الصفحة الرئيسية

الكتب والمؤلفات :

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

  • الكتب والمؤلفات PDF (9)
  • عرفان آل محمد (ع) (17)
  • الإلحاد في مهب الريح (12)
  • قبسات الهدى (14)
  • الثالوث والكتب السماوية (6)
  • الثالوث صليب العقل (8)
  • أنوار الإمامة (6)
  • الوديعة المقهورة (6)

المقالات والأبحاث :

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

  • التوحيد والعدل (13)
  • سيد الأنبياء محمد ص (13)
  • الإمامة والأئمة (28)
  • الإمام عين الحياة (16)
  • أمير المؤمنين عليه السلام (24)
  • السيدة الزهراء عليها السلام (48)
  • سيد الشهداء عليه السلام (47)
  • الإمام المنتظر عليه السلام (9)
  • لماذا صرتُ شيعياً؟ (7)
  • العلم والعلماء (15)
  • الأسرة والمرأة (8)
  • مقالات اجتماعية (19)
  • مقالات عامة ومتنوعة (58)
  • الموت والقيامة (24)

إتصل بنا

أرشيف المواضيع

البحث :




جديد الموقع :


 شَهيدُ الهُدى.. الحُسَينُ بنُ عَليّ (عليه السلام)
 287. الإمام الجواد.. والشيعة في زمن الغيبة!
 286. هَل يُغلَبُ رُسُلُ الله وحِزبُه؟!
 285. هل أراد الله بنا (شرَّاً) فحَجَبَ عنَّا (النَّصر)؟!
 284. لن يُمحَقَ دينُ محمد (ص)!
 283. ما حُكمُ (الجِهَادِ) في أيامنا؟!
 282. الجواد.. إمامٌ يعلمُ ما في النفوس!
 281. ما من خالقٍ.. إلا الله!
 280. هل بينك وبين الله قرابة؟!
 279. المَهديُّ إمامٌ.. تبكيه العيون!

مواضيع متنوعة :


 46. أمين الريحاني.. والعشق الأعمى!
 257. إنَّ الله لا يُحبُّ الفَرِحين! قارون نموذجاً!
 23. لا نريدكم مع الحسين!!
 221. (تُجّارُ) العقيدة المهدوية!
 مقدّمة: العقلُ والدّين
 30. أوّلُ حاكمٍ يوم القيامة.. المحسنُ بنُ عليّ!
 67. هل بَشَّرَ عيسى برسول الله محمد؟! نظرةٌ في إنجيل يوحنا..
 158. حَذَارِ.. يا ابن الأربعين!
 141. عبد المطلب.. أمَّةٌ في رَجُل !
 280. هل بينك وبين الله قرابة؟!

إحصاءات :

  • الأقسام الرئيسية : 2
  • الأقسام الفرعية : 22
  • عدد المواضيع : 356
  • التصفحات : 694881
  • التاريخ :



















  • القسم الرئيسي : الكتب والمؤلفات .
        • القسم الفرعي : الثالوث والكتب السماوية .
              • الموضوع : فصل3: الثالوث والكتب السماوية .

فصل3: الثالوث والكتب السماوية

 فصل3: الثالوث والكتب السماوية

تتبرأ اليهودية والإسلام من كل قول بالتثليث، وتلتزم النصرانية بتثليث الله تعالى (أي بأنه أقانيم ثلاثة)، مع القول بتوحيده عز وجلّ في الوقت نفسه!

لكنّ جملةً من علماء النصارى يستدلون على التثليث فضلاً عما ورد في الإنجيل، ببعض نصوص العهد القديم، وببعض الآيات القرآنية كذلك! والاستدلال بالقرآن على التثليث أمرٌ في غاية الغرابة كما سيتّضح.

لقد أقرّت الكنائس المسيحية ما يسمى بدستور الإيمان المسيحي، الذي أصدره مجمع نيقية المسكوني عام 325 للميلاد بآبائه الـ 318، وعلى رأسهم القديس أثناسيوس، وأكمله مجمع القسطنطينية عام 381م بآبائه الـ 150، وسُميّ قانون الإيمان النيقاوي القسطنطيني، ومن أهمّ بنوده:

نؤمنُ بإلهٍ واحد، الأب ضابط الكل وخالق السماء والأرض وكل ما يُرَى وما لا يرى، وبربٍ واحدٍ يسوع المسيح، ابن الله الوحيد، المولود من الآب قبل كل الدهور، إلهٌ من إلهٍ، نورٌ من نورٍ، إلهُ حقٍّ من إله حقّ، مولودٌ غير مخلوق، مساوي الأب في الجوهر، الذي على يده صار كل شيء..

ونؤمن بالروح القدس، الرب المحيي، المنبثق من الأب، ومع الأب والإبن، يُسجَد له ويُمجد(1)..(انتهى).

إن التثليث يعني الإيمان بإله واحد، مع الاعتقاد بما يسمى (الأقانيم الثلاثة): الآب والابن والروح القدس، فكلٌّ من الآب والابن والروح القدس أزليٌّ قديمٌ، وكلٌّ منهم هو الله، وإن لم يكن الآب هو الابن ولا هو الروح القدس!

وأساس هذا الثالوث قائم على ولادة عيسى المسيح من الله! مع كون بنوّة عيسى لله بنوّة أزلية لا بداية لها، فلم يكن الآب الخالق يوماً دون المسيح، فالمسيح مولودٌ من الآب قبل كل الدهور أي منذ الأزل.

والولادة هنا ولادةٌ غير مادية، ولادةٌ روحيةٌ منذ الأزل، ولا تعني عندهم أنّه مخلوق، فالمخلوق يُخلَقُ ويصبح موجوداً بعد أن لم يكن موجوداً، أما المسيح عندهم فهو موجود منذ الأزل.

وجوهر المسيح (الابن) مساوٍ لجوهر الآب.

ثم يضاف إلى الآب والابن (اللذان عبّر عنهما قانون الإيمان بأنهما الإله والرب) الروح القدس (وعبّر عنه قانون الإيمان بأنه الرب المحيي)، وهذا الرب المحيي قد (انبثق من الاب).

ولا تزال الكنائس تعترف بهذا القانون إلى يومنا هذا، ففي كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية الذي أمر بنشره بابا الفاتيكان، البابا يوحنا بولس الثاني (المتوفى سنة 2005م) بحكم سلطته الرسولية:

الثالوث واحدٌ. إننا لا نعترف بثلاثة آلهة! بل بإلهٍ واحدٍ بثلاثة أقانيم:.. فالأقانيم الإلهية لا يتقاسمون الألوهة الواحدة ولكن كلَّ واحدٍ منهم هو الله كاملاً: الآب هو ذات ما هو الابن، والابن هو ذات ما هو الآب، والآب والابن هما ذات ما هو الروح القدس، أي إله واحدٌ بالطبيعة. كل أقنوم من الأقانيم الثلاثة هو هذه الحقيقة أي الجوهر، والإنيّة أو الطبيعة الإلهية(2).

الأقانيم الإلهية متميزون تميُّزاً حقيقياً في ما بينهم: الله واحد ولكنه غير متوحِّد.. إنهم متميّزون تميُّزاً حقيقياً في ما بينهم: الذي هو الابن ليس الآب، والذي هو الآب ليس الابن، ولا الروح القدس هو الآب أو الابن(3).

ونكتفي في هذا الفصل بهذا البيان المختصر عن اعتقادهم في التوحيد والتثليث، ثم ننتقل لمناقشة أدلته في الكتب السماوية الثلاثة، وأما موقف العقل منه ومناقشة إمكانه من عدمها فقد تعرّضنا له في كتاب (الثالوث صليب العقل).

ونقف هنا على محورين من قانون الإيمان المسيحي هذا:

المحور الأول: الدلالة على الثالوث في الكتاب المقدس. وهو ما نناقشه في الأبواب التالية من هذا الفصل.

المحور الثاني: الدلالة على ألوهيّة عيسى في الكتاب المقدس. وهو ما نناقشه في الفصل القادم.

1. الثالوث في التوراة

استدلَّ كثيرٌ من علماء النصارى على التثليث بأدلّة من التوراة عدّوها واضحة تارة، وعلى نحو الإشارة أخرى، وأهمها:

1. نُبَلبِل لسانهم-نعمل الإنسان: صيغة الجمع

استُدلَّ على التثليث بعبارة وردت في سفر التكوين تتحدث عن تعدُّد لغات الناس على وجه الأرض، بعد أن كان الجميع يتكلم لغةً واحدة، فبلبل الله ألسنتهم حتى تعددت لغاتهم:

وَكَانَتِ الأَرْضُ كُلُّهَا لِسَانًا وَاحِدًا وَلُغَةً وَاحِدَةً.. وَقَالُوا: «هَلُمَّ نَبْنِ لأَنْفُسِنَا مَدِينَةً وَبُرْجًا رَأْسُهُ بِالسَّمَاءِ. وَنَصْنَعُ لأَنْفُسِنَا اسْمًا لِئَلاَّ نَتَبَدَّدَ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ»..

فَنَزَلَ الرَّبُّ لِيَنْظُرَ المَدِينَةَ وَالبُرْجَ اللَّذَيْنِ كَانَ بَنُو آدَمَ يَبْنُونَهُمَا. وَقَالَ الرَّبُّ: «هُوَذَا شَعْبٌ وَاحِدٌ وَلِسَانٌ وَاحِدٌ لِجَمِيعِهِمْ، وَهذَا ابْتِدَاؤُهُمْ بِالعَمَلِ.

وَالآنَ لاَ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ كُلُّ مَا يَنْوُونَ أَنْ يَعْمَلُوهُ. هَلُمَّ نَنْزِلْ وَنُبَلْبِلْ(4) هُنَاكَ لِسَانَهُمْ حَتَّى لاَ يَسْمَعَ بَعْضُهُمْ لِسَانَ بَعْضٍ». فَبَدَّدَهُمُ الرَّبُّ مِنْ هُنَاكَ عَلَى وَجْهِ كُلِّ الأَرْضِ، فَكَفُّوا عَنْ بُنْيَانِ المَدِينَةِ(5).

ومثلها نصوص أخرى استُعمل فيها الجمع في خطاب الله تعالى في عدّة نصوص كتابية، منها: وَقَالَ الله: «نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا(6).

واستدل كثيرٌ من علماء النصارى على أنه لما لم يقل (أُنزِلُ أُبَلبلُ أَعمَلُ أصنع) إنما قال (نُنزل نُبلبل نعمل نصنع) دلّ ذلك على الأقانيم الثلاثة(7).

يقول أبو رائطة التكريتي(8): فأمرتُ وأوحيتُ وخلقتُ دليلٌ على أنّه جوهرٌ واحد، وأمَرنا وأوحينا وخلقنا دليل على أقانيم ثلاثة(9).

وفي هامش ترجمة الآباء الدومنكان: قال هذا القول الثالوث الإلهي بعضهم لبعض، فترى أن موسى أشار هنا إلى كون الله عزّ وجل أكثر من أقنوم واحد.

المناقشة فيه

ويمكن الإجابة على هذا الاستدلال بوجوه:

الوجه الأول: للتعظيم والاحترام

قد يستغربُ قارئ الكتاب المقدّس من غير النصارى من استدلالهم هذا، فإنّهم ذهبوا بعيداً في تفسير استعمال الجمع للمفرد، مع اشتهار إطلاق الجمع على الواحد للتعظيم في مختلف لغات العالم.

قال الشيخ الطوسي: قد يعبّر عن الواحد بلفظ الجمع إذا كان عظيم الشأن عاليَ الذكر، قال الله تعالى: ﴿إنا نحن نزلنا الذكر﴾ وهو واحد(10).

وقال أبو الصلاح الحلبي: العبارة عن الواحد بلفظ الجمع على جهة التعظيم ظاهرٌ في العربية(11) .

وقال الشيخ الطبرسي: قد اشتهر في اللغة العبارة عن الواحد بلفظ الجمع على سبيل التعظيم فلا يحتاج إلى الاستدلال عليه(12).

قال ابن فارس: من سُنَن العرب مخاطبة الواحد بلفظ الجميع، فيقال للرجل العظيم (أنظروا في أمري)، وكان بعض أصحابنا يقول: إنما يقال هذا لأن الرجل العظيم يقول: (نحن فعلنا)، فعلى هذا الابتداء خوطبوا في الجواب(13).

قال القلقشندي: إن كان المكتوب عنه ملكاً، فقد جرت العادة أن يعبّر عنه بنون الجمع للتعظيم، فيقال: فعلنا كذا، وأمرنا بكذا(14).

وليس هذا من مختصات اللغة العربية بحال، وفي الآيات التوراتيّة نفسها شاهدٌ على إرادة هذا المعنى، كما في الأصحاح الحادي عشر من سفر التكوين، وهو بنفسه محلّ الشاهد، ومن ألفاظه المتقدمة: وَقَالَ الرَّبُّ: .. هَلُمَّ نَنْزِلْ وَنُبَلْبِلْ.. فَبَدَّدَهُمُ الرَّبُّ.

فالقائل واحدٌ (وقال الرب)، والفاعلُ واحدٌ وهو الرب نفسه (فبدّدهم الرب)، ولا بدّ أن ينسجم المقولُ مع ما قبله وبعده، فيكون (نَنْزِلْ وَنُبَلْبِلْ) على وِزان ما تقدّم من إرادة التعظيم.

ومثله الإصحاح الأول من سفر التكوين: وَقَالَ الله: «نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا.. فإن الآية اللاحقة تنسب الفعل للقائل نفسه وهو الله: فَخَلَقَ الله الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ الله خَلَقَهُ(15).

فصارت: (صورتنا) هي نفسها (صورته) و(صورة الله)، فثبت أن النون للتعظيم.

ومن شواهد ذلك ما ورد في هامش الترجمة اليسوعية الجديدة: ولعل هذا الجمع عبارة عن جلال الله..

 لكن ههنا إشكالٌ أثاره بعض النصارى وهو أن الكتاب المقدّس يخلو من أي استعمال لصيغة الجمع مع المفرد تعظيماً، لخلوّ اللغات التي كُتب بها عن ذلك.

قال الأسقف بولس البوشي: نون العظمة.. ليس في لفظ العبراني بالجملة، ولا في لغة السرياني، ولا في كتابة اليوناني، ولا في قراءة الرومي (16).

وقال القس ابراهيم القمص عازر تاوضروس: لا تثبت الفكرة القائلة بأن الله يتكلم في هذه الآيات بصيغة جمع التعظيم، لأن هذه الصيغة بشهادة كتب العهد القديم لم تكن معروفةً عند الأقدمين(17).

والجواب على هذا الإشكال من جهات:

الجهة الأولى:

أن في بعض نسخ التوراة اختلافٌ في الترجمة.

أما الآيات الأولى: نَنْزِلْ وَنُبَلْبِلْ.. فإنها قد وردت في أغلب النسخ بصيغة الجمع، إلا أنها وردت في بعض النسخ بصيغة المفرد، ففي ترجمة سعديا الفيومي: قال الله هو ذا هم شعبٌ واحدٌ ولغة واحدة لجميعهم.. تعال أورد أمراً موغلاً أشتّتُ به لغتَهم.. فبددهم الله من ثم على وجه جميع الأرض.

ويلاحظ أنها لا تتضمن صيغة الجمع، وعليه فإن النسخة الأصلية إما أن تكون خالية من صيغة الجمع، وبالتالي فلا دلالة فيها على ما يريدون، أو أنها تتضمن صيغة الجمع ولكن المترجم رأى أنها للتعظيم فترجمها بما يدل على الله تعالى دون إيراد شبهةٍ على القراء.

وأما الآيات الثانية: نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا..

فإن النسخ المختلفة وإن اتفقت على إيرادها بصيغة الجمع، إلا أنها اختلفت في المراد من هذا الجمع.

فبعد اتفاق النصارى معنا على أن الله تعالى ليس بجسم (كما تقدم في الفصل الثاني) وأنه لا بد أن يراد من كون الإنسان على صورته معنى مجازياً، لم يعد هناك ما يمنع من ترجيح ما ورد في نسخة التوراة السامرية، ترجمة أبو الحسن إسحاق الصوري، حيث ورد أن (صورتنا) هي صورة الملائكة، ففيها: وقال الله نصنع إنساناً بشبهنا وصورتنا.. وخلق الله الإنسان بقدرته، بصورة الملائكة خلقه.

وعليه تخلو هذه الآيات من أي دلالة على الثالوث، لأن المراد من الجمع هو الملائكة.

الجهة الثانية:

على فرض عدم تماميّة ما تقدّم، فإنّه قد ثبت أن العهد القديم لم يخالف المعهود والمعروف في مختلف اللغات من استعمال الجمع للمفرد والمفرد للجمع.

أما استعمالُ الجمع تعظيماً وإرادة المفرد، فما نحن فيه خيرُ نموذج، وإذا حصل عندنا الشك في خروج الكتاب المقدس عن مثل هذه الاستعمالات رجعنا إلى نصوصه فوجدناه قد استعمل لفظ المفرد وأراد الجمع في موارد عديدة، فدلّ ذلك على عدم خروجه عن الاستعمالات العرفية واللغوية المتداولة.

ومن نماذج ذلك ما ورد في سفر العدد حيث أراد من (إسرائيل) (بنو إسرائيل) و(الجماعة كلها)، فهو لفظٌ مفردٌ لشخصٍ واحدٍ لكنّه أريد به القوم جميعاً: وَأَبَى أَدُومُ أَنْ يَسْمَحَ لإِسْرَائِيلَ بِالمُرُورِ فِي تُخُومِهِ، فَتَحَوَّلَ إِسْرَائِيلُ عَنْهُ. فَارْتَحَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ، الجَمَاعَةُ كُلُّهَا، مِنْ قَادَشَ وَأَتَوْا إِلَى جَبَلِ هُورٍ(18).

الجهة الثالثة:

على فرض عدم تماميّة ما تقدم، فإن بعض علماء النصارى قد قَبِلَ استعمال الجمع للمفرد تعظيماً، ولكنَّهُ خصّ ذلك في المُرَكّبَات دون الواحد البسيط.

 قال أبو رائطة التكريتي مناقشاً من قال أنّ العرب أجازت مثل هذا الاستعمال: ان ذلك صحيح جائزٌ في المؤلَّف من أشياء مختلفة، والمركَّب من أعضاء غير متشابهة، لأنّه واحد كثيرة أجزاؤه. فأوّل الأجزاء من الإنسان النفس والجسد.. فلذلك جاز أن يُنطق على ما وصفتم.

فأمّا الواحد البسيط المتّفِقُ في كلّ أنحائه الذي لا أعضاء له ولا أجزاء فكيف جاز له أن يَنطق بما وصفتم من: قلنا وأمرنا وأوحينا؟ إذ هو عدد واحد كما زعمتم(19).

وتابعه في ذلك القسّ بولس البوشي فقال: إن الإنسان مركّبٌ من نفس وجسد.. فجاز له أن ينطق على ما وصفتم، فأما الذي تزعمون أنه واحد أحدٌ مجرّد لا جسم له ولا أجزاء فكيف جاز له أن ينطق بما وصفتم من: أمَرنا، وأوجَبنا؟(20).

ويلاحظ على كلماتهم هذه: أنّه لا وجه للتفريق بين المركب والبسيط، فإن صيغة التعظيم لا يراد منها تعظيم المركّب لتركّبه من أجزاء، فإنّ الملك وعبيده مركبون من نفس الأجزاء، فلا يفوقهم في أعضاء يفتقدونها، وليس نظر المتكلم في تعظيم الملك أو سواه هو تعظيم النفس وأجزاء البدن بمجموعها، بل هو غافلٌ حين التعظيم عن هذا التركيب وينظر للملك باعتباره كياناً واحداً هو إنسانٌ لا أكثر، ولذا لا صلة للبساطة والتركيب في التعظيم وعدمه.

ولو تنزّلنا وسلّمنا بصحة هذه الدعوى، فإن هناك وجوهاً تسوّغ مثل هذا الاستعمال لله تعالى مع القول بعدم تركّبه، اعتماداً على ما نسبه الكتاب المقدَّس من أجزاء لله تعالى ولو على سبيل المجاز.

 فلماذا تصح نسبة الأجزاء لله تعالى مجازاً وهو المنزّه عنها، ولا يصح تعظيمه تعالى بلفظ مجازي باعتبار الأجزاء المجازية؟ إن هذا تحكم وتعسُّفٌ واضح.

