَالُوا: لَسْنَا نَعْنِي هَذَا، فَإِنَّ هَذَا كُفْرٌ كَمَا دَلَلْتَ، لَكِنَّا نَعْنِي أَنَّهُ ابْنُهُ عَلَى مَعْنَى الْكَرَامَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ وِلَادَةٌ، كَمَا قَدْ يَقُولُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا لِمَنْ يُرِيدُ إِكْرَامَهُ وَإِبَانَتَهُ بِالْمَنْزِلَةِ مِنْ غَيْرِهِ: يَا بُنَيَّ وَإِنَّهُ ابْنِي لَا عَلَى إِثْبَاتِ وِلَادَتِهِ مِنْهُ، لِأَنَّهُ قَدْ يَقُولُ ذَلِكَ لِمَنْ هُوَ أَجْنَبِيٌّ لَا نَسَبَ لَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَكَذَلِكَ لَمَّا فَعَلَ الله تَعَالَى بِعُزَيْرٍ مَا فَعَلَ كَانَ قَدِ اتَّخَذَهُ ابْناً عَلَى الْكَرَامَةِ لَا عَلَى الْوِلَادَةِ.

فاليهود هنا لا يقولون بالولادة مادية أو غير مادّية، إنما يقولون بأنّه ابن الله على معنى الكرامة وإن لم يكن هناك ولادة، أما النصارى فيقولون بالولادة وإن لم تكن ولادةً كولادة الأمّهات.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم): فَهَذَا مَا قُلْتُهُ لَكُمْ، إِنَّهُ إِنْ وَجَبَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَكُونَ عُزَيْرٌ ابْنَهُ فَإِنَّ هَذِهِ المنْزِلَةَ بِمُوسَى أَوْلَى، وَإِنَّ الله يَفْضَحُ كُلَّ مُبْطِلٍ بِإِقْرَارِهِ وَيَقْلِبُ عَلَيْهِ حُجَّتَهُ.

إِنَّ مَا احْتَجَجْتُمْ بِهِ يُؤَدِّيكُمْ إِلَى مَا هُوَ أَكْثَرُ مِمَّا ذَكَرْتُهُ لَكُمْ، لِأَنَّكُمْ قُلْتُمْ إِنَّ عَظِيماً مِنْ عُظَمَائِكُمْ قَدْ يَقُولُ لِأَجْنَبِيٍّ لَا نَسَبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ: يَا بُنَيَّ، وَهَذَا ابْنِي، لَا عَلَى طَرِيقِ الْوِلَادَةِ، فَقَدْ تَجِدُونَ أَيْضاً هَذَا الْعَظِيمَ يَقُولُ لِأَجْنَبِيٍّ: هَذَا أَخِي، وَلِآخَرَ: هَذَا شَيْخِي وَأَبِي، وَلِآخَرَ: هَذَا أَخِي، وَلِآخَرَ: هَذَا سَيِّدِي، وَيَا سَيِّدِي، عَلَى سَبِيلِ الْإِكْرَامِ، وَإِنَّ مَنْ زَادَهُ فِي الْكَرَامَةِ زَادَهُ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ.

فَإِذاً يَجُوزُ عِنْدَكُمْ أَنْ يَكُونَ مُوسَى أَخاً لله أَوْ شَيْخاً لَهُ أَوْ أَباً أَوْ سَيِّداً؟ لِأَنَّهُ قَدْ زَادَهُ فِي الْإِكْرَامِ مِمَّا لِعُزَيْرٍ، كَمَا أَنَّ مَنْ زَادَ رَجُلًا فِي الْإِكْرَامِ فَقَالَ لَهُ: يَا سَيِّدِي وَيَا شَيْخِي وَيَا عَمِّي وَيَا رَئِيسِي عَلَى طَرِيقِ الْإِكْرَامِ، وَأَنَّ مَنْ زَادَهُ فِي الْكَرَامَةِ زَادَهُ فِي مِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ.

أَ فَيَجُوزُ عِنْدَكُمْ أَنْ يَكُونَ مُوسَى أَخاً لله أَوْ شَيْخاً أَوْ عَمّاً أَوْ رَئِيساً أَوْ سَيِّداً أَوْ أَمِيراً لِأَنَّهُ قَدْ زَادَهُ فِي الْإِكْرَامِ عَلَى مَنْ قَالَ لَهُ: يَا شَيْخِي أَوْ يَا سَيِّدِي أَوْ يَا عَمِّي أَوْ يَا رَئِيسِي أَوْ يَا أَمِيرِي؟

قَالَ: فَبُهِتَ الْقَوْمُ وَتَحَيَّرُوا وَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ أَجِّلْنَا نَتَفَكَّرْ فِيمَا قَدْ قُلْتَهُ لَنَا.

فَقَالَ: انْظُرُوا فِيهِ بِقُلُوبٍ مُعْتَقِدَةٍ لِلْإِنْصَافِ يَهْدِكُمُ الله‏(141).

فتمّت بهذا حجّته (صلى الله عليه وآله وسلم) على اليهود والنصارى، وليس يُقرَنُ كلامه إلا بكلام وصيّه أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصفه عز وجلّ: تَوَحَّدَ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَخَصَّ نَفْسَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَاسْتَخْلَصَ بِالْمَجْدِ وَالثَّنَاءِ، وَتَفَرَّدَ بِالتَّوْحِيدِ وَالْمَجْدِ وَالسَّنَاءِ، وتَوَحَّدَ بِالتَّحْمِيدِ وَتَمَجَّدَ بِالتَّمْجِيدِ، وَعَلَا عَنِ اتِّخَاذِ الْأَبْنَاء.. لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ وَحْدَانِيّاً أَزَلِيّاً قَبْلَ بَدْءِ الدُّهُورِ وَبَعْدَ صُرُوفِ الْأُمُور(142).

4. عيسى هو الله

استُدِلَّ على أن عيسى هو الله بالآيات المُتَمِّمَة للاستدلال السابق حول البنوّة، وهي ما ورد في رسائل بولس للعبرانيين، وتتضمن خطاب الله تعالى لملائكته أوّلاً ثم لنبيّه عيسى (عليه السلام) ثانياً: وَعَنِ المَلاَئِكَةِ يَقُولُ:«الصَّانِعُ مَلاَئِكَتَهُ رِيَاحًا وَخُدَّامَهُ لَهِيبَ نَارٍ». وَأَمَّا عَنْ الابْنِ:«كُرْسِيُّكَ يَا الله إِلَى دَهْرِ الدُّهُورِ. قَضِيبُ اسْتِقَامَةٍ قَضِيبُ مُلْكِكَ(143).

بتقريب أن الله تعالى خاطب ابنه بصيغة: يا الله، فيدل على أن عيسى (عليه السلام) هو الله أيضاً.

يقول وليام ماكدونالد في شرحه لها: في هذه الآية مجموعة من الأمجاد يظهر فيها الابن أنّه لا يُضاهى. أوّلاً، يخاطبه الله بصفته الله. ففي المزمور 45: 6، يحيّي الله الآبُ المسيحَ بهذه الكلمات: «كرسيك يا الله إلى دهر الدهور». فتبرز مرة أخرى ألوهية المسيح بشكل لا لَبس فيه.

المناقشة فيه

ويلاحظ على هذا الاستدلال أمور:

أولاً: إنّ هذه الفقرة مقتبسة من العهد القديم، ومن مزامير داوود تحديداً، وبالعودة إلى المزمور 45 نجدها قد وردت في سياق خطابٍ يتكلم فيه الكاتب مع مَلِكٍ انسكبت النعمةُ على شفتيه فباركه الله إلى الأبد، ثم يتحدّث عن صفاته ومناقبه، وفيها: نَبْلُكَ المَسْنُونَةُ فِي قَلْبِ أَعْدَاءِ المَلِكِ. شُعُوبٌ تَحْتَكَ يَسْقُطُونَ. كُرْسِيُّكَ يَا الله إِلَى دَهْرِ الدُّهُورِ. قَضِيبُ اسْتِقَامَةٍ قَضِيبُ مُلْكِكَ. أَحْبَبْتَ البِرَّ وَأَبْغَضْتَ الإِثْمَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَسَحَكَ الله إِلَهُكَ بِدُهْنِ الاِبْتِهَاجِ أَكْثَرَ مِنْ رُفَقَائِكَ(144).

فالمُخاطَب هو مَلِكٌ مَسَحَهُ الله إلههُ، أي أن المخاطَب ليس إلهاً أبداً، وإن وُصِفَ كُرسيُّه بأنّه كرسيّ الله بحسب ظاهر هذه الترجمة المعروفة (سميث وفاندايك).

وبالعودة إلى نسخ التوراة المختلفة يتّضح المعنى بشكلٍ أوضح، إذ كانت كثيرٌ من النسخ خالية من أيّ شبهة، ففي ترجمة (الأخبار السارة) وفي (الترجمة المشتركة) المقبولة عند كافة الكنائس ذُكِرَت هكذا: عرشُكَ الإلهيُّ يبقى إلى الأبدِ، وصَولجانُ الاَستِقامةِ صَولجانُ مُلْكِكَ.

فتدلُّ على أن عرش الملك هو عرشٌ إلهيٌّ، أي أنّه منسوبٌ لله تعالى لأن الله تعالى بارك لهذا الملك في مُلكِه، فلا يكون فيها أيّ دلالة على أن الَملِكَ هو الله بوجه من الوجوه.

وذُكر في هامش الترجمة المشتركة: أنه وردت في بعض الترجمات بصيغة: (عرشك عرش الله، أو كعرش الله)، فلا تدلّ أيضاً على أن الملك هو الله.

أما ترجمة (العالم الجديد) لشهود يهوه، فذكرت: الله عَرْشُكَ إِلَى ٱلدَّهْرِ وَٱلْأَبَدِ، صَوْلَجَانُ مُلْكِكَ صَوْلَجَانُ ٱلِاسْتِقَامَةِ.

فتدلّ على أن الله هو عرش الملك لا على أن الله هو الملك.

أما في ترجمة العلامة فارس الشدياق فكان الخطاب لله حول الملك: اللهم ان عرشك الى دهر الداهرين..

وهنا لا يكون المخاطَب هو الملك أصلاً إنما يكون الخطاب لله تعالى.

فالاستدلال إذاً منقوضٌ بوجهين:

الوجه الأول: اختلاف النسخ، فعددٌ من النسخ يصرّح بأن العرش إلهيٌّ أي أنه منسوبٌ لله تعالى، وبهذا يخلو من أي دلالة على ألوهية المخاطَب، ولا مجال للاستدلال بها رأساً لظهورها في أن العرش هو عرشٌ إلهيٌّ أو أنّه كعرش الله، وليس فيها أي إشارة إلى أن عيسى هو الله.

الوجه الثاني: أنه حتى وِفقَ سائر النسخ، فإن المخاطَب هو مَلِكٌ مسحه الله تعالى، فلا يدل السياق على ألوهيّة عيسى بوجهٍ ولا على ألوهية هذا الملك.

ثانياً: بالعودة إلى العهد الجديد، نجدُ أنه استشهد بهذه الفقرة وقيل أنّها خطابٌ من الله تعالى لعيسى (عليه السلام) يقول الله له فيها: كُرْسِيُّكَ يَا الله إِلَى دَهْرِ الدُّهُورِ. فيخاطب اللهُ عيسى بقول: يا الله، فيدل على أن عيسى هو الله.

لكن نسخ الانجيل مختلفةٌ في هذه الترجمة أيضاً، ففي جملة من النسخ ك(الترجمة المشتركة) المقبولة عند كافة الكنائس وردت هكذا: عرشُكَ الإلهيُّ يبقى إلى الأبدِ، وصَولجانُ الاَستِقامةِ صَولجانُ مُلْكِكَ.

فعلى هذا يكون الخطاب من الله لعيسى يقول الله له فيها أن عرش عيسى باقٍ إلى الأبد، ويوصف هذا العرش بالعرش الإلهي أي أنه منسوب لله تعالى لأن عيسى رسول الله، فلا يكون فيها أي دلالة على ألوهية عيسى (عليه السلام).

أما ترجمة (العالم الجديد) لشهود يهوه، فذكرت: الله عَرْشُكَ إِلَى ٱلدَّهْرِ وَٱلْأَبَدِ، صَوْلَجَانُ مُلْكِكَ صَوْلَجَانُ ٱلِاسْتِقَامَةِ.

فإن كان المخاطب فعلاً هو عيسى فإنها تعني أن الله هو عرش عيسى، ومن معاني العرش: ما به قوام أمر الرجل(145)، فتكون موافقةً للنصوص المتقدّمة الدالّة على أن كل ما عند عيسى فهو من الله، أي أنّ قوامَ أمر عيسى (عليه السلام) بالله تعالى.

في حين ورد في نسخة المعنى الصحيح لإنجيل المسيح TMA: في حينَ جاءَ عن الابنِ الرُّوحيِّ لله: اللهمَّ، قائمٌ هو عَرشُكَ إلى أَبَدِ الآبِدين! أيُّها المُختارُ، أنتَ حاكِمٌ في مَملَكتِكَ المَوعودةِ بصَولَجانِ العَدلِ.

وفيها إيحاء بأنّ الخِطَابَ جاء عن الابن الروحي، أي أن المُتحدث هو ابن الله الروحي وهو عيسى (عليه السلام) عندهم، فيكون الخطاب من عيسى لله تعالى: اللهم قائم هو عرشك.. ثم بعده يأتي الجواب: أيها المختار، يا عيسى، أنت حاكمٌ في مملكتك، وبهذا يستقيم المعنى دون أيّ خدشة بالتوحيد.

وهذا الوجهُ يمكن استفادَتُه أيضاً حتى من النسخ المتداولة بشيءٍ من التكلُّف، ليكون الكلام (كرسيّك يا الله..) منقولاً عن عيسى (عليه السلام) يخاطب به ربّه عز وجل، وليس العكس، وهذا أَولَى من سواه، مع ما تقدّم من شواهد عليه.

ثالثاً: على فرض عدم صحة ما ورد في الترجمة المشتركة رغم مقبوليّتها عند مختلف الكنائس، وعلى فرض كون النص المعتمد هو: وَأَمَّا عَنْ الابْنِ:«كُرْسِيُّكَ يَا الله إِلَى دَهْرِ الدُّهُورِ.. أو ما هو أصرح منه كما في نسخة (الحياة): ولكنه يخاطب الابن قائلا: «إن عرشك، ياالله، ثابتٌ إلى أبد الآبدين..

والتي يدلُّ ظاهرها على أن الله يخاطب عيسى قائلاً: إن عرشك يا الله، فهي أيضاً ليست نصّاً في أنّ عيسى هو الله، ذلك أنه يُحتَمَلُ فيها عدّة معانٍ:

المعنى الأول: أن يُراد بكرسيّ الرب أو عرشه عيسى نفسه، نظير ما ورد في أورشليم: فِي ذلِكَ الزَّمَانِ يُسَمُّونَ أُورُشَلِيمَ كُرْسِيَّ الرَّبِّ، وَيَجْتَمِعُ إِلَيْهَا كُلُّ الأُمَمِ، إِلَى اسْمِ الرَّبِّ، إِلَى أُورُشَلِيم(146).

ولئن كان اعتبار اورشليم أو القدس كرسيّاً للرب من جهة اجتماع الأمم إليها على اسم الرب، فإنّ هذا المعنى ينطبِقُ بشكل أقوى في المسيح، لاجتماع الناس إليه على اسم الرب. فيدلُّ حينها على أن المسيح هو عرش الرب بهذا المعنى.

المعنى الثاني: أن كرسيَّ الرب هو الكرسيُّ المنتسب للرب، كما قيل عن سليمان أنه جلس على كرسيّ الرب: وَجَلَسَ سُلَيْمَانُ عَلَى كُرْسِيِّ الرَّبِّ مَلِكًا مَكَانَ دَاوُدَ أَبِيهِ(147). فلا يلزم من جلوس سليمان على كرسي الرب أن يكون سليمان هو الرب.

وقد جاء الوعد لداود ونسله أن يبقى كرسيّهم للأبد: يَكُونُ لِدَاوُدَ وَنَسْلِهِ وَبَيْتِهِ وَكُرْسِيِّهِ سَلاَمٌ إِلَى الأَبَدِ مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ»(148).. وَالمَلِكُ سُلَيْمَانُ يُبَارَكُ، وَكُرْسِيُّ دَاوُدَ يَكُونُ ثَابِتًا أَمَامَ الرَّبِّ إِلَى الأَبَدِ»(149).

المعنى الثالث: أن عيسى هو الذي يُقيمُ العدل والحق، ويُظهِرُ الرحمة والأمانة، إذ ورد أنهما قاعدة كرسي الله: العَدْلُ وَالحَقُّ قَاعِدَةُ كُرْسِيِّكَ. الرَّحْمَةُ وَالأَمَانَةُ تَتَقَدَّمَانِ أَمَامَ وَجْهِكَ(150).

المعنى الرابع: إن أُرِيدَ من الكرسيّ العرش، فإنّ جلوس عيسى عليه لا يعني أنه الله، ذلك أن الإنجيل ينقل عنه قوله: مَنْ يَغْلِبُ فَسَأُعْطِيهِ أَنْ يَجْلِسَ مَعِي فِي عَرْشِي، كَمَا غَلَبْتُ أَنَا أَيْضًا وَجَلَسْتُ مَعَ أَبِي فِي عَرْشِهِ(151).

فإن من يغلب سيجلس مع عيسى في عرشه كما جلس عيسى مع الله في عرشه، فلو كان عيسى هو الله للزم أن يكون الجالس معه هو عيسى فيكون هو الله أيضاً.

فإن قيل: إن هذه المعاني الأربعة للعرش والكرسيّ وإن كانت صحيحة في نفسها، إلا أن العبارة لا تستقيم مع أي من هذه الوجوه، ولا تصح لأنها صريحة في خطاب عيسى بأنه الله، ذلك أن المخاطِب هو الله، بحرف النداء يا، وبقوله: كرسيك يا الله، فيدل على أن المخاطَب الذي هو عيسى هو الله أيضاً.

قلنا: نرجع إلى الآيات السابقة فنرى أن الآية المتقدمة تقول: وَعَنِ المَلاَئِكَةِ يَقُولُ: «الصَّانِعُ مَلاَئِكَتَهُ رِيَاحًا وَخُدَّامَهُ لَهِيبَ نَارٍ».

فهو إذاً ليس خطاباً من الله (مع) الملائكة، إنما خطاب من الله (عن) الملائكة، بل عن صنع الله تعالى لهم (الصانع ملائكته)، فهو خطاب من الله تعالى يبيّن فيه فعله تعالى وهو (صنع الملائكة)، فالله إذاً يتحدث عن نفسه وملائكته (الصانع ملائكته)، وتتمة السياق تشير إلى أن الخطاب الثاني (عن) عيسى أيضاً، وليس (مع) عيسى، فيبين فيه أن عرش عيسى الذي هو عرش الله باق إلى الأبد: (كُرْسِيُّكَ يَا الله إِلَى دَهْرِ الدُّهُورِ).

فعندما يقول الله عن نفسه: (الصانع ملائكته) لا يتحدّثُ عن غائبٍ وإن لم يكن الخطاب بصيغة المتحِّدث ولا بصيغة المخاطَب بل بصيغة الغائب، وعندما يقول: (كرسيك يا الله)، يكون بصيغة المخاطَب لا المتكلم، أي أنه بلسان من يُخَاطِبُ نفسه، ويستقيم على هذا المعنى دون خدش التوحيد والقول بألوهية عيسى (عليه السلام).

وما يُلزِمُ بهذا التفسير فضلاً عن القرينة العقلية القطعية لمنافاة تفسيرهم للتوحيد، القرينةُ المتّصلة المتمثلةُ بالآية اللاحقة التي تُبيّن أن الله هو إله المسيح، لا أن المسيح هو الله، ففيها تتمة الخطاب: أَحْبَبْتَ البِرَّ وَأَبْغَضْتَ الإِثْمَ. مِنْ أَجْلِ ذلِكَ مَسَحَكَ الله إِلهُكَ بِزَيْتِ الابْتِهَاجِ أَكْثَرَ مِنْ شُرَكَائِكَ»(152).

خامساً: لو تنزّلنا وقلنا بأن المتكلم هو الله تعالى، والمُخاطَب هو عيسى بصيغة: يا الله، فإنّه (عند النصارى) يقبل الحمل على الرمزية دون الحاجة لمؤونة، أو على إرادة غير الله منه تشبيهاً، وذلك من وجهين:

الوجه الأول: أنه لما تمّت القرينة العقلية والنقلية (وهي كون عيسى مخلوقاً لله تعالى وكل ما عنده فمن الله) صار لا بدّ من حمل أي لفظٍ يخالف هذا المعنى على الرمزية والمجازية، كما حمل النصارى أقوال عيسى في أنه (الباب أو الخبز أو الكرمة) أو غير ذلك على المجاز.

يقول أحد علماءهم: صموئيل بندكت: عندما كان يسوع يكلم تلاميذه كان يكلمهم بأمثال، وهذه العادة شائعة ومعروفة عند كل كتّاب العهد الجديد. ونحن في هذه الأيام كثيراً ما نستعمل اللغة الرمزية والأمثال. قال يسوع: "أنا هو الباب "أنا هو الطريق والحق والحياة"، "أنا الكرمة وأنتم الأغصان"، "أنا هو نور العالم"، "أنا هو الخبز الذي نزل من السماء". هل كان فعلاً يقصد أنه باب أو كرمة؟ طبعا لا! كل هذه كانت لغة مجازية(153).

فإذا كان النص صريحاً في كونه باباً وطريقاً، لَكِنّا نرفع اليد عن هذه الدلالة ببركة القرينة العقلية لاختلاف حقيقته عن حقيقة الباب والخبز والطريق، ونَحمِلُها على معنىً رمزيٍّ مقبول ككونه هو المرشد للطريق، أو هو الإمام والقدوة وهم الأتباع، كذلك يُعدُّ كونُه إنساناً بشريّاً نبيّاً مرسلاً من الله تعالى قرينةً عقليةً واضحةً لا لبس فيها على أنه ليس (الله) حقيقة، وأن اتِّبَاعَهُ طريق لله تعالى لأنّه مرسلٌ من قبله عز وجل، كما صرح بنفسه في موارد تقدّمَ بعضها ويأتي بعضها الآخر إن شاء الله.

ونحن وإن لم نقرّ بصحة هذه الاستعمالات، إلا أن ألفاظ الكتاب المقدس لا تأبى هذا الحمل، بل قامت القرائنُ على لزومه، فلا مناص من المصير إليه.

الوجه الثاني: يقول القديس توما الأكويني: فاذا كان اسم الله موضوعاً ليدلّ على الطبيعة الالهيّة.. يلزم أنه لا يقبل الشركة فيه حقيقة لكنه يقبلها اعتقاداً.. ومع ذلك فان اسم الله يقبل الشركة فيه لا بتمام معناه، بل بجزئه على سبيل التشبيه، فيقال (آلهة) للمشتركين في أمرٍ إلهي على سبيل التشبيه.. أما إذا كان بعض الأسماء موضوعاً ليدلّ على الله لا من جهة الطبيعة بل من جهة الفرد من حيث يُعتبر شيئاً معيّناً فلا يقبل الشركة فيه بحال(154).

ولمّا كان اسم الله (كما تقدّم في مناقشة عبارة وكان الكلمة الله) دالاً على الطبيعة تارة وعلى الفرد تارة أخرى (وإن كنا لا نسلم بصحة ذلك فاسم الله مختصٌّ به تعالى)، فلا مانع حينها من الاشتراك فيه على سبيل التشبيه، فلو أقدَرَ اللهُ عيسى على أن يأتي بأمر إلهيٍّ كإحياء الموتى صح إطلاق اسم (الله) عليه على سبيل التشبيه دون أن يكون عيسى هو الله حقيقة.

ولعلّه لهذا السبب اختلفت نسخ العهد القديم، حيث تُرجِمَت بعض الآيات بلفظ (الله) في جملة من النسخ، وبلفظ (ملاك الله) في نسخ أخرى.

فقد اشتهر مثلاً في قصة آدم من سفر التكوين قوله: بَلِ الله عَالِمٌ أَنَّهُ يَوْمَ تَأْكُلاَنِ مِنْهُ تَنْفَتِحُ أَعْيُنُكُمَا وَتَكُونَانِ كَالله عَارِفَيْنِ الْخَيْرَ وَالشَّرّ(155).

لكن ترجمة الكاهن سعديا بن جاؤون الفيومي وهي أقدم ترجمة مباشرة من العبرية للعربية تَغيَّر فيها اللفظ من (تكونان كالله) إلى (تصيران كالملائكة)، ففيها: إن الله عالمٌ أنكما في يوم تأكلان منها تنفض عيونكما، وتصيران كالملائكة عارفين الخير والشر(156).

وفي مورد آخر من سفر التكوين: فَجَاءَ الله إِلَى أَبِيمَالِكَ فِي حُلْمِ اللَّيْلِ وَقَالَ لَهُ(157).. وصارت في ترجمة الفيومي: (فجاء ملاك الله): فجاء ملاك الله إلى أبيمالك في حلم الليل فقال له: إنك ميت بسبب الامرأة التي أخذتها وهي ذات بعل(158).

وفي العهد الجديد ما يشير إلى أن: الَّذِي أَرْسَلَهُ اللهُ يَتَكَلَّمُ بِكَلاَمِ اللهِ(159).

لكلٍّ ما تقدّم يتبيّن عدم إمكان الاستدلال بهذا النصّ على ألوهيّة عيسى (عليه السلام) بوجه.

5. كنيسة الله التي اقتناها بدمه

استُدلّ أيضاً على كون عيسى هو الله بالنص التالي: اِحْتَرِزُوا اِذًا لأَنْفُسِكُمْ وَلِجَمِيعِ الرَّعِيَّةِ الَّتِي أَقَامَكُمُ الرُّوحُ القُدُسُ فِيهَا أَسَاقِفَةً، لِتَرْعَوْا كَنِيسَةَ الله الَّتِي اقْتَنَاهَا بِدَمِهِ(160).

ووجه الاستدلال فيها أن الذي اقتنى الكنيسة بدمه هو المسيح، فهي كنيسته، فيكون هو الله لأن الكنيسة هي (كنيسة الله).

المناقشة فيه

ويلاحظ عليها فضلاً عما تقدم:

أولاً: أن نسخ الانجيل مختلفة في ترجمة هذه الآية، ففي ترجمة (المعنى الصحيح): وقوموا برِعايةِ جَماعاتِ المُؤمِنينَ بالله الّتي جَعَلَ الله فِداءَها دَمَ حَبيبِهِ عيسَى (سلامُهُ علينا).

وعلى هذه الترجمة فإن الله جعل الفداء دم حبيبه عيسى (عليه السلام)، ويسقط كل استدلال بالآية بناء على ذلك.

وفي ترجمة (الشريف): فَاحْرُسُوا أَنْفُسَكُمْ وَكُلَّ القَطِيعِ الَّذِي أَقَامَكُمُ الرُّوحُ القُدُّوسُ رُعَاةً عَلَيْهِ. اِرْعَوْا أُمَّةَ رَبِّنَا الَّتِي اشْتَرَاهَا بِدَمِهِ.

وعلى هذه الترجمة أيضا لا وجه للاستدلال، فقد تقدّم استعمال الربّ في غير الله تعالى.

كذلك الأمر في ترجمة (العالم الجديد) لشهود يهوه: لِتَرْعَوْا جَمَاعَةَ ٱللهِ ٱلَّتِي ٱشْتَرَاهَا بِدَمِ ٱبْنِهِ. فهي خالية عن أي دلالة على ألوهيته.

ويظهر أن هذا اللفظ والمعنى هو الذي كان معتمداً عند النصارى، حيث يقول مفسر الإنجيل وليم ماكدونالد: إن غالبيّة المخطوطات تقول عن هذا الجزء: كنيسة الرب والله التي اشتراها بدمه. ومن الواضح أن هذه الجُملة تقترح أن الرب يسوع هو الذي سفك دمه.. فالله هو الذي اشترى الكنيسة، ولكنه نفذ الشراء بدم ابنه الرب يسوع المسيح.

ثانياً: أن نسبة الكنيسة لله تارة ولعيسى تارة أخرى لا يلزم منه أن يكون عيسى هو الله! حتى مع كون الضمير في (دمه) راجعاً إلى الله تعالى، ذلك أنه ثبت تنزُّه الله تعالى عن الاتصاف بصفات المخلوقين، فليس لله إصبعٌ ولا يدٌ ولا أنفٌ وإن وصفه الإنجيلُ بذلك، كذلك ليس لله دمٌ وإن وَصَفَ الإنجيلُ اللهَ بذلك، فيكونُ المرادُ منها المجاز والاستعارة، فإن كان أنبياء الله هم عيونه في خلقه وكان ملائكته هم أيديه التي يعطي بها ويمنع، فلا بد من حمل الدم على شيء من هذه المعاني، كأن يرادَ منه بأن الله ضحّى بحبيبه عيسى (بحسب الإنجيل دوماً)، ولا يتضمن النص أي دلالة على أن عيسى هو الله بوجه.

6. أنا في الآب والآب فيّ

استُدلّ على ألوهية عيسى (عليه السلام) أو على حلول الله تعالى فيه او اتحاده به بما ورد في إنجيل يوحنا من كلام عيسى لفيلُبُّس:

قَالَ لَهُ يَسُوعُ:«أَنَا مَعَكُمْ زَمَانًا هذِهِ مُدَّتُهُ وَلَمْ تَعْرِفْنِي يَا فِيلُبُّسُ! اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ، فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ: أَرِنَا الآبَ؟ أَلَسْتَ تُؤْمِنُ أَنِّي أَنَا فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ؟ الكَلاَمُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ لَسْتُ أَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ نَفْسِي، لكِنَّ الآبَ الحَالَّ فِيَّ هُوَ يَعْمَلُ الأَعْمَالَ. صَدِّقُونِي أَنِّي فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ، وَإِلاَّ فَصَدِّقُونِي لِسَبَبِ الأَعْمَالِ نَفْسِهَا(161).

وذلك من وجهين:

الوجه الأول: أن الله في عيسى وعيسى في الله، فيدلّ على أنه مساوٍ لله تعالى.

الوجه الثاني: أن الله تعالى قد حلّ في عيسى، فصار عيسى متصفاً بصفات الله تعالى.

المناقشة فيه

ويلاحظ عليه:

أولاً: إن كانت هذه العبارة تدلّ على اتّصافه بصفات الله تعالى، فإنّ في الإنجيل ما يدلّ على اتّصاف الناس بصفات عيسى (عليه السلام)، وهي صفات الله تعالى، فيكون المؤمنون أيضاً مساوون لله تعالى، وهو باطلٌ بالاتّفاق.

وقد تكرّر ذلك، ففي إنجيل يوحنا: فِي ذلِكَ اليَوْمِ تَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا فِي أَبِي، وَأَنْتُمْ فِيَّ، وَأَنَا فِيكُمْ(162).

وفيه: «وَلَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ هؤُلاَءِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا مِنْ أَجْلِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِي بِكَلاَمِهِمْ، لِيَكُونَ الجَمِيعُ وَاحِدًا، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضًا وَاحِدًا فِينَا، لِيُؤْمِنَ العَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي.

وَأَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمُ المَجْدَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي، لِيَكُونُوا وَاحِدًا كَمَا أَنَّنَا نَحْنُ وَاحِدٌ. أَنَا فِيهِمْ وَأَنْتَ فِيَّ لِيَكُونُوا مُكَمَّلِينَ إِلَى وَاحِدٍ، وَلِيَعْلَمَ العَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي، وَأَحْبَبْتَهُمْ كَمَا أَحْبَبْتَنِي(163).

ثانياً: أن الانجيل نفسه أشار إلى المراد من كون كلٍّ من الطرفين في الآخر هو الثّبات، فإنّه يعني ثباتَ عيسى في محبة الله، وثباتَ الناس في محبة عيسى، ويكون عيسى فيهم بمعنى أنه يعطيهم الثمار عند ثباتهم فيه ويُحِبُّهم بعد حُبِّهم له، ومثلُها حب الله تعالى لعيسى بعد ثباته في الله.

قال عيسى (عليه السلام): اُثْبُتُوا فِيَّ وَأَنَا فِيكُمْ. كَمَا أَنَّ الغُصْنَ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَأْتِيَ بِثَمَرٍ مِنْ ذَاتِهِ إِنْ لَمْ يَثْبُتْ فِي الكَرْمَةِ، كَذلِكَ أَنْتُمْ أَيْضاً إِنْ لَمْ تَثْبُتُوا فِيَّ.

أَنَا الكَرْمَةُ وَأَنْتُمُ الأَغْصَانُ. الَّذِي يَثْبُتُ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ هذَا يَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ، لأَنَّكُمْ بِدُونِي لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْعَلُوا شَيْئًا.. إِنْ ثَبَتُّمْ فِيَّ وَثَبَتَ كَلاَمِي فِيكُمْ تَطْلُبُونَ مَا تُرِيدُونَ فَيَكُونُ لَكُمْ..

كَمَا أَحَبَّنِي الآبُ كَذلِكَ أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا. اُثْبُتُوا فِي مَحَبَّتِي. إِنْ حَفِظْتُمْ وَصَايَايَ تَثْبُتُونَ فِي مَحَبَّتِي، كَمَا أَنِّي أَنَا قَدْ حَفِظْتُ وَصَايَا أَبِي وَأَثْبُتُ فِي مَحَبَّتِهِ(164).

ثالثاً: أنّ الحلول في الكتاب المقدّس لا يعني المساواة بين الطرفين، لكي يقال أنّ لعيسى (عليه السلام) صفات الله تعالى، فقدّ ورد في أعمال الرسل أن الروح القدس قد حلّ على المؤمنين، فهل يدلّ هذا على مساواتهم للروح القدس وهو أحد أقانيم الثالوث؟! وجوهره جوهر الله تعالى بحسب عقيدة النصارى.

ومن هذه الموارد ما ورد في أعمال الرسل: لكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ الرُّوحُ القُدُسُ عَلَيْكُمْ، وَتَكُونُونَ لِي شُهُودًا فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ اليَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الأَرْضِ»(165).

ومنها: فَبَيْنَمَا بُطْرُسُ يَتَكَلَّمُ بِهذِهِ الأُمُورِ حَلَّ الرُّوحُ القُدُسُ عَلَى جَمِيعِ الَّذِينَ كَانُوا يَسْمَعُونَ الكَلِمَةَ(166).

كذلك حلّ على مريم (عليها السلام): فَأَجَابَ المَلاَكُ وَقَالَ لَها: «اَلرُّوحُ القُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ العَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذلِكَ أَيْضًا القُدُّوسُ المَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ الله(167).

وفسّر الإنجيل حلول المسيح في القلوب بالإيمان: لِيَحِلَّ المَسِيحُ بِالإِيمَانِ فِي قُلُوبِكُمْ (168).

رابعاً: أن هذه الآيات خلت من أي ذكرٍ للحلول في بعض نسخ الإنجيل، ففي (الترجمة المشتركة) وفي ترجمة (الأخبار السارة): والأعمال التي أعمَلُها يعملها الآب الذي هو فيّ. كذلك خلت منها ترجمة (اليسوعية)، ففيها: بل الآب المقيم فيّ يعمل أعماله. فيكون متطابقاً مع ما في العهد القديم من قول موسى (عليه السلام): إِنَّ الشَّعْبَ يَأْتِي إِلَيَّ لِيَسْأَلَ الله(169)، بحيث لا يحتمل أحدٌ أن يكون موسى هو الله، إنما هو الطريق إلى الله.

كذلك ورد في الترجمة العربية السهلة ERV-AR: ما أُكَلِّمُكُمْ بِهِ لا أتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ عِندِي، فَالآبُ الَّذِي يَحيا فِيَّ هُوَ يَعمَلُ أعمالَهُ.

وفي بعض النسخ: ألست تؤمن أني بأبي، وأبي بي، والقول الذي أقول، لا أقوله من نفسي، وأبي الذي هو ساكنٌ فيّ هو الذي يفعل فيّ الأفعال، فصدقوا أني بأبي وأبي بي.. الحق أقول لكم: إن من يؤمن بي، الأفعال التي أفعل أنا يفعل هو أيضاً (170).

فبحسب هذه النسخ الآب (فيه) أو (المقيم فيه) أو (يحيا فيه) أو (ساكن فيه)، وكلها لا تدل على ألوهية عيسى كما أن الحلول في الإنجيل لا يدلُّ على الألوهية.

فإنها كلها معانٍ مجازية كما تقدمت بعض النماذج، ومن أوضحها ما يدل على سكنى روح الله في المؤمنين، وسكنى الربّ في صهيون، وسكنى الله في الجبل، فكلّها معانٍ مجازية كما تقدم في الفصل الأول، دلّ على ذلك أيضاً ما ورد في التوراة والإنجيل، ومن نماذجه في التوراة: وَأُبَرِّئُ دَمَهُمُ الَّذِي لَمْ أُبَرِّئْهُ، وَالرَّبُّ يَسْكُنُ فِي صِهْيَوْنَ»(171). وفي المزامير: لِمَاذَا أَيَّتُهَا الجِبَالُ المُسَنَّمَةُ تَرْصُدْنَ الجَبَلَ الَّذِي اشْتَهَاهُ الله لِسَكَنِهِ؟ بَلِ الرَّبُّ يَسْكُنُ فِيهِ إِلَى الأَبَدِ(172).

وفي الإنجيل: أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ هَيْكَلُ الله، وَرُوحُ الله يَسْكُنُ فِيكُمْ؟(173).

خامساً: إن قيل: لقد ذُكِرَ الحلول في نصوص أخرى ولم يقتصر على هذا النص، ومنها قوله عن عيسى: لأَنَّهُ فِيهِ سُرَّ أَنْ يَحِلَّ كُلُّ المِلْءِ(174)، وفي مورد آخر:  فَإِنَّهُ فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ اللاَّهُوتِ جَسَدِيًّا(175).