يقول القديس توما الأكويني:

انه يليق بالكتاب المقدّس أن يورد الإلهيات والروحانيات تحت مثال الجسمانيات، لأن الله يعتني بجميع الأشياء على حسب ما يلائم طباعها. ومن طباع الإنسان أنه يتأدّى بالمحسوسات إلى المعقولات، لأن كل معرفة لنا فإنما مبدؤها من الحسّ. فإذاً يليق أن تورَد لنا الروحانيات في الكتاب المقدس تحت مُثُل الجسمانيات(21).

وهذا شاهدٌ واضحٌ على أنه يمكن أن يكون المراد من نون الجمع في النصوص التوراية (نبلبل ألسنتهم، نعمل الإنسان) وما شابه ذلك، ما يستعمله أصحابُ الأجسام من التعظيم والتفخيم، فإن كان ذِكرُ الروحانيات تحت مُثُل الجسمانيات لائقاً فلم لا يكون لائقاً تعظيمُ الروحانيات كالجسمانيات؟! ولذا لو كان يسوغ للإنسان الضعيف أن يستعمل لفظ (ذهبنا وقلنا وأمَرنا)، أفلا يكون لرب الأرباب والخالق القادر العظيم ذلك؟!

ثمّ إن القديس توما يقرّ بأن أحد وجوه هذا الاستعمال: ليتفهّمها على هذا الوجه في الأقل البُلهُ المتقاصرون عن فهم المعقولات في أنفسها (22).

فنقول: إن مثل هذه التشابيه تريد مراعاة حتى البُله، ونحن نرى أن البُله أنفسهم لا يفهمون من مثل هذا النص تثليثاً في عين التوحيد! ولا يرى فيه العقلاء فضلاً عن البلهاء دليلاً على الثالوث بوجه، ولا بدّ للكتاب المقدّس أن يراعي عقول سائر الناس جميعاً فلا يتحدث معهم بمثل هذه الكلمات التي تخلو من أي دلالة على الثالوث ثم تتم الحجة بها عليهم!

ويتأكّد ما ذكرناه بكثرة اثبات الكتاب المقدس الأجزاء الجسمية لله تعالى (كما تقدم في الفصل السابق) على سبيل التشبيه، كما يقول القديس توما الأكويني:

ان الكتاب إنما يُثبت لله أجزاءً جسميّة باعتبار أفعالها على سبيل التشبيه، كما أن فعل العين هو النظر، فإذاً حيثما أُثبِتَتِ العين لله كانت عبارةً عن قدرته على النظر بالوجه المعقول لا بالوجه المحسوس، وكذلك الأمر في سائر الأجزاء(23).

وعليه فقد أثبت الكتاب المقدس أجزاءً لله على سبيل التشبيه، فليكن حينها التعظيم على سبيل التشبيه أيضاً.

كلُّ هذا لو أغمضنا عن استعمال العهد القديم لعلامة الجمع في أواخر الأعلام المفردة باللغة العبريّة، كما نبّه إليه وبيّنه جلياً العلامة البلاغي رحمه الله، حينما ناقش استدلالهم بلفظ (الهيم) أو (ألوهيم) אֱלוֹהִ وهو كلمةٌ أخذت من (إله) واختُلِفَ في دلالتها فقيل أنها وقعت مع صيغة الجمع، أي (آلهة)، كما هو النصُّ محل الاستدلال.

وذكر رحمه الله نماذج من الاصل العبرانيّ وترجمته العربية وأنه لا يراد منها الجمع، وضرب لذلك نماذج منها اضافة علامة الجمع بالعبرانية (وهي الميم بعد الياء) في أواخر الأعلام المفردة ك(موفيم) و(حوفيم) وغيرها، وأواخر أسماء الأجناس كما جاء في الشعير (شعريم) وفي العدس (عدسيم)، وغيرها.

ليخلص إلى أنّه ليس هناك ما يمنع من أن يكون لفظ (الهيم) أو (ألوهيم) اسمٌ لله جلّ شأنه وإن وقعت الميم في آخره كالأعلام وأسماء الأجناس المتقدّمة(24).

فتكون النتيجة بحسب العلامة البلاغي: أن المتعارف في المحاورات العبرانية أن لفظ (إله) يلحقون الميم به وبوصفه، مع أنهم لا يريدون ولا يفهمون منه في محاوراتهم إلا الواحد المفرد، بحيث لا يخفى ذلك على السامع ولا يحتمل الجمع، ولا علينا أن نقول: إن إلحاق الميم ههنا للتعظيم أو لغيره(25).

وجوابه هذا سارٍ إلى جملةٍ مما يُستدلّ به من نصوص العهد القديم التي ستأتي، نكتفي بما أشرنا إليه هنا، ومن أراد التفصيل يراجع كلماته في محلّها.

الوجه الثاني: أن الخطاب للملائكة أو من الملائكة

وعلى فرض عدم تمامية شيء مما تقدّم، والتسليم بأن الخطاب من الله تعالى لأحدٍ سواه، فلا بدّ أن يكون لملائكته العاملين بأمره، على أن يكون الفاعل هو الله تعالى تارة كما في الخلق، والملائكة تارة أخرى كما في إنزال الرزق والعذاب وتغيير اللغات.. وقد نسب الكتاب المقدس لملاك الربّ أفعالاً كثيرة يأتي ذكرها إن شاء الله.

أما الآيات الأولى: نَنْزِلْ وَنُبَلْبِلْ.

فقد ورد في بعض نسخ الكتاب المقدس ما يدل على أن الفاعل هو (ملاك الله)، ففي ترجمة إسحاق الصوري: فانحدر ملاك الله لنظر المدينة.. وقال الله: إن شعباً واحداً ولغة واحدة لكلّهم.. هات ننحدر ونغير هناك لغات حتى لا يفهم رجل لغة صاحبه. فشتتهم الله من هناك على وجه كل الأرض.

فالخطاب من الله تعالى لملاكه الذي ينفذ أمره، وقد ورد ذكر (ملاك الله) و(ملاك الرب) في الكتاب المقدس ما يزيد عن 60 مورداً، وقد أعطى الله تعالى ملائكته قدراتٍ واسعة، فمما وصفهم به الكتاب المقدس: وَظَهَرَ لَهُ مَلاَكُ الرَّبِّ بِلَهِيبِ نَارٍ مِنْ وَسَطِ عُلَّيْقَةٍ(26).

وفيه: فَأَبْصَرَتِ الأَتَانُ مَلاَكَ الرَّبِّ وَاقِفًا فِي الطَّرِيقِ وَسَيْفُهُ مَسْلُولٌ فِي يَدِهِ(27).

وأعطاه الله قدرة إهلاك الناس وإنزال العذاب عليهم: وَبَسَطَ المَلاَكُ يَدَهُ عَلَى أُورُشَلِيمَ لِيُهْلِكَهَا(28).

وفيه: وَكَانَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ أَنَّ مَلاَكَ الرَّبِّ خَرَجَ وَضَرَبَ مِنْ جَيْشِ أَشُّورَ مِئَةَ الفٍ وَخَمْسَةً وَثَمَانِينَ الفًا. وَلَمَّا بَكَّرُوا صَبَاحًا إِذَا هُمْ جَمِيعًا جُثَثٌ مَيْتَةٌ(29).

فيكون الخطاب بين الله تعالى وملائكته.

وقد يُرجّح هذا القول أيضاً بقرينة الآية الخامسة المتقدمة: فَنَزَلَ الرَّبُّ لِيَنْظُرَ المَدِينَةَ وَالبُرْجَ اللَّذَيْنِ كَانَ بَنُو آدَمَ يَبْنُونَهُمَا.

فليس المراد عند النصارى هو نزول الله تعالى كنزول المخلوقات جزماً إذ الله تعالى منزّه عن الجسميّة وعن المكانيّة كما تقدّم في الفصلين السابقين، وهو ما يرجّح أن يكون المراد من (نزل الرب) هو نزول (ملاك الرب).

فإن قيل: فارقٌ كبيرٌ بين نزول الرب ونزول ملاكه، فلا يُقبل مثل هذا التفسير.

قلنا: إن عدم القبول بهذا التفسير يؤدي إلى القول بتجسُّم الله تعالى وتشبُّهه بخلقه، وهو تعالى منزّه عن ذلك، فضلاً عن أن التوراة قد عبّر عن ملاك الرب بالرب في مواطن عدة يأتي ذكرها في الفصول الآتية.

أما الآيات الثانية: نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا.

فقد تقدّم أن ما ورد في التوراة السامرية هو لفظ (بصورة الملائكة خلقه) فيكون مؤيّداً لكون الخطاب بين الله تعالى وملائكته، حيث قال لهم: (نصنع إنساناً بشبهنا وصورتنا) ولما لم يكن لله شبه ولا صورة، خلق الإنسان على صورة الملائكة.

وقد ورد في هامش الترجمة اليسوعية الجديدة: قد يدلّ هذا الجمع على تداولٍ بين الله وبلاطه السماوي.. ولعل هذا الجمع عبارة عن جلال الله.

والنصارى وإن استدلوا به على التثليث إلا أنه خالٍ من مثل هذه الدلالة، والبلاط السماوي الذي عبروا عنه بأن الله (يتداول) معه ليس إلا ملائكة الله تعالى.

نعم لبعض علماء النصارى إشكالٌ آخر، ذكره القس ابراهيم القمص عازر تاوضروس بقوله: الملائكة لا يمكن أن يوضعوا في مستوى واحد مع الله.. يصبح الملائكة شركاء لله ليس فقط في الصورة والشبه بل وفي المشيئة والخلق، وهذا ما يجعلهم متمتعين بالصفات الإلهية وبالتالي بالجوهر الإلهي ذاته(30).

والجواب عليه صار واضحاً، حيث لا ينسب النصُّ الخلقَ للملائكة على التفسيرين: أما على الأول، فلأن الخالق هو الله تعالى، والجمعُ للتعظيم، وأما على الثاني، فلأن الخالق هو الله أيضاً، لكن اشترك معه الملائكة في اللفظ حصراً دون الفعل لأنه من باب (التداول) كما ورد في هامش الترجمة اليسوعية الجديدة، ولا يعتقدُ أحدٌ بأن الملائكة شركاء لله تعالى في الخلق، و(التداول) هنا معنى مجازي لا يلزم منه جهل الله تعالى والعياذ بالله وهو العالم بما كان وما يكون، نظير ألفاظٍ عديدة وردت في العهد القديم وتقدمت في الفصل الأول كعلم الله وتذكره وندمه ونومه وغفوته فحُملت كلها على المجاز.

الوجه الثالث: لا دلالة على التثليث

ثم إنّه حتى عند المنكرين لكلّ ما تقدّم، مِنْ تَضَمُّن العهد القديم لعبارات التفخيم، وأنّ المراد مما ذُكر تعظيم الله تعالى، والمنكرين لكون الخطاب للملائكة أيضاً، فليس لهم أن يستدلوا عليه بالتثليث لوجهين:

الوجه الأول: أنّ النص لا يدل على التثليث بوجه، وليس فيه ذكرٌ لا لأوّلٍ ولا لثاني ولا لثالث، ولا للآب والابن والروح القدس، ولا ذكرٌ لصفاتهم وخصائصهم وميزاتهم.

وبالتالي يكون النصُّ مُجمَلاً مُبهَماً لا يُعلم وجهُ الحكمة فيه، ويكون الاستدلال به على الثالوث قولاً بغير علم، وقد قال التوراة: وَالجَاهِلُ يُكَثِّرُ الكَلاَمَ(31).

الوجه الثاني: أنّه على فرض التنزُّل ودلالته على الأقانيم، فإنّه لا وجه لحصرها بثلاثة، فما المانع أن تكون أكثر من ذلك كأربعة وخمسة وستة؟

فإن أقل الجمع وإن كان ثلاثة، إلا أن أكثره لا يحصى، فما المانع إذاً من دلالته على ما زاد عليها؟

فإن قيل: دل دليلٌ آخر على أنهم ثلاثة.

قلنا: هذا أول الكلام، فإننا نناقش في دلالة هذا الدليل، وكلّما أقمتم من أدلة على التثليث وجدناها منقوضةً كما سيأتي.

حتى أن بعض علماء النصارى أقرّ بإمكان أن يكون الثلاثة مما صرّح به الكتاب المقدّس دون نفي ما زاد عنه، يقول الدكتور القس عماد شحادة: أما عن ضرورة أن تكون التعددية ثلاثيّة على الأكثر، إن هذا يعتمد بالدرجة الأولى على إعلان الله عن ذاته. هنا لا يستطيع الإنسان أن يجزم بما لا يشدد عليه الكتاب المقدس، فواقع الأمر أنه من الأصعب عند اللاهوتيين إثبات أن ذلك غير ضروري، أو غير ممكن(32).

وينقل عن هادجسون قوله: لماذا لا نتشجع ونرجو بأنه في يوم معيّن سوف يكشف عن نفسه لنا في أربعة أقانيم أو خمسة أو أكثر؟(33).

ولذا فإن هذا النص مفتقرٌ لأي دلالة على الثالوث بما تقدّم.

تتميم: النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ونصارى نجران

بعدما تمّ الجواب على الاستدلال بصيغة الجمع في العهد القديم، نُلاحظُ أنّ هذا الاستدلال مما أورده نصارى نجران في مناظرتهم مع نبي الإسلام محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، عندما جاؤوا يقدِمُهم السيّد والعاقب أسقفا نجران في سبعين راكب، ومما روي في حادثة المباهلة تلك أنهم: جَلَسُوا إِلَيْهِ وَنَاظَرُوهُ فَقَالُوا: يَا أَبَا القَاسِمِ حَاجِّنَا فِي عِيسَى.

قَالَ: هُوَ عَبْدُ الله وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ القاها إِلى‏ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ‏.

 فَقَالَ أَحَدُهُمَا: بَلْ هُوَ وَلَدُهُ وَثَانِي اثْنَيْنِ، وَقَالَ آخَرُ بَلْ هُوَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ أَبٌ وَابْنٌ وَرُوحُ القُدُسِ.

وفي هذا إشارةٌ الى الاختلاف الحاصل بين النصارى في كون الروح القدس ثالثاً مع الاب والابن، فإن هذه العقيدة كانت محطّ خلافٍ بين النصارى وقد أقرّها المجمع المسكوني في القسطنطينية سنة 381م، ويظهر من هذا النص أن بعض النصارى لم يكن يعتقد بما ذهب إليه هذا المجمع، حتى بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

ثم قالوا له (صلى الله عليه وآله وسلم): وَقَدْ سَمِعْنَاهُ فِي قُرْآنٍ نَزَلَ عَلَيْكَ يَقُولُ: فَعَلْنَا وَجَعَلْنَا وَخَلَقْنَا، وَلَوْ كَانَ وَاحِداً لَقَالَ: خَلَقْتُ وَجَعَلْتُ وَفَعَلْتُ!

فَتَغَشَّى النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) الوَحْيُ فَنَزَلَ عَلَيْهِ صَدْرُ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ إِلَى قَوْلِهِ رَأْسِ السِّتِّينَ مِنْهَا ف﴿َمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ العِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ﴾ إِلَى آخِرِ الآيَةِ.

فَقَصَّ عَلَيْهِمْ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) القِصَّةَ وَتَلَا عَلَيْهِمُ القُرْآنَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: قَدْ وَالله أَتَاكُمْ بِالفَصْلِ مِنْ خَبَرِ صَاحِبِكُمْ.

فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَمَرَنِي بِمُبَاهَلَتِكُمْ، فَقَالُوا إِذَا كَانَ غَداً بَاهَلْنَاكَ، فَقَالَ القَوْمُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ حَتَّى نَنْظُرَ بِمَا يُبَاهِلُنَا غَداً: بِكَثْرَةِ أَتْبَاعِهِ مِنْ أَوْبَاشِ النَّاسِ، أَمْ بِأَهْلِهِ مِنْ أَهْلِ الصَّفْوَةِ وَالطَّهَارَةِ، فَإِنَّهُمْ وَشِيجُ الأَنْبِيَاءِ وَمَوْضِعُ نَهَلِهِمْ.

فَلَمَّا كَان‏ مِنْ غَدٍ غَدَا النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بِيَمِينِهِ عَلِيٌّ وَبِيَسَارِهِ الحَسَنُ وَالحُسَيْنُ (عليهما السلام) وَمِنْ وَرَائِهِمْ فَاطِمَةُ (عليها السلام)، عَلَيْهِمْ النِّمَارُ النَّجْرَانِيَّةُ، وَعَلَى كَتِفِ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كِسَاءٌ قَطَوَانِيٌّ رَقِيقٌ خَشِنٌ لَيْسَ بِكَثِيفٍ وَلَا لَيِّنٍ، فَأَمَرَ بِشَجَرَتَيْنِ فَكُسِحَ مَا بَيْنَهُمَا  وَنَشَرَ الكِسَاءَ عَلَيْهِمَا وَأَدْخَلَهُمْ تَحْتَ الكِسَاءِ وَأَدْخَلَ مَنْكِبَهُ الأَيْسَرَ مَعَهُمْ تَحْتَ الكِسَاءِ مُعْتَمِداً عَلَى قَوْسِهِ النَّبْعِ، وَرَفَعَ يَدَهُ اليُمْنَى إِلَى السَّمَاءِ لِلْمُبَاهَلَةِ وَاشْرَأَبَّ النَّاسُ يَنْظُرُونَ.

وَ اصْفَرَّ لَوْنُ السَّيِّدِ وَالعَاقِبِ وَكَرَّا حَتَّى كَادَ أَنْ يَطِيشَ عُقُولُهُمَا.

فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَ نُبَاهِلُهُ؟

قَالَ: أَ وَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ مَا بَاهَلَ قَوْمٌ قَطُّ نَبِيّاً فَنَشَأَ صَغِيرُهُمْ وَبَقِيَ كَبِيرُهُمْ، وَلَكِنْ أَرِهِ أَنَّكَ غَيْرُ مُكْتَرِثٍ وَأَعْطِهِ مِنَ المَالِ وَالسِّلَاحِ مَا أَرَادَ فَإِنَّ الرَّجُلَ مُحَارِبٌ وَقُلْ لَهُ: أَ بِهَؤُلَاءِ تُبَاهِلُنَا؟ لِئَلَّا يَرَى أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَتْ مَعْرِفَتُنَا بِفَضْلِهِ وَفَضْلِ أَهْلِ بَيْتِهِ.

فَلَمَّا رَفَعَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يَدَهُ إِلَى السَّمَاءِ لِلْمُبَاهَلَةِ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: وَأَيُّ رَهْبَانِيَّةٍ، دَارِكِ الرَّجُلَ فَإِنَّهُ إِنْ فَاهَ بِبَهْلَةٍ لَمْ نَرْجِعْ إِلَى أَهْلٍ وَلَا مَالٍ.

فَقَالا: يَا أَبَا القَاسِمِ أَ بِهَؤُلَاءِ تُبَاهِلُنَا؟

قَالَ: نَعَمْ هَؤُلَاءِ أَوْجَهُ مَنْ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ بَعْدِي إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ وِجْهَةً وَأَقْرَبُهُمْ إِلَيْهِ وَسِيلَةً.

قَالَ: فَبَصْبَصَا، يَعْنِي ارْتَعَدَا وَكَرَّا وَقَالا لَهُ: يَا أَبَا القَاسِمِ نُعْطِيكَ الفَ سَيْفٍ وَالفَ دِرْعٍ وَالفَ حَجَفَةٍ وَالفَ دِينَارٍ كُلَّ عَامٍ، عَلَى أَنَّ الدِّرْعَ وَالسَّيْفَ وَالحَجَفَةِ عِنْدَكَ إِعَارَةٌ، حَتَّى يَأْتِيَ مَنْ وَرَاءَنَا مِنْ قَوْمِنَا فَنُعْلِمَهُمْ بِالَّذِي رَأَيْنَا وَشَاهَدْنَا، فَيَكُونَ الأَمْرُ عَلَى مَلَإٍ مِنْهُمْ، فَإِمَّا الإِسْلَامَ وَإِمَّا الجِزْيَةَ وَإِمَّا المُقَاطَعَةَ فِي كُلِّ عَامٍ.

فَقَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم): قَدْ قَبِلْتُ ذَلِكَ مِنْكُمَا، أَمَا وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالكَرَامَةِ لَوْ بَاهَلْتُمُونِي بِمَنْ تَحْتَ الكِسَاءِ لَأَضْرَمَ الله عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكُمُ الوَادِيَ نَاراً تَأَجَّجُ حَتَّى يساقها يَسُوقَهَا إِلَى مَنْ وَرَاءَكُمْ فِي أَسْرَعَ مِنْ طَرْفَةِ العَيْنِ فَأَحْرَقَتْهُمْ تَأَجُّجاً.