قلنا: إن النسخ مختلفة في ترجمة هذه النصوص أيضاً، ففي الترجمة اليسوعية للنص الأول: فقد حَسُنَ لدى الله أن يحل به الكمال كله، وللنص الثاني: ففيه يحلّ جميع كمال الألوهية حلولاً جسدياً.

وفي ترجمة شهود يهوه: لِأَنَّهُ فِيهِ يَسْكُنُ وَيُجَسَّمُ مِلْءُ ٱلصِّفَاتِ ٱلْإِلٰهِيَّةِ كُلُّهُ.

ومع التمسك بلفظ الحلول فقد تقدم عدم دلالته على الألوهية في الكتاب المقدس.

وأخيراً.. نتبرَّكُ بذكر رواية فيها نهاية الحجّة على القائل باتحاد الله بالمسيح، نقلها الشيخ الطبرسي في احتجاجه عن إمامنا العسكري (عليه السلام) عن صادق العترة الطاهرة الإمام جعفر بن محمد (عليه السلام) يقول فيها:

وَلَقَدْ حَدَّثَنِي أَبِي الْبَاقِرُ عَنْ جَدِّي عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ سَيِّدِ الشُّهَدَاءِ عَنْ أَبِيهِ أَمِيرِ المؤْمِنِينَ (عليه السلام) أَنَّهُ اجْتَمَعَ يَوْماً عِنْدَ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أَهْلُ خَمْسَةِ أَدْيَانٍ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالدَّهْرِيَّةُ وَالثَّنَوِيَّةُ وَمُشْرِكُو الْعَرَبِ..

 وَقَالَتِ النَّصَارَى: نَحْنُ نَقُولُ إِنَّ المسِيحَ ابْنُ الله اتَّحَدَ بِهِ وَقَدْ جِئْنَاكَ لِنَنْظُرَ مَا تَقُولُ..

ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّصَارَى فَقَالَ لَهُمْ: وَأَنْتُمْ قُلْتُمْ إِنَّ الْقَدِيمَ عَزَّ وَجَلَّ اتَّحَدَ بِالمسِيحِ ابْنِهِ، فَمَا الَّذِي أَرَدْتُمُوهُ بِهَذَا الْقَوْلِ؟

  1. أَرَدْتُمْ أَنَّ الْقَدِيمَ صَارَ مُحْدَثاً لِوُجُودِ هَذَا المحْدَثِ الَّذِي هُوَ عِيسَى؟
  2. أَوِ المحْدَثَ الَّذِي هُوَ عِيسَى صَارَ قَدِيماً كَوُجُودِ الْقَدِيمِ الَّذِي هُوَ الله؟
  3. أَوْ مَعْنَى قَوْلِكُمْ إِنَّهُ اتَّحَدَ بِهِ أَنَّهُ اخْتَصَّهُ بِكَرَامَةٍ لَمْ يُكْرِمْ بِهَا أَحَداً سِوَاهُ؟

 فَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنَّ الْقَدِيمَ صَارَ مُحْدَثاً فَقَدْ أَبْطَلْتُمْ، لِأَنَّ الْقَدِيمَ مُحَالٌ أَنْ يَنْقَلِبَ فَيَصِيرَ مُحْدَثاً.

وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنَّ المحْدَثَ صَارَ قَدِيماً فَقَدْ أَحَلْتُمْ، لِأَنَّ المحْدَثَ أَيْضاً مُحَالٌ أَنْ يَصِيرَ قَدِيماً.

وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنَّهُ اتَّحَدَ بِهِ بِأَنَّهُ اخْتَصَّهُ وَاصْطَفَاهُ عَلَى سَائِرِ عِبَادِهِ، فَقَدْ أَقْرَرْتُمْ بِحُدُوثِ عِيسَى وَبِحُدُوثِ المعْنَى الَّذِي اتَّحَدَ بِهِ مِنْ أَجْلِهِ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ عِيسَى مُحْدَثاً وَكَانَ الله اتَّحَدَ بِهِ بِأَنْ أَحْدَثَ بِهِ مَعْنًى صَارَ بِهِ أَكْرَمَ الْخَلْقِ عِنْدَهُ فَقَدْ صَارَ عِيسَى وَذَلِكَ المعْنَى مُحْدَثَيْنِ وَهَذَا خِلَافُ مَا بَدَأْتُمْ تَقُولُونَهُ(176).

7. الله ظهر في الجسد

استُدلَّ على أن عيسى هو الله بما ورد في رسائل بولس: وَبِالإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: الله ظَهَرَ فِي الجَسَدِ، تَبَرَّرَ فِي الرُّوحِ، تَرَاءَى لِمَلاَئِكَةٍ، كُرِزَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ، أُومِنَ بِهِ فِي العَالَمِ، رُفِعَ فِي المَجْدِ(177).

وتقريبًُ الاستدلال بها واضحٌ، فإن الله سبحانه وتعالى قد ظهر في جسد عيسى، فيكون عيسى (عليه السلام) هو الله تعالى.

المناقشة فيه

ويلاحظ على هذا الاستدلال:

أولاً: أن النسخة المعروفة (فاندايك) وإن دلت على ظهور الله في الجسد، ومثلها نسخٌ أخرى كترجمة الحياة والترجمة السهلة: الله ظَهَرَ فِي جَسَدٍ بَشَرِيٍّ، إلا أن معظم النسخ خالَفَتها في هذه العبارة بشكلٍ كبير، ففي الترجمة المشتركة: ولا خِلافَ أنَّ سِرَّ التَّقوى عَظيمٌ: الّذي ظهَرَ في الجَسَدِ وتَبَرَّرَ في الرُّوحِ، شاهدَتْهُ المَلائِكَةُ، كانَ بِشارَةً للأُمَمِ، آمَنَ بِه العالَمُ ورفَعَهُ الله في المَجدِ.

فالذي ظهر في الجسد هو عيسى (عليه السلام)، وهو سرُّ التقوى، فتكون خالية عن أي دلالة على ألوهية عيسى، بل تدلُّ على عظمة عيسى وأنه سر تقوى الله تعالى.

أما الترجمة الكاثوليكية ففيها: ولا خِلافَ أَنَّ سِرَّ التَّقْوى عَظيم: قد أُظهِرَ في الجَسَد.. والترجمة البولسية: وإِنَّهُ لَعظيمٌ، ولا مِراءَ، سِرُّ التَّقْوَى، الذي تجلَّى في الجَسَدِ.

وكلاهما تدلاّن على عظمة سر التقوى الذي تجلى في الجسد، أي في جسد المسيح. ومثلهما ترجمة الآباء الدومينيكان: ويقيناً عظيم هو سر التقوى، الذي ظهر في الجسد..

وفي ترجمة العالم الجديد: عَظِيمٌ هُوَ ٱلسِّرُّ ٱلْمُقَدَّسُ لِهٰذَا ٱلتَّعَبُّدِ لِلهِ:‏ ‹أُظْهِرَ فِي ٱلْجَسَدِ..

أما في المعنى الصحيح لإنجيل المسيح: إنّ سِرَّ نَهجِ الله لا رَيبَ عَظيمٌ: فلقد تَجَلّى المَسيحُ بَشَراً سَويًّا.

وفيما تقدّم مؤشِّرٌ خطير جداً على خللٍ في ترجمة الإنجيل وفي فهمه، إذ كيف يمكن الاختلاف بين عبارتي: الله ظهر في الجسد، أو سر التقوى ظهر في الجسد! وكيف سَيَثِقُ القارئ بالإنجيل وأشهر نسخه (فاندايك) تنسب لله الظهور في الجسد فيما تخالف هذه النسبة أوثق وأهم النسخ المعتمدة كالمشتركة والكاثوليكية وغيرهما من النسخ القديمة والحديثة؟!

ولعلّ الترجمة الأخيرة (المعنى الصحيح) هي الأصح من بين سائر التراجم، حيث يؤيدها ما في إنجيل يوحنا: وَالكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا(178).

ولا خلاف بين كافة نسخ الانجيل في استخدام لفظ (الكلمة) في هذه الآية من إنجيل يوحنا كما كان الخلاف في عبارة بولس المتقدمة، فكل النسخ هنا جاءت إما بصيغة (الكلمة صار جسداً) أو ما يماثلها: (الكَلِمَةُ صارَ بشَراً) أو(صارَ الكَلِمَةُ إنساناً) (واستحالَ الكَلِمةُ إلى كائنٍ بَشَريٍّ) (والكلمة تجسّد وأقام بيننا) (اتخذ جسداً).

ثانياً: أنه على فرض الاعتماد على نسخة (الله ظهر في الجسد) فإنها أيضاً لا تدلُّ على كون عيسى هو الله، لاحتمال أن يكون المراد منها الإشارة إلى نصٍّ ذُكِرَ في العهد القديم: فَخَلَقَ الله الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ الله خَلَقَهُ(179).

وهذا النصُّ محمولٌ على المعنى المجازيّ عند النصارى لأن صورة الإنسان وجسَدَهُ ليسا على صورة الله حقيقةً لأن الله تعالى مُنَزّهٌ عن الصورة وعن الجسميّة.

وقد دلَّ الإنجيل على هذا صريحاً لما نفى إبصار الناس لهيئة الله بقوله: وَالآبُ نَفْسُهُ الَّذِي أَرْسَلَنِي يَشْهَدُ لِي. لَمْ تَسْمَعُوا صَوْتَهُ قَطُّ، وَلاَ أَبْصَرْتُمْ هَيْئَتَهُ(180).

وفي نسخة روما 1951 م: لم تسمعوا قط صوته ولا عرفتموه ولا رأيتموه.

ومن كلماتهم الصريحة في أن المراد من خلق الإنسان على صورة الله هو معنى مجازيّ ما نقله المطران رومانوس داود عن القديس يوحنا الدمشقي: إن الإنسان قد خُلق على (صورة الله). وذلك بالنسبة إلى امتلاكه العقل وحريّة الاختيار(181).

وهذا الإحتمال كافٍ في إجمالِ النصّ وعدم صلاحيته للاستدلال.

ثالثاً: أنه على فرض عدم انطباق آيات الإنجيل على آية التوراة المتقدمة، يُجاب عنها بأن الكتاب المقدّس قد دلّ على ظهور الله تعالى بصورة ملاك أو إنسان، فلو دلت على ألوهية عيسى لدلّ الكتاب المقدس على ألوهية الملاك أو الانسان الذي ظهر الله بصورته، ومن هذه الموارد ما ورد في سفر التكوين: وَظَهَرَ الرَّبُّ لأَبْرَامَ وَقَالَ: «لِنَسْلِكَ أُعْطِي هذِهِ الأَرْضَ». فَبَنَى هُنَاكَ مَذْبَحًا لِلرَّبِّ الَّذِي ظَهَرَ لَهُ(182).

وفيه: وَظَهَرَ الله لِيَعْقُوبَ أَيْضًا حِينَ جَاءَ مِنْ فَدَّانَِ أَرَامَ وَبَارَكَهُ(183).

وفيه: فَذَهَبَ إِسْحَاقُ إِلَى أَبِيمَالِكَ مَلِكِ الفِلِسْطِينِيِّينَ، إِلَى جَرَارَ. وَظَهَرَ لَهُ الرَّبُّ وَقَالَ: «لاَ تَنْزِلْ إِلَى مِصْرَ. اسْكُنْ فِي الأَرْضِ الَّتِي أَقُولُ لَكَ(184).

وغيرها الكثير من النماذج.

وعليه فلا يدلُّ هذا النصُّ على كون عيسى هو الله بوجه من الوجوه.

8. الحياة الذاتية

استُدِلَّ على كون عيسى هو الله بما ورد في إنجيل يوحنا: لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الآبَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ، كَذلِكَ أَعْطَى الابْنَ أَيْضاً أَنْ تَكُونَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ(185).

واستُدِلَّ بها على أن حياتَه في ذاته تعني أزليّته فهو مساوٍ لله تعالى، علّق هلال أمين شارحاً للآية: الآب له حياة في ذاته هذه هي طبيعته، لم يأخذ الحياة من أحد، وهذه الحياة يعطيها للآخرين حسب مسرّة مشيئته، هو أساس ومعطي الحياة الأبديّة. وكما الآب كذلك الابن له حياةٌ في ذاته لم يأخذها من أحد "فيه كانت الحياة" (يو1: 4) وهذه الحياة يستطيع أن يعطيها لمن يشاء وهذا هو ما تعنيه العبارة "أعطى الابن أن تكون له حياة في ذاته".

والنصُّ الذي جعله شاهداً هو ما ورد في إنجيل يوحنا وفسّروه بعيسى (عليه السلام) وأنه: فِيهِ كَانَتِ الحَيَاةُ، وَالحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ(186).

وقد فسّرها هلال أمين بقوله: كمصدر الحياة وكلمة "الحياة" هنا تعنى الحياة الأبدية فهو مصدر الحياة الأبدية لكل المؤمنين.

واستدلّ بهذه العبارة وليم ماكدونالد في شرحه ليوحنا5: 18 معتبراً أنها تدل على أن عيسى: (مساوٍ له في وجوب الوجود بذاته).

المناقشة فيه

يلاحظ على هذا الاستدلال:

أولاً: أنّه فهمٌ غريبٌ جداً للعبارة، بل إسقاطٌ لرأي مُسبقٍ على النصّ، فإن العبارة وإن ذكرت أن للمسيح (حَيَاة فِي ذَاتِهِ) إلا أنها ذكرت مصدر هذه الحياة فهي عطيّة من الله (الآب بحسب الإنجيل): كَذلِكَ أَعْطَى الابْنَ أَيْضاً أَنْ تَكُونَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ.

فهي على افتقاره واحتياجه لله تعالى أدلّ وأوضح.

وأوضح منها ما ورد في نسخة الإنجيل الطبعة الهندية 1816 م (كلكتة): وهب للابن ان تكون له حيوة في نفسه كذلك.

فهي هبة من الله تعالى لعيسى (عليه السلام)، وليس لعيسى حياة لولا إعطاء الله الحياة له وهبته إياها.

وفي ترجمة (الأخبار السارة) وردت: فكما أن الآب هو في ذاته مصدر الحياة، فكذلك أعطى الابن أن يكون في ذاته مصدر الحياة.

فتدلّ على أن الله تعالى جعل عيسى مصدراً للحياة، فصار بإمكانه الإحياء، على سبيل المعجزة والكرامة من الله تعالى له.

وفي الإنجيل طبعة روما 1951م: كما أن للاب الحياة في ذاته كذلك أعطي الابن ان تكون الحياة فيه.

فخلت عن أي عبارة تحتوي على كون الحياة ذاتية، وكذا في الإنجيل المترجم عن النسخة القبطية (حبيب جرجس): كذلك أعطى الابن أيضاً أن تكون الحياة فيه.

وفي إحدى النسخ التي ترجع لأكثر من ألف عام ورد النص هكذا: وكما أن الآب له حياة بقنومه، كذلك أعطى الابن ان تكون له حياة بقنومه(187).

والقنوم أو الأقنوم هو الشخص، فيكون النصُّ دالاً على أن حياة عيسى من الله تعالى، أي أن الله تعالى هو مُعطي الحياة لعيسى، دون أي ذكر للحياة الذاتية.

ثانياً: أن ما تقدّم كان على فرض أن يراد في الآية من الحياة ما يقابل الموت.

لكن الإنجيل استعمل هذا اللفظ في الحياة المعنوية في موارد عديدة، فقد عبّر عيسى عن نفسه بأنه خُبزُ الحياة: أَنَا هُوَ خُبْزُ الحَيَاةِ(188)، وعبَّرَ عن كلامه بأنه روحٌ وحياةٌ: الكَلاَمُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ هُوَ رُوحٌ وَحَيَاةٌ(189).

ولو أريد معنى الحياة الحقيقية الذاتية التي تُقَابِل الموت، للزم توفر خصلتين فيها:

1. أن لا تكون مسبوقةً بالعدم، والحال أن عيسى قد ولد بعد أن لم يكن، فكان مسبوقاً بالعدم، فلم تكن حياته ذاتية.

2. أن لا تكون ملحوقةً بالموت، فينبغي أن لا يكون له قابلية الوفاة، وهو وإن كان رئيس الحياة بحسب الإنجيل، إلا أنه قُتِلَ ومات (بحسب الإنجيل دائماً)، فكيف تكون حياته ذاتية؟

ورد في أعمال الرسل: وَرَئِيسُ الحَيَاةِ قَتَلْتُمُوهُ، الَّذِي أَقَامَهُ الله مِنَ الأَمْوَاتِ، وَنَحْنُ شُهُودٌ لِذلِكَ(190). وفي إنجيل متى: فَصَرَخَ يَسُوعُ أَيْضًا بِصَوْتٍ عَظِيمٍ، وَأَسْلَمَ الرُّوحَ(191).

فتكون العبارة على الوجهين غير دالة على مساواته لله تعالى أبداً.

9. معادلا نفسه بالله

استُدِلَّ على أن عيسى معادلٌ لله تعالى بما ورد في رسائل بولس: فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هذَا الفِكْرُ الَّذِي فِي المَسِيحِ يَسُوعَ أَيْضاً: الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ الله، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً ِللهِ. لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى المَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ. لِذلِكَ رَفَّعَهُ الله أَيْضاً، وَأَعْطَاهُ اسْمًا فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ(192).

ويمكن أن يُستَدل على مساواته لله بأمرين:

الأول: أنّه في صورة الله.

الثاني: أنّه معادل لله.

المناقشة فيه

يلاحظ على ذلك:

أولاً: أن كون عيسى في صورة الله ليس من مختصّاته، إذ ورد في العهد القديم أن الله خلق الإنسان على صورته: فَخَلَقَ الله الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ الله خَلَقَهُ. ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ(193).

وورد في العهد الجديد أن الرجلَ صورةُ الله ومجده: فَإِنَّ الرَّجُلَ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يُغَطِّيَ رَأْسَهُ لِكَوْنِهِ صُورَةَ الله وَمَجْدَهُ. وَأَمَّا المَرْأَةُ فَهِيَ مَجْدُ الرَّجُلِ(194).

فلو دلّ كونُه في صورة الله على ألوهيّته، للزم القول بألوهية كل الرجال، بل كل الناس رجالاً ونساءً فكلهم على صورة الله خلقوا.

ثانياً: أنّه ليس في العبارة ما يدلّ على أنّه عادَلَ نفسَه بالله، أو أنّه مُعادِلٌ لله، بل دلّت على النقيض من ذلك تماماً، إذ أنّه بعد كونه في صورة الله (لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً لله)، فكيف يُستدلُّ بعدم كونه معادلاً لله على أنه معادلٌ لله؟!

وفي سائر تراجم الكتاب المقدّس ما يزيد الأمر وضوحاً، ففي نسخة (العهد الجديد لربنا يسوع المسيح: 1342م) ورد: المسيح الذي هو شبه الله ولم يعدد هذا خلسة أن يكون عديل الله.

أي أنه لم يعدّ مشابهته لله في كونه في صورته غنيمةً، ولم يزعم أنّه عديل الله كما زعم النصارى.

وحتى على فرض اثبات المساواة كما في بعض النسخ فإنها محصورةٌ في جهٍة واحدةٍ وهي كونه على صورة الله، وقد تقدم أن الناس كلهم خلقوا على صورة الله.