فَهَبَطَ عَلَيْهِ جَبْرَئِيلُ الرُّوحُ الأَمِينُ (عليه السلام) فَقَال‏: يَا مُحَمَّدُ، الله يُقْرِئُكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ لَكَ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي وَارْتِفَاعِ مَكَانِي، لَوْ بَاهَلْتَ بِمَنْ تَحْتَ الكِسَاءِ أَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَأَهْلَ الأَرْضِ لَسَاقَطَتِ السَّمَاءُ كِسَفاً مُتَهَافِتَةً، وَلَتَقَطَّعَتِ الأَرَضُونَ زُبَراً سَائِحَةً فَلَمْ تَسْتَقِرَّ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ.

فَرَفَعَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يَدَيْهِ حَتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إِبْطَيْهِ ثُمَّ قَالَ: وَعَلَى مَنْ ظَلَمَكُمْ حَقَّكُمْ وَبَخَسَنِي الأَجْرَ الَّذِي افْتَرَضَهُ الله فِيكُمْ عَلَيْهِمْ بَهْلَةُ الله تَتَابَعَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ(34).

لا يقال: لم انتقل (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المباهلة بدلاً من المحاججة؟!

فإن لذلك وجوهاً:

أوّلها: أن المباهلة إنما كانت بأمر الله تعالى: فَتَغَشَّى النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) الوَحْيُ فَنَزَلَ عَلَيْهِ.. والله تعالى لا يُسأل عما يفعل.

وثانيها: أنّه ليس في المباهلة ظلمٌ بل إظهارٌ للحق وإبطالٌ للباطل كما فهم ذلك النصارى أنفسهم بقولهم: قَدْ وَالله أَتَاكُمْ بِالفَصْلِ مِنْ خَبَرِ صَاحِبِكُمْ.

وثالثها: أنّ الوجه في ذلك ظاهرٌ وهو كونهم من المعاندين، يُعرف ذلك باستدلالهم على الثالوث بالقرآن الكريم، والقرآن صريحٌ في كفر القائل بالثالوث كما سيأتي، ويُعرف ذلك من الحوار الذي جرى بينهم قبل المباهلة في صدر الحديث، ففيه كلامٌ بينهم حول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل وصولهما إليه، ومن هذا الحوار: نَشْهَدُ أَحْوَالَهُ وَنَنْظُرُ آيَاتِهِ، فَإِنْ يَكُنْ هُوَ هُوَ سَاعَدْنَاهُ بِالمُسَالَمَةِ وَنَكٌفُّهُ بِأَمْوَالِنَا عَنْ أَهْلِ دِينِنَا مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِنَا، وَإِنْ يَكُنْ كَاذِباً كَفَيْنَاهُ بِكَذِبِهِ عَلَى الله عَزَّ وَجَلَّ.

قَالَ: وَلِمَ إِذَا رَأَيْتَ العَلَامَةَ لَا تَتَّبِعُهُ؟

قَالَ: أَ مَا رَأَيْتَ مَا فَعَلَ بِنَا هَؤُلَاءِ القَوْمُ، أَكْرَمُونَا وَمَوَّلُونَا وَنَصَبُوا لَنَا الكَنَائِسَ وَأَعْلَوْا فِيهِ ذِكْرَنَا، فَكَيْفَ تَطِيبُ النَّفْسُ بِالدُّخُولِ فِي دِينٍ يَسْتَوِي فِيهِ الشَّرِيفُ وَالوَضِيعُ؟(35).

وأمّا ما يثيره بعض الباحثين النصارى المعاصرين من أن الإسلام دين اللعن، فإن المباهلة تعني الملاعنة، والمسيحية دين البركة، فعيسى (عليه السلام) قد قال: بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ(36).

فالجواب عليه بما ورد في الكتاب المقدس نفسه: وَقَالَ الرَّبُّ لأَبْرَامَ: .. أُبَارِكُ مُبَارِكِيكَ، وَلاَعِنَكَ العَنُهُ(37)، وفيه: لِيَكُنْ لاَعِنُوكَ مَلْعُونِينَ(38)، وفيه: وَلاَعِنُكَ مَلْعُونٌ(39).

لا يقال: هذا مختصٌّ بالعهد القديم، وهو مما نسخه عيسى (عليه السلام).

لأننا نقول: اللعن سنّة العهد الجديد أيضاً: ففيه: وَلكِنَّ هذَا الشَّعْبَ الَّذِي لاَ يَفْهَمُ النَّامُوسَ هُوَ مَلْعُونٌ(40). وفيه: مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ النَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهِ(41). وقد ورد اللعن عشرات المرات في الكتاب المقدس بعهديه.

2. الرجال الثلاثة وإبراهيم

ورد في سفر التكوين في قصة نبي الله إبراهيم (عليه السلام) ما نصُّه: وَظَهَرَ لَهُ الرَّبُّ عِنْدَ بَلُّوطَاتِ مَمْرَا وَهُوَ جَالِسٌ فِي بَابِ الخَيْمَةِ وَقْتَ حَرِّ النَّهَارِ، فَرَفَعَ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ وَإِذَا ثَلاَثَةُ رِجَال وَاقِفُونَ لَدَيْهِ. فَلَمَّا نَظَرَ رَكَضَ لاسْتِقْبَالِهِمْ مِنْ بَابِ الخَيْمَةِ وَسَجَدَ إِلَى الأَرْضِ، وَقَالَ: «يَا سَيِّدُ، إِنْ كُنْتُ قَدْ وَجَدْتُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ فَلاَ تَتَجَاوَزْ عَبْدَكَ. لِيُؤْخَذْ قَلِيلُ مَاءٍ وَاغْسِلُوا أَرْجُلَكُمْ وَاتَّكِئُوا تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَآخُذَ كِسْرَةَ خُبْزٍ، فَتُسْنِدُونَ قُلُوبَكُمْ ثُمَّ تَجْتَازُونَ، لأَنَّكُمْ قَدْ مَرَرْتُمْ عَلَى عَبْدِكُمْ». فَقَالُوا: «هكَذَا تَفْعَلُ كَمَا تَكَلَّمْتَ»(42).

وقد استُدلَّ بهذا النص على الثالوث، بتقريب أن (الرب) هو (الرجال الثلاثة)! حيث أنّهم موحّدون في الجوهر، ثلاثةٌ في الأقانيم!

قال القديس كيرلُّس الاسكندري(43): هكذا نرى أن الكتاب يقول بوضوح أن الله تجلى لإبراهيم، ولكن الأشخاص الذين رآهم كانوا ثلاثة.. قال: يا سيدي، مستعملاً المفرد لمخاطبة الثلاثة.. وهكذا فالاشخاص الذين ظهروا لإبراهيم ثلاثة، وكلّ واحد منهم موجود بأقنوميّته الخاصة، والثلاثة موحَّدون في الجوهر، ومُظهِرون هذه الوحدة في كلامهم(44).

ليخلص إلى أنه: لم يَفُت أبانا إبراهيم أن يعترف بالله الثالوث(45).

وقال أبو رائطة التكريتي: أفلا ترون أن الذي عاين إبراهيمُ ثلاثة عددها.. فسمّاهم رباً واحداً.. فعدد الثلاثة سرٌّ لأقانيم الثلاثة، وتَسمِيَتُه إياهم ربّاً لا أربابٌ سرٌّ لجوهر واحد(46).

المناقشة فيه

يبتني الإستدلال في هذه الفقرة على أن الرب هو الرجال الثلاثة في إشارة إلى التثليث، فيكون جوهرهم واحداً، وتكون الأقانيم الثلاثة قد تجسّدت في رجال ثلاثة.

ويلاحظ على ذلك:

أولاً: أن هذا القول مُخالفٌ للتوحيد الثابت قطعاً بالعقل والنقل، فقد تقدّم في الفصل الثاني إثبات التوحيد في الكتاب المقدّس بعهديه، وقول القديس كيرلُّس يكشف عن ثلاثة آلهة في الحقيقة، وهو منافٍ للتوحيد، ولا يمكن الدفاع عن ذلك بالقول أنّهم واحدٌ في الجوهر، فإثبات التوحيد في الكتاب المقدس لم يكن من باب إثبات وحدانية الجوهر لثلاثةٍ يتصف كل منهم بصفات الألوهية، لأن هذا يعني أنّهم آلهةٌ ثلاثة.

ولا يكفي القول بأننا مع اعتقادنا بالتوحيد نعتقد بالتثليث لأن التوحيد صار توحيداً ناقصاً، فهو يعني حينها وحدة الصفات التي يتصف بها الله وعيسى والروح القدس، لا وحدة الإله حقيقة.

وقد ناقشنا هذا الأمر مفصلاً في كتاب (الثالوث صليب العقل) فليراجع.

ثانياً: أن النص خالٍ من أي دلالة على الثالوث، فهو لا يشير إلى الابن ولا الى الروح القدس، وليس فيه أي دلالة على اتصافهم بصفات الله سبحانه وتعالى، ولا على ألوهيّة عيسى (عليه السلام) بوجه من الوجوه. وهذا أوضح من أن يحتاج لتوضيح.

ثالثاً: أن النصّ نفسه ينفي هذه الدعوى تماماً، فإن الآيات تقول: (وَظَهَرَ لَهُ الرَّبُّ.. وَإِذَا ثَلاَثَةُ رِجَال وَاقِفُونَ لَدَيْهِ) وهو ظاهرٌ في أن الرجال الثلاثة كانوا واقفين لدى الرب وليس لدى إبراهيم، والشاهد على ذلك قوله (فَلَمَّا نَظَرَ رَكَضَ لاسْتِقْبَالِهِمْ)، فلو كانوا واقفين لدى إبراهيم لم يكن هناك معنىً ولا حاجة لأن يركض لاستقبالهم، وإنما ركض إبراهيم إليهم لأنهم كانوا واقفين (لدى الرب)، ما يعني أن (الرب) المعنيّ في هذه الآيات ليس هو الثلاثة ولا الثلاثة هم الرب، بغض النظر عن المراد من الربّ هنا، وهل أنّه ملاك الربّ أم معنىً آخر.

رابعاً: أنّ نصّ الإصحاح المذكور يؤكد بما لا يدعُ مجالاً للشك أن ليس المراد من الثلاثة الرب بوجه من الوجوه، فإن الثلاثة قد انصرفوا وذهبوا نحو سدوم مدينة لوط، وأما إبراهيم فكان لا يزال قائماً أمام الرب يكلّمه ويناقشه في إنزال العذاب على المدينة مع وجود صالحين فيها.

حيث ورد فيه: وَانْصَرَفَ الرِّجَالُ مِنْ هُنَاكَ وَذَهَبُوا نَحْوَ سَدُومَ، وَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ فَكَانَ لَمْ يَزَلْ قَائِمًا أَمَامَ الرَّبِّ. فَتَقَدَّمَ إِبْرَاهِيمُ وَقَالَ: «أَفَتُهْلِكُ البَارَّ مَعَ الأَثِيمِ؟(47).

إلى أن يقول: وَذَهَبَ الرَّبُّ عِنْدَمَا فَرَغَ مِنَ الكَلاَمِ مَعَ إِبْرَاهِيمَ، وَرَجَعَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى مَكَانِهِ(48).

وهو صريحٌ في أن الثلاثة ليسوا هم الربّ، فإن أقل الجمع ثلاثة، وقوله (وانصرف الرجال) يعني انصراف الثلاثة في حين أن (إِبْرَاهِيم فَكَانَ لَمْ يَزَلْ قَائِمًا أَمَامَ الرَّبِّ).

خامساً: أن مِن علماء النصارى من اعترف بأن الثلاثة هم ملائكة، وإن ذهب إلى أن المشهد يعبر عن الثالوث، ومنهم الاب توماش شبيدلك اليسوعي حين يقول: المشهد الشهير والمعبّر بصورٍة واضحة عن الثالوث هو إبراهيم في استقباله للثلاثة أشخاص في (تك 18 / 1-15) وهم الذين جاؤوا إلى إبراهيم في شكل ثلاثة ملائكة كي يخبروه بميلاد ابنه(49).

إذ أن النصارى يعتقدون بإمكان تغيير الملائكة لشكلهم، كما يقول القديس يوحنا الدمشقي حول ظهورات الملائكة: وإنهم يغيّرون شكلهم تلبيةً لما يأمرهم به الله سيدهم، وعلى هذا النحو يتراءون للبشر(50).

فإنّهم يعترفون أن هؤلاء الثلاثة هم رجالٌ بنص التوراة، ثم يُقرّون أنهم كانوا في شكل ملائكةٍ بنص الأب شبيدلك، ثم يزعمون مع هذا دلالة الآيات على الثالوث!

ولعمري لئن كانت مثل هذه هي أدلة الثالوث، فإنّه حقَّ للنصارى أن يترنموا بما ورد في مزامير داوود: ارْحَمْنِي يَا رَبُّ لأَنِّي ضَعِيفٌ. اشْفِنِي يَا رَبُّ لأَنَّ عِظَامِي قَدْ رَجَفَتْ(51)!

وأيُّ ضعف أشدّ من ضعف هذه الأدلة أمام العقل والمنطق والكتاب المقدّس! وكيف لا ترتجف العظام من نسبة التثليث للإله العظيم؟!

سادساً: لمّا كان الله تعالى منزّهاً عن الجسمية، وصفه إنجيلُ برنابا الذي لم تعترف به الكنيسة بأنّه: ليس لله جسم(52)، وبأنّه: غير ذي جسد وغير مركب وغير مادي(53)، بحسب ترجمة الدكتور خليل سعادة، أما ترجمة الخوري بولس فغالي ففيها وصفُ الله تعالى بأنّه: لا جسد له.. لا بدن له ولا مركّب..

وقال الخوري فغالي تعليقاً على عبارة: (لا جسد له): لا شك إن قيل هذا الكلام في الله الآب. ولكن الله الابن أخذ جسداً.. أكل، نام في السفينة.. مات.. لأنه شابَهَنا في كلّ شيء ما عدا الخطيئة، دون أن يتخلى عن لاهوته.

أقول: كلامُ الخوري فغالي لا يستقيم بوجه، لأنّهم يزعمون أن جوهر الآب والابن واحدٌ، ويقرّون بأن الآب منزّه عن التجسُّد، ويُثبِتُون التجسُّد للابن مع وحدة الجوهر بينهما! وهذا تناقضٌ بيّن.

ولعلّه لهذا السبب ذهب بعض علمائهم إلى أن الآب يمكن أن يتجسّد أيضاً، وفسّروا بعض نصوص العهد القديم بذلك، للتخلُّص بهذا من التناقض السالف، لكنّه يوقع فيما يخالف التوحيد، ويُسقِطُ في التجسيم الذي لا بدّ من تنزيه الباري عزّ وجل عنه.

3. في البدء الآلهة خلق السماوات والأرض

وهي أول آية في التوراة، في سفر التكوين من العهد القديم، استدلَّ بها بعضُ علماء النصارى كالقس منسّى يوحنا حيث قال:

ثم يُلاحَظ أنَّ في العهد العتيق كلمتين مُستعملتين للتَّعبير عن الألوهية؛ إحداهما «يهوه» والأخرى «إلوهيم». فالأولى على مذهب أرباب اللُّغة العبرانية، تُطلق على ذات الله وعلى جوهره السّامي، وهي لا تُستعمل عندهم إلا مُفردة. والثانية تُعبِّر عن تصوُّر حُضُور الله وقُدرته، وهي لا تُستعمل إلا بصِيغة الجمع، ولكنَّها تقتضي أن يكون الفعل بعدها مُفرداً. وعليه، فالتَّرجمة الحرفية للآية الأولى من التَّوراة، تقتضي أن تكون هكذا: «في البدء الآلهة خلق السموات والأرض». فإنَّ العُلماء ما فهموا إلا أنَّ في لفظة «إلوهيم» وطريقة استعمالها ما يُشير إلى وجود عدَّة أقانيم في الله(54).

المناقشة فيه

ويلاحظ على كلامه:

أولاً: أن أياً من النسخ المتداولة للتوراة لا تتضمّن ترجمة (الآلهة خلق) بل كلها تتضمن: فِي البَدْءِ خَلَقَ الله السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ.

وقد تسنى لنا مراجعة أكثر من عشرين نسخة مترجمة من العهد القديم (أشرنا لها في المقدمة) فلم نعثر في أيٍّ منها على ما أشار إليه القسّ يوحنا.

حتى النسخة العبرية التي يعتمد عليها اليهود(55) تتضمن النص العبريّ التالي:

א בְּרֵאשִׁית, בָּרָא אֱלֹהִים, אֵת הַשָּׁמַיִם, וְאֵת הָאָרֶץ.

وقد ترجمها اليهود للإنجليزية بالنص التالي:

1 In the beginning God created the heaven and the earth.

وهي مطابقة للنصوص العربية المترجمة بأكملها (الله خلق) أو أبدع.

ثانياً: لو فرضنا صحّة ترجمته وأن الترجمة الصحيحة هي قوله (في البدء الآلهة خلق السموات والأرض) فإنها تدلّ على تعدد الآلهة صريحاً، وتنافي التوحيد منافاة تامّة، فالآلهةُ ثلاثةٌ، وهو ينافي التوراة والإنجيل والقرآن، والتمسّك بحرفيّة هذه الترجمة كما يذهب اليه القسّ يوحنا يُلزم النصارى بالقول بأن الآلهة ثلاثة بشكل صريحٍ لا مُقَنَّع، وهو خروج عن التوحيد بالمطلق.

ولذا استعمل النصارى لفظ (أقنوم) غير المفهوم المعنى وهو يعني (الشخص) حقيقة للتَسَتُّر على القول بالآلهة الثلاثة، وأنكروا القول بوجود (ثلاثة آلهة)، بل قالوا أنّ الثلاثة كلّهم إلهُ واحد! لكن القسّ منسّى يوحنا هنا جعل ترجمة أوّل آية في التوراة دالّة على الآلهة الثلاثة!

وعليه فإمّا أن يقال بعدم صحة ترجمته، فلا دلالة على الثالوث في الآية، وإما أن يقال بصحتها، فتدلّ على أن الآلهة ثلاثةٌ بما يخالف التوحيد، وهو ما لا يقبل به النصارى، بل يحكمون على قائله بالكفر!

ففي كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية الذي أمر بنشره البابا يوحنا بولس الثاني بحكم سلطته الرسولية: الثالوث واحد. إننا لا نعترف بثلاثة آلهة، بل بإلهٍ واحدٍ بثلاثة أقانيم(56).

ويقول القديس إبيفانيوس: لا يوجد ثلاثة آلهة، بل إلهٌ واحدٌ حقيقي(57).

ويقول القمص سرجيوس: هؤلاء الثلاثة هم واحدٌ وليسوا ثلاثة آلهة(58).

ويقول: وكل من يعتقد من النصارى أن الاقانيم المذكورة ثلاثة آلهة مختلفة او متّفقة.. فهو كافر(59).

وبهذا يتضح عدم إمكان الاستدلال بهذه الآية على الثالوث.

4. ذكر الأشياء ثلاث مرات

بالغ بعض علماء النصارى في محاولة إثبات الثالوث من العهدين القديم والجديد وذلك بِذِكرِ شواهدَ تزيد عن المئة شاهدٍ زعموا أنها تتضمّن إشاراتٍ للثالوث! فكُلّما عثروا على مورد في التوراة والإنجيل ذُكرت فيه أمورٌ ثلاثةٌ أياً تكن، أو تكرّر فيه ذكرُ الشيء نفسه ثلاث مرات، زعموا أنه يدلّ على الثالوث!

من ذلك مثلاً تكرر لفظ: (قُدُّوسٌ) ثلاث مرات في سفر أشعياء!

يقول أبو رائطة التكريتي: فتقديس الملائكة مراراً ثلاثة واقتصارهم على ذلك بلا زيادة ولا نقصان سرٌّ لتقديسهم لأقانيم ثلاثة، إلهاً واحداً. فهذه بعض شهادات الأنبياء على أن الله واحدٌ ثلاثة، وثلاثة واحد(60).

ويقول القسّ بولس البوشي: أشعيا يصف أن الله تراءى له، والكاروبيم تُقدِّسُه قائلين: قدّوس قدّوس قدّوس.. فتقديس الملائكة مراراً ثلاثاً بلا زيادةٍ ولا نقصان يدلُّ على الثالوث(61).