ثالثاً: أن العبارة إن أوهمت خلاف ذلك، كما فهمه اليهود من كلامه، فإن ردَّ عيسى عليهم يأتي صريحاً في نفي معادلته لله تعالى، وإثبات أنه لا يقدر أن يعمل شيئاً دون الله تعالى، فكيف يكون مساوياً لله؟

ففي إنجيل يوحنا: فَمِنْ أَجْلِ هذَا كَانَ اليَهُودُ يَطْلُبُونَ أَكْثَرَ أَنْ يَقْتُلُوهُ، لأَنَّهُ لَمْ يَنْقُضِ السَّبْتَ فَقَطْ، بَلْ قَالَ أَيْضًا إِنَّ الله أَبُوهُ، مُعَادِلاً نَفْسَهُ بِالله.

فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمُ:«الحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ يَقْدِرُ الابْنُ أَنْ يَعْمَلَ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا إِلاَّ مَا يَنْظُرُ الآبَ يَعْمَلُ. لأَنْ مَهْمَا عَمِلَ ذَاكَ فَهذَا يَعْمَلُهُ الابْنُ كَذلِكَ(195).

وبعدها بآيات: أَنَا لاَ أَقْدِرُ أَنْ أَفْعَلَ مِنْ نَفْسِي شَيْئًا(196).

وفي نسخة روما 1951م: لست أقدر أن أعمل شيئاً من ذات نفسي.

ولم يسبق لعيسى (عليه السلام) أن ذكر أنّه معادلٌ لله أبداً، لكن اليهود فهموا (بحسب الإنجيل) أنه معادلٌ لله كونه قال إن الله أبوه، يتبيّن ذلك من الآيات السابقة نفسها، وبشكل أوضح في ترجماتٍ أخرى كالطبعة المشتركة والكاثوليكية والحياة وغيرها حيث وردت: قالَ إنَّ الله أبوهُ، فَساوى نَفسَهُ بِالله.

فهو قد ساوى نفسه بالله بحسب اعتقادهم لا بحسب ادعائه، لأنه قال أنّ الله أبوه وهو يدل عندهم على المساواة بين الأب والإبن.

وهم مصيبون في ذلك، أي في كون من يدّعي أن الله أبوه مُدّعياً للألوهية وأنّه الله، لذا نعتقد أن عيسى لم يقل في الحقيقة أنّ أباه هو الله، لكن الإنجيل فعلاً يُثبتُ الأبوّة والبنوّة بمعانٍ مجازية كما تقدم، وبناء على هذا فإن عيسى أجابهم نافياً أن يكون معادِلاً أو مساوياً لله تعالى، لأنه لا يعمل شيئاً من نفسه، وهو عين الافتقار المحض الذي لا يجتمع مع مساواته لله تعالى بوجه من الوجوه.

10. السجود لعيسى

تكرّر ذكر السجود لعيسى (عليه السلام) في الكتاب المقدّس، واستُدِلَّ به على مساواته لله تعالى وإلا لم يَجُز السجود له، كما قال عيسى للشيطان: حِينَئِذٍ قَالَ لَهُ يَسُوعُ:«اذْهَبْ يَا شَيْطَانُ! لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ»(197).

ولو ساغ السجود لغير الله تعالى لنهى عيسى (عليه السلام) الساجدين عن السجود له، لكنه لم ينههم فدلّ ذلك على قبوله بفعلهم، فصار هو الله.

وسجودهم له كان منذ ولادته لما جاء المجوس من المشرق إلى أورشليم أيام هيرودس: وَأَتَوْا إِلَى البَيْتِ، وَرَأَوْا الصَّبِيَّ مَعَ مَرْيَمَ أُمِّهِ. فَخَرُّوا وَسَجَدُوا لَهُ. ثُمَّ فَتَحُوا كُنُوزَهُمْ وَقَدَّمُوا لَهُ هَدَايَا: ذَهَبًا وَلُبَانًا وَمُرًّا(198).

ولما كبر وظهرت معجزاته جاء أبرص ساجداً له طالباً منه الشفاء: وَإِذَا أَبْرَصُ قَدْ جَاءَ وَسَجَدَ لَهُ قَائِلاً:«يَا سَيِّدُ، إِنْ أَرَدْتَ تَقْدِرْ أَنْ تُطَهِّرَنِي». فَمَدَّ يَسُوعُ يَدَهُ وَلَمَسَهُ قَائِلاً:«أُرِيدُ، فَاطْهُرْ!». وَلِلْوَقْتِ طَهُرَ بَرَصُهُ(199).

وفي مورد آخر: وَفِيمَا هُوَ يُكَلِّمُهُمْ بِهذَا، إِذَا رَئِيسٌ قَدْ جَاءَ فَسَجَدَ لَهُ قَائِلاً:«إِنَّ ابْنَتِي الآنَ مَاتَتْ، لكِنْ تَعَالَ وَضَعْ يَدَكَ عَلَيْهَا فَتَحْيَا»(200).

وفي محل رابع: وَالَّذِينَ فِي السَّفِينَةِ جَاءُوا وَسَجَدُوا لَهُ قَائِلِينَ:«بِالحَقِيقَةِ أَنْتَ ابْنُ الله!» (201).

ولما قام من الموت (بحسب الكتاب المقدس) سجدت له مريم المجدلية ومريم الأخرى(202): وَفِيمَا هُمَا مُنْطَلِقَتَانِ لِتُخْبِرَا تَلاَمِيذَهُ إِذَا يَسُوعُ لاَقَاهُمَا وَقَالَ:«سَلاَمٌ لَكُمَا». فَتَقَدَّمَتَا وَأَمْسَكَتَا بِقَدَمَيْهِ وَسَجَدَتَا لَهُ(203).

بل سجدت له كل ملائكة الله: وَأَيْضًا مَتَى أَدْخَلَ البِكْرَ إِلَى العَالَمِ يَقُولُ:«وَلْتَسْجُدْ لَهُ كُلُّ مَلاَئِكَةِ الله»(204).

فدلّ كل هذا على مساواته لله تعالى، لعدم صحة السجود لغير الله تعالى.

المناقشة فيه

يلاحظ على هذا الاستدلال، أنّه لا بدّ من حمل عبارة (لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ) على السجود الذي يراد منه العبادة، أمّا سجود التعظيم أو الشكر فلا مانع منه بحسب الكتاب المقدّس، وعليه فلا يدل السجود لغير الله تعالى مطلقاً على العبادة له، ولا على كون المسجود له مساوياً لله تعالى.

ويحكي الكتابُ سجودَ نبيّ الله إبراهيم (عليه السلام) لبني حِثّ(205) لما ماتت سارة فندبها وبكى عليها، وأراد دفنها، فطلب مِلكَ قبرٍ منهم: فَأَجَابَ بَنُو حِثَّ إِبْرَاهِيمَ قَائِلِينَ لَهُ: «اِسْمَعْنَا يَا سَيِّدِي. أَنْتَ رَئِيسٌ مِنَ الله بَيْنَنَا. فِي أَفْضَلِ قُبُورِنَا ادْفِنْ مَيْتَكَ، لاَ يَمْنَعُ أَحَدٌ مِنَّا قَبْرَهُ عَنْكَ حَتَّى لاَ تَدْفِنَ مَيْتَكَ». فَقَامَ إِبْرَاهِيمُ وَسَجَدَ لِشَعْبِ الأَرْضِ، لِبَنِي حِثَّ(206).

والسجود هنا كان من الأعلى (رئيس من الله) للأدنى (لشعب الأرض)، فدلّ على أن السجود لا يلازم العبودية، وإلا كان (شعب الأرض) إلهاً لإبراهيم، وكان الله هو (شعب الأرض) بنو حِثّ، بل يظهر أنه سجودُ شكرٍ بعد أن أجابوه في طلبته.

ولذا لا يكون في سجود الناس لعيسى (عليه السلام) أي دلالة على أنه الله.

كذلك ينقل الكتاب المقدس سجود أخوة يوسف له: وَكَانَ يُوسُفُ هُوَ المُسَلَّطَ عَلَى الأَرْضِ، وَهُوَ البَائِعَ لِكُلِّ شَعْبِ الأَرْضِ. فَأَتَى إِخْوَةُ يُوسُفَ وَسَجَدُوا لَهُ بِوُجُوهِهِمْ إِلَى الأَرْضِ(207).

فسجد أخوة يوسف له ولم ينههم عن ذلك، ولم يصبح يوسف بذلك إلهاً ورباً!

كذلك سجدت زوجة داود له ولم ينهها عن ذلك: فَخَرَّتْ بَثْشَبَعُ عَلَى وَجْهِهَا إِلَى الأَرْضِ وَسَجَدَتْ لِلْمَلِكِ وَقَالَتْ: «لِيَحْيَ سَيِّدِي المَلِكُ دَاوُدُ إِلَى الأَبَدِ»(208).

وسجد أدونيا أخ سليمان لأخيه: فَأَرْسَلَ المَلِكُ سُلَيْمَانُ فَأَنْزَلُوهُ عَنِ المَذْبَحِ، فَأَتَى وَسَجَدَ لِلْمَلِكِ سُلَيْمَانَ. فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: «اذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ»(209).

وسجد سليمان لأمه بثشبع: فَدَخَلَتْ بَثْشَبَعُ إِلَى المَلِكِ سُلَيْمَانَ لِتُكَلِّمَهُ عَنْ أَدُونِيَّا. فَقَامَ المَلِكُ لِلِقَائِهَا وَسَجَدَ لَهَا وَجَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّهِ، وَوَضَعَ كُرْسِيًّا لأُمِّ المَلِكِ فَجَلَسَتْ عَنْ يَمِينِهِ(210).

وهكذا سجد أبناء الأنبياء لأليشع(211)، وأمر الكتاب المقدس البنات بالسجود لسيّدهن: اِسْمَعِي يَا بِنْتُ وَانْظُرِي، وَأَمِيلِي أُذُنَكِ، وَانْسَيْ شَعْبَكِ وَبَيْتَ أَبِيكِ، فَيَشْتَهِيَ المَلِكُ حُسْنَكِ، لأَنَّهُ هُوَ سَيِّدُكِ فَاسْجُدِي لَهُ(212).

فيكون السجود في الكتاب المقدس على أنواع، فمنه سجود شكرٍ ومنه سجود تكريمٍ واحترام، ومنه سجود عبادة، والأخير لا يصحُّ إلا لله تعالى، وما سواه لا ضيرَ فيه، فيكون سجود الساجدين لعيسى (عليه السلام) سجودَ شُكرٍ واحترامٍ وتكريمٍ دون أن يكون فيه أيّ دلالة على مساواة عيسى لله تعالى ولا على ألوهيته.

11. شفاء المرضى وإحياء الموتى

استُدلّ على ألوهية عيسى بأنه كان يشفي المرضى ويحيي الموتى بطريقٍ إعجازيّ، وإحياء الموتى مختصّ بالله تعالى، فيدل ذلك على مساواته لله تعالى.

ومما ورد عن ذلك في الإنجيل: وَكَانَ يَسُوعُ يَطُوفُ كُلَّ الجَلِيلِ يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهِمْ، وَيَكْرِزُ بِبِشَارَةِ المَلَكُوتِ، وَيَشْفِي كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضَعْفٍ فِي الشَّعْب.  فَذَاعَ خَبَرُهُ فِي جَمِيعِ سُورِيَّةَ. فَأَحْضَرُوا إِلَيْهِ جَمِيعَ السُّقَمَاءِ المُصَابِينَ بِأَمْرَاضٍ وَأَوْجَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَالمَجَانِينَ وَالمَصْرُوعِينَ وَالمَفْلُوجِينَ، فَشَفَاهُمْ(213).

ومنها: وَلَمَّا صَارَ المَسَاءُ قَدَّمُوا إِلَيْهِ مَجَانِينَ كَثِيرِينَ، فَأَخْرَجَ الأَرْوَاحَ بِكَلِمَةٍ، وَجَمِيعَ المَرْضَى شَفَاهُمْ(214).

وأما العمي: حِينَئِذٍ لَمَسَ أَعْيُنَهُمَا قَائِلاً:«بِحَسَب إِيمَانِكُمَا لِيَكُنْ لَكُمَا». فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا. فَانْتَهَرَهُمَا يَسُوعُ قَائِلاً: «انْظُرَا، لاَ يَعْلَمْ أَحَدٌ!» (215).

ومنها: فَجَاءَ إِلَيْهِ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ، مَعَهُمْ عُرْجٌ وَعُمْيٌ وَخُرْسٌ وَشُلٌّ وَآخَرُونَ كَثِيرُونَ، وَطَرَحُوهُمْ عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ. فَشَفَاهُمْ. حَتَّى تَعَجَّبَ الجُمُوعُ إِذْ رَأَوْا الخُرْسَ يَتَكَلَّمُونَ، وَالشُّلَّ يَصِحُّونَ، وَالعُرْجَ يَمْشُونَ، وَالعُمْيَ يُبْصِرُونَ. وَمَجَّدُوا إِلهَ إِسْرَائِيلَ(216).

أمّا إحياء الموتى فقد ذكر في الإنجيل أيضاً: العُمْيُ يُبْصِرُونَ، وَالعُرْجُ يَمْشُونَ، وَالبُرْصُ يُطَهَّرُونَ، وَالصُّمُّ يَسْمَعُونَ، وَالمَوْتَى يَقُومُونَ، وَالمَسَاكِينُ يُبَشَّرُونَ(217).

ولما ماتت ابنة رئيس دار المجمع: وَأَمْسَكَ بِيَدِهَا وَنَادَى قَائِلاً:«يَا صَبِيَّةُ، قُومِي!». فَرَجَعَتْ رُوحُهَا وَقَامَتْ فِي الْحالِ(218).

ولما وقف على نعش شابّ ميّت ولمسه: قَالَ: «أَيُّهَا الشَّابُّ، لَكَ أَقُولُ: قُمْ!». فَجَلَسَ الْمَيْتُ وَابْتَدَأَ يَتَكَلَّمُ، فَدَفَعَهُ إِلَى أُمِّهِ(219).

فدلّ ذلك على مساواته لله تعالى، إذ أنّ هذه المعجزات وإحياء الموتى خصوصاً من مختصات الله تعالى.

المناقشة فيه

ويلاحظ على هذا الدليل:

أوّلاً: أنّ شفاء المرضى لم يكن حِكراً على عيسى (عليه السلام) في الكتاب المقدّس، فقد ورد أن لله ملاكاً يبرئ من كل الأمراض، ففي إنجيل يوحنا: وَفِي أُورُشَلِيمَ عِنْدَ بَابِ الضَّأْنِ بِرْكَةٌ يُقَالُ لَهَا بِالعِبْرَانِيَّةِ «بَيْتُ حِسْدَا» لَهَا خَمْسَةُ أَرْوِقَةٍ. فِي هذِهِ كَانَ مُضْطَجِعًا جُمْهُورٌ كَثِيرٌ مِنْ مَرْضَى وَعُمْيٍ وَعُرْجٍ وَعُسْمٍ، يَتَوَقَّعُونَ تَحْرِيكَ المَاءِ. لأَنَّ مَلاَكًا كَانَ يَنْزِلُ أَحْيَانًا فِي البِرْكَةِ وَيُحَرِّكُ المَاءَ. فَمَنْ نَزَلَ أَوَّلاً بَعْدَ تَحْرِيكِ المَاءِ كَانَ يَبْرَأُ مِنْ أَيِّ مَرَضٍ اعْتَرَاهُ(220).

وكان تلاميذ المسيح أيضاً يشفون المرضى بحسب الإنجيل: ثُمَّ دَعَا تَلاَمِيذَهُ الاثْنَيْ عَشَرَ وَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا عَلَى أَرْوَاحٍ نَجِسَةٍ حَتَّى يُخْرِجُوهَا، وَيَشْفُوا كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضُعْفٍ(221).

وفي مرقس: وَأَقَامَ اثْنَيْ عَشَرَ لِيَكُونُوا مَعَهُ، وَلِيُرْسِلَهُمْ لِيَكْرِزُوا، وَيَكُونَ لَهُمْ سُلْطَانٌ عَلَى شِفَاءِ الأَمْرَاضِ وَإِخْرَاجِ الشَّيَاطِينِ(222). وفي لوقا: فَلَمَّا خَرَجُوا كَانُوا يَجْتَازُونَ فِي كُلِّ قَرْيَةٍ يُبَشِّرُونَ وَيَشْفُونَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ(223).

بل كان هناك سبعون شخصاً غير التلاميذ الاثني عشر شاركوا في شفاء المرضى: وَبَعْدَ ذلِكَ عَيَّنَ الرَّبُّ سَبْعِينَ آخَرِينَ أَيْضًا، وَأَرْسَلَهُمُ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ أَمَامَ وَجْهِهِ إِلَى كُلِّ مَدِينَةٍ وَمَوْضِعٍ حَيْثُ كَانَ هُوَ مُزْمِعًا أَنْ يَأْتِيَ.. وَأَيَّةَ مَدِينَةٍ دَخَلْتُمُوهَا وَقَبِلُوكُمْ، فَكُلُوا مِمَّا يُقَدَّمُ لَكُمْ، وَاشْفُوا المَرْضَى الَّذِينَ فِيهَا، وَقُولُوا لَهُمْ: قَدِ اقْتَرَبَ مِنْكُمْ مَلَكُوتُ الله.. فَرَجَعَ السَّبْعُونَ بِفَرَحٍ قَائِلِينَ:«يَارَبُّ، حَتَّى الشَّيَاطِينُ تَخْضَعُ لَنَا بِاسْمِكَ (224).

ثانياً: أن إحياء الموتى أيضاً لم يكن حكراً على عيسى (بحسب الإنجيل)، فإن التلاميذ قد أحيوا الموتى أيضاً، ففي وصية عيسى للإثني عشر أمرهم بشفاء المرضى وإقامة الموتى: وَفِيمَا أَنْتُمْ ذَاهِبُونَ اكْرِزُوا قَائِلِينَ: إِنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ. اِشْفُوا مَرْضَى. طَهِّرُوا بُرْصاً. أَقِيمُوا مَوْتَى. أَخْرِجُوا شَيَاطِينَ. مَجَّانًا أَخَذْتُمْ، مَجَّانًا أَعْطُوا(225).

ثم إن من التلاميذ من مارس ذلك فعلاً وقام بإحياء الموتى كما ينقل عن بطرس في أعمال الرسل بعدما ماتت تلميذةٌ اسمها طَابِيثَا:

فَأَخْرَجَ بُطْرُسُ الجَمِيعَ خَارِجًا، وَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَصَلَّى، ثُمَّ التَفَتَ إِلَى الجَسَدِ وَقَالَ: «يَا طَابِيثَا، قُومِي!» فَفَتَحَتْ عَيْنَيْهَا. وَلَمَّا أَبْصَرَتْ بُطْرُسَ جَلَسَتْ، فَنَاوَلَهَا يَدَهُ وَأَقَامَهَا. ثُمَّ نَادَى القِدِّيسِينَ وَالأَرَامِلَ وَأَحْضَرَهَا حَيَّةً(226).

وقد نقل ثاوذورس أبي قرّة أن توما تلميذ المسيح أحيا ميتاً في الهند فآمن بالمسيح ملوكُ الهند وغيرهم(227).

بل ورد في الكتاب المقدّس إحياء أَلِيشَع لميتٍ أيضاً، ففيه: وَدَخَلَ أَلِيشَعُ البَيْتَ وَإِذَا بِالصَّبِيِّ مَيْتٌ وَمُضْطَجعٌ عَلَى سَرِيرِهِ. فَدَخَلَ وَأَغْلَقَ البَابَ عَلَى نَفْسَيْهِمَا كِلَيْهِمَا، وَصَلَّى إِلَى الرَّبِّ. ثُمَّ صَعِدَ وَاضْطَجَعَ فَوْقَ الصَّبِيِّ وَوَضَعَ فَمَهُ عَلَى فَمِهِ، وَعَيْنَيْهِ عَلَى عَيْنَيْهِ، وَيَدَيْهِ عَلَى يَدَيْهِ، وَتَمَدَّدَ عَلَيْهِ فَسَخُنَ جَسَدُ الوَلَدِ.

ثُمَّ عَادَ وَتَمَشَّى فِي البَيْتِ تَارَةً إِلَى هُنَا وَتَارَةً إِلَى هُنَاكَ، وَصَعِدَ وَتَمَدَّدَ عَلَيْهِ فَعَطَسَ الصَّبِيُّ سَبْعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ فَتَحَ الصَّبِيُّ عَيْنَيْهِ(228).

وصرّح الكتاب المقدّس بأن أليشع هو الذي أحياه بقوله: وَكَلَّمَ أَلِيشَعُ المَرْأَةَ الَّتِي أَحْيَا ابْنَهَا قَائِلاً: «قُومِي وَانْطَلِقِي أَنْتِ وَبَيْتُكِ وَتَغَرَّبِي حَيْثُمَا تَتَغَرَّبِي، لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ دَعَا بِجُوعٍ فَيَأْتِي أَيْضًا عَلَى الأَرْضِ سَبْعَ سِنِينٍ»(229).

بل إن مسَّ عظام أليشع بعد موته كان سبباً لحياة ميّت آخر: وَمَاتَ أَلِيشَعُ فَدَفَنُوهُ. وَكَانَ غُزَاةُ مُوآبَ تَدْخُلُ عَلَى الأَرْضِ عِنْدَ دُخُولِ السَّنَةِ. وَفِيمَا كَانُوا يَدْفِنُونَ رَجُلاً إِذَا بِهِمْ قَدْ رَأَوْا الغُزَاةَ، فَطَرَحُوا الرَّجُلَ فِي قَبْرِ أَلِيشَعَ، فَلَمَّا نَزَلَ الرَّجُلُ وَمَسَّ عِظَامَ أَلِيشَعَ عَاشَ وَقَامَ عَلَى رِجْلَيْهِ(230).

ولم يقل قائلٌ بأن أليشع هو الله لإحيائه ميتاً أثناء حياته وبعد موته عبر مسّ عظامه.

وقد احتجّ إمامنا الرضا (عليه السلام) بإحياء أليشع أو اليسع للموتى، ولو كان إحياء عيسى للموتى دليلاً على ربوبيّته لَلَزِمَ القول بربوبية هؤلاء الأنبياء، فقد جرت مناظرةٌ بين إمامنا (عليه السلام) وبين جاثليق النصارى عند المأمون، قَالَ الرِّضَا (عليه السلام): مَا أَنْكَرْتَ أَنَّ عِيسَى كَانَ يُحْيِي المَوْتَى بِإِذْنِ الله عَزَّ وَجَلَّ؟

قَالَ الجَاثِلِيقُ: أَنْكَرْتُ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ أَنَّ مَنْ أَحْيَا المَوْتَى وَأَبْرَأَ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ فَهُوَ رَبٌّ مُسْتَحِقٌّ لِأَنْ يُعْبَدَ.

فالجاثليق يُنكِرُ أنّ إحياء عيسى (عليه السلام) للموتى كان بإذن الله، ويزعم أنّه الله كما هي عقيدة النصارى.

قَالَ الرِّضَا (عليه السلام): فَإِنَّ اليَسَعَ قَدْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعَ عِيسَى: مَشَى عَلَى المَاءِ وَأَحْيَا المَوْتَى وَأَبْرَأَ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ فَلَمْ يَتَّخِذْهُ أُمَّتُهُ رَبّاً وَلَمْ يَعْبُدْهُ أَحَدٌ مِنْ دُونِ الله عَزَّ وَجَلَّ.

وَلَقَدْ صَنَعَ حِزْقِيلُ النَّبِيُّ (عليه السلام) مِثْلَ مَا صَنَعَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ (عليهما السلام) فَأَحْيَا خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ الفَ رَجُلٍ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِمْ بِسِتِّينَ سَنَة(231)..

ثم قَالَ الرِّضَا (عليه السلام): .. لَقَدِ اجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ إِلَى رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فَسَأَلُوهُ أَنْ يُحْيِيَ لَهُمْ مَوْتَاهُمْ فَوَجَّهَ مَعَهُمْ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ إِلَى الجَبَّانَةِ فَنَادِ بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ الرَّهْطِ الَّذِينَ يَسْأَلُونَ عَنْهُمْ بِأَعْلَى صَوْتِكَ: يَا فُلَانُ وَيَا فُلَانُ وَيَا فُلَانُ: يَقُولُ لَكُمْ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قُومُوا بِإِذْنِ الله عَزَّ وَجَلَّ.

فَقَامُوا يَنْفُضُونَ التُّرَابَ عَنْ رُءُوسِهِمْ، فَأَقْبَلَتْ قُرَيْشٌ تَسْأَلُهُمْ عَنْ أُمُورِهِمْ، ثُمَّ أَخْبَرُوهُمْ أَنَّ مُحَمَّداً قَدْ بُعِثَ نَبِيّاً، وَقَالُوا: وَدِدْنَا أَنَّا أَدْرَكْنَاهُ فَنُؤْمِنُ بِهِ.

وَلَقَدْ أَبْرَأَ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَالمَجَانِينَ وَكَلَّمَهُ البَهَائِمُ وَالطَّيْرُ وَالجِنُّ وَالشَّيَاطِينُ وَلَمْ نَتَّخِذْهُ رَبّاً مِنْ دُونِ الله عَزَّ وَجَلَّ، وَلَمْ نُنْكِرْ لِأَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ فَضْلَهُمْ، فَمَتَى اتَّخَذْتُمْ عِيسَى رَبّاً جَازَ لَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا اليَسَعَ وَحِزْقِيلَ رَبّاً لِأَنَّهُمَا قَدْ صَنَعَا مِثْلَ مَا صَنَعَ عِيسَى مِنْ إِحْيَاءِ المَوْتَى وَغَيْرِه(232).

ثم ذكر له الإمام (عليه السلام) نماذج أخرى لأقوامٍ أحياهم الله تعالى على يد عباده، ثم قال للجاثليق: وَكُلُّ شَيْ‏ءٍ ذَكَرْتُهُ لَكَ مِنْ هَذَا لَا تَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ لِأَنَّ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ وَالفُرْقَانَ قَدْ نَطَقَتْ بِهِ، فَإِنْ كَانَ كُلُّ مَنْ أَحْيَا المَوْتَى وَأَبْرَأَ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَالمَجَانِينَ يُتَّخَذُ رَبّاً مِنْ دُونِ الله فَاتَّخِذْ هَؤُلَاءِ كُلَّهُمْ أَرْبَاباً، مَا تَقُولُ يَا نَصْرَانِيٌّ؟

قَالَ الجَاثِلِيقُ: القَوْلُ قَوْلُكَ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا الله‏(233).

ثالثاً: لقد فهم الناسُ أن إحياء الموتى من قبل عيسى يدلّ على أنّه نبيٌّ ولا يدلّ على أنّه الله، ففي إنجيل لوقا عندما رأى المسيحُ ميتاً محمولاً وتحنّنَ على أمّه: ثُمَّ تَقَدَّمَ وَلَمَسَ النَّعْشَ، فَوَقَفَ الحَامِلُونَ. فَقَالَ: «أَيُّهَا الشَّابُّ، لَكَ أَقُولُ: قُمْ!».

فَجَلَسَ المَيْتُ وَابْتَدَأَ يَتَكَلَّمُ، فَدَفَعَهُ إِلَى أُمِّهِ. فَأَخَذَ الجَمِيعَ خَوْفٌ، وَمَجَّدُوا الله قَائِلِينَ:«قَدْ قَامَ فِينَا نَبِيٌّ عَظِيمٌ، وَافْتَقَدَ الله شَعْبَهُ»(234).

ولم يعترض عيسى ولا الإنجيل على هذا الاستنتاج لكونه طبيعياً وفي محلّه، فإن المعجزات تصدر على يد الأنبياء، بقدرة الله تعالى، فدلّ إحياؤه الموتى على كونه نبيّاً عظيماً لا على كونه الله.

رابعاً: أن عيسى وإن كان يحيي الموتى إلا أنّه يصرّح في الإنجيل بأن إحياء الموتى هو بإذن الله تعالى، فالله هو الذي يُقدِرُهُ ويسمع له ويقبل منه إحياء الموتى، وهو الذي أرسله بذلك فلم يكن ما يفعله عيسى من تلقاء نفسه بل من الله تعالى، فبعد أن مات لِعَازَرُ أخ مَرْثَا قالت للمسيح: أَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا تَطْلُبُ مِنَ الله يُعْطِيكَ الله إِيَّاهُ.

فَرَفَعُوا الحَجَرَ حَيْثُ كَانَ المَيْتُ مَوْضُوعًا، وَرَفَعَ يَسُوعُ عَيْنَيْهِ إِلَى فَوْقُ، وَقَالَ:«أَيُّهَا الآبُ، أَشْكُرُكَ لأَنَّكَ سَمِعْتَ لِي، وَأَنَا عَلِمْتُ أَنَّكَ فِي كُلِّ حِينٍ تَسْمَعُ لِي. وَلكِنْ لأَجْلِ هذَا الجَمْعِ الوَاقِفِ قُلْتُ، لِيُؤْمِنُوا أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي».

وَلَمَّا قَالَ هذَا صَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ:«لِعَازَرُ، هَلُمَّ خَارِجًا

فَخَرَجَ المَيْتُ وَيَدَاهُ وَرِجْلاَهُ مَرْبُوطَاتٌ بِأَقْمِطَةٍ، وَوَجْهُهُ مَلْفُوفٌ بِمِنْدِيل. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:«حُلُّوهُ وَدَعُوهُ يَذْهَبْ»(235).

فإن عيسى (عليه السلام) قد رَفَعَ كلَّ شبهةٍ هنا ببيانه قبل إحياء الميت أن ما يقوم به هو من الله تعالى، لدرء أي شبهةٍ محتملة في أذهان الحاضرين، بل في بعض النسخ عبّر بالاستجابة بدلاً من السماع، ففي (الترجمة العربية المشتركة) وترجمة (الأخبار السارة): رفع يسوع عينيه وقال: أشكرك يا أبي لأنك استجبت لي. وفي ترجمة (اليسوعية): شكرا لك، يا أبت على أنك استجبت لي.

وهو لا يختلف كثيراً عما حصل مع نبي الله إيليا في قصته مع الفتى الذي مات فسمع اللهُ طلبَه واستجابَ له لإحياء الميّت: وَصَرَخَ إِلَى الرَّبِّ وَقَالَ: «أَيُّهَا الرَّبُّ إِلهِي، أَأَيْضًا إِلَى الأَرْمَلَةِ الَّتِي أَنَا نَازِلٌ عِنْدَهَا قَدْ أَسَأْتَ بِإِمَاتَتِكَ ابْنَهَا؟»

فَتَمَدَّدَ عَلَى الوَلَدِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، وَصَرَخَ إِلَى الرَّبِّ وَقَالَ: «يَا رَبُّ إِلهِي، لِتَرْجعْ نَفْسُ هذَا الوَلَدِ إِلَى جَوْفِهِ». فَسَمِعَ الرَّبُّ لِصَوْتِ إِيلِيَّا، فَرَجَعَتْ نَفْسُ الوَلَدِ إِلَى جَوْفِهِ فَعَاشَ(236).

خامساً: قد يحاولُ البعض التمييز بين شفاء التلامذة وشفاء عيسى (عليه السلام) بالقول أنّ شفاءهم إنّما كان بتوسُّطه، مستشهدين بما قاله بطرس بعدما أقدم هو ويوحنا على شفاء رجل أعرج: فَلَمَّا رَأَى بُطْرُسُ ذلِكَ أَجَابَ الشَّعْبَ: «أَيُّهَا الرِّجَالُ الإِسْرَائِيلِيُّونَ، مَا بَالُكُمْ تَتَعَجَّبُونَ مِنْ هذَا؟ وَلِمَاذَا تَشْخَصُونَ إِلَيْنَا، كَأَنَّنَا بِقُوَّتِنَا أَوْ تَقْوَانَا قَدْ جَعَلْنَا هذَا يَمْشِي؟(237).

فإن ما فعلوه لم يكن بقوّتهم، بخلاف ما فعله عيسى فقد كان بقوّته.

والجواب عليه أن ما فعلوه إما أن يكون بقدرة الله أو بقدرة عيسى، وعلى كلا التقديرين سيرجع ذلك لله تعالى، لأن عيسى (عليه السلام) نفسه إنما كان يفعل ما يفعل بقدرة الله تعالى لا بقدرته الذاتية، كما صرّح بنفسه في الإنجيل: أَجَابَهُمْ يَسُوعُ:«إِنِّي قُلْتُ لَكُمْ وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ. اَلأَعْمَالُ الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا بِاسْمِ أَبِي هِيَ تَشْهَدُ لِي.. أَبِي الَّذِي أَعْطَانِي إِيَّاهَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الكُلِّ(238).

إذاً فهو يعمل الأعمالَ باسم أبيه لا بنفسه، كما أنّ بطرس ويوحنا كذلك.. والله تعالى هو الذي أعطاه هذه القدرة، فيشترك مع سائر من أحيا الموتى (بحسب الإنجيل) في أن قدرتهم جميعاً من الله تعالى، غاية الأمر ان هناك احتمالاً أن يكون بطرس ويوحنا إنما يقومان بذلك بتوسُّطه هو (عليه السلام) باعتباره النبيَّ المرسل من الله تعالى لهم.

وعليه فإنّ إحياء الموتى وشفاء المرضى لم يكن مختصاً بعيسى (عليه السلام)، بل شمل الأنبياء السابقين وتلامذة عيسى اللاحقين، والجميع كانوا كعيسى محتاجين لله تعالى في إحياء الموتى وشفاء المرضى، فلم يكن في ذلك دلالةٌ على أن عيسى هو الله، كما لم يكن تلامذته هم الله.

وقد صرّح الإنجيل بأن كلّ العجائب التي ظهرت على يدي عيسى (عليه السلام) إنما صنعها الله تعالى بيده، ففيه: يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ رَجُلٌ قَدْ تَبَرْهَنَ لَكُمْ مِنْ قِبَلِ الله بِقُوَّاتٍ وَعَجَائِبَ وَآيَاتٍ صَنَعَهَا اللهُ بِيَدِهِ فِي وَسْطِكُمْ، كَمَا أَنْتُمْ أَيْضًا تَعْلَمُونَ(239).

12. علمه بالغيب

استُدِلَّ على ألوهية عيسى بأنه كان يعلم الغيب، ومن ذلك علمه بأفكار الناس، فقد ورد في إنجيل متى: وَإِذَا قَوْمٌ مِنَ الكَتَبَةِ قَدْ قَالُوا فِي أَنْفُسِهِمْ: «هذَا يُجَدِّفُ!» فَعَلِمَ يَسُوعُ أَفْكَارَهُمْ، فَقَالَ:«لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ بِالشَّرِّ فِي قُلُوبِكُمْ؟(240).

وفيه أيضاً: أَمَّا الفَرِّيسِيُّونَ فَلَمَّا سَمِعُوا قَالُوا:«هذَا لاَ يُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ إِلاَّ بِبَعْلَزَبولَ رَئِيسِ الشَّيَاطِينِ». فَعَلِمَ يَسُوعُ أَفْكَارَهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ: «كُلُّ مَمْلَكَةٍ مُنْقَسِمَةٍ عَلَى ذَاتِهَا تُخْرَبُ، وَكُلُّ مَدِينَةٍ أَوْ بَيْتٍ مُنْقَسِمٍ عَلَى ذَاتِهِ لاَ يَثْبُتُ(241).

وأمثاله من النصوص. فدلّ هذا على أنّه الله، لأن الله وحده هو الذي يعلم الغيب.

المناقشة فيه

يلاحظ على ذلك:

أولاً: أن الدليل أخصُّ من المُدَّعى، فإن الدليل يُثبِتُ له (بعض العلم بالغيب) لا كلَّ علمٍ بالغيب، ليكون علمه مساوياً لله تعالى، ولا ملازمة بين معرفة بعض الغيب وبين معرفة كلّ الغيب، فالآخرةُ من الغيب الذي يعلمه في الجملة معظم الناس وإن كان ذلك بتعليم الأنبياء، فلا مانع من أن يكون الله تعالى قد أطلع عيسى (عليه السلام) على ما في أفكار هؤلاء الناس. فلا يدل على ألوهيته بوجه.

ثانياً: أن في الإنجيل شواهد على أن عيسى (عليه السلام) لا يعلم كل شيء، وأنّ علمه ليس ذاتياً بل من الله.

فقد تضمّن تصريحاً بعدم علم عيسى (عليه السلام) بساعة عودته: «وَأَمَّا ذلِكَ اليَوْمُ وَتِلْكَ السَّاعَةُ فَلاَ يَعْلَمُ بِهِمَا أَحَدٌ، وَلاَ المَلاَئِكَةُ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ، وَلاَ الابْنُ، إِلاَّ الآبُ(242).

نعم هناك محاولةٌ غير موفقة لبعض شرّاح الانجيل كوِليَم ماكدونالد للتفريق بين علم المسيح بصفته الله وعلمه بصفته العبد، فهو يعلم باعتباره الله ولا يعلم باعتباره العبد!

يقول: فلم يُعطَ الربُّ يسوع، باعتباره العبد الكامل، أن يعرف زمن مجيئه ثانيةً.. فهو يعرفه طبعاً، لكونه الله. لكنه كعبد، لم يُعط أن يعرف ذلك ليعلنه للآخرين.

ومثله قال الدكتور القس لبيب ميخائيل: يعلن جهله هذا باعتباره «عبداً» مع أنه في نفس الوقت يؤكد أنه «الابن» الذي أخلى نفسه لفداء الإنسان بموته على الصليب(243).