ومثلها تكرار لفظ (يا سيّد) ثلاث مرّات! كما في سفر دانيال: يَا سَيِّدُ اسْمَعْ. يَا سَيِّدُ اغْفِرْ. يَا سَيِّدُ أَصْغِ وَاصْنَعْ(62).

وهو ما استدلّ به بعضه علماء النصارى! ومنهم الراهب القمص فليمون الأنبا بيشوى، وأضاف إلى هذه الأدلة والإشارات على الثالوث سكب الماء ثلاث مرات! وصياح الديك ثلاثاً! وإنكار بطرس لعيسى (عليه السلام) ثلاث مرات!

وكذا كلّما وجد ذكراً لله تعالى وعيسى والروح القدس عدّه دليلاً  غللا الثالوث!

وكلّما وجد مورداً ذُكر فيه اسم الله او الربّ او الروح او الإله ثلاثاً عدّه دليلاً على الثالوث!

وعدّ اختلاف الضمائر بين المفرد والجمع عند التعدّد كذلك.. وهكذا مما لا يصح الوقوف عليه لضعفه، كتوفُّر ثلاثة أبوابٍ للخيمة! ووجود ثلاثة أنواع من الذبائح أو المعادن أو الألوان أو السوائل، أو نزول ريحٍ وزلزلةٍ ونارٍ فهي ثلاثة، وما شابه ذلك، كلّ هذا صار دليلاً أو إشارة على الثالوث! (63).

ومثله فعل القس الدكتور لبيب ميخائيل حينما قرأ قصة بالاق وبلعام في العهد القديم فوجد في آياتٍ متباعدة ألفاظ (الله) و(الرب) و(روح الله) فعدّ ذلك مظهراً أكيداً للثالوث! (64).

المناقشة فيه

وهذا القول واضحُ البطلان، بيّن الضعف، يكاد يصير قائله مصداقاً لمن يريد أن يستعبد الناس باسم المسيح، ففي الكتاب المقدّس: وَلكِنْ بِسَبَبِ الإِخْوَةِ الكَذَبَةِ المُدْخَلِينَ خُفْيَةً، الَّذِينَ دَخَلُوا اخْتِلاَسًا لِيَتَجَسَّسُوا حُرِّيَّتَنَا الَّتِي لَنَا فِي المَسِيحِ كَيْ يَسْتَعْبِدُونَا(65).

إذ هل يُعقل أن تكون مثل هذه النصوص أدلةً على الثالوث؟! هل افتَقَرَت اللغاتُ وعَجِزَت الألفاظُ والكلماتُ عن إبراز مُراد الله تعالى فلجأ إلى هذه الاستعمالات الهزيلة؟!

ماذا لو احتجّ حينها الثنوية بالتوراة والإنجيل على صحة دينهم؟ فقالوا إن (الخير والشر) قد ذُكرا معاً مراراً في الكتاب المقدّس وهذا يدل على صحة ديننا! وذُكر الابن الحكيم والابن الجاهل معاً في أمثال سليمان(66).

بل ذُكر الله وعيسى في موارد كثيرة دون أن يُذكر الروح القدس، فليكن هذا دليلاً على الثنوية!

بل لا بدّ من القول بالأقانيم السبعة حينها، إذ ورد ذكر الرقم سبعة أكثر من 250 مرة، فلم لا تكون الأقانيم سبعة؟

وليكن الكشف قد حصل في المرحلة الأولى عن ثلاثة أقانيم لمن أدركها، والكشف الأوسع دائرةً يأخذ بيد صاحبه إلى الأقانيم السبعة!

قال بعض الرهبان: طبعاً لم يعلن الله صراحةً لشعب إسرائيل عن ثالوثه لأن الشعب كان في مرحلة الطفولة، ولم يكن في مقدوره أن يعي كل شيء عن الله(67).

فليكن القول بالأقانيم الثلاثة تحضيراً وتمهيداً للقول بالأقانيم السبعة حتى تستعدّ البشرية لقبولها! كما قالوا في تبرير عدم صراحة العهد القديم في الدلالة على التثليث.

وخلاصة القول أنّ هذا من أضعف الأدلة التي بانَ بُطلانها.

ولو نقلنا الكلام إلى الإنجيل نفسه كما فعلوا، فلم لا نقول بالتربيع لأن الأناجيل أربعة؟ ولأن جهات الأرض أربعة، ولنا أن نعتمد على نصوصٍ إنجيليّة ذُكِرَت فيها إشارةٌ رباعيةٌ عند الحديث عن البرّ والإيمان والمحبة والسلام: أَمَّا الشَّهَوَاتُ الشَّبَابِيَّةُ فَاهْرُبْ مِنْهَا، وَاتْبَعِ الْبِرَّ وَالإِيمَانَ وَالْمَحَبَّةَ وَالسَّلاَمَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ الرَّبَّ مِنْ قَلْبٍ نَقِيٍّ(68).

أو إشارةٌ سُبَاعِيَّةٌ سوى السماوات السبع تدل على أقانيم سبعة: وَأَمَّا أَنْتَ فَقَدْ تَبِعْتَ تَعْلِيمِي، وَسِيرَتِي، وَقَصْدِي، وَإِيمَانِي، وَأَنَاتِي، وَمَحَبَّتِي، وَصَبْرِي(69).

والنتيجة أن هذا الدليل من أضعف الأدلة وأهزلها وإن أكثروا من ذكر الشواهد عليه.

عودٌ على بدء

بعد أن اتّضَحَ عدم وجود أي دلالة في التوراة على الثالوث، وبعدما سقطت الأدلة واحداً تلو الآخر، يُعرف سببُ اعتراف جمعٍ من علماء النصارى بخلو التوراة عن أي نصٍّ صريح على الثالوث، ثم يزعم هؤلاء أن هذه الأدلة لا تُفهم إلا في ضوء الإيمان المسيحي! أي أنك لا بدّ أن تؤمن بالثالوث حتى ترى دلالة الدليل على الثالوث! وهذا مما لا يُمكنُ قبولُه إذ يلزم منه توقف الأمر على نفسه. أي أن الدليل لا يدل على الثالوث إلا بعد الإيمان بالثالوث!

وممن اعترف بذلك القسّ موسى وهبه مينا حيث صرّح بعدم احتواء العهد القديم على صياغةٍ كاملةٍ عن عقيدة التثليث، فيقول: نحن لا نتوقع أن نجد عقيدة التثليث في صياغتها الكاملة معلَنة في العهد القديم. ولكننا مع ذلك لا نعجب أو نندهش إذا وجدنا اشارات مسبقة تنبئ عما سينكشف فيما بعد أي في العهد الجديد(70).

وقال الراهب باسيليوس المقاري: إن حقيقة الثالوث الأقدس أُعلِنَت في العهد القديم بطريقة مُقَنّعة، أي نصف معلنة، فشهادات العهد القديم للثالوث تكون مستعلنة وظاهرة في ضوء الإيمان المسيحي فحسب(71).

وهو مصداقٌ لتوقف الدليل على نفسه.

فإن قيل: إن الإيمان بالثالوث إنما يتم بشكل صريح بحسب الإنجيل لا التوراة، وبناء عليه لا يتوقف الإيمان بالثالوث على نفسه، بل تتضح دلالة أدلة التوراة بعد الإيمان بالثالوث بناء على نصوص الإنجيل.

نقول: حينها لا وجه للاستدلال بالتوراة على الثالوث، إنما ينتقل البحث لدلالة الإنجيل عليه، وهو ما يأتي في فصول آتية إن شاء الله.

وقد تبين عدم دلالة هذه الإشارات على ذلك.

2. الثالوث في الإنجيل

استدلَّ علماءُ النصارى على الثالوث بعدّة نصوص إنجيلية عدّوها صريحة في الدلالة على مطلوبهم، ومن أهمها:

1. الثلاثة هم واحد

استُدلّ على الثالوث بما ورد في رسائل يوحنا من أن الثلاثة: الآب والكلمة (أي عيسى) والروح القدس هم واحدٌ، ففيه: فَإِنَّ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ فِي السَّمَاءِ هُمْ ثَلاَثَةٌ: الآبُ، وَالكَلِمَةُ، وَالرُّوحُ القُدُسُ. وَهؤُلاَءِ الثَّلاَثَةُ هُمْ وَاحِدٌ(72).

بتقريب أن كونَ الثلاثة هم واحدٌ هو عين ما تذهب إليه الكنيسة من القول بالتوحيد في عين التثليث، أي توحيدٌ في الجوهر وتثليثٌ في الأقانيم.

المناقشة فيه

ويلاحظ على ذلك:

أولاً: أن نِسَخَ الانجيل مختلفةٌ في هذه العبارة، فقد وردت كما ذكرناها في عدة نسخ كترجمة (سميث وفاندايك) وترجمة (الحياة) وعددٍ قليل من النسخ الأخرى، لكن معظم ترجمات الكتاب المقدس تخلو من هذه العبارة بالكامل، فهي ليست موجودة في الترجمة الكاثوليكة ولا في اليسوعية ولا في البولسية ولا في القبطية ولا في الأخبار السارة ولا في ترجمة الشريف ولا ترجمة المعنى الصحيح، ولا في إنجيل شهود يهوه، ولا في الترجمة السهلة.

كذلك لم ترد هذه العبارة في (الترجمة العربية المشتركة) المقبولة من كافة الكنائس، وورد في الهامش ذكر هذه العبارة على أنّها (وردت في بعض المخطوطات اللاتينية القديمة).

وقد اعترف ناشد حنا أحد مفسري الأناجيل تبعاً لغيره من المفسرين بأن هذه الكلمة قد أُدخِلَت في متن الإنجيل ولم تكن منه، فقال في شرحه لها أنها كانت موضوعةً بين قوسين، ليخلص إلى قولٍ مفاده: ويظهر كما يقول المفسرون أن الكلمات: (الآب والكلمة والروح وهؤلاء الثلاثة هم واحد) كانت مكتوبةً على الهامش، وبعد ذلك الذين نسخوا أدخلوها في المتن.

ويقول المفسر وليم ماكدونالد: ينزعج بعض المسيحيين الأتقياء لدى تعلُّمهم أن أجزاء من العددين السابع والثامن بحسب ترجمتنا العربية، لم توردها سوى بعض المخطوطات اليونانية القليلة. لكن هذا لا يؤثر بشيء في صحة الكتاب المقدس.

فهذا النصُّ إذاً لم يَثبُت كونه من الكتاب المقدَّس، فلا يمكن الاستدلال به بوجه من الوجوه.

ثانياً: أنّه على فرض ثبوت هذا النص، أو تأييده بنصوص أخرى مشابهة كقول عيسى (عليه السلام) في إنجيل يوحنا: أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ(73)، فإنّ الكلام يقع في أن الوحدة هنا هل هي وحدةٌ حقيقةٌ أم وحدة مجازية؟

أمّا كونها وحدة حقيقية فمنتفٍ قطعاً لأن عيسى ليس هو الآب حتى عند القائلين بأنه هو الله (والعياذ بالله)، لأن القائل بالثالوث لا يلتزم بأن الآب هو عيسى (عليه السلام)، بل يلتزم بأن الابن هو عيسى، ويصرّح بوجود تمايز بين الأقانيم بما يمنع من كون أحدهما هو الآخر حقيقة.

فاتّفق الجميع على إرادة معنى مجازيٍّ منها، دون أن يأتوا بأيّ دليلٍ يُرشد إلى دلالتها على الأقانيم الثلاثة.

وقد يُستدل على أنّها وحدةٌ مجازيةٌ بوجوهٍ عدّة منها: أن رسالة يوحنا التي ذكرت في بعض نسخها هذه الفقرة (وَهؤُلاَءِ الثَّلاَثَةُ هُمْ وَاحِدٌ) أعقبتها بالفقرة التالية: وَالَّذِينَ يَشْهَدُونَ فِي الأَرْضِ هُمْ ثَلاَثَةٌ: الرُّوحُ، وَالمَاءُ، وَالدَّمُ. وَالثَّلاَثَةُ هُمْ فِي الوَاحِد(74)ِ.

لكن نسخ الانجيل أيضاً مختلفة في هذه العبارة، فمنها ما ورد فيه (وَالثَّلاَثَةُ هُمْ فِي الوَاحِدِ) كترجمة فاندايك، ومنها ما ورد فيه (وَهؤُلاَءِ الثَّلاَثَةُ هُمْ وَاحِدٌ) كما في ترجمة (الحياة).

ومن الواضح أن الروح والماء والدم ليسوا واحداً في الحقيقة، فلا بدّ من حمل العبارة على المجاز، فتحمل عبارة (أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ) على المجاز كعبارة الوحدة بين الثلاثة: الروح والماء والدم، المختلفون وجداناً.

أما في بعض النسخ فورد بدلاً من (هم واحد) أو (هم في الواحد) ورد (وهؤُلاءِ الثَّلاثةُ مُتَّفِقون) كما في الترجمة الكاثوليكية واليسوعية، و(على اتِّفاق) كما في الترجمة البولسية، ما يرجّح أنّه على فرض ثبوت العبارة محلّ الاستدلال فلا بُدّ من حملها على معنى يوافق هذه الترجمة، فيكون الآب والابن والروح القدس (على اتفاق) أي أن الابن والروح القدس مطيعون لله تعالى كما يقول المسلمون عن الملائكة ﴿لا يَسْبِقُونَهُ بِالقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾(75) وعن ملائكة النار أنهم ﴿عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾(76).

فيما ترجمها القمص قزمان البراموسي كما يلي: وثلاثة يشهدون في الأرض: الروح (القدس) والماء والدم، والثلاثة (شخصٌ) واحد.

فجعلهم شخصاً واحداً، وأضاف توضيحاً للروح بجعلها الروح القدس، فصار الروح القدس والماء والدم (شخصاً) واحداً بحسب ترجمته!

وقد ذهب مفسرّ الإنجيل وليم ماكدونالد إلى حملها على المساواة في القدرة، وفي كل خصائص الألوهية الأخرى، فقال: والآن، عاد المسيح يعرض تصريحاً آخر يؤكد فيه مساواته لله: «أنا والآب واحد». والمقصود هنا، على الأرجح، هو أن المسيح والآب واحد في القدرة. فالرب يسوع كان لتوّه قد تحدّث عن القدرة الحافظة لخراف المسيح. لذا، أضاف قائلاً إن قدرته تساوي قدرة الله الآب. وبالطبع، هذا يصحّ أيضاً على جميع خصائص الألوهية الأخرى. ذلك لأن الرب يسوع المسيح هو الله، بكل ما في الكلمة من معنى؛ وهو مساوٍ له من جميع الوجوه.

وقد خفي على ماكدونالد أن الحمل على الوحدة الحقيقية هنا متعذّرٌ تماماً، إذ يلزم من كون عيسى هو الله ما ينافي التوحيد الذي دلّ عليه الكتاب المقدس كما في الفصل السابق، ويلزم منه خلافُ ما يلتزم به النصارى من أن الآب غير الابن، فقوله أنّ عيسى هو الله بكل ما في الكلمة من معنى وهو مساوٍ له من جميع الوجوه مخالفٌ لما يذهب اليه النصارى من الفرق بين الآب والابن.

فضلاً عن كل ذلك، فإن التعامل مع نصّ الإنجيل بهذه الحرفية يوصلنا إلى القول بأن المؤمنين جميعاً هم الله، ففي إنجيل يوحنا عن نبيّ الله عيسى (عليه السلام): 

«وَلَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ هؤُلاَءِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا مِنْ أَجْلِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِي بِكَلاَمِهِمْ، لِيَكُونَ الجَمِيعُ وَاحِداً، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً وَاحِداً فِينَا، لِيُؤْمِنَ العَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي. وَأَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمُ المَجْدَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي، لِيَكُونُوا وَاحِداً كَمَا أَنَّنَا نَحْنُ وَاحِدٌ.

أَنَا فِيهِمْ وَأَنْتَ فِيَّ لِيَكُونُوا مُكَمَّلِينَ إِلَى وَاحِدٍ، وَلِيَعْلَمَ العَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي، وَأَحْبَبْتَهُمْ كَمَا أَحْبَبْتَنِي(77).

فإنّه دلّ على طلب عيسى أن يكون الجميع واحداً، وواحداً (فينا)، و(لِيَكُونُوا وَاحِدًا كَمَا أَنَّنَا نَحْنُ وَاحِدٌ)، فإما أن تُحمَلَ على الوحدة بين المؤمنين وبين الله تعالى وعيسى فيكون الجميع إلهاً واحداً! وإما أن تحمل على الوحدة الحقيقية بين المؤمنين فيكون كلّ المؤمنين واحداً!

والوجدان يخالف هذين الأمرين، فليس الله وعيسى والمؤمنون إلهاً واحداً، ولا يمكن أن يصيروا كذلك ولو بعد استجابة طلب عيسى، وليس المؤمنون واحداً حقيقة، فلا بدّ من حمل العبارة على المجاز، بمعنى شدة قربهم من بعضهم البعض.

وعند حمل الوحدة هنا على المجاز يكون حملها في (أنا والآب واحد) أولى وأشدّ وآكد.

ولهذا نظائر أخرى في الكتاب المقدس، فإن شئتَ قُلتَ أنها كالوحدة بين الرجل والمرأة، والتي أشرنا إليها في الفصل الأول، ووردت في العهدين: ففي سفر التكوين في قصّة خلق آدم وحواء: فَقَالَ آدَمُ: «هذِهِ الآنَ عَظْمٌ مِنْ عِظَامِي وَلَحْمٌ مِنْ لَحْمِي. هذِهِ تُدْعَى امْرَأَةً لأَنَّهَا مِنِ امْرِءٍ أُخِذَتْ». لِذلِكَ يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ وَيَكُونَانِ جَسَدًا وَاحِدًا(78).

وفي إنجيل متى: وَقَالَ: مِنْ أَجْلِ هذَا يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ، وَيَكُونُ الاثْنَانِ جَسَدًا وَاحِدًاإِذًا لَيْسَا بَعْدُ اثْنَيْنِ بَلْ جَسَدٌ وَاحِدٌ. فَالَّذِي جَمَعَهُ الله لاَ يُفَرِّقُهُ إِنْسَانٌ(79).

ومن الواضح أن ليس المراد هو كونهما جسداً واحداً حقيقيةً فهذا يخالف الوجدان، بل المراد منه شدّة القرب بينهما، مع الحفاظ على المباينة التامة بينهما، وخضوع أحدهما للآخر، ففي رسائل بطرس: كَذلِكُنَّ أَيَّتُهَا النِّسَاءُ، كُنَّ خَاضِعَاتٍ لِرِجَالِكُنَّ(80). فلا تُنَافي الوحدة المجازية بين الرجل والمرأة المباينةَ الحقيقية بينهما وخضوع المرأة لزوجها.

وكذلك يراد من كون الخالق وعيسى واحداً، فَمَن أقرَبُ لله تعالى من أنبيائه ورسله؟ ومن أشد طاعة له وامتثالاً لأوامره منهم؟

فلا تدلّ هذه النصوص على التثليث بوجه من الوجوه.

2. التعميد بالثلاثة

ذُكِرَ التعميد في الإنجيل في كلام يسوع مع الأحد عشر تلميذاً ضمن إنجيل متى:  فَتَقَدَّمَ يَسُوعُ وَكَلَّمَهُمْ قَائِلاً:«دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ، فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآب وَالابْنِ وَالرُّوحِ القُدُسِ(81).

يقول وليام ماكدونالد في شرحه: وتأتي الكلمة «اسم» في الآية 19 في صيغة المفرد. فالاسم والجوهر واحد مع أنّ الأقانيم ثلاثة: الآب والابن والروح القدس.

ويقول القس يوسف قسطة: لاحظوا أنه لم يقل "عمّدوهم بأسماء الآب والابن والروح القدس"، بل "عمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس". ولفظة "اسم" هي في المفرد، مما يدل على أن الثالوث هو إله واحد(82).

المناقشة فيه

ويلاحظ على هذا الاستدلال:

أولاً: أن هذه العبارة وإن وردت في معظم النسخ المتداولة من الإنجيل، إلا أن هناك اختلافاً في أصل وجود هذه الآية، حيث ينقل القس منسّى عن العلامة أوجين دي بليسي قوله: 

في إنجيل متى (ص28: 19) أنّ مخلصنا قال لتلاميذه: اذهبوا وتَلمِذُوا جميع الأمم وعمِّدوهم (باسم الآب والابن والروح القدس) فهذه الآية لم يروها أوسابيوس. ولكن هذا ليس سبباً لإنكارها في حين أن جميع النُّسخ الأخرى والتّرجمات قد ذكرتها(83).

ثانياً: أنّه لا دلالة في ذكر لفظ (اسم) مرة على أن الثلاثة الآب والابن والروح القدس واحدٌ، فليس هناك قاعدة لغوية تدلّ على ذلك، ولا فهمٌ عرفي يرشد إليه.

ولو كان الأمر كذلك، لما صح أن نقول: اذكر اسم أبيك وعمّك وجدّك، ولكان هذا القول خطأً فادحاً لدلالته على أنّ الأب والعم والجد واحدٌ! ولا يتوهّم متوهمٌ مثل هذا القول، فان العطف بالواو كافٍ في عدم الحاجة لتكرار لفظ (اسم) مجدداً، حيث أنها بمثابة قولنا: اذكر اسم أبيك، واسم عمّك، واسم جدّك، وليس هناك ما يلزم بالقول: اذكر أسماء أبيك وعمّك وجدّك.

وفي الكتاب المقدّس نفسه ما يؤكد ذلك، ويبطل الاستدلال بهذه الآية تماماً من جهتين:

الجهة الأولى: أنّ الكتاب المقدس ذكر آلهة متعددة ولم يذكر (الاسم) بالجمع، فقال: الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِاسْمِ آلِهَةٍ أُخْرَى(84)، وقال: ثُمَّ تَدْعُونَ بِاسْمِ آلِهَتِكُمْ وَأَنَا أَدْعُو بِاسْمِ الرَّبِّ. وَالإِلهُ الَّذِي يُجِيبُ بِنَارٍ فَهُوَ الله(85)، فلو كان الأمر كما يقولون للزم أن تكون آلهتهم كلّها إلهاً واحداً، لأنّه لم يقل: بأسماء آلهتكم، بل قال: باسم آلهتكم! بل يلزم أن تكون كل الآلهة الأخرى إلهاً واحداً، فإنه قال: باسم آلهة أخرى، ولم يقل: بأسماء آلهة أخرى.

الجهة الثانية: أنّ الكتاب المقدّس كرّر الاسم ولم يكتف بالعطف لحذفه، وكان الخطاب مع ربٍّ وإلهٍ واحد، ففي إنجيل متى: كَثِيرُونَ سَيَقُولُونَ لِي فِي ذلِكَ اليَوْمِ: يَارَبُّ، يَارَبُّ! أَلَيْسَ بِاسْمِكَ تَنَبَّأْنَا، وَبِاسْمِكَ أَخْرَجْنَا شَيَاطِينَ، وَبِاسْمِكَ صَنَعْنَا قُوَّاتٍ كَثِيرَةً؟(86). فيلزم على قولهم (من لزوم التعدُّد عند تعدد الاسم) أن يكون من تنبأؤوا باسمه مختلفاً عمن أخرجوا الشياطين باسمه، وهو باطلٌ جزماً، فالمخاطَبُ هو الله وحده.

ثالثاً: أنّ الآيات بنفسها تُثبتُ افتقار عيسى (عليه السلام) وحاجته لله تعالى، فكيف يكون واحداً مع الله؟!

فالآية الأولى تذكر قول عيسى (عليه السلام): دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ، فتُثبتُ أن ما عند عيسى من سلطان قد (دُفع) إليه وليس سلطاناً ذاتياً، أي أن القدرة التي عنده قد أُعطِيَت له، والإله لا يأخذ قدرته من أحد إنما تكون قدرته ذاتية، وإلا كان محتاجاً وكان القادرُ هو الإله الذي أقدره.

بهذه الوجوه يتبين عدم دلالة هذا النص على الثالوث بوجه.

3. روح الله مثل حمامة

ذُكرت معمودية عيسى (عليه السلام) في غيرِ إنجيلٍ، أوّلها متّى حيث ورد فيه: فَلَمَّا اعْتَمَدَ يَسُوعُ صَعِدَ لِلْوَقْتِ مِنَ المَاءِ، وَإِذَا السَّمَاوَاتُ قَدِ انْفَتَحَتْ لَهُ، فَرَأَى رُوحَ الله نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ وَآتِيًا عَلَيْهِ، وَصَوْتٌ مِنَ السَّمَاوَاتِ قَائِلاً:« هذَا هُوَ ابْني الحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ»(87).

وفي لوقا: وَنَزَلَ عَلَيْهِ الرُّوحُ القُدُسُ بِهَيْئَةٍ جِسْمِيَّةٍ مِثْلِ حَمَامَةٍ. وَكَانَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ قَائِلاً:«أَنْتَ ابْنِي الحَبِيبُ، بِكَ سُرِرْتُ»(88).

وعبّر القس لبيب ميخائيل عن هذه الآيات بقوله: هذا إعلانٌ جليلٌ تجلى فيه الثالوث المقدس بأجلى بيان(89).

ومن كلمات شرّاح الإنجيل ما ذكره وليم ماكدونالد حول آيات متّى: حقاً كانت المناسبة مهوبة، إذ كان الثالوث الأقدس متجلياً بكل أقانيمه. فالابن الحبيب كان هناك، والروح القدس كان موجوداً في شكل حمامة، وصوت الآب كان يُسمع من السماء معلنًا بركته على يسوع.

وما ذكره بنيامين بنكرتن حول نفس الآيات: أن تثليث الأقانيم الإلهية لم يعلن إعلاناُ كاملاً واضحاً قبل معمودية ربنا يسوع المسيح. لأننا نرى هنا، الآب، والابن، والروح القدس؛ مذكورين معاً، ومنتسبين بعضهم لبعض، ولكل منهم عمل. كان الابن على الأرض، الله ظاهراً في الجسد. والآب يشهد له بصوت مسموع من السماء، وروح الله نازلاً بهيئة جسمية ليستقرّ عليه.. نقدرُ أن نقول أنّ أول مرة أعلن الله فيها نفسه إعلانًا تامًا كانت هذه المرة التي أعلن فيها ذاته كالمثلث الأقانيم. لقد أعلن الله نفسه قبل ذلك من حيث الوحدة بالمباينة مع الآلهة الكاذبة الكثيرة. أما الثالوث، الكائن فلم يكن ليُعرَفَ إلا بحضور الابن، وإذا أعلن الله لنا ثالوثه الأقدس في الكتاب المقدس، وهو جوهر المعتقد المسيحي. فنحن نقبله بالإيمان، لا بالعقل ولا نبحث فيه.

وذكر في تفسيره لآيات مرقس: فالإعلان هنا واضحٌ كل الوضوح لأن الأقانيم الثلاثة ظهرت معاً، أما الابن فبدا بصورة إنسان والروح القدس بمظهر حمامة وصوت الآب اعترف بيسوع ابناً قد سُرَّ به.

المناقشة فيه

يلاحظ على هذا الاستدلال:

أولاً: أنه نوعُ إسقاطٍ لعقيدةٍ مُسبَقةٍ على نصٍّ ليس فيه أي دلالة على الثالوث.

فإنّ ذِكرَ الصوت من السماء والروح النازلة على هيئة حمامة وعيسى (عليه السلام) في نصٍّ واحد لا يتضمن أي دلالة لغوية ولا عرفية ولا عقلية على الثالوث! وقد تقدّم في الباب السابق مناقشة من استدلّ بذكر ما يشبه هذا من التوراة على الثالوث وتبيّن بطلانه.

ثانياً: أن في التوراة نصّاً يعتقد النصارى أنه يشير إلى هذه الواقعة أو معناها، حيث ورد في أشعياء ما يشير إلى نزول الروح القدس، ونصّه هو: هُوَذَا عَبْدِي الَّذِي أَعْضُدُهُ، مُخْتَارِي الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي. وَضَعْتُ رُوحِي عَلَيْهِ فَيُخْرِجُ الحَقَّ لِلأُمَمِ.. هكَذَا يَقُولُ الله الرَّبُّ، خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَنَاشِرُهَا(90).

وقد فسّرها شرّاح الإنجيل بالمسيح، فقال القمص أنطونيوس فكري: هوذا عبدي: فالمسيحُ أخذَ شكلَ العبد وغسل الأقدام.

وقال ناشد حنا: في هذا الأصحاح يحوّل الوحي أنظارنا.. إلى عبد الرب الكامل فتاه الذي سُرَّت به نفسه، ذاك الذي أخذ صورةَ عبدٍ وهو الذي لم يحسب خلسةً أن يكون معادلاً لله لكنه أخلى نفسه وإذ صار في شبه الناس كان عبداً مطيعاً لتنفيذ إرادة الله في حياته وموته له كل المجد.

وهذه الأوصاف أوصاف المسيح عندهم، والنصُّ التوراتي صريحٌ في أنّ المسيح عبد الله لا أنّه الله! فكيف يصبح هذا النص دليلاً على الثالوث؟!

لا يقال: إنه عبدٌ من جهة طبيعته الإنسانية، وربٌّ من جهة طبيعته الإلهية.

لأنّنا نقول: إنّ النصوص الكتابية خاليةٌ من مثل هذا المعنى، بل معارضةٌ له كما تقدّم.

وقد استُدِلَّ للثالوث فضلاً عما تقدّم بذكر بعض الألفاظ ثلاث مرات، وأمثال ذلك، مما لا يرى المتأملُ فيها أيّ دلالة على أقانيم ثلاثةٍ لإله واحد، غاية الأمر أنه قد ذكر فيها الله والمسيح والروح القدس، ومجرّدُ ذكرها في نصٍّ واحدٍ ظاهرٍ في التعدد لا يمكن أن يدلّ بوجه على الوحدة والأقانيم.

وقد تمت مناقشة أصل هذه الفكرة في الباب السابق فلتراجع.

3. الثالوث في القرآن الكريم

بعدما تقدّم عدم دلالة التوراة والإنجيل على الثالوث، نعرض هنا لعنوانٍ قد يفاجِئ كثيراً من القرّاء، وهو الاستدلال بالقرآن الكريم على الثالوث! فقد بالَغَ بعض علماء النصارى في تخيُّلاتهم، وتوهّموا إمكان إثبات الثالوث من القرآن الكريم! ودليلهم في ذلك قائم على مقدّمتين:

الأولى: أن القرآن الكريم قد أثبت أن عيسى (عليه السلام) هو كلمة الله، وكلمة الله لا بدّ أن تكون أزليّة.

الثاني: أن القرآن الكريم قد أثبت الروح لله، والروح لا بدّ أن تكون أزلية.

قال تعالى: ﴿إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ القَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ(91)، فأثبَتَ أن عيسى كلمة الله، وأثبت لله الروح.

وقال تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ المَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ(92).

فيصير الله أزلياً، وكلمته وروحه أزليّتان، فيثبت الثالوث: الآب والابن والروح القدس(93).

المناقشة فيه: كلمة الله وروحه

لقد أثبتت الآيات المباركة لعيسى (عليه السلام) صفتان: الأولى أنه كلمة الله، أو كلمةٌ من الله، والثانية أنه روح الله أو روحٌ من الله، وهي أجنبيةٌ عن إثبات الثالوث مهما كان معنى الكلمة والروح، لأن الوصفان معاً هما لعيسى بن مريم (عليه السلام)، أي أنّهما لشخص واحد.

نعم أثبتت آياتٌ أخرى إرسال الله الروحَ القدس لمريم (عليها السلام) وتمثُّله بشراً: ﴿فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا﴾(94)، والنفخ فيها (عليها السلام) من روح الله: ﴿فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا﴾(95)، فضلاً عن تأييد الله لعيسى (عليه السلام) بالروح القدس: ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ البَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ﴾(96).

فكان ينبغي على هؤلاء الاستدلال بالآيات الأولى لاثبات كونه كلمة الله حصراً، والاستدلال بما ذكرنا من آيات حول الروح القدس لإثبات الأقنوم الثالث وهو (الروح).

قال القديس يوحنا الدمشقي: أنتم القائلون بأن المسيح هو كلمة الله وروحه، لمَ تهينوننا (كمشركين)؟ فالكلمة والروح هما غير منفصلين عمّن يكونان فيه بالطبيعة. وإذا ما كان (المسيح) في الله من ثمّ على أنه كلمة الله، فيكون هو أيضاً الله بالتأكيد. أما إذا كان خارج الله فيكون الله بدون كلمة وبدون روح حسب رأيكم، وهكذا تشوّهون الله في تحاشيكم إشراك أحدٍ بالله(97).

والدمشقيُّ هنا وفي سائر كلماته(98) يعرض احتمالين في الكلمة والروح: فإمّا أن يكونا مخلوقين أو غير مخلوقين، متوهِّماً أنّه بهذا يُحرج المسلمين، فإن قالوا أنّها مخلوقة لزم أن يكون الله قبل خلقها بلا كلمة ولا روح، ثم بعدما خلقهما صار الله مع كلمةٍ وروحٍ، وبهذا يثبت النقصُ والتغيُّر في الله تعالى. فلا بدّ من القول بأن الكلمة والروح غير مخلوقتان وأنّهما أزليّتان، وهو معتقد النصارى.

وهو ما يخلص إليه الدمشقي في كتابٍ آخر حيث يقول: إن الله الواحد الأحد ليس بخالٍ من كلمة. وبما أن الله له كلمته فهي ليست بخالية من أقنوم. أما وجودُ الكلمة فهو لا بدء له ولا نهاية. فلم يكن زمنٌ إذاً حيث لم يكن الله الكلمة. وإن الله له كلمته مولودةٌ منه دائماً(99).

والجواب على الدمشقي نقضيٌّ وحَليٌّ:

أما الجواب النقضي: فبما أثبته الكتاب المقدّس لله تعالى، حينما جعل له تعالى أذناً وعينين ويداً وإصبعاً وأنفاً وفماً ورجلين وغير ذلك من الأعضاء البشرية.

كما أثبت له التذكُّر وحصول العلم والندم والنوم والغفوة والجهالة والضعف وغير ذلك من الصفات والأحوال النفسيّة(100).

فنقول للنصارى: هل عينُ الله ويدُه وإصبعه وسائر (أعضائه) أزلية أم مخلوقة؟

فإن قالوا أنّها أزلية، تعدّد الأزلي بعددها! أو تركّب منها، والله تعالى منزّه عن ذلك.

وإن قالوا أنّها مخلوقة، قلنا: هل كان الله بلا يد وعين ثم خلق لنفسه يداً وعيناً؟! فقد تغيّر الله تعالى وكان ناقصاً محتاجاً لما خلق!

أما الجواب الحَلّي: فهو أن النصارى مثلنا لا يقولون بأن لله أعضاء بشرية، إنما يقولون أن كل ما ذكر من صفاتٍ هي استعاراتٌ وتشبيهاتٌ نابضةٌ بالحياة، وأنّ الله منزّه عن كل تشبُّه بخلقه(101)،فليس لله أذنٌ حقيقةً كما نفهم الأذن، ولا عينٌ ولا يدٌ، وهو منزّه عن ذلك، كما أنه لا يغضب ولا ينام ولا يندم ولا يتّصف بصفاتٍ نفسيّة كما يتصف بها الخلق، وكلّ هذه معانٍ مجازية أشرنا لمعناها في محله.

وكلمة الله وروحه حالهما حال هذه الصفات، فكما أن ليس لله أعضاء بشرية ولا حالات نفسيّة مثلنا، ليس لله روحٌ ولا كلمة أزليّة، إنّما تُنسَبُ الكلمةُ والروحُ لله تعالى كما يُنسَب له الرسول: رسول الله، والكتاب: كتاب الله، والبيت: بيت الله، وأمثال ذلك، وقد بيّن الكتاب المقدّس والقرآن الكريم معاً معاني (الكلمة).

فقد أُطلِقَت الكلمة في الكتاب المقدس على عيسى (عليه السلام) وعلى كلام الله وتعاليمه، كما في رسالة يعقوب: وَلكِنْ كُونُوا عَامِلِينَ بِالكَلِمَةِ، لاَ سَامِعِينَ فَقَطْ خَادِعِينَ نُفُوسَكُمْ(102).

وقد عبّر الإنجيل عن تعاليم الله بالكلمة: وَأَمَّا كَلِمَةُ الرَّبِّ فَتَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ». وَهذِهِ هِيَ الكَلِمَةُ الَّتِي بُشِّرْتُمْ بِهَا(103). وفيه: الوَصِيَّةُ القَدِيمَةُ هِيَ الكَلِمَةُ الَّتِي سَمِعْتُمُوهَا مِنَ البَدْءِ(104).

وفي إنجيل مرقس ما يُبَيِّنُ استعمال الكلمة بمعنى مجازي، حيث تحدّث عن (زراعة الكلمة): اَلزَّارِعُ يَزْرَعُ الكَلِمَةَ(105)، وفيه: وَشَهَوَاتُ سَائِرِ الأَشْيَاءِ تَدْخُلُ وَتَخْنُقُ الكَلِمَةَ فَتَصِيرُ بِلاَ ثَمَرٍ(106). فلا الكلمةُ تُزرعُ حقيقة ولا هي تُخنق، إنها معانٍ مجازيّة بلا شك ولا ريب.

وأمّا في القرآن الكريم فكلام الله هو تعاليمُه وأمرُه وكُتُبُه وأمثال ذلك: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ الله﴾(107)، ﴿وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ الله ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ﴾(108).

وقال تعالى: ﴿وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ الله هِيَ العُلْيَا﴾(109).

أمّا تسميته (عليه السلام) بالكلمة، فلها وجوه محتملة، نقل بعضها العلامة المجلسي فقال: أحدها: أنه إنما سمي بذلك لأنه حصل بكلمةٍ من الله من غير والد، و هو قوله﴿كُنْ﴾ كما قال سبحانه: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسى‏ عِنْدَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُن‏ فَيَكُونُ﴾، والثاني: أنه سمي بذلك لأن الله تعالى بشّر به في الكتب السالفة، أو بُشِّرَت بها مريم على لسان الملائكة، الثالث: أنه يهتدي به الخلق كما اهتدوا بكلام الله ووحيه(110).

وقد قال الإمام الرضا (عليه السلام) لأبي قرّة المحدث: التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ وَالفُرْقَانُ وَكُلُّ كِتَابٍ أُنْزِلَ كَانَ كَلَامَ الله أَنْزَلَهُ لِلْعَالَمِينَ نُوراً وَهُدًى، وَهِيَ كُلُّهَا مُحْدَثَةٌ وَهِيَ غَيْرُ الله، حَيْثُ يَقُولُ ﴿أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً﴾، وَقَالَ ﴿ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ﴾، وَالله أَحْدَثَ الكُتُبَ كُلَّهَا الَّتِي أَنْزَلَهَا.

فَقَالَ أَبُو قُرَّةَ: فَهَلْ تَفْنَى؟

فَقَالَ أَبُو الحَسَنِ (عليه السلام): أَجْمَعَ المُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَا سِوَى الله فَانٍ، وَمَا سِوَى الله فِعْلُ الله، وَالتَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ وَالفُرْقَانُ فِعْلُ الله..

التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ.. كُلُّهَا مُحْدَثَةٌ مَرْبُوبَةٌ أَحْدَثَهَا مَنْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ هُدًى لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُنَّ لَمْ يَزَلْنَ مَعَهُ فَقَدْ أَظْهَرَ أَنَّ الله لَيْسَ بِأَوَّلِ قَدِيمٍ وَلَا وَاحِدٍ، وَأَنَّ الكَلَامَ لَمْ يَزَلْ مَعَهُ وَلَيْسَ لَهُ بَدْءٌ وَلَيْسَ بِإِلَهٍ(111).

وأمّا الروح، فهي روحٌ مخلوقة كالروح المخلوقة في آدم (عليه السلام)، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾(112).

وقد بيّن الإمام المعصوم جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) ما يرفع الشبهة فيه لذوي البصائر بقوله حول الآية المتقدمة عن آدم: هَذِهِ رُوحٌ مَخْلُوقَةٌ، وَالرُّوحُ الَّتِي فِي عِيسَى مَخْلُوقَة(113).

وقال حول آية عيسى (عليه السلام) ﴿وَ رُوحٌ مِنْه‏﴾: هِيَ رُوحُ الله مَخْلُوقَةٌ خَلَقَهَا الله فِي آدَمَ وَعِيسَى‏(114).

وقد روينا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: سَألتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ الله عَزَّ وَجَلَّ﴿وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾ كَيْفَ هَذَا النَّفْخُ؟

فَقَالَ: إِنَّ الرُّوحَ مُتَحَرِّكٌ كَالرِّيحِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ رُوحاً لِأَنَّهُ اشْتَقَّ اسْمَهُ مِنَ الرِّيحِ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَهُ عَنْ لَفْظَةِ الرِّيحِ لِأَنَّ الأَرْوَاحَ‏ مُجَانِسَةٌ لِلرِّيحِ.