ونجاح هذه المحاولة يتوقف على ثبوت إحدى مقدّمتين:

1. أن يكون هناك نصٌّ يدلُّ على علمه بشيءٍ ما، ونصٌّ آخر يدل على عدم علمه بذلك الشيء، فيُمكن حينها أن يُحمَلَ النَّفيُ على العلم الذاتي، والإثباتُ على العلم المُعطى من الله تعالى، فيقال: أنّ عيسى لولا تعليم الله تعالى له لم يكن ليعلم، ولكن بتعليم الله تعالى صار عالماً، وهو ما نفسّر به نحن المسلمين نصوصَ نفي علم الغيب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وآيات اختصاص علم الغيب بالله تعالى، لقيام الأدلة على تعليم الله تعالى شيئاً من هذه العلوم لأنبيائه ورسله ^.

2. أن يكون هناك دليلٌ تامٌّ على أن عيسى هو الله وهو العبد! فلو كان ذلك مُمكِناً عقلاً، وثابتاً نقلاً لكان لدليلهم وجه.

أما المقدّمة الثانية فمنقوضةٌ لعدم إمكان كون عيسى هو الله والعبد في آن واحد، وقد ناقشنا ذلك في كتاب (الثالوث صليب العقل)، ولعدم ثبوت كون عيسى هو الله بحسب النقل أي الكتاب المقدس أيضاً، والاستدلال بهذا النص يتوقف على ثبوت كونه الله، فهو من باب توقف الشيء على نفسه، وهو غير ممكن.

وأما المقدّمة الأولى فغيرُ تامّة أيضاً، لخلوّ الإنجيل من أي نصٍّ يثبت كلَّ عِلمٍ لعيسى (عليه السلام)، كما يخلو من أيّ نصٍّ يثبت أنه الله أو أنه مساوٍ له، بل دلّت نصوص عديدة على افتقاره لله تعالى وعلى أن كلَّ ما عنده فمن الله، ومن ذلك قوله مخاطباً الله: وَالآنَ عَلِمُوا أَنَّ كُلَّ مَا أَعْطَيْتَنِي هُوَ مِنْ عِنْدِكَ(244).

فكيف يكون علمه ذاتياً مساوياً لعلم الله تعالى وهو يصرّح بأن كل ما عنده فقد أعطاه إياه الله؟

ولذا فإن النص الذي قد يشير إلى علمه بكل شيء وهو قول التلامذة له: اَلآنَ نَعْلَمُ أَنَّكَ عَالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَلَسْتَ تَحْتَاجُ أَنْ يَسْأَلَكَ أَحَدٌ(245)، يكشف إما عن جهل التلاميذ بحدود علم عيسى (عليه السلام)، أو عن عدم صحة هذه العبارة من الإنجيل، أو تُؤوّل العبارة بأن يراد منها (كل شيء مما يحتاجون إليه) مثلاً، لأن الإنجيل يناقض كونه عالماً بكل شيء، فيتحدث عن ساعة عودته ويومه قائلاً: (فَلاَ يَعْلَمُ بِهِمَا أَحَدٌ، وَلاَ المَلاَئِكَةُ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ، وَلاَ الابْنُ).

ثم إن الإنجيل صريحٌ أيضاً بأن علمه ليس من نفسه بل من الله تعالى: فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «مَتَى رَفَعْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ، فَحِينَئِذٍ تَفْهَمُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ، وَلَسْتُ أَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ نَفْسِي، بَلْ أَتَكَلَّمُ بِهذَا كَمَا عَلَّمَنِي أَبِي(246).

فكيف يكون الله معلّمه ويكون هو الله؟! وقد نقل الإنجيل عنه: لأَنِّي لَمْ أَتَكَلَّمْ مِنْ نَفْسِي، لكِنَّ الآبَ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ أَعْطَانِي وَصِيَّةً: مَاذَا أَقُولُ وَبِمَاذَا أَتَكَلَّمُ(247).

فلم تدلّ هذه النصوص على كونه الله أبداً.

13. تسلطه على الكون

استُدلّ على أن عيسى هو الله أو أنه مساوٍ له تعالى بتسلّطه على مفاصل الكون، ومن ذلك إصداره الأوامر للرياح وللبحر فيطيعانه، وذلك لما كانوا في البحر فحدثت ريحٌ عظيمة وصارت الأمواج تضرب السفينة فأيقظوه: فَقَامَ وَانْتَهَرَ الرِّيحَ، وَقَالَ لِلْبَحْرِ:«اسْكُتْ! اِبْكَمْ!». فَسَكَنَتِ الرِّيحُ وَصَارَ هُدُوءٌ عَظِيمٌ(248).

المناقشة فيه

يلاحظ على ذلك:

أولاً: أن هذا الدليل أخصُّ من المُدّعى، فالقدرة على التحكم ببعض الأمور الكونية لا تعني القدرة على التحكم بكلّ شيء، والله هو القادر على التحكم بكل شيء لا ببعض الأمور، فلِكُلِّ واحدٍ من المخلوقات قدرةٌ مختلفةٌ عن الآخر، وثبوتُ بعض القدرة لعيسى (عليه السلام) لا يعني ثبوت كلّ قدرةٍ له كي يكون هو الله القادر على كلّ شيء.

ثانياً: أنّه أخصُّ من المدعى بوجهٍ آخر، ذلك أن القدرة على التحكم أعمّ من القدرة الذاتية والقدرة الكسبية كقدرة الملائكة وسائر المخلوقات، فقد ورد في العهد القديم أن الرب أرسل ملاكه فأباد كلّ جبار، فهل يكون ملاك الرب رباً أو مساوياً للرب؟!

ففيه: فَأَرْسَلَ الرَّبُّ مَلاَكًا فَأَبَادَ كُلَّ جَبَّارِ بَأْسٍ وَرَئِيسٍ وَقَائِدٍ فِي مَحَلَّةِ مَلِكِ أَشُّورَ(249).

ثالثاً: أنّ عيسى قد أرشد أصحابه إلى وجه القدرة على مثل هذه التصرُّفات، وهي الإيمان، فإنَّ المؤمن تُطيعه الجمادات والمخلوقات، فكيف لو كان نبياً من أنبياء الله تعالى كعيسى (عليه السلام)؟!

ففي مرقس من كلام عيسى (عليه السلام) لتلامذته:

لأَنِّي الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ قَالَ لِهذَا الجَبَلِ: انْتَقِلْ وَانْطَرِحْ فِي البَحْرِ! وَلاَ يَشُكُّ فِي قَلْبِهِ، بَلْ يُؤْمِنُ أَنَّ مَا يَقُولُهُ يَكُونُ، فَمَهْمَا قَالَ يَكُونُ لَهُ.

لِذلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ مَا تَطْلُبُونَهُ حِينَمَا تُصَلُّونَ، فَآمِنُوا أَنْ تَنَالُوهُ، فَيَكُونَ لَكُمْ (250).

هو إذاً أمرٌ مرتبطٌ بإيمانهم ويقينهم وارتفاع الشك من قلوبهم، وهكذا هو حال عيسى، فلما بلَغ أعلى مراتب الإيمان وخلى من الشك أطاعه البحر والريح.

رابعاً: أن عيسى صرّح بأن هذه القدرة ليست من نفسه فكيف يكون هو الله؟

ففي إنجيل متى: فَتَقَدَّمَ يَسُوعُ وَكَلَّمَهُمْ قَائِلاً:«دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ(251). وأصرح منها قوله: وَلَسْتُ أَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ نَفْسِي(252).

فلا يكون الدليلُ تاماً بوجه، لافتقار عيسى (عليه السلام) لله تعالى، واستغناء الله تعالى عن كلّ أحد.

14. الأزلية

وقد استُدِلَّ على أزليّة عيسى ثم مساواته بالله تعالى بأدلة عدة منها:

الدليل الأول: ما ورد في الإنجيل: قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:«الحَقَّ الحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ»(253).

بتقريب أن قوله (أنا كائن): يدلُّ على الأزلية.

الدليل الثاني: قول عيسى: أَنَا مِنَ البَدْءِ(254) .

يقول الأرخن أ. حلمي القمص يعقوب حول الآية: فمن هو الذي من البدء غير الله وحده الأزلي، فهذا إعلانٌ من الرب يسوع عن أزليته، فهو الإله الأزليّ الذي من البدء، البدء الذي لم يسبقه أي بدء كان(255).

الدليل الثالث: ما ورد فيه: فَكَمْ بِالحَرِيِّ يَكُونُ دَمُ المَسِيحِ، الَّذِي بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ ِللهِ بِلاَ عَيْبٍ، يُطَهِّرُ ضَمَائِرَكُمْ مِنْ أَعْمَال مَيِّتَةٍ لِتَخْدِمُوا الله الحَيَّ! (256).

بتقريب أن من كانت روحه أزلية فهو أزلي.

الدليل الرابع: ما ورد عن الابن: الَّذِي هُوَ صُورَةُ الله غَيْرِ المَنْظُورِ، بِكْرُ كُلِّ خَلِيقَةٍ.. الَّذِي هُوَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَفِيهِ يَقُومُ الكُلُّ. وَهُوَ رَأْسُ الجَسَدِ: الكَنِيسَةِ. الَّذِي هُوَ البَدَاءَةُ، بِكْرٌ مِنَ الأَمْوَاتِ، لِكَيْ يَكُونَ هُوَ مُتَقَدِّمًا فِي كُلِّ شَيْءٍ(257).

ومثله قول عيسى: وَالآنَ مَجِّدْنِي أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ عِنْدَ ذَاتِكَ بِالمَجْدِ الَّذِي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ العَالَمِ(258). وقوله: لأَنَّكَ أَحْبَبْتَنِي قَبْلَ إِنْشَاءِ العَالَمِ(259).

بتقريب أنه قبل كل شيء وقبل العالم وأنه البداءة فهو أزلي مساوٍ لله تعالى، لأن الأزليّ هو الذي يسبق العالم.

المناقشة فيه

يلاحظ على الدليل الأول (أنا كائن):

أولاً: أن لفظ (كائن) لا يدلُّ بنفسه على الأزلية، وليست الأزليّة من معانيه، ولا هو من مرادفاتها، فيكون أجنبيّاً عن المُدعى، وكونه كائناً قبل إبراهيم لا يعني أزليّته بوجه، فآدم (عليه السلام) كائنٌ قبل إبراهيم (عليه السلام) ولم يكن آدم أزلياً.

تأمل مثلاً ما ورد في رسالة بطرس: لأَنَّ هذَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ بِإِرَادَتِهِمْ: أَنَّ السَّمَاوَاتِ كَانَتْ مُنْذُ القَدِيمِ، وَالأَرْضَ بِكَلِمَةِ الله قَائِمَةً مِنَ المَاءِ وَبِالمَاءِ، اللَّوَاتِي بِهِنَّ العَالَمُ الكَائِنُ حِينَئِذٍ فَاضَ عَلَيْهِ المَاءُ فَهَلَكَ(260).

فقد وصف السماوات بأنها كانت منذ القديم، دون أن يعني ذلك الأزلية، ووصف العالم بأنه (العَالَمُ الكَائِنُ حِينَئِذٍ فاضَ..)، فلو دل لفظ (الكائن) على الأزلية لَلَزِمَ أن يكون العالم الأزليّ قد فاض حينئذ، ولا يقول النصارى بأزلية العالم.

ولو كان قوله (كائن) يدل على الأزلية لكان بولس أزلياً أيضاً، لقوله: وَلكِنِّي أَرَى نَامُوسًا آخَرَ فِي أَعْضَائِي يُحَارِبُ نَامُوسَ ذِهْنِي، وَيَسْبِينِي إِلَى نَامُوسِ الخَطِيَّةِ الكَائِنِ فِي أَعْضَائِي(261).

لأن ناموس الخطية الكائن في أعضاء بولس يدل على أن كينونته أزلية، وبالتالي فإن بولس أزليّ وناموس الخطيّة الذي فيه أزلي أيضاً.

ثانياً: أن العبارة تتحدث عن مقطعٍ زمنيٍّ مُحَدَّد، أي عن مرحلة ما قبل وجود إبراهيم ولا ذكر فيها للأزلية، ولذا لا يصح ما ذكره الشماس الإكليريكي د. سامح حلمي بقوله: عبارة (أنا كائن) التي قالها السيد المسيح عن نفسه تفيد الكينونة الدائمة التي لا يتصف بها إلا الله وحده، فهي تعني أنه الكائن في الماضي والكائن في الحاضر والكائن في المستقبل(262).

فكلامه يتضمن اقتطاعاً للعبارة عن سياقها، حيث أنها ناظرة إلى فترة محددة وهي (قبل أن يكون إبراهيم)، فتتحدث عن تلك الفترة فقط ولا تتحدث عن الأزلية بوجه من الوجوه.

والماضي والحاضر والمستقبل لا يعني الأزلية، لأني أنا كاتب هذه السطور كما أنت قارئها كائنٌ منذ الأمس واليوم وغداً إن بقيتُ حياً، وكائنٌ قبل أن يولد ابني، وهكذا.

وقد تنبّه لهذا بعض علماء النصارى، فذكر الاستدلال بها على وجه الاحتمال الذي لا يفيد علماً بصيغة (لعلّ)، يقول القس جون. ر. ستوت: نرى أنه لم يقل: قبل أن يكون إبراهيم أنا كنت. بل قال: أنا كائن. ولعلّ هذا يعني إقراره بوجوده ليس فقط قبل إبراهيم بل منذ الأزل. كما أن في هذا القول (أنا كائن) ما هو أعمق من هذا، لأن فيه إقراراً بألوهيته(263).

وهو بعدما أقرّ بعدم ظهور الدليل في الأزلية، عدّه دليلاً على الألوهية! وهو أعجب من سابقه. ومن الغريب جداً التمسك بهذه الاستدلالات الضعيفة الواهية. فإن وجوده قبل إبراهيم لا علاقة له بالأزلية بتاتاً، والاستدلال ب(لعل) هو استدلال باحتمالٍ بعيد لا شاهد له ولا يمكن قبوله.

أما إقرار عيسى (عليه السلام) بألوهيته فلا يُعرف له وجهٌ من هذا النص أبداً. إنها إسقاطات لعقائد مسبقة، وللقارئ التأمل في هذه النصوص: هل أنّها تدلُّ بوجهٍ على الأزلية والألوهية؟!

ثالثاً: أنّ كثيراً من نسخ الانجيل قد خلت من هذا اللفظ (كائن)، ففي النسخة التي ترجع ترجمتها لأكثر من ألف عام قوله: من قبل أن كان إبراهيم كنتُ موجوداً(264).

وفي المعنى الصحيح لإنجيل المسيح: فأجابَهُم بقولِهِ: الحَقَّ الحَقَّ أقولُ لكُم، قد كُنتُ قَبلَ أن يُولَدَ إبراهيمُ.

وفي ترجمة العالم الجديد: مِنْ قَبْلِ أَنْ وُجِدَ إِبْرَاهِيمُ كُنْتُ أَنَا.

وقريب من هذا العبائر ما ورد في نسخة ريتشارد واطس 1671م وترجمة ابن العسال 1253م: أنا قبل أن يكون إبراهيم.

وقريبٌ منها ما في الشريف الطاهر المقدس 1865م، وفي الطبعة الالمانية 1864م، وفي طبعة الآباء الدومينيكان، وطبعة روما 1951م.

يتبيّن بما تقدّم أن أقصى ما يدلُّ عليه هذا النصُّ هو تقدُّم وجود عيسى على وجود إبراهيم (عليهما السلام)، وإن كان إبراهيمُ متقدماً في هذه الدنيا، أمّا كيف كان وجود عيسى متقدِّماً؟ فهذا ما لا يفصح عنه الدليل، ولعلّ مُراد كاتب الإنجيل من النص قريبٌ مما يعتقده المسلمون في نبيّ الإسلام محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، من أنّه خُلِقَ نوراً قبل خلق الخلائق، كما ورد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): يا جابر، أوّل ما خلق اللّه نور نبيّك(265).

ويلاحظ على الدليل الثاني (من البدء):

أولاً: أنه قد تقدمت مناقشة البدء وتقدم عدم دلالتها على الأزل.

ثانياً: أن الاستدلال يعتمد على اقتطاع النص، فإنّ تمامَه يبيّن عدم صلته بالأزليّة بوجه: فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: أَنَا مِنَ البَدْءِ مَا أُكَلِّمُكُمْ أَيْضاً بِهِ.

إذا هو لا يتكلّم عن بدء الخليقة أو ما شابه، إنما عن بدء خطابه معهم ومحاججته إياهم، فيكون الاستدلالُ به في غاية الضعف، بل يكاد يكون نوعاً من التزوير والتحريف للكَلِمِ عن مواضعه.

ويلاحظ على الدليل الثالث (بروحٍ أزليّ):

أولاً: أن نسخ الانجيل مختلفةٌ في هذه الآية، ففي الطبعة المشتركة: قَدَّمَ نَفسَهُ إلى الله بالرُّوحِ الأزلِيِّ قُربانًا لا عَيبَ فيهِ. وفي الطبعة الهندية: قرّب نفسه بالروح الأبدي لله قرباناً. وفي المعنى الصحيح: قَدَّمَ المَسيحُ نَفسَهُ للهِ بِقوَّةِ رُوحِ الله الأَزَليّ.

فالروح الأزلي هنا بحسب هذا النصّ ليس روح عيسى (عليه السلام)، إنما هو روح الله الأزلي.

وفي ترجمة القمص قزمان البراموسي: قرّب نفسه بلا عيب إلى الله، بالروح (القدس) الأزلي يُطهّر ضميركم من فرائض البشر، لتعبدوا الله الحي.

وفي هذه الترجمة لم يكن للروح علاقة بما فعله عيسى من تقديم نفسه، بل كان الروح يُطَهِّرُ ضميرهم، فتكون الآية أجنبية عن الموضوع تماماً.

ثانياً: أن مفسري الإنجيل قد فسروا الروح هنا بالروح القدس لا بعيسى (عليه السلام)، فقال وليم ماكدونالد: أما نحن، فنؤمن بأن الكلام هنا هو عن الروح القدس؛ لقد قدَّم ذبيحته بقوة الروح القدس.

وقال هنري أ. أيرونسايد: قد قدّم نفسَه ليأخذ مكان الخاطئ، وذلك بقوة الروح الأزلي.

فالنصُّ إذاً لا يُثبتُ أزليّة عيسى بوجه من الوجوه، بل يثبت أن الروح الأزليّ هو الذي جعل عيسى بلا ذنب، دون أن يكون عيسى أزلياً.

وعند القائلين بأن الروح مخلوقٌ كما هو الحقّ، لا تثبُت أزليّة أحدٍ سوى الله تعالى.

أما عند القائلين بأنّ الروح أزليٌّ، فلا بد من كونه هو الله تعالى دون تعدُّد في الأقانيم، لأن الله (بحسب الإنجيل) روحٌ، فليس الروح الأزلي إلا هو، ففي إنجيل يوحنا: الله رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا(266).

وبما أن الله أزليٌّ، ولم يرد في الإنجيل نصٌّ يدل على أزلية أحد سوى الله تعالى: الإِلهِ الأَزَلِيِّ (267)، فيلزم أن يكون المراد هنا أن عيسى صار بلا عيبٍ بالله تعالى. وهو يوافق ما ذهب اليه الإنجيل من تصريح عيسى بأن كل ما عنده فمن الله كما تقدم ويأتي.

ثالثاً: أن في الكتاب المقدّس شواهدُ على مثل هذه الاستعمالات، فقوله (بروح أزلي) معادلٌ على ما تقدم للفظ: (بالله) أي أنه بالله قدم نفسه لله.