وَ إِنَّمَا أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُ اصْطَفَاهُ عَلَى سَائِرِ الأَرْوَاحِ، كَمَا قَالَ لِبَيْتٍ مِنَ البُيُوتِ: بَيْتِي، وَلِرَسُولٍ مِنَ الرُّسُلِ: خَلِيلِي، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ.

وَ كُلُّ ذَلِكَ مَخْلُوقٌ مَصْنُوعٌ مُحْدَثٌ مَرْبُوبٌ مُدَبَّرٌ(115).

ونقل العلامة المجلسي في وجه تسمية الروح أقوالاً ستة: الأول أنه إنما سماه روحاً لأنه حدث عن نفخة جبرئيل في درع مريم بأمر الله تعالى، وإنما نسبه إليه لأنه كان بأمره، وقيل: إنما أضافه إليه تفخيماً لشأنه كما قال: الصوم لي وأنا أجزي به، وقد يسمى النفخ روحاً، والثاني: أن المراد به يحيي به الناس في دينهم كما يحيون بالأرواح، والثالث: أن معناه إنسانٌ أحياه الله بتكوينه بلا واسطة من جماع ونطفة كما جرت العادة بذلك، الرابع: أن معناه ورحمة منه، والخامس: أن معناه روح من الله خلقها فصورها ثم أرسلها إلى مريم فدخلت في فيها فصيرها الله سبحانه عيسى، السادس: سماه روحاً لأنه كان يحيي الموتى كما أن الروح يصير سبباً للحياة(116).

فليس في آيات القرآن الكريم ما يثبت كلمةً ولا روحاً أزلية، الأزليُّ هو الله وحده لا شريك له، وما ثبت من أوصافٍ في الكتب المقدسة فقد تم توضيحها فيما تقدم وفي الفصل الأول.

حُكمُ القرآن الكريم

فضلاً عن كلّ هذا، فإنّ القرآن الكريم صريحٌ في حكمه على من قال بألوهيّة عيسى، قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ الله هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ(117)،  ثم يُبَرِّئ الله تعالى نبيّه من هذا المعتقد الفاسد في نفس الآية بقوله: ﴿وَقَالَ المَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِالله فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾.

ثم يعرّج على عقيدة الثالوث التي يؤمن بها النصارى: ﴿لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(118).

وفي نص آخر يوجه الخطاب لأهل الكتاب: ﴿يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحَقِّ إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ القَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِالله وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا الله إِلَـهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِالله وَكِيلاً﴾(119).

وفي آيةٍ أخرى قال تعالى: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ الله وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ الله ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ الله أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾(120).

والمُضَاهَاةُ والمضاهأة: المشاكلة(121)، أو مشاكلة الشي‏ء الشي‏ء(122)، أو المشابهة: يقال: ضَاهَيْتُهُ: إذا فعلتُ مثل فعله (123)، فقولُ اليهود والنصارى مثل قول الذين كفروا من قبل.

ويُناسِبُ التعبير في الآية الشريفة ب﴿قَاتَلَهُمُ الله﴾ لمكان الكفر، وقد ورد في الحديث الشريف عن سيّد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم عاشوراء: لَمَّا زَحَفَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ إِلَى الْحُسَيْنِ (عليه السلام) ضَرَبَ يَدَهُ عَلَى لِحْيَتِهِ وَقَالَ: اشْتَدَّ غَضَبُ الله عَلَى الْيَهُودِ إِذْ جَعَلُوا لَهُ وَلَداً، وَعَلَى النَّصَارَى إِذْ جَعَلُوهُ ثَالِثَ ثَلَاثَةٍ، وَعَلَى الْمَجُوسِ إِذْ عَبَدُوا الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دُونَهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ عَلَى قَوْمٍ اتَّفَقَتْ عَلَى قَتْلِ ابْنِ بِنْتِ نَبِيِّهِمْ(124).

وخلاصة القول: أن القرآن الكريم حكم بالكفر على القائل بالثالوث، وذلك بعناوين عدّة:

أوّلها: كفر القائل بأن الله ثالث ثلاثة.

وثانيها: كفر القائل بأن المسيح ابن الله، بل كل قائل بأن لله ابناً وولداً.

وثالثها: كفر القائل بأن الله هو المسيح بن مريم.

وأمّا كونُه (عليه السلام) كلمةَ الله وروحَه فهو لا يدلّ على أزليّته، بل كلمة الله وروحه هو معنى مجازيّ لامتناع نسبة الكلام لله تعالى ككلام المخلوقات، والروح كالروح التي بثّها فيهم، وإنّما يرادُ منه بعضَ مخلوقاته تعالى كما تقدّم، كما أريد بعين الله ووجهه ويده وأمثال ذلك.

ملاحظات وإشكالات

إذا تبيّن ذلك فإن ههنا إشكالات عدة على ما ذهبنا إليه، هذا بيانها وجوابها:

1. الكلمة شخص إلهي: ابن عربي

يقول الأرخن أ. حلمي القمص يعقوب حول آية: ﴿ان الله يبشرك بكلمة منه﴾: ليس المقصود بالكلمة هنا صوتاً لفظياً إنما شخصاً إلهياً، وقد أوضح الشيخ محي الدين العربي هذه الحقيقة فقال: الكلمة هي الله متجلياً.. وهي عين الذات الإلهية لا غيرها. وقال أيضاً: الكلمة هي اللاهوت(125).

فهو بهذا يفسّر الكلمة بأنّها (شخصٌ إلهي)، ويستشهد بكلمات الشيخ محيي الدين ابن عربي وأن الكلمة هي الله تعالى.

المناقشة فيه

يلاحظ على كلماته:

أولاً: أنّه لم يُقِم دليلاً على أن المراد من الكلمة هو (شخصٌ إلهي)، وعليه فالكلام دعوى تفتقد لأي دليلٍ يدل عليها.

ثانياً: أنه قد استشهد بكلمات ابن عربي، وذكر لذلك مصدراً هو (نصوص الحكم ج2 ص35، وص134)، ويُفترض أنه يقصد كتاب (فصوص الحكم) لابن عربي، وهو خالٍ من هذه العبارة بعد البحث والمراجعة.

ولا ينبغي أن يكون مراده هو (نصوص الحكم) فعلاً فهو كتاب يُسمّى (نصوص الحكم بر(126) فصوص الحكم) ألّفه الشيخ حسن زاده آملي حول كتابٍ آخر يدعى (فصوص الحكم) للفارابي، وهو خالٍ من هذه العبارة على كل حال. فلم تثبت نسبة هذا الكلام لابن عربي.

ثالثاً: أن في كتب ابن عربي ما يشير إلى خلاف هذا النقل ولو لم يكن صريحاً في ذلك، منها قوله: فنفخ فيها في ذلك الحين عيسى: فكان جبريل ناقلًا كلمة الله لمريم كما ينقل الرسول كلام الله لأمته، وهو قوله: ﴿وَكَلِمَتُهُ القاها إِلى‏ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾.. فخرج عيسى يُحْيِي الموتى لأنه روحٌ إلهي، و كان الإحياء لله والنفخ لعيسى، كما كان النفخ لجبريل والكلمة لله‏(127).

فجعل كلمةَ الله منقولةً من جبرائيل كما ينقل الرسولُ كلام الله لأمته، وجعل إحياءَ الموتى من الله وإن كان النفخُ من عيسى، فنسب لله صفات الربوبية ولعيسى صفات المخلوقين.

رابعاً: حتى على فرض صحة هذه النسبة، فان ابن عربي ليس حجة على المسلمين جميعاً، إذ أنه نحى منحىً صوفياً يراه كثيرٌ من المسلمين منحرِفاً عن طريق الحقّ، وقد بيّنا انحراف ابن عربي وخروجه عن الدين أثناء مناقشة بحث وحدة الوجود والموجود في كتاب (عرفان آل محمد ^) فليراجع.

فلا يصح الاحتجاج علينا بابن عربيٍّ ونحن نراه منحرفاً عن الدين خارجاً عن ملة المسلمين.

2. كلمة الله هو الله وابن الله

يقول عوض سمعان: تدل تسميته ب(كلمة الله) على أنه هو الذي يُعلن الله، وبما أنه لا يعلن الله إلا الله، يكون كلمة الله هو (الله)، أو (الله ظاهراً)(128).

فيما يقول الأرخن أ. حلمي القمص يعقوب عند حديثه عن موقف الاسلام من المسيح: من يكون أباً لمن وصفه القرآن أنه كلمة الله وروح الله إلا الله ذاته؟(129). ويقول: من هو أبوه؟ وابن من هو؟ انه ابن الله، ولا أحد يستطيع أن يقول غير هذا(130).

فقال الأول: بما أنّه كلمة الله أي المعلِن عن الله، فيكون هو الله!

وقال الثاني: بما أنه كلمة الله وروحه فهو ابن الله!

المناقشة فيه

وهذا الاستدلال أقرب إلى الطُرفة، فإنه عند الأول يقوم على مقدّمتين:

الأولى: أن كلمة الله هي التي تُعلِنُ عنه.

الثانية: أنه لا يُعلِنُ الله إلا الله.

النتيجة: كلمة الله هو الله!

ويلاحظ أن المقدَّمة الثانية فاسدةٌ، فإنه لا يعلن عن الله إلا الله أو من اختاره الله، كملائكته وأنبيائه ورسله، فقد نسب الكتاب المقدّّس إلى موسى (عليه السلام) الإعلان عن الله: فَوَضَعُوهُ فِي المَحْرَسِ لِيُعْلَنَ لَهُمْ عَنْ فَمِ الرَّبِّ(131).

وقد استعمل الإنجيل لفظ الإعلان في الإعلانات البشرية، فينسب بولس في رسائله الإعلان للناس: فَمَا هُوَ إِذًا أَيُّهَا الإِخْوَةُ؟ مَتَى اجْتَمَعْتُمْ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ لَهُ مَزْمُورٌ، لَهُ تَعْلِيمٌ، لَهُ لِسَانٌ، لَهُ إِعْلاَنٌ، لَهُ تَرْجَمَةٌ(132)، ثم يُثبتُ تعدُّدَ إعلانات الرب: إِنَّهُ لاَ يُوافِقُنِي أَنْ أَفْتَخِرَ. فَإِنِّي آتِي إِلَى مَنَاظِرِ الرَّبِّ وَإِعْلاَنَاتِهِ(133)، فثبتَ أن لله إعلاناتٍ متعددةٍ منذ زمن موسى (عليه السلام) إلى زمن عيسى (عليه السلام)، وإن كان الله واحداً بحسب الإنجيل.

أما الاستدلال عند الثاني فيقوم على مقدّمتين أيضاً:

الأولى: أن عيسى روح الله وكلمته.

الثانية: أن من كان روح الله وكلمته فهو ابن الله.

النتيجة: عيسى هو ابن الله.

ويلاحظ على هذا الاستدلال أمران:

الأول: أنّ المقدّمة الثانية فاسدة، فلا دليل على أبوّة الله لكلمته وروحه، فضلاً عن قيام الدليل المتقدم على أن المراد بالكلمة والروح هو معنى مجازيٍّ لتنزُّه الله تعالى عن المشابهة بخلقه وعن أن يكون له روحٌ كروحهم وكلامٌ ككلامهم.

الثاني: أنه على فرض التنزُّل والقول بأنه ابن الله (تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً)، فإن هذا لا يدل (عند من يعتقد بالكتاب المقدس) على ألوهيّته، وسيأتي بحث ذلك في الفصل القادم إن شاء الله.

3. لا بدّ من روحٍ لكلمة الله

لمّا حاول بعض النصارى الاستدلال بالقرآن الكريم على الثالوث لإثباته الكلمة والروح لله تعالى، ولّما كان قد ثبت أن عيسى هو الكلمة وهو الروح، فعلى فرض تمامية دليلهم سيكون القديم مُثَنَّى لا مُثَلَّثَاً، لأنّ الكلمةَ والروحَ واحدٌ، بينما يريدون اثبات التمايز بينهما ليثبت التثليث.

لذا ذهب القدّيس يوحنا الدمشقي إلى أنه لا بدّ من أن يكون (للكلمة روحٌ) فقال: ويجب أيضاً أن يكون للكلمة روحٌ، فإن كلمتنا أيضاً لا تخلو من روح.. وينبغي الاعتراف اعترافاً تَقيّاً بوجودِ روح الله أيضاً في طبيعته الإلهية البسيطة وغير المركبة. لئلا يبدو الكلمةُ أنقَصَ من كلمتنا، وليس من التقوى أن نقول بأن الروح شيءٌ غريبٌ عن الله ومستورَدٌ إليه من خارج، شأنه شأن روحنا نحن المركبين.. وعلى هذا النحو، فبالوحدة في الطبيعة الإلهية يزول ضلال كثرة الآلهة، وبالاعتقاد بالكلمة والروح يزول رأي اليهود. ويبقى ما هو مفيدٌ من كلا المعتقدين: فمن الفكرة اليهودية وحدة الطبيعة، ومن الفكرة الإغريقية التمييزُ في الأقانيم وحده(134).

المناقشة فيه

ويلاحظ على كلامه:

أولاً: أنه يتحدث عن دينٍ مركّب من يهودية وإغريقيّة، دون أيّ دليل لا من العقل ولا من النقل.

ثانياً: أنّه لا وجه للقول بلزوم ثبوت الروح والكلمة من باب قياسها على الإنسان، لأن العقل يأبى كما الكتاب المقدّس قياس المخلوقات بالله أو تشبيه الله بمخلوقاته، وقد تقدّمت النصوص حول نفي التشبيه في الفصل السابق فليراجع.

ثالثاً: أنه يلزم من هذا القول لوازمُ فاسدةٌ باطلة، وإذا فسد اللازم فسد الملزوم، وما يلزم منه هو إثبات النفس والعقل والغضب والفرح والتطور والتبدل والتغيُّر لله تعالى ولكلمة الله، لئلا يبدو الله أو كلمته أنقص من كلمتنا!

بل يلزم أن يكون لله صوتٌ مسموع وأدوات يخرج بها وأمثال ذلك مما يتصف به الإنسان. وهذا باطلٌ بالاتفاق.

4. إشكالية التكفير

ههنا إشكالٌ يطرحه بعض النصارى وبعض من يطيب لهم تسمية المتنوّرين والمتحضّرين، وهو أن أسلوب التكفير عقيمٌ لا يتناسب وقانون التعايش بين الأديان، بل إن التكفير خاطئ من أساسه، لأنّه يعني النظر إلى الآخرين بأعيُنِنَا، فيما ينبغي النظر إليهم بأعينهم، فلا يصح القول بأن النصارى كفّارٌ لأنّهم باعتقادهم قائلون بالتوحيد، ويعتقدون أن التثليث هو (التوحيد الجامع) الذي يبيّن حقيقة عقيدة التوحيد. وعليه فلا يصح وصف القائلين بالتثليث بالكفر كما وصفهم القرآن الكريم.

المناقشة فيه

ويلاحظ على هذا الإشكال أمور:

أولاً: أن الكُفر بحسب اللغة هو نقيض الإيمان وضده، ففي كتب اللغة: الكُفْرُ: نقيض الإيمان(135)، سمِّي لأنّه تَغْطِيَةُ الحقّ(136).. الكُفْرُ: ضدُّ الإيمان(137)، فعندما يصف المسلمُ النصرانيَ بالكفر إنما يصفه بأنه غير مؤمن، لأن عقيدته لا توافق عقيدة المسلم في الإيمان، فالمسلم يؤمن بالله الواحد، والنصراني يؤمن بالله الواحد المثلث الأقانيم أي الأشخاص، فالعقيدة مختلفةٌ، وكلٌ منهم يؤمن بإلهٍ مختلفٍ عمّن يؤمن به الآخر، وكافرٌ بالإله الذي يؤمن به الآخر.

ثانياً: أن النصارى أنفسهم يصفون المخالف لهم بالكفر، فلا معنى لإشكالهم، لأنه يلزم منه أن يكفوا عن وصف كل مخالفٍ لهم في الدين بالكفر، ولو كان كافراً متجاهراً بكفره.

وقد وصف القديس كيرلّس تعاليم نسطوريوس بأنها: ممقوتة وكفريّة(138).

ولا يُعدم المتابع للإرث المسيحي عشرات النصوص المشابهة التي تتضمن تكفيراً لمن لا يعتقد بالديانة المسيحية كلاً أو بعضاً.

5: القرآن لا يذم عقيدة النصارى

وهو على النقيض من الإشكال السابق، وخلاصته أن القرآن الكريم وآيات ذمّ الثالوث إنّما تريد التعريض بعقيدةٍ مختلفةٍ عن عقيدة النصارى، بل يشترك النصارى مع المسلمين في البراءة منها، وهي القول بالآلهة الثلاثة، والحال أن النصارى لا يقولون بآلهة ثلاثة بل يقولون بإلهٍ متعدّد الأقانيم.

وقد صرح بهذا جمعٌ من علماء النصارى، منهم القمص سرجيوس حين قال: الآيات القرآنية.. لا تنصَبُّ على النصارى، بل هي كانت مقولة عن أصحاب البدع التي ظهرت قبل محمد، أولئك الذين كانوا يعتقدون بأن الله ثالث ثلاثة، والذين كانوا يعتقدون بإلهين إله الخير وإله الشر، والذين كانوا يعتقدون أن مريم العذراء أقنوم ثالث مع الأب والابن(139).

وقال: لا، لا يا قوم، ان التثليث القائم في أذهانكم والذي ندّد به القرآن، واعتبر القائلين به كفاراً ومثواهم النار ليس هو تثليث النصارى القائلين: ان الله واحد مثلث الأقانيم(140).

ويقول عوض سمعان: يظن كثيرٌ من الناس أن الإسلام ينتقد عقيدة التثليث، ولكن التثليث الذي ينتقده ليس تثليث المسيحية.. بل هو تثليث آخر ابتدعه الهراطقة الذين ألّهوا العذراء وأنكروا لاهوت المسيح..

تثليث المسيحية.. لا يراد به أن الله ثالث ثلاثة، بل يراد به أنه هو ذات الثلاثة. وهؤلاء الثلاثة الواحد في الذاتية ليسوا هم المذكورين في القرآن.. ولا يوجد مسيحيٌّ واحدٌ يؤمن بالبدعة التي ذكرها القرآن أو يطيق سماعها، لأن جميع المسيحيين يؤمنون أن لا إله إلا الله، ومن قال غير ذلك فهو في نظرهم مشرك بعيد كل البعد عن الله(141).

كذلك ذكر القمص إبراهيم لوقا(142) وغيره.

المناقشة فيه

والجواب على هذا الإشكال من جهتين:

الجهة الأولى: أنّه تفسيرٌ بما لا يرضى به صاحبه، وبما يخالف الظاهر دون أي شاهد أو قرينة.

أما كونه بما لا يرضى به صاحبه، فلصراحة موقف القرآن الكريم بالحكم على النصارى بالكفر كما تقدّم، كقوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ الله هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ(143)، ﴿لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ(144).

والآية الأولى تشمل النصارى لقولهم بأنّ المسيح هو الله، والآية الثانية تشملهم لأنهم قائلون بأن (الله ثالث ثلاثة) لأنّه عندهم ثلاثة أقانيم، والأقانيم إما تشخُّصاتٌ أو صفاتٌ أو أشخاصٌ، وكلّه تعدُّدٌ في الله، فيكون ثالث ثلاثة.

الجهة الثانية: أن كثيراً من علماء النصارى أقرّوا بموقف الإسلام من الثالوث والعقيدة المسيحية، وأقرّوا بإنكار الإسلام دعوة التثليث، منذ أيام الإسلام الأولى.

ومن هؤلاء أحد آباء الكنيسة الكبار المعاصر للنبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، الاب صفرونيوس بطريرك القدس، فإن ولادة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت في عام الفيل، وهو يوافق بحسب التاريخ الميلادي سنة 570-571 م.  أي بعد حوالي 10 أو 20 سنة من ولادة الاب صفرونيوس(145)، وكانت بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في سنة 610 للميلاد، أي قبل وفاة صفرونيوس ب28 عاماً، واستشهد (صلى الله عليه وآله وسلم) سنة 632 للميلاد.. أي قبل وفاة الاب ب6 أو 7 سنوات..

ما يعطي لكتاباته أهميةً كبيرةً كونها قد كُتبت في عصر النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويظهر من كلماته إشارةٌ إلى بدء انتشار الاسلام في مصر في أيامه حينما كان مقيماً فيها، وتحذيرُه من الدعوة الجديدة للتوحيد حيث يقول: أما وقد دَخَلَت بلادَ مصر دعوةٌ جديدةٌ للتوحيد، تُنكر الثالوث، فقد تعيَّن علينا أن نقول لكلّ المؤمنين بالمسيح، إنه لا خلاص لنا بدون تمايُز أقانيم الثالوث. هذه هي دعوة إنجيل ابن الله ربنا يسوع المسيح لنا. وكل الذين يقبلون التوحيد الجديد، هم ينكرون نعمة وسُكنى الروح القدس، كما يُنكرون تجسُّد إبن الله، وصلبه وقيامته، فهذه الإعلانات الإلهيّة هي التي أعطت لنا الإيمان بالثالوث القُدّوس.. فإننا لا نقبل هذا التوحيد لأنه يُنكر نعمة الخلاص، ويُنكر علينا هبة الحياة الأبدية(146).

وفي كلامه ردٌّ على كافة القساوسة المتأخرين الذين يزعمون أن الإسلام لم يُنكر على النصارى قولهم بالثالوث، بل التزم به أو سكت عنه، أو أنه كان يواجه فرقةً خاصةً منحرفةً تحاربها المسيحية.

فإن قيل: لعل كلماته ناظرةٌ إلى الدعوة الآريوسية لا إلى الإسلام، إذ يقول في كلماته: ودراسة البدعة الأريوسية تُعلِّمنا أن التوحيد غير المثلث لا يحفظ للإنسان صورة الله التي فيه، لأن الإنسان إذا عاش على الأرض ولم يتشبَّه بخالقه فهو لا ينال إلا وجوداً مُزيَّفاً كاذباً فيه ألوهة كاذبة.. وهكذا يؤدي إنكار الثالوث إلى إنكار كل تعليم عن النعمة(147).

كان الجواب: أن آريوس قد عاش من حوالي سنة 250 الى 336، أي قبل وفاة صفرونيوس بثلاثة قرون، فلم تكن دعوته حينها دعوةً جديدةً كالدعوة التي يحذر من دخولها مصر، بل كانت قد شارفت على الاندثار، وما كانت هناك دعوةٌ توحيديةٌ جديدةٌ في تلك الأيام إلا دعوة الإسلام.

ثم إن دعوة آريوس لم تدخل مصر، ولو بعد ثلاثة قرون، بل انطلقت من مصر للعالم حيث كان آريوس مستقراً في الإسكندرية.

وقد تبعَ الابَ صفرونيوس في بيان موقف الإسلام من النصرانية القديسُ يوحنا الدمشقيّ، حينما صرّح بأنّ اللاهوت القرآني بتعبيره يرى عيسى مخلوقاً وعبداً لله، حيث يقول: اللاهوت القرآني.. يقول إنه يوجد إلهٌ واحدٌ خالقٌ لكلّ الأشياء، وإنّه لم يولد ولم يَلِد. والمسيح بحسب رأيه هو كلمة الله وروحه، بَيدَ أنّه مخلوقٌ وعبدٌ وُلِدَ دونما زَرعٍ من مريم أختِ موسى وهارون! وهو يقول في الواقع إن كلمة الله وروحه قد دخلا في مريم وولدا يسوع الذي كان نبيّاً وعبداً لله(148).

فهو قد اعترف بأن الإسلام يُنكر عقيدة النصارى، لكن تَبَيّنَ من كلامه جهلُه الهائل بالقرآن الكريم والكتاب المقدس وبالتاريخ، حيث جعل مريم (أخت موسى وهارون) هي أم عيسى! والسبب في ذلك هو أن التوراة ذكر أن (عمران) هو والد موسى وهارون(149)، وأن مريم شقيقتهما(150)، ولمّا كان القرآن الكريم قد ذكر أن السيدة مريم (عليها السلام) والدة عيسى هي ﴿مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ﴾(151)، وقد وصفها القوم بأنها (أخت هارون): ﴿ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا﴾(152)، صارت عنده مريم (عليها السلام) أمّ عيسى هي أخت موسى وهارون (عليهما السلام)! مع الفارق الزمني الكبير بين زمن موسى (عليه السلام) وزمن عيسى وأمّه (عليهما السلام).

وَوَحدَةُ اسم الأب مع لفظ (أخت هارون) جعله يضطرب في التاريخ اضطراباً، وقد غفل عن أن هناك أسباباً عدة مُحتملة عند العرب خلف استعمال لفظ (أخت هارون) في مريم (عليها السلام)، منها: قوله تعالى: ﴿يا أُخْتَ هارُونَ‏﴾ أي شبيهته في الزهد والصلاح، وكان رجلاً عظيم الذِّكر في زمانه. وقِيلَ: كَانَ لِمَرْيَمَ أَخٌ يُقَالُ لَهُ هَارُونُ(153).

هذا لو كان كلام القوم على سبيل المدح، أما لو كان على سبيل الاتهام فيُحتَمَلُ إرادتهم: أَنَّ هَارُونَ كَانَ رَجُلًا فَاسِقاً زَانِياً فَشَبَّهُوهَا بِه(154).

قال السيد المرتضى: و على قول من قال إنّه كان أخاها يكون معنى قولهم: إنك من أهل بيت الصلاح و السداد؛ لأن أباك لم يكن امرأ سَوء، و لا كانت أمك بَغيّا، و أنت مع ذلك أخت هارون المعروف بالصلاح و العفة، فكيف أتيتِ بما لا يُشبِهُ نَسَبَكِ، و لا يُعرَفُ من مثلك!(155).

هذا مبلغُ الدمشقيّ من العلم، وقد كرَّرَ إقرارَه بموقف الإسلام من النصرانية عددٌ من البطاركة اللاحقين كالبطريرك اغناطيوس الرابع هزيم: بطريرك أنطاكية حين قال:

لقد رأى يوحنا الدمشقي وأتباعُه في الإسلام هرطقة يهودية مسيحية. أما الإسلام فيعتبر أن مَجمع نيقية حرّف الإنجيل إذ جعل المسيح شريكاً في الألوهية. إنه يعتبر المسيح حقاً (خاتم القداسة) لكنّه يؤكد على أنه ليس إلا نبيّاً، وهو لم يعرف الصلب. كما يشدّد على أن الله لم يتّخذ له ولداً، وأن المسيحيين لم يفهموا معنى إنجيلهم(156).

وقد أقرّ ثاوذورس أبو قرة النصراني المعاصر لإمامنا الرضا (عليه السلام)(157) باختلاف العقيدة بين النصارى والمسلمين بقوله: آخرون قالوا: واحدٌ صمد، لم يلد ولم يولد. هكذا وصف هؤلاء الله، ولكنهم لم يصيبوا صفته. نقول: إن صفاتهم من الأرض، ومن غير الله، وَصِفَةُ الإنجيل وحده من عند الله(158).

ولمّا قَصَرَ أبو قرّة الحق على الإنجيل وحده، فإنّه على فرض التسليم بدلالة الإنجيل على ما يذهبون إليه، يَرِدُ عليه أنّ التوراة موافقٌ للقرآن الكريم في تنزيه الله تعالى عن المشابَهَة بخلقه وعن التثليث، وهو مُتَقَّدِمٌ على الإنجيل، وهم يعتقدون أنه كتابٌ سماويٌّ إلهي.

فلو كان القول بأنّه واحدٌ صمدٌ لم يلد ولم يولد يعني أن الكتاب ليس سماوياً، للزم أن لا يكون التوراة الذي يؤمنون به سماوياً.

إن قيل: إن التوراة أثبت البنوّة ففيه (ابن الله وابناؤه).

قلنا: إن التوراة لم يثبت البنوّة لعيسى على نحو الأزلية، بل أثبَتَها لكلّ الناس بمعنى الخلق والنعمة أي أنّهم أبناء الله بمعنى مخلوقاته وما شابه مما تقدّم وسيأتي.. وعليه فإن الفكر السماوي في التوراة صار أرضياً عندهم.

ولأبي قرّة(159) هذا قصّةٌ مع إمامنا الرضا (عليه السلام)، فقد عُبِّر عنه في رواياتنا بأنه (صاحب الجاثليق)، واسمه بحسب احدى الروايات الآتية (يوحنا)، ولعلّ له أسماء متعددة، فقد دخل على إمامنا (عليه السلام) ليناظره، ففي الرواية: عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيَى صَاحِبِ السَّابِرِيِّ قَالَ: سَأَلَنِي أَبُو قُرَّةَ صَاحِبُ الجَاثَلِيقِ أَنْ أُوصِلَهُ إِلَى الرِّضَا (عليه السلام) فَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ (عليه السلام): أَدْخِلْهُ عَلَيَّ.

فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَبَّلَ بِسَاطَهُ وَقَالَ: هَكَذَا عَلَيْنَا فِي دِينِنَا أَنْ نَفْعَلَ بِأَشْرَافِ أَهْلِ زَمَانِنَا.

ثُمَّ قَالَ: أَصْلَحَكَ الله، مَا تَقُولُ فِي فِرْقَةٍ ادَّعَتْ دَعْوَى فَشَهِدَتْ لَهُمْ فِرْقَةٌ أُخْرَى مُعَدِّلُونَ؟

قَالَ: الدَّعْوَى لَهُمْ.

قَالَ: فَادَّعَتْ فِرْقَةٌ أُخْرَى دَعْوَى فَلَمْ يَجِدُوا شُهُوداً مِنْ غَيْرِهِمْ.

قَالَ: لَا شَيْ‏ءَ لَهُمْ.

قَالَ: فَإِنَّا نَحْنُ ادَّعَيْنَا أَنَّ عِيسَى رُوحُ الله وَكَلِمَتُهُ ألقَاهَا فَوَافَقَنَا عَلَى ذَلِكَ المُسْلِمُونَ، وَادَّعَى المُسْلِمُونَ أَنَّ مُحَمَّداً نَبِيٌّ فَلَمْ نُتَابِعْهُمْ عَلَيْهِ، وَمَا أَجْمَعْنَا عَلَيْهِ خَيْرٌ مِمَّا افْتَرَقْنَا فِيهِ.

فَقَالَ لَهُ الرِّضَا (عليه السلام): مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: يُوحَنَّا.

قَالَ: يَا يُوحَنَّا إِنَّا آمَنَّا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ (عليه السلام) رُوحِ الله وَكَلِمَتِهِ الَّذِي كَانَ يُؤْمِنُ بِمُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم) وَيُبَشِّرُ بِهِ وَيُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ عَبْدٌ مَرْبُوبٌ، فَإِنْ كَانَ عِيسَى الَّذِي هُوَ عِنْدَكَ رُوحُ الله وَكَلِمَتُهُ لَيْسَ هُوَ الَّذِي آمَنَ بِمُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم) وَبَشَّرَ بِهِ وَلَا هُوَ الَّذِي أَقَرَّ لِلهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالعُبُودِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ فَنَحْنُ مِنْهُ بُرَاءُ. فَأَيْنَ اجْتَمَعْنَا؟

فَقَامَ وَقَالَ لِصَفْوَانَ بْنِ يَحْيَى: قُمْ، فَمَا كَانَ أَغْنَانَا عَنْ هَذَا المَجْلِسِ(160).

وقال (عليه السلام): أَنَا مُقِرٌّ بِنُبُوَّةِ عِيسَى وَكِتَابِهِ وَمَا بَشَّرَ بِهِ أُمَّتَهُ وَأَقَرَّ بِهِ الحَوَارِيُّونَ، وَكَافِرٌ بِنُبُوَّةِ كُلِّ عِيسى لَمْ يُقِرَّ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم) وَبِكِتَابِهِ وَلَمْ يُبَشِّرْ بِهِ أُمَّتَه(161).

ويظهر أن أبا قرّة هذا قد استفاد من هذه المناظرة لا لاثبات الحق، بل لمحاججة اليهود، إذ أن ما أورده على إمامنا الرضا (عليه السلام) يمكن أن يورده اليهود بعينه على النصارى، وعلى مبنى أبي قرّة ينبغي على النصارى أن يتّبعوا موسى (عليه السلام) ويتركوا دينهم لأن دين موسى  (عليه السلام) مُجمَعٌ عليه بينهم وبين اليهود، ويظهر أن أبا قرّة قد تنبّه لذلك بعد جواب إمامنا الرضا (عليه السلام)، فسطّر في كتابه ما يشبه استدلال الامام عليه، ولكنه استفاد منه مقابل اليهود، فقال:

إنّه من قبل تثبيت العقل، لم يكن عندنا موسى مقبولاً أنّه من عند الله.. لسنا نقبل من وجه العقل ديناً من عند الله إلا الإنجيل وحده..  حيث عرفنا أن الإنجيل من الله وقبلناه وصدقنا جميع ما فيه، أخبرنا الإنجيل أن موسى والأنبياء المسمّين.. من الله بُعثوا فصدّقناه وقبلناهم(162).

وقال: لولا الإنجيل لم نصدّق موسى أنه من الله.. كذلك صدّقنا الأنبياء أنهم من عند الله، من قِبَلِ الإنجيل وليس من العقل (163).

قال الأب الدكتور أغناطيوس ديك عن أبي قرّة أنّه: من تلاميذ يوحنا الدمشقي(164). وقال: بعض المخطوطات.. تنسب إلى شمعون وهو أبو قرة اسقف نصيبين وحرّان مناظرة لاهوتية مع أمير المؤمنين هارون الرشيد(165). وقال: أما الحوار مع أئمة المسلمين في حضرة المأمون، فهو على ما يبدو واقعيٌّ تاريخيّ(166). ويشير إلى مخطوطاتٍ سريانية(167) لم نتمكن من الإطلاع عليها لمعرفة ما ذُكر فيها من حوارٍ عند المأمون، لكنّنا روينا مناظرةً جرت عند المأمون اجتمع فيها جملةٌ من علماء الأديان والمذاهب، أفحم الجميعَ فيها إمامُنا الرضا (عليه السلام)، بمن فيهم (الجاثليق)، فهل كان هو أبو قرّة نفسه؟ أم أنه كان (صاحب الجاثليق) ونسبت له المناظرة باعتباره ناقلها، فهذا ما لم يتضح لنا تماماً، ويأتي ذكرُ بعض فقراتها.

وبالعودة إلى كلماته في الإقرار بموقف الإسلام، نجدُ أن جمعاً من علماء النصارى قد تابع صفرونيوس ويوحنا الدمشقي وأبي قرة، منهم القسّ عطا ميخائيل حينما يقول: بدعة شهود يهوه.. أقرب إلى الإسلام منه إلى المسيحية، مع كل احترامي للدين الإسلامي المعتَرَف به كدينٍ مُستقلٍّ بذاته له كتابه وله نبيّه.. ينكر شهود يهوه الثالوث الأقدس، والإسلامُ ينكره أيضاً: (لقد كفر الذين قالوا ان الله ثالث ثلاثة) (سورة المائدة 73) ينكر شهود يهوه أن يسوع المسيح هو الله والإسلام ينكر ذلك أيضاً: (لقد كفر الذين قالوا أن الله هو المسيح ابن مريم) (سورة المائدة 72)(168).

حتى المفرط من الباحثين في اتّهام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن إسلامه منبثق عن المسيحية، وأنّه طائفة نصرانية لا دين جديد(169)، يقرّ بأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أنكر الثالوث والفداء جملةً وتفصيلاً، يقول بسّام فرجو: ان ألوهية المسيح وحقيقة الثالوث الأقدس وعقيدة الفداء هي من المُسَلَّمات عند كافة الفرق المسيحية في بلاد الشام. ولمّا كان محمد قد أنكر هذه المعتقدات جملة وتفصيلاً، لا يجوز القول بتأثير مسيحية الشام عليه(170).

ويقول الأب سليم دكاش اليسوعي: الإسلام، الدين الجديد رأى في عقيدة التثليث وهي في جوهر الإيمان المسيحي، محاولةً إنسانيةً لإدخال الشرك في وحدانية الله(171).

واعترف القس الدكتور لبيب ميخائيل بما اعترف به هؤلاء أيضا حينما قال أن النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): دخل مع المسيحيين في صراع رهيب.. واتهمهم بالكفر والشرك.. وأنكر وحدانية الله الجامعة(172).

إذاً أقرّ أكثرُ علماء النصارى بإنكار الإسلام التثليث، مع دلالة القرآن على هذا الإنكار جلياً، فلا يعبأ بإشكال بعض علمائهم المتقدم ذكره.

6. إلهنا وإلهكم واحد! الإسلام لا يحارب الثالوث!

قد يقال بأنّ القرآن الكريم يقرّ النصارى على عقيدة الثالوث، لأنّه يصرّح بأن إله المسلمين وإله النصارى واحدٌ، ولمّا كان إله النصارى قائماً بالثالوث، كان إله المسلمين كذلك.

ففي القرآن الكريم: ﴿وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلٰهُنَا وَإِلٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(173).

المناقشة فيه

ويلاحظ عليه: أن هذا التفسير يتوقف على كون المراد من الآية: أن الذي نعتقد بألوهيته هو الذي تعتقدون بألوهيته، فيتم إشكالهم.

لكن هذا ليس ظاهراً من الآية، ولا من سائر الآيات، ولا يُعقل أن يكون هذا هو موقف القرآن الكريم بعد تصريحه بكفر القائل بالثالوث ودعوته النصارى لعبادة الله الواحد الأحد كما دلّهم عليه التوراة والإنجيل.

بل الظاهر من الآية أن الإله الحقيقيّ الواحد هو إلهنا وإلهكم، وهذا القول يصح إطلاقه حتى مع غير المؤمن بالله تعالى رأساً، كقوله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ(174)، وقوله تعالى: ﴿فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا(175).

فالإله إلهٌ واحدٌ لكل الناس، لكن منهم من أسلَمَ لَهُ ومنهم من لم يُسلم، ففي الآية دعوة النصارى للإسلام والإيمان بالإله الواحد عزّ وجل، فلا تدلُّ على مطلوبهم.

7. لا نقول بالولد المادي حتى يلزم الكفر

لقد أنكر القرآن الكريم على النصارى قولَهم أنّ الله قد اتّخذ ولداً، لكن عدداً من الباحثين النصارى نفوا ذلك وذهبوا إلى أن ما أنكره القرآن الكريم هو الولد الماديّ فقط، وبالتالي فالقرآن الكريم لا يقصد النصارى.

فنفى كوستي بندلي على سبيل المثال أن تكون سورة الإخلاص موجّهة للمسيحين، ولا أنها تنكر الإبن والروح القدس(176).

وذهب الأب فاضل سيداروس إلى أن اعتراض القرآن بنفي الولد يكون منطقياً لو كانت الولادة كالولادة البشرية، وإن أقرّ بتعميم القرآن للاعتراض، فقال: عمّم القرآن.. الاعتراض بقوله إن (الله لم يَلد ولم يولد)(177).. وهذا الاعتراض لَمنطقيّ لو فهمنا لفظ الإلادة على مدلوله البشريّ الجسديّ الجنسيّ الزمنيّ. ولكن في سبيل فهمه فهماً صائباً يليق بسرّ الله وأميناً للوحي، وجب علينا تطهير اللفظ من مدلوله البشريّ ليرتقي إلى مدلوله الإلهي(178).

وقال: لذلك استحدثنا لفظي (إيلاد) و(إيلادة) عوضاً عن لفظ ولادة للتمييز بين ما هو إلهي.. وبين ما هو إنسانيّ(179).

ويقول: إن كان الآب في إيلاده الأبوي يتعالى على الزمان فإنه يتسامى على المكان أيضاً، فإيلاده لابنه هو إلادة لا تخضع للمكان.. أما إيلاد الآب لابنه فليس جسدياً، بل هو إيلاد روحيّ صرف، لأن الله روح لا جسد(180).

المناقشة فيه

يلاحظ على كلامه:

أولاً: أن الخلاف بين المسلمين والنصارى وإن كان يشمل صحة استعمال لفظ الولادة والبنوة وعدم صحته، حيث لا يرضى المسلمون باستعمال لفظ الولادة والابوّة والبنوّة بين الله ومخلوقاته بحال من الأحوال، فلا يوصف الله تعالى إلا بما وصف به نفسه، والولادة ليست منها بحسب ما ثبت عندهم، رغم ذلك فإن اختراع لفظ (إيلاد) عوضاً عن (ولادة) للتخلص من المشكلة غير سائغ حتى عند النصارى، فقد تضمّن كلٌّ من التوراة والإنجيل لفظ (ولدتك): أَنْتَ ابْنِي أَنَا اليَوْمَ وَلَدْتُكَ(181). وتغيير هذا الآب وحده للفظ(182) مع قبول كل النصارى له لا يعفيهم من الاشكال. ولا يعفيه هو أيضاً لأن الإشكال أبعد من مجرد خلاف لفظيٍّ، بل يشمل المعنى كما سيأتي.