ومن شواهد هذا الاستعمال في الكتاب المقدّس قوله: بِالله نَصْنَعُ بِبَأْسٍ(268)، وقوله: أَسْلِحَةُ مُحَارَبَتِنَا لَيْسَتْ جَسَدِيَّةً، بَلْ قَادِرَةٌ بِالله عَلَى هَدْمِ حُصُونٍ(269)، وقوله: فَقَامَ يُونَاثَانُ بْنُ شَاوُلَ وَذَهَبَ إِلَى دَاوُدَ إِلَى الغَابِ وَشَدَّدَ يَدَهُ بِالله(270).

فإننا نصنَعُ بالله، ونقدِرُ بالله، وعيسى يقدّمُ نفسه بالله. فإن كان مقصده الله كان قد قدّم نفسه بالله ولله، ومن صنع حقاً فقد صنعه بالله لله.

وعليه فلا دلالة للنص على ألوهيّة عيسى بوجه.

ويلاحظ على الدليل الرابع (قبل كل شيء):

أولاً: أنّ كونه (بكر كل خليقة) لا يدلّ على الأزلية، بل يدلّ على نفس ما تدل عليه عبارة (الَّذِي هُوَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ)، وهي أنّه وُجد قبل أن توجد كلّ الأشياء، وهو يجتمع مع كونه أوّل مخلوق من مخلوقات الله تعالى، فتدلّ على خَلقِه لا على أزليته.

ثانياً: أن اختلاف نسخ الانجيل تُبيّن المراد منها بشكل جليّ، ففي (ترجمة الحياة): البكر على كل ما قد خلق.

وفي الترجمة السهلة ما يشير إلى أن البِكر تعني السيادة: وَهوَ السّائِدُ عَلَى كُلِّ الخَلِيقَةِ.

وفي المعنى الصحيح لإنجيل المسيح: وإنّهُ سَيِّدُ كُلِّ المَخلوقاتِ.

فهو (بحسب هذه النصوص) أول خليقة الله تعالى وليس هو الله تعالى!

ثالثاً: لو كان لفظ (البكر) يدل على الأزلية لكان يعقوب (عليه السلام) أزلياً، ففي العهد القديم، فمن قول الرب لموسى فيه: فَتَقُولُ لِفِرْعَوْنَ: هكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ: إِسْرَائِيلُ ابْنِي البِكْرُ(271).

وكما أن الله قد خلق إسرائيل، فإسرائيل جاء من عند الله، كذلك عيسى (عليه السلام)، فإن الله تعالى هو الذي أوجده، فكيف يكون أزلياً؟!

ففي إنجيل يوحنا: فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:«لَوْ كَانَ الله أَبَاكُمْ لَكُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي، لأَنِّي خَرَجْتُ مِنْ قِبَلِ الله وَأَتَيْتُ. لأَنِّي لَمْ آتِ مِنْ نَفْسِي، بَلْ ذَاكَ أَرْسَلَنِي(272). وفي الترجمة المشتركة: خَرَجتُ وجِئتُ مِنْ عِندِ الله، وفي نسخة أخرى: لأنّي من الله صدرتُ ووردتُ وليس من تلقاء نفسي(273).

رابعاً: أن الاستدلال بأن له المجد قبل كون العالم، أو أن الله يحبه قبل إنشاء العالم غيرُ تامٍّ أيضاً، لأنّه لا يدلّ على الأزلية، فهو نظير حبّ الله للمؤمنين قبل خلقهم، فإن حبّ الله تعالى وغضبه وسخطه ليس كحبنا وغضبنا وسخطنا، كما تقدّم في الفصل الأول أن هذه الصفات ليست كصفاتنا مما يلزم منه التغيُّر والتبدُّل من حالٍ إلى حال، لأن الله لا يتغيّر، فنَدَمُ الربّ في الكتاب المقدّس يعني صَفحَهُ ومجازاته كما سلف، وحبُّه تعالى لعيسى (عليه السلام) قبل خلقه يعني رحمته به، فخصَّه برحمة خاصة عند خلقه، أو يعود إلى صفة العلم وهي من صفات الذات، فيكون بمعنى علم الله بما سيفعل عيسى فيصير محطّ رحمة الله وحبّه أي رضاه عنه.

وبهذا يتّضح خلوّ كل هذه الأدلة من أي دلالة على ألوهيّة عيسى أو أزليّته.

15. الخلق

استُدِلَّ على أن عيسى هو الله بكونه هو الخالق، ففي إنجيل يوحنا: كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ. فِيهِ كَانَتِ الحَيَاةُ، وَالحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ(274).

وفي رسائل بولس: فَإِنَّهُ فِيهِ خُلِقَ الكُلُّ: مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، مَا يُرَى وَمَا لاَ يُرَى، سَوَاءٌ كَانَ عُرُوشًا أَمْ سِيَادَاتٍ أَمْ رِيَاسَاتٍ أَمْ سَلاَطِينَ. الكُلُّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ(275).

بتقريب أنه به كل شيء خُلق، فهو الخالق.

المناقشة فيه

ويلاحظ خلوّ العبارة من أي دلالة على كونه الخالق، فإنها تدل على أن الخلق حصل به، لا على أنه هو الذي خلق.

ويشهد لهذا أمران:

الأول: ما دلّ على أن الله هو الخالق، وهي أول آية في الكتاب المقدس: فِي البَدْءِ خَلَقَ الله السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ (276).

الثاني: ما دل على أن عيسى بكر كل خليقة، وهي الآية السابقة لآية (فِيهِ خُلِقَ الكُلُّ) في رسالة بولس، وهي تنصُّ على أنّه: بِكْرُ كُلِّ خَلِيقَةٍ (277) فهو مخلوقٌ لا خالق.

وعيسى هو إنسانٌ، والله هو الخالق للإنسان: يَوْمَ خَلَقَ الله الإِنْسَانَ (278).

على أن إنجيل برنابا غير المعتَرَف به من قبل الكنيسة وافق المسلمين في كون هذه المنقبة لنبي الإسلام محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، حينما نقل قول الله تعالى: اصبر يا محمّد لأني لأجلك أريد أن أخلق الجنة والعالم وجمّاً غفيراً من الخلائق(279)، وقول عيسى (عليه السلام): لذلك أقول لكم: إن رسول الله بهاءٌ يسرُّ كل ما صنع الله تقريباً.. صدّقوني إني رأيته وقدّمت له الاحترام كما رآه كلّ نبي(280). وبشارته (عليه السلام) بالنبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): ولكن سيأتي بعدي بهاءُ كل الأنبياء والأطهار(281).

3. ألوهية عيسى في القرآن الكريم

قد يُستدلُّ على ألوهية عيسى في القرآن الكريم بكونه (كلمة الله)، وقد تقدم النقاش فيها في الفصل الثالث، وتبيّن عدم دلالتها على ذلك.

أو بكونه يحيي الموتى ويعلم الغيب، وقد تقدم النقاش بعدم دلالة ذلك على الألوهية، أثناء بحث (ألوهية عيسى في الإنجيل).

ويبقى الاستدلال على ألوهيته من القرآن الكريم بكونه خالقاً.

عيسى يخلق كهيئة الطير

قال تعالى عن لسان نبيّه عيسى (عليه السلام): ﴿وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ الله وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي المَوْتَى بِإِذْنِ الله وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾(282).

وفي آية أخرى: ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي﴾(283).

يقول الأرخن أ. حلمي القمص يعقوب: الخلق هو من عمل الله وحده، فالخالق واحدٌ هو الله.. والشخص الوحيد الذي نسب له القرآن عمل الخلقة هو السيد المسيح.. إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير.. وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير(284).

ويقول: عندما نقول المسيح خلق باذن الله.. فمن الخالق؟ المسيح هو الخالق، وهل يوجد خالقٌ آخر غير الله؟ هل يوجد خالقٌ إلا الله وحده؟ إذاً مِنَ الواضح وضوح الشمس أن المسيح له المجد هو هو الله المتأنس، ولو قال أحدٌ أنّ الله خالقٌ والمسيح خالقٌ إذن فهناك أكثر من خالق، وهذا هو الشرك بالله(285).

المناقشة فيه

يلاحظ على هذا الاستدلال:

أولاً: أنّه قد غاب عن ذهن المستشكل أن الخلقَ في اللغة العربية يُطلق على معانٍ عدّة، أوّلها وأهمُّها (التقدير)، فعن الخليل بن أحمد الفراهيدي: وخَلَقْتُ الأديمَ: قدّرته(286).

وفي الصحاح: الخَلْقُ: التقديرُ. يقال: خَلَقْتُ الأديمَ، إذا قَدَّرْتَهُ قبل القطع.

ومنه قول زهير:

و لَأَنْتَ تَفْرِي ما خَلَقْتَ وَبَعْ‍                  ضُ القومِ يَخْلُقُ ثم لا يَفْرِي(287)

وقال ابن فارس: الخاء واللام والقاف أصلان: أحدهما تقديرُ الشيء، والآخر مَلاسَة الشيء. فأمّا الأوّل فقولهم: خَلَقْت الأديم للسِّقاء، إذا قَدَّرْتَه(288).

والخلق في آيات عيسى هو خلقُ تقديرٍ بلا شبهة، كالمثل القائل: إنّي إذا خَلَقْتُ فَرَيْتُ(289).

فإنّ عيسى (عليه السلام) خلق ﴿مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾ فهوّ خَلَقَ الهيئة ولم يخلقه طيراً حيّاً، ومن ثم صار طيراً ﴿بِإِذْنِ الله﴾، فكيف يكون عيسى هو الخالق والإله، والحال أن الهيئة لم تتحول إلى طيرٍ إلا بإذن الله؟!

وقد روينا عن مولى الموحدين وأمير المؤمنين، إمام البلاغة وسيدها عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) بيان معاني الخَلق في القرآن الكريم: سألوه (صلوات الله عليه) عن مُتشابَه الخَلق فقال: هو على ثلاثة أوجه ورابع، فمنه :

1. خلق الاختراع: فقوله سبحانه: ﴿خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾.

2. خلق الاستحالة: فقوله تعالى: ﴿يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ﴾، وقوله تعالى: ﴿فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحامِ ما نَشاءُ﴾.

3. وأما خلق التقدير: فقوله لعيسى (عليه السلام): ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾ إلى آخر الآية.

4. وأما خلق التغيير: فقوله تعالى: ﴿وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله﴾(290).

فخلق الاختراع، كخلق الدنيا وما فيها، أي أصلُ الخلق لكل مخلوقٍ، وما من خالقٍ بهذا المعنى إلا الله تعالى: ﴿الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾(291). ولعلّ لفظ الخلق ينصرفُ عند إطلاقه إلى هذا المعنى، لكن في نسبته لغير الله تعالى قرينةٌ على عدم إرادة هذا المعنى من الخلق.

وأما خلق الاستحالة، فهو الخلق الذي يمرُّ فيه المخلوق بمراحل، كما في خلق الإنسان من طينٍ أو ترابٍ تارة، ومن نطفةٍ تارة أخرى، ومن علقةٍ ثالثة وهكذا، فهي مراحل يتحوّل فيها الإنسان من حالٍ إلى حال، فهو خلق الإستحالة.

وأما خلقُ التقدير، فهو كما في مثال نبيّ الله عيسى (عليه السلام)، حيث قدّرَ الطين وأحياه الله تعالى، وهذا ليس من مختصات الله تعالى كما تقدم في كتب اللغة وحديث الإمام وآيات القرآن. فإليه ينصرف كلام القرآن حول عيسى (عليه السلام).

وقد أطبق علماؤنا تبعاً لهذه القرائن والشواهد على أن الخلق في قصة عيسى هو خلق تقدير(292)، ومن ذلك مثلاً ما ذكره ابن شهرآشوب: ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ﴾ معنى ذلك أنه صوّر الطين وسمّاه خلقاً لأنه كان بقدرة، وقوله ﴿بِإِذْنِي﴾ أي تفعل ذلك بإذني وأمري، وقوله ﴿فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي﴾ معناه أنه نفخ فيها الروح لأن الروح جسمٌ يجوز أن ينفخها المسيح بأمر الله تعالى كما ينفخها إسرافيل في الصور،  فإذا نفخ المسيح فيها الروح قلبَها الله لحماً ودماً وخلق فيها الحياة فصارت طائراً بإذن الله وإرادته لا بفعل المسيح، فلذلك قال ﴿فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي﴾ (293).

وما ذكره المازندراني: و الظاهر أنه كان تعالى يخلق الحياة فى ذلك الجسم عند نفخ عيسى (عليه السلام) اظهاراً لمعجزته، لان الاحياء و الاماتة من صفاته تعالى كما نطق به القرآن الكريم، وقيل انه أودع فى نفس عيسى (عليه السلام) خاصيةً بحيث أنّه متى نفخ فى شي‏ء كان نفخه موجباً لصيرورة ذلك الشي‏ء حياً(294).

بما تقدّم يُعلَمُ صحة إطلاق الخلق على غيره تعالى بغير المعنى الأول كما في قوله عز وجل: ﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا﴾(295)، وكما في قوله عزّ وجل: ﴿ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخَالِقِينَ﴾(296)، فإنّ الخلق فيها خلقَ تقدير، وعليه لا دلالة في الآيات على ألوهية عيسى (عليه السلام).

ولذا ورد عن الأئمة المعصومين ^ خطابٌ قدسيّ: فِيمَا وَعَظَ الله عَزَّ وَجَلَّ بِهِ عِيسَى (عليه السلام): يَا عِيسَى أَنَا رَبُّكَ وَرَبُّ آبَائِكَ، اسْمِي وَاحِدٌ وَأَنَا الأَحَدُ المُتَفَرِّدُ بِخَلْقِ كُلِّ شَيْ‏ءٍ، وَكُلُّ شَيْ‏ءٍ مِنْ صُنْعِي وَكُلٌّ إِلَيَّ رَاجِعُونَ، يَا عِيسَى أَنْتَ المَسِيحُ بِأَمْرِي، وَأَنْتَ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي، وَأَنْتَ تُحْيِي المَوْتَى بِكَلَامِي فَكُنْ إِلَيَّ رَاغِباً وَمِنِّي رَاهِباً(297).

فعيسى من صُنع الله تعالى، ويرجع لله، وكل ما يفعله من معاجز فبإذن الله تعالى.

ثانياً: كيف يُنسَبُ للقرآن الكريم قوله بألوهيّة عيسى (عليه السلام) وقد صرّح بأنّه مخلوقٌ من مخلوقات الله تعالى؟!

فقد نقل القرآن عن لسان مريم (عليها السلام): ﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذٰلِكِ الله يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾(298). وقال تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾(299).

وقد نقل عنه قوله: ﴿إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى الله قَالَ الحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ الله آمَنَّا بِالله وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾(300).

فهو مقرٌّ لله بالربوبية، معتقدٌ بكفر من خالفه في ذلك من النصارى، غير مستنكِفٍ عن عبودية الله تعالى: ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ المَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلهِ وَلاَ المَلاَئِكَةُ المُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً﴾(301).

وقد حكم القرآن الكريم صريحاً على من جعله ابناً لله بالكفر: ﴿وَقَالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ الله وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ الله ذٰلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ الله أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ الله وَالمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلٰهاً وَاحِداً لاَ إِلٰهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (302).

ووصفه بصفات المخلوقين، كالحاجة إلى تعليم الله: ﴿وَيُعَلِّمُهُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ﴾(303).

وأنه وأمّه كانا يأكلان الطعام وهي صفات المخلوق دون الخالق: ﴿مَا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾(304).

ثالثاً: إن قيل: سلّمنا أنّ المسيح رسول الله، وعبده، لكنّه عبدٌ بحسب الناسوت، إلهٌ بحسب اللاهوت، كما قال الأرخن أ. حلمي القمص يعقوب: إن المسيح بحسب الناسوت هو رسول الله.. وقول المسيح: إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً (مريم30) يوافق العقيدة المسيحية حيث أن السيد المسيح هو إنسان وإله في آن واحد! (305).

كان الجواب: إنّ كونه إنساناً أمرٌ وجدانيٌّ متّفقٌ عليه، وكونه إلهاً دعوى ادّعاها النصارى وتَبَيّنَ في مطاوي الكتاب خلوّ الكتاب المقدّس من أيِّ دليلٍ عليها، بل تبيّن دلالتُه على خلافها وهو التوحيد المطلق، أما نسبة هذه العقيدة للقرآن فيُكَذِّبُها القرآن في أوضح آيات عن كفر القائل بألوهية المسيح: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الله هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ المَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَالله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾(306).

تتميم: عيسى وخلق الطيور في الأناجيل

ليس في العهد الجديد ذِكرٌ لقصة خلق عيسى (عليه السلام) من الطين كهيئة الطير، لكنّ جُملةً من الأناجيل التي لم تعترف بها الكنيسة قد تضمّنت هذه القصة، ومنها إنجيل الطفولة العائد لتوما، ففيه: عندما كان هذا الطفل أيشع في الخامسة من عمره كان يلعب عند معبر جدول ماء.. بعدما عمل عجينةَ طينٍ ناعمة، صاغ منها اثني عشر عصفوراً.. أيشع صفّق بيديه، وصرخ إلى العصافير، وقال لهم: اذهبوا. فقامت العصافير بالطيران، وذهبت بعيدةً وهي فرحة. واستولت الدّهشة على اليهودي عندما شاهد هذا(307).

وفي إنجيل الطفولة العربي: عندما أتمّ يسوع عامه السابع، كان يلعب يوماً مع أطفالٍ آخرين.. قال يسوع للأطفال: انني آمر الصور التي صنعتُها بالسير فتمشي.. أمر الرَّبُّ يسوعُ الصُوَرَ بالسير فتقدّمت على الفور، وحين كان يأمرها بالعودة كانت تعود. وقد صنع صور طيور وعصافير دوريّ كانت تطير حين يأمرها بالطيران، وتتوقف حين يقول لها أن تتوقف، وحين كان يقدّم لها شراباً وطعاماً كانت تأكل وتشرب. وحين غادر الأطفال ورووا لأهلهم ما رأوا قال لهم هؤلاء: ابتعدوا من الآن فصاعداً عن مجلسه، فهو ساحرٌ، وكُفُّوا عن اللعب معه(308).

كذلك ورد ذكرها في إنجيل توما الإسرائيلي، وإنجيل مولد مريم وميلاد المخلّص(309)، وغيرها من الأناجيل.

صفات عيسى وثمرة الفصل

بعد كلّ ما تقدّم، يظهر خلوّ الكتاب المقدّس بعهديه فضلاً عن القرآن الكريم من أي دليل على ألوهية عيسى (عليه السلام)، بل دلّ الكتاب المقدّس على بَشَرِيّته واحتياجه لله تعالى، وأنّ كل ما عنده فمن الله، وعلى ولادته وموته واتصافه بصفات البشر، ونزّه اللهَ تعالى عن أن يسكُنَ في الهياكل المصنوعة، وذَمَّ عبادة الإنسان للإنسان، فمن صفات عيسى (عليه السلام) في الإنجيل عن لسانه قوله: وَلكِنَّكُمُ الآنَ تَطْلُبُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي، وَأَنَا إِنْسَانٌ قَدْ كَلَّمَكُمْ بِالحَقِّ الَّذِي سَمِعَهُ مِنَ الله(310).