ثانياً: أنّ محاولة النصارى لا ترفع الإشكال بوجه، إذ أنها حين تُثبت الولادة الخارجة عن حدود الزمن، تؤكد على أزلية عيسى (عليه السلام)، فيكون الله أزلياً وعيسى كذلك، ويعود الإشكال من جديد بمخالفة وحدانية الله تعالى.

قال سيداروس: إيلاد الآب للابن هو إلادة غير زمنيّة، لأن الله في خارج الزمن، بل هو خالق الزمن، لكن الإيلاد أزليّ لا بداية له.. وبالتالي فلا أسبقيّة زمنيّة للآب على الابن، بل هما متزامنان. فليس الآب قبل الابن على الإطلاق، وهل للّفظ (قبل) أو (بعد) من معنى لله وهو خالق الزمان؟(183).

وهو مصيبٌ في أن الله تعالى خالق الزمان، فلا يخضع للزمان كمخلوقاته، إلا أنّ في كلامه إثباتُ قديمين أزليين هما الآب والابن.

وبما أن الآب ليس الابن والابن ليس الآب، فلا بد من وجود قديمين، ومع كون أحدهما وهو الابن مُحتاجاً للآخر وهو الآب في وجوده، والآخر مستغنٍ، فلا يمكن أن يكونا من جوهر واحد مع هذا الاختلاف، ولا يمكن أن يكون كلٌّ منهما إلهاً، أو هما معاً إلهٌ غير مركب.

ثالثاً: أنّ ما ينفيه القرآن الكريم هو الولادة مطلقاً، ولادةً مادية أو غير مادية، لأن الله تعالى غيرُ مادي ولا يصح أن يتولد عنه ما هو مادي أو غير مادي لأنه يتنافى مع كماله عز وجل.

نعم لو قالوا بالخِلقة أي أنّه خَلَقَ عيسى لا من شيء لارتفع الاشكال، شرط نفي الأزلية أيضاً.

رابعاً: إن هذا الآب ذهب إلى أن الإيلاد مستمرٌّ، يتجسد هذا بقوله: وبالتالي فإن إيلاد الآب لابنه هو إلادة مستديمة، أي أن الآب يلد ابنه بدون انقطاع.. إنه إيلاد يستمر، فالآب يلد ولا يزال يلد ابنه من الأزل وللأبد(184).

ويلزم منه احتياج عيسى الدائم لله تعالى، فإنّ ما عنده ليس ذاتياً، وبالتالي لا يكون من جوهر الله الخالق، لاحتياجه واستغناء الله تعالى، وقد صرّح عيسى بذلك في مواطن عدة بحسب الكتاب المقدس منها قوله: كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي(185). وغيرها من الموارد التي تقدّم بعضها ويأتي بعضها الآخر إن شاء الله.

خامساً: حاول بعض علمائهم نفي الخلاف معنا باعتبار أن نفيهم للولادة المادية كافٍ، كما قال القمص سرجيوس: لا خلاف بيننا وبين المسلمين في أن الله الاب لم يتخذ صاحبة ولم يلد منها ولداً ولادة مادية. بل ابن الله هو ابنٌ روحانيٌّ وولدٌ عقليٌّ(186).

وهو قد خصّص كلام المسلمين العام بلا مُخَصِّص، فالمسلمون لا ينفون الولد المادي فقط كما تقدّم، ولم ينف القرآن الولد المادي حصراً، بل نفى الولد مطلقاً مادياً كان أم غير مادي، ويشتدُّ الإشكال مع قولهم بتأنُّس الإله وظهور الله في عيسى بصورة بشرية، فيكون عيسى المتجسد المتأنّس الذي ظهر بصورة بشرٍ هو ابن الله تعالى، وهو ما ينفيه القرآن الكريم تماماً، فلا يمكن التوفيق بين القولين.

ولذا لا يوافق القرآن الكريم على ما ذكره القديس أثناسيوس الرسولي بقوله: الابن هو مولودٌ ذاتيٌّ من جوهره (الآب).. ليس كفراً.. أن يكون لله ولد، مولود من ذات جوهره(187).

فإنّ القرآن الكريم صريح في كفر القائل بأن لله ولداً كما تقدّم.

ثمرة الفصل: لا دليل على الثالوث في كتب السماء

يتّضح مما تقدم أنّه لا يوجد دليلٌ واضحٌ ولا صريحٌ في الكتب السماوية الثلاثة على الثالوث، بل الدلالة فيها على التوحيد صريحةٌ تماماً، فتدل بالملازمة على بطلان الثالوث، ودلالةُ القرآن الكريم على بطلان الثالوث صريحةٌ جليّة.

وقد اعترف عدد من علماء النصارى بخلوّ الكتاب المقدّس من أي دليل (واضح) على الثالوث، وإن التزموا بأنه يتضمن استدلالاً شبه مبطّن ومستور، قال القسّ عطا ميخائيل: إن عدم وجود كلمة ثالوث في الكتاب المقدس أمرٌ لا يطعن في صحته أبداً. ولكن بالرغم من ذلك، هناك آيات ومقاطع عديدة تشهد لصحة هذه العقيدة ولوجود الثالوث وإن بصورة مبطّنة شبه مستورة(188).

وهذا اعتراف بأن كل ما استدل به على الثالوث هو مبطّنٌ شبه مستور، وعليه فهو ليس نصاً في الثالوث ولا ظاهراً فيه الدلالة عليه، بل باطن مستور!

فكيف يُلجأ إلى البواطن والمعاني المستورة في أهم عقيدةٍ دينيةٍ عند المسيحية؟! وهي تُعارض كل الأديان السماوية وتُعارض التوحيد نفسه الذي يقرّ به الإنجيل؟

لقد أشار بعض النصارى في معرض ردهم على ترجمة (العالم الجديد) لشهود يهوه إلى خطورة التعامل (البسيط) مع النصوص الكتابية، والذي يؤدي بدوره إلى انحرافٍ شامل، فقال بسّام فرجو: للانحراف مسبِّبَاتٌ، لعلّ أكبرها كان تعاملهم البسيط مع النصوص الكتابية والذي بلغ أحياناً حدّ السذاجة. لقد غفلوا بأن الحقائق الكتابية هرميّة في تكوينها وبناءها، وإن انحراف إحدى حجارتها سيقود إلى خلل عام وشامل فيها(189).

نقول: إن التوحيد الحقيقي من أصرح الحقائق الكتابية كما تبيّن في الفصل الثاني، وهو الأصل المُحكَمُ الذي ينبغي أن تُرَدَّ إليه كل المتشابهات حول التثليث أو ألوهيّة عيسى، لأنّ من لم يفعل ذلك فقد جاوز حدّ البساطة والسذاجة معاً ووقع في التناقض البيّن الذي لا يقرّه العقل ولا يقبل به(190).

 


(1) الاختلافات في صيغة هذا الإيمان محدودة جداً لا تؤثر على مضمونه، راجع على سبيل المثال: إيماننا المسيحي للراهب باسيليوس المقاري ج1 ص19.

(2) التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية ص66 فقرة 253.

(3) التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية ص66 فقرة 254.

(4) يُبَلبِل: يُربِك أو يُحَيِّر أو يُشَوِّش (هامش الترجمة السبعينية إعداد الراهب إبيفانيوس المقاري).

(5) التكوين11: 1و4-8.

(6) التكوين1: 26.

(7) يراجع على سبيل المثال كتاب (أبو رائطة التكريتي ورسالته في الثالوث المقدس ص91)، حيث عدّ وجه الشاهد فيها أنه لم يقل: أصنع بصورتي وشبهي.

(8) هو أحد علماء الكلام المسيحيين العرب في القرن التاسع الميلادي، قيل أنّه كان يدافع عن اعتقاد الكنيسة اليعقوبية في مطابقتها بين الجوهر والأقانيم.

(9) أبو رائطة التكريتي ورسالته في الثالوث المقدس ص94.

(10) الرسائل العشر ص132.

(11) تقريب المعارف ص188.

(12) تفسير جوامع الجامع ج1 ص511.

(13) الصاحبي في فقه اللغة ص182، باب مخاطبة الواحد بلفظ الجميع.

(14) صبح الأعشى للقلقشندي ج6 ص289.

(15) التكوين1: 27.

(16) مقالة في التثليث والتجسد وصحة المسيحية ص178.

(17) مدخل الي حقيقة الثالوث ص112.

(18) العدد20: 21و22.

(19) أبو رائطة التكريتي ورسالته في الثالوث المقدس ص93.

(20) مقالة في التثليث والتجسد وصحة المسيحية ص178-179.

(21) الخلاصة اللاهوتية ج1 ص23.

(22) الخلاصة اللاهوتية ج1 ص24.

(23) الخلاصة اللاهوتية ج1 ص37.

(24) وقد ناقش هذه الجهة مفصلاً بما لا مزيد عليه، لمزيد من التفصيل يراجع كتابه التوحيد والتثليث ص47 وما بعدها.

(25) التوحيد والتثليث ص50.

(26) الخروج3: 2.

(27) العدد22: 23.

(28) صموئيل الثاني24: 16.

(29) الملوك الثاني19: 35.

(30) مدخل الي حقيقة الثالوث ص111.

(31) الجامعة10: 14.

(32) كتاب الآب والإبن والروح القدس ص100، وهو أقرّ بعدم دخول الكتاب المقدس دخولاً مباشراً في هذا الموضوع، إلا أنّه عمل على إثبات قناعته الشخصية بوجود أدلة على (نهائية) العدد ثلاثة.

(33) كتاب الآب والإبن والروح القدس ص100.

(34) الاختصاص للشيخ المفيد ص114 وما بعدها.

(35) الاختصاص للشيخ المفيد ص113.

(36) متى5: 44، لوقا6: 28.

(37) التكوين12: 1و3.

(38) التكوين27: 29.

(39) العدد24: 9.

(40) يوحنا7: 49.

(41) غلاطية3: 10.

(42) التكوين 18: 1-5.

(43) وهو أسقف الاسكندرية بعد عام 412م، وكان حينها كرسيُّ الاسكندرية يحتلُّ المركز الأول في الشرق المسيحي.

(44) الرد على يوليانس ص44.

(45) الرد على يوليانس ص45.

(46) رائطة التكريتي ورسالته في الثالوث المقدس ص94.

(47) التكوين18: 22و23.

(48) التكوين18: 33.

(49) نحن في الثالوث ص41.

(50) المئة مقالة في الايمان الارثوذكسي ص92.

(51) المزامير6: 2.

(52) برنابا17: 12.

(53) برنابا17: 14.

(54) شمس البِرّ ص135.

(55) والمنشورة في الموقع الالكتروني mechon-mamre.org .

(56) التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية ص66 فقرة 253.

(57) الإيمان بالثالوث لتوماس ف. تورانس ص314.

(58) ردّ القمص سرجيوس على الشيخ العدوي ص26.

(59) ردّ القمص سرجيوس على الشيخ العدوي ص43.

(60) أبو رائطة التكريتي ورسالته في الثالوث المقدس ص96.

(61) مقالة في التثليث والتجسد وصحة المسيحية ص183.

(62) دانيال9: 19.

(63) يراجع سر التثليث والتوحيد من هو الله، ج3 من صفحة 37 الى ص122، حيث ذكر العشرات من هذه النماذج.

(64) كتاب: لا إله إلا الله ص37.

(65) غلاطية2: 4.

(66) الأمثال10: 1.

(67) الراهب القمص فليمون الأنبا بيشوى في سر التثليث والتوحيد من هو الله ج3 ص67.

(68) 2 تيموثاوس2: 22.

(69) 2 تيموثاوس3: 10.

(70) في بالحقيقة نؤمن بإله واحد ج1 ص32.

(71) إيماننا المسيحي ج1 ص39.

(72) يوحنا الأولى5: 7.

(73) يوحنا10: 30.

(74) يوحنا الأولى5: 8.

(75) الأنبياء27.

(76) التحريم6.

(77) يوحنا17: 20-23.

(78) التكوين2: 23و24.

(79) متى19: 5-6.

(80) بطرس الأولى3: 1.

(81) متى28: 18و19.

(82) هل الله واحد أم ثلاثة؟ الفصل الخامس.

(83) القسّ منسَّى يوحنا في شمس البِر ص94-96.

(84) التثنية18: 20.

(85) الملوك الأول18: 24.

(86) متى7: 22.

(87) متى3: 16و17، وقريب منه ما في مرقس1: 9-11.

(88) لوقا3: 22.

(89) حقائق الكتاب الكبرى ص6.

(90) أشعياء42: 1و5.

(91) النساء171.

(92) آل‏ عمران‏45.

(93) يُراجَع كتاب: الله واحد في الثالوث الأقدس ص4، يقول القمص زكريا بطرس: ويذكر القرآن ثالوث الله الواحد تماماً كما تؤمن به المسيحيّة!.. وقد تأكّدت شهادة القرآن لعقيدة الثالوث! ويراجع كتاب: المسيحية في الإسلام ص27 للقمص إبراهيم لوقا.

(94) مريم17.

(95) الأنبياء91.

(96) البقرة87.

(97) الهرطقة المئة ص54.

(98) الهرطقة المئة ص70-71.

(99) المئة مقالة في الايمان الارثوذكسي ص62.

(100) كما في الفصل الأول فليراجع.

(101) راجع الفصل الأول من هذا الكتاب، وفصل (التوحيد وصفات الله) من كتابنا: الثالوث صليب العقل.

(102) يعقوب1: 22.

(103) بطرس الأولى1: 25.

(104) يوحنا الأولى2: 7.

(105) مرقس4: 14.

(106) مرقس4: 19.

(107) الفتح15.

(108) البقرة75.

(109) التوبة40.

(110) مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج‏10، ص: 237.

(111) الإحتجاج على أهل اللجاج (للطبرسي)، ج‏2، ص: 405-406.

(112) الحجر28-29.

(113) الكافي ج1 ص133.

(114) الكافي ج1 ص133.

(115) الكافي ج1 ص133-134.

(116) مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول ج‏10 ص237.

(117) المائدة72.

(118) المائدة73، و(مِن) في قوله تعالى ﴿الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْلبيان الموصول، فكلُّ من قال بأن الله ثالث ثلاثة قد كفر، ولا ينقسم هؤلاء إلى كافر وغير كافر، وقد يُراد من ﴿الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾: الذين أصرّوا على الكفر ولم يتوبوا.

(119) النساء171.

(120) التوبة30.

(121) الصحاح، تاج اللغة و صحاح العربية ج1 ص60.

(122) كتاب العين ج‏4 ص70.

(123) مجمع البحرين ج‏1 ص273.

(124) مثير الأحزان ص58.

(125) أسئلة حول ألوهية المسيح: الكتاب الثالث ج1 ص172-173.

(126) بَر: لفظٌ فارسيٌّ بمعنى: على.

(127) فصوص الحكم ج‏1 ص139.

(128) الله في المسيحية ص264.

(129) أسئلة حول ألوهية المسيح - الكتاب الثالث ج1 ص171.

(130) أسئلة حول ألوهية المسيح - الكتاب الثالث ج1 ص172.

(131) اللاويين24: 12.

(132) كورنثوس الأولى14: 26.

(133) كورنثوس الثانية12: 1.

(134) المئة مقالة في الايمان الارثوذكسي ص63.

(135) كتاب العين ج5 ص356، والمحيط في اللغة ج6 ص250.

(136) معجم مقاييس اللغة ج5 ص191.

(137) الصحاح: تاج اللغة وصحاح العربية ج2 ص807.

(138) رسائل القديس كيرلس الي نسطور ويوحنا الانطاكي ص21.

(139) ردّ القمص سرجيوس على الشيخ العدوي ص8.

(140) ردّ القمص سرجيوس على الشيخ العدوي ص13.

(141) الله في المسيحية ص254. ويقول ص256: يتضح لنا أن القرآن لا ينتقد عقيدة المسيحيين، بل بدع المريميين وغيرهم من الوثنيين، ومما يثبت صحة ذلك أنه يصف المسيحيين بكثير من الصفات الطيبة التي تدل على إيمانهم بالله الواحد.

(142) المسيحية في الإسلام ص22 و23.

(143) المائدة72.

(144) المائدة73.

(145) حيث تختلف المصادر في تاريخ ولادته، فيذكر بعضها أنه كان سنة 550 وبعضها 560م.

(146) الثالوث فرح الخليقة الجديدة ص67.

(147) الثالوث فرح الخليقة الجديدة ص67.

(148) الهرطقة المئة ص50.

(149) الخروج6: 20.

(150) الخروج15: 20

(151) التحريم12.

(152) مريم27-28.

(153) مجمع البحرين ج‏1 ص21.

(154) تفسير القمي ج2 ص50.

(155) أمالي المرتضى ج‏2 ص197.

(156) مقدمة كتاب مدخل الى الايمان المسيحي ص11.

(157) ثاوذورس أبي قرّة المتوفي حوالي سنة 825 م، من تلامذة القديس يوحنا الدمشقي، وعاش في أيام الإمام الرضا (عليه السلام)، وفي عهد الرشيد والمأمون.

(158) ميمرٌ في وجود الخالق والدين القويم ص242.

(159) وهو غير أبي قرّة المحدّث الذي ورد ذكره في بعض الروايات التي ذكرناها، فذاك يُدعى موسى بن طارق الزّبيدي، وقيل أنّه استبصر (التعليقة على أصول الكافي (ميرداماد)  ص222).

(160) عيون أخبار الرضا عليه السلام ج‏2 ص230.

(161) التوحيد (للصدوق) ص420.

(162) ميمرٌ في وجود الخالق والدين القويم ص255.

(163) ميمرٌ في وجود الخالق والدين القويم ص257.

(164) ميمرٌ في وجود الخالق والدين القويم ص16.

(165) ميمرٌ في وجود الخالق والدين القويم ص17.

(166) ميمرٌ في وجود الخالق والدين القويم ص51.

(167) ميمرٌ في وجود الخالق والدين القويم ص20.

(168) شهود يهوه ذئاب خاطفة ص40.

(169) المسيح في المسيحية العربية ص39 وما بعدها.

(170) المسيح في المسيحية العربية ص42.

(171) أبو رائطة التكريتي ورسالته في الثالوث المقدس ص29.

(172) كتاب: لا إله إلا الله ص13.

(173) العنكبوت46، واستدل به عدد من علماء النصارى منهم القمص زكريا بطرس في كتاب: الله واحد في الثالوث الأقدس ص3-4.

(174) الأنبياء108.

(175) الحج34.

(176) مدخل الي العقيدة المسيحية ص209-210.

(177) ليس ما ذكره نص الآيات المباركة ففيها: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾.

(178) سر الثالوث الاحد ص35.

(179) هامش المصدر نفسه.

(180) سر الثالوث الاحد ص38.

(181) المزامير2: 7، وأعمال الرسل13: 33، والعبرانيين1: 5، و5: 5.

(182) قال الآب سيداروس: آثرنا القول: أنا اليوم ألدك (سر الثالوث الاحد ص37).

(183) سر الثالوث الاحد ص36.

(184) سر الثالوث الاحد ص37.

(185) متى11: 27، ولوقا10: 22.

(186) ردّ القمص سرجيوس على الشيخ العدوي ص47.

(187) الشهادة لألوهية المسيح ص37.

(188) شهود يهوه ذئاب خاطفة ص13.

(189) الحكم السديد على ترجمة العالم الجديد ص70.

(190) كما بيّنا ذلك جلياً في كتاب: الثالوث صليب العقل.

بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

  طباعة  | |  أخبر صديقك  | |  إضافة تعليق  | |  التاريخ : 2022/07/26  | |  القرّاء : 2040



للإنضمام إلى قناة العلم والإيمان (أنقر على الرمز الخاص) ->
| تلغرام | واتساب | يوتيوب | فيسبوك | انستغرام |


كتابة تعليق لموضوع : فصل3: الثالوث والكتب السماوية
الإسم * :
الدولة * :
بريدك الالكتروني * :
عنوان التعليق * :
نص التعليق * :
 

تصميم، برمجة وإستضافة :
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net