وقد أقر مِراراً بأن ما عنده ليس ذاتياً بل من الله: ففي الإنجيل عن لسانه: كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي(311)، وعنه أيضاً: دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ(312). وغيرها مما تقدّم.

أما نماذج ذمّ عبادة الإنسان وهو ما ينطبق على عبادة الناس لعيسى (عليه السلام)، ففي الإنجيل: وَأَبْدَلُوا مَجْدَ الله الَّذِي لاَ يَفْنَى بِشِبْهِ صُورَةِ الإِنْسَانِ الَّذِي يَفْنَى، وَالطُّيُورِ، وَالدَّوَابِّ، وَالزَّحَّافَاتِ.  لِذلِكَ أَسْلَمَهُمُ الله أَيْضًا فِي شَهَوَاتِ قُلُوبِهِمْ إِلَى النَّجَاسَةِ، لإِهَانَةِ أَجْسَادِهِمْ بَيْنَ ذَوَاتِهِمِ. الَّذِينَ اسْتَبْدَلُوا حَقَّ الله بِالكَذِبِ، وَاتَّقَوْا وَعَبَدُوا المَخْلُوقَ دُونَ الخَالِقِ، الَّذِي هُوَ مُبَارَكٌ إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ(313).

هي عبادةُ المخلوق إذاً وليست عبادةً للخالق، خالق السماء والأرض والناس وعيسى (عليه السلام).

ولن يُقبَلَ من أحد قوله أنّ الله حلّ في عيسى أو في غيره، لأن الله لا يسكن في هياكل مصنوعات الأيادي، ففي أعمال الرسل: لكِنَّ العَلِيَّ لاَ يَسْكُنُ فِي هَيَاكِلَ مَصْنُوعَاتِ الأَيَادِي، كَمَا يَقُولُ النَّبِيُّ(314). وفيه: الإِلهُ الَّذِي خَلَقَ العَالَمَ وَكُلَّ مَا فِيهِ، هذَا، إِذْ هُوَ رَبُّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، لاَ يَسْكُنُ فِي هَيَاكِلَ مَصْنُوعَةٍ بِالأَيَادِي، وَلاَ يُخْدَمُ بِأَيَادِي النَّاسِ كَأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى شَيْءٍ، إِذْ هُوَ يُعْطِي الجَمِيعَ حَيَاةً وَنَفْساً وَكُلَّ شَيْءٍ(315).

أما عيسى (عليه السلام)، فهو على عَظَمَتِه إنسانٌ يُخدَمُ بأيادي الناس، وهو المُحتاج في أصل وجوده لله تعالى، وفي حياته لمن حوله، وهو الذي يتأثّر بهم فيفرح معهم ويحزن لحزنهم، ويُضطهد من قبلهم بل يُقتل على أيديهم، فكيف يكون لهم رباً؟! وكيف يكون عيسى هو الله؟! تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.

 


(1) أشعياء9: 6.

(2) تعرّضنا له في الفصل الثاني فراجع.

(3) الخروج4: 14-16.

(4) يوحنا16: 11.

(5) رسائل كورنثوس الثانية4: 4.

(6) الخروج7: 1و2.

(7) المزامير 82: 6.

(8) التكوين17: 7.

(9) تعليقته على مزمور82: 6.

(10) الخروج 15: 11.

(11) المزامير86: 8.

(12) المزامير95: 3، وقريب منها ما في المزامير 4:96 و97: 9.

(13) بالحقيقة نؤمن بإله واحد ج1 ص32.

(14) المزامير95: 1-3.

(15) المزامير2: 7و8.

(16) صموئيل الأول24: 6.

(17) صموئيل الثاني23: 1.

(18) المزامير18: 49-50، وهناك شواهد أخرى من المزامير على كون المخاطب ليس عيسى (عليه السلام) ليس هذا محلُّ ذكرها.

(19) الخروج4: 22.

(20) ملاخي2: 10.

(21) من شرح تادرس يعقوب على الآية 10 من ملاخي2.

(22) المزامير29: 1.

(23) المئة مقالة في الايمان الارثوذكسي ص77.

(24) التكوين6: 1و2.

(25) التثنية32: 19.

(26) بين العقل والإيمان ج2 ص15.

(27) أشعياء48: 16.

(28) أشعياء48: 1.

(29) أشعياء48: 12.

(30) أشعياء48: 16.

(31) أشعياء48: 12.

(32) الأمثال8: 22 الى 24.

(33) أرمياء 7: 7.

(34) أرمياء 25: 5.

(35) كما في هذا الرابط http://www.mechon-mamre.org/p/pt/pt2808.htm.

(36) الأمثال9: 1-6.

(37) دانيال7: 13-15.

(38) المزامير72: 1و8و10و11.

(39) صموئيل الثاني22: 44.

(40) التوحيد (للصدوق) ص422.

(41) يوحنا20: 28.

(42) لوقا2: 11.

(43) رومية 9: 5.

(44) تيموثاوس الأولى2: 5.

(45) يوحنا20: 17.

(46) الفصل الثالث والثلاثون1و2.

(47) الفرقان43.

(48) متى13: 27.

(49) متى20: 11.

(50) يوحنا1: 38.

(51) متى23: 8و10.

(52) أعمال الرسل2: 36.

(53) تعليقته على مزمور 82: 6.

(54) مرقس16: 19.

(55) لوقا2: 11.

(56) كورنثوس الأولى11: 26.

(57) رؤيا17: 14.

(58) رؤيا19: 16.

(59) أعمال الرسل10: 36.

(60) كما فسّرها وليم ماكدونالد.

(61) إنجيل الديداكي ص23: الإصحاح الحادي عشر 3و4.

(62) إنجيل الديداكي ص20: الإصحاح الرابع1.

(63) لوقا1: 30-32.

(64) يوحنا1: 1-3.

(65) التكوين1: 1.

(66) يوحنا الأولى1: 1.

(67) يوحنا8: 44.

(68) كولوسي1: 15.

(69) رؤيا3: 14.

(70) عوض سمعان في كتاب: الله في المسيحية ص175.

(71) يعقوب1: 22.

(72) بين العقل والإيمان ج1 ص136.

(73) البقرة117.

(74) تعرّضنا لذلك في كِتابَي: عرفان آل محمد ^، والثالوث صليب العقل.

(75) الكافي ج‏1 ص148.

(76) الكافي ج‏6 ص395.

(77) الخروج19: 17.

(78) عبر هذا الرابط: https://enduringword.com/ar/john-01-ar.

(79) التكوين24: 11-13.

(80) الخروج32: 35.

(81) القضاة13: 11-22.

(82) سر الثالوث الاحد ص50.

(83) شمس البِر ص155.

(84) كتاب: في ان الله لا يمكن ادراكه ص144-145.

(85) كتاب: في ان الله لا يمكن ادراكه ص145

(86) كتاب: في ان الله لا يمكن ادراكه ص146.

(87) مرقس1: 1.

(88) العبرانيين1: 1-6.

(89) لا يعتقد المسلمون بصحة أو جواز إطلاق مثل هذا الاسم على الله تعالى.

(90) متى11: 25.

(91) متى5: 16.

(92) متى5: 45.

(93) متى5: 48.

(94) متى6: 9.

(95) متى7: 11.

(96) متى23: 9.

(97) أفسس 4: 6.

(98) كورنثوس الأولى1: 3.

(99) يوحنا17: 1-4.

(100) تيموثاوس الأولى6: 13-16.

(101) البَهنسا مدينة تبعد 100 ميل جنوب القاهرة، وقد اكتُشفت هذه البرديات بين العام 1897 والعام 1904م في حالٍ سيئة جداً.. وتعود الى القرن الثالث للميلاد.

(102) الأناجيل المنحولة ص220.

(103) هم جماعة دينية ضمن الدين المسيحي، يعتقدون بنبوّة جوزف سميث (1805-1844م) الذي أتى بكتاب اسمه (المورمون) يقول أنّه: كتب بروح النبوة والرؤيا، وأنّه سفر مقدس مثل الكتاب المقدس، وأنّه أصحّ كتاب على الأرض.

(104) كتاب مورمون: سفر موصايا3: 8.

(105) كتاب مورمون: سفر موصايا7: 27.

(106) كتاب مورمون: سفر موصايا15: 1-4.

(107) لوقا3: 38.

(108) يوحنا الأولى3: 1و2.

(109) غلاطية3: 26.

(110) يوحنا1: 12.

(111) رومية8: 14.

(112) يوحنا8: 39.

(113) الأناجيل النصوص الكاملة ص364.

(114) يوحنا8: 44.

(115) متى5: 9.

(116) أشعياء9: 6.

(117) الله واحد في الثالوث الأقدس ص6.

(118) رؤيا21: 7.

(119) متى3: 17، وقد ذكر لفظ (ابني الحبيب) عدة مرات أخرى كما في متى 17: 5 ومرقس1: 11 ولوقا 3: 22 وغيرها.

(120) مرقس12: 6.

(121) يوحنا3: 16.

(122) يوحنا1: 18.

(123) هل المسيح هو الله!؟ ص25.

(124) لوقا14: 23.

(125) يوحنا20: 12.

(126) أعمال الرسل4: 24.

(127) يهوذا1: 4.

(128) التكوين22: 2.

(129) الإحتجاج على أهل اللجاج (للطبرسي) ج‏2 ص494.

(130) كورنثوس الأولى15: 28.

(131) لوقا14: 26.

(132) يوحنا الأولى2: 9-11.

(133) يوحنا الأولى3: 15.

(134) الواعظ الدكتور زآريا استاورو في أساسيات مسيحية ص26.

(135) كتاب: لا إله إلا الله ص27.

(136) كما ذهب إليه القس الدكتور لبيب ميخائيل في كتاب: لا إله إلا الله ص39.

(137) المسيحية في الإسلام ص26.

(138) الإحتجاج على أهل اللجاج (للطبرسي) ج‏1 ص24.

(139) يوحنا20: 17.

(140) الإحتجاج على أهل اللجاج (للطبرسي) ج‏1 ص25.

(141) الإحتجاج على أهل اللجاج (للطبرسي) ج‏1 ص23.

(142) الكافي ج‏1 ص136.

(143) العبرانيين1: 7و8.

(144) المزامير45: 5-7.

(145) يراجع كتاب العين ج1 ص249.

(146) أرمياء3: 17.

(147) أخبار الأيام الأول29: 23.

(148) الملوك الأول2: 33.

(149) الملوك الأول2: 45.

(150) المزامير89: 14.

(151) رؤيا يوحنا3: 21.

(152) العبرانيين1: 9.

(153) العقائد الكاثوليكية في الكتاب المقدس ص13.

(154) الخلاصة اللاهوتية ج1 ص171.

(155) التكوين3: 5.

(156) تفسير التوراة بالعربية ص86.

(157) التكوين20: 3.

(158) تفسير التوراة بالعربية ص119.

(159) يوحنا3: 34.

(160) أعمال الرسل20: 28.

(161) يوحنا14: 9-11.

(162) يوحنا14: 20.

(163) يوحنا 17: 19-23.

(164) يوحنا15: 4-10.

(165) أعمال الرسل1: 8.

(166) أعمال الرسل10: 44.

(167) لوقا ٣٥:١.

(168) أفسس ١٧:٣.

(169) الخروج18: 15.

(170) الأناجيل النصوص الكاملة ص385.

(171) يوئيل ٢١:٣.

(172) المزامير ١٦:٦٨.

(173) كورنثوس الأولى3: 16.

(174) كولوسي ١٩:١.

(175) كولوسي2: 9.

(176) الاحتجاج ج1 ص24.

(177) ثيموثاوس الأولى3: 16.

(178) يوحنا1: 14.

(179) التكوين1: 27.

(180) يوحنا5: 37.

(181) من مقاله (الصورة والمثال) في موقع التعليم اللاهوتي العقائدي: www.orthodoxonline.org.

(182) التكوين12: 7.

(183) التكوين35:9.

(184) التكوين26: 1و2.

(185) يوحنا5: 26.

(186) يوحنا1: 4.

(187) الأناجيل النصوص الكاملة ص350.

(188) يوحنا6: 48.

(189) يوحنا6: 63.

(190) أعمال الرسل3: 15.

(191) متى27: 50.

(192) فيليبي2: 5-9.

(193) التكوين1: 27.

(194) كورنثوس الأولى11: 7.

(195) يوحنا5: 18-19.

(196) يوحنا5: 30.

(197) متى4: 10.

(198) متى2: 11.

(199) متى8: 2و3.

(200) متى9: 18.

(201) متى14: 33.

(202) قيل أنّ مريم الأخرى هي السيدة مريم ÷ والدة النبي عيسى (عليه السلام)، وقيل أنّها أختها وليست هي، وأختها هذه أم يعقوب زوجة حلفي ولقبه كلوبا.

(203) متى28: 9.

(204) العبرانيين1: 6.

(205) وهم قومٌ عاشوا في شمال سوريا والعراق وأماكن أخرى كما يُذكر في علم الحفريات، وحِثّ ثاني أبناء كنعان.

(206) التكوين23: 5-7.

(207) التكوين42: 6، وقريب منه ما في سفر التكوين 43: 26-28.

(208) الملوك الأول1: 31.

(209) الملوك الأول1: 53.

(210) الملوك الأول2: 19.

(211) سفر الملوك الثاني2: 15.

(212) المزامير45: 10-11.

(213) متى4: 23و24.

(214) متى8: 16.

(215) متى9: 29و30.

(216) متى15: 30-31.

(217) متى11: 5.

(218) لوقا8: 54-55.

(219) لوقا7: 14-15.

(220) يوحنا5: 2-4.

(221) متى10: 1.

(222) مرقس3: 14و15.

(223) لوقا9: 6.

(224) لوقا10 :1-17.

(225) متى10: 7و8.

(226) أعمال الرسل9: 40و41، وورد ذلك أيضاً في جملة من الكتب التي لم تعترف بها الكنيسة، يراجع على سبيل المثال كتاب: الأعمال والرسائل المنحولة ص18.

(227) ميمرٌ في وجود الخالق والدين القويم ص269.

(228) الملوك الثاني4: 32-35.

(229) الملوك الثاني8: 1.

(230) الملوك الثاني13: 20-21.

(231) التوحيد (للصدوق) ص422.

(232) التوحيد (للصدوق) ص423.

(233) التوحيد (للصدوق) ص424.

(234) لوقا7: 14-16.

(235) يوحنا11: 22-44

(236) الملوك الأول17: 20-22.

(237) أعمال الرسل3: 12.

(238) يوحنا10: 25 و29.

(239) أعمال الرُّسل2: 22.

(240) متى9: 3و4.

(241) متى12: 24و25.

(242) مرقس13: 32.

(243) هل المسيح هو الله!؟ ص74.

(244) يوحنا17: 7.

(245) يوحنا16: 30.

(246) يوحنا8: 28.

(247) يوحنا12: 49.

(248) مرقس4: 39.

(249) أخبار الأيام الثاني32: 21.

(250) مرقس11: 23و24.

(251) متى28: 18.

(252) يوحنا8: 28.

(253) يوحنا8: 58.

(254) يوحنا8: 25.

(255) أسئلة حول ألوهية المسيح - الكتاب الثالث ج1 ص36.

(256) العبرانيين9: 14.

(257) كولوسي1: 15و17و18.

(258) يوحنا17: 5.

(259) يوحنا17: 24.

(260) بطرس الثانية3: 5و6.

(261) رومية7: 23.

(262) إيماننا المسيحي صادق وأكيد ص160.

(263) المسيحية الأصلية ص25.

(264) الأناجيل النصوص الكاملة ص366.

(265) غرر الأخبار ص195.

(266) يوحنا4: 24.

(267) رومية16: 26.

(268) المزامير60: 12.

(269) كورنثوس الثانية10: 4.

(270) صموئيل الأول23: 16.

(271) الخروج4: 22.

(272) يوحنا8: 42.

(273) الأناجيل النصوص الكاملة ص364.

(274) يوحنا1: 3-4.

(275) كولوسي16: 16.

(276) التكوين1: 1.

(277) كولوسي16: 15.

(278) التكوين5: 1.

(279) إنجيل برنابا97: 16.

(280) إنجيل برنابا44: 19و28.

(281) إنجيل برنابا17: 22.

(282) آل عمران49.

(283) المائدة110.

(284) أسئلة حول ألوهية المسيح - الكتاب الثالث ج1 ص182.

(285) أسئلة حول ألوهية المسيح - الكتاب الثالث ج1 ص183.

(286) كتاب العين ج4 ص151.

(287) الصحاح - تاج اللغة و صحاح العربية ج4 ص1470.

(288) معجم مقائيس اللغة ج2 ص213، وللمزيد يراجع الطراز الأول ج‏1 ص263، ومفردات ألفاظ القرآن ص296 وغيرها من كتب اللغة.

(289) المحيط في اللغة ج4 ص194.

(290) الآيات الناسخة والمنسوخة (من رواية النعماني)، الشريف المرتضى، ص٧٢.

(291) الزمر62.

(292) يراجع تفسير القمي ج‏1 ص102، والتوحيد للصدوق ص216، والمقام الأسنى في تفسير الأسماء الحسنى للكفعمي ص35، وبحار الأنوار ج‏14 ص258 وج‏91 ص250،  ومتشابه القرآن و مختلفه (لابن شهر آشوب) ج‏1 ص173، ودلائل الصدق لنهج الحق ج‏3 ص119.

(293) متشابه القرآن ومختلفه (لابن شهر آشوب) ج‏1 ص258.

(294) شرح الكافي: الأصول والروضة ج‏12 ص94.

(295) العنكبوت17.

(296) المؤمنون14.

(297) الكافي ج‏8 ص131.

(298) آل عمران47.

(299) آل عمران59.

(300) آل‏ عمران‏51-52.

(301) النساء172.

(302) التوبة30-31.

(303) آل عمران48.

(304) المائدة75.

(305) أسئلة حول ألوهية المسيح، الكتاب الثالث ج1 ص173.

(306) المائدة75.

(307) الأناجيل النصوص الكاملة ص597.

(308) الأناجيل المنحولة ص70.

(309) الأناجيل المنحولة ص22 و105.

(310) يوحنا 8: 40.

(311) متى11: 27.

(312) متى28: 18.

(313) رومية1: 23-25.

(314) أعمال الرسل7: 48..

(315) أعمال الرسل17: 24-25..

بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

  طباعة  | |  أخبر صديقك  | |  إضافة تعليق  | |  التاريخ : 2022/07/26  | |  القرّاء : 1809



للإنضمام إلى قناة العلم والإيمان (أنقر على الرمز الخاص) ->
| تلغرام | واتساب | يوتيوب | فيسبوك | انستغرام |


كتابة تعليق لموضوع : فصل4: ألوهية عيسى في الكتب السماوية
الإسم * :
الدولة * :
بريدك الالكتروني * :
عنوان التعليق * :
نص التعليق * :
 

تصميم، برمجة وإستضافة :
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net