الصفحة الرئيسية

الكتب والمؤلفات :

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

  • الكتب والمؤلفات PDF (9)
  • عرفان آل محمد (ع) (17)
  • الإلحاد في مهب الريح (12)
  • قبسات الهدى (14)
  • الثالوث والكتب السماوية (6)
  • الثالوث صليب العقل (8)
  • أنوار الإمامة (6)
  • الوديعة المقهورة (6)

المقالات والأبحاث :

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

  • التوحيد والعدل (13)
  • سيد الأنبياء محمد ص (13)
  • الإمامة والأئمة (28)
  • الإمام عين الحياة (16)
  • أمير المؤمنين عليه السلام (24)
  • السيدة الزهراء عليها السلام (48)
  • سيد الشهداء عليه السلام (47)
  • الإمام المنتظر عليه السلام (9)
  • لماذا صرتُ شيعياً؟ (7)
  • العلم والعلماء (15)
  • الأسرة والمرأة (8)
  • مقالات اجتماعية (19)
  • مقالات عامة ومتنوعة (58)
  • الموت والقيامة (24)

إتصل بنا

أرشيف المواضيع

البحث :




جديد الموقع :


 شَهيدُ الهُدى.. الحُسَينُ بنُ عَليّ (عليه السلام)
 287. الإمام الجواد.. والشيعة في زمن الغيبة!
 286. هَل يُغلَبُ رُسُلُ الله وحِزبُه؟!
 285. هل أراد الله بنا (شرَّاً) فحَجَبَ عنَّا (النَّصر)؟!
 284. لن يُمحَقَ دينُ محمد (ص)!
 283. ما حُكمُ (الجِهَادِ) في أيامنا؟!
 282. الجواد.. إمامٌ يعلمُ ما في النفوس!
 281. ما من خالقٍ.. إلا الله!
 280. هل بينك وبين الله قرابة؟!
 279. المَهديُّ إمامٌ.. تبكيه العيون!

مواضيع متنوعة :


 129. هَل طَالَ شَعْرُ الأنبياء ؟!
 فصل3. استحالة الإحاطة بالذات الإلهية
 126. أربعون يوماً.. بَعدَ الرَّسول !
 117. هل يُنسى الحُزْنُ.. على الحسين ؟!
  263. السيدة زينب.. ونساء الشيعة
 161. عليٌّ.. وأعظم الآيات
 مقال11: شريعتي والشيعة في زمن الغيبة
 229. لا تُحَدِّثوا أنفسكم.. بِفَقرٍ!
 فصل3: الثالوث: وحدة الجوهر وتعَدّدُ الأقانيم
 193. فاطمة.. مريم الكبرى!

إحصاءات :

  • الأقسام الرئيسية : 2
  • الأقسام الفرعية : 22
  • عدد المواضيع : 356
  • التصفحات : 694954
  • التاريخ :



















  • القسم الرئيسي : الكتب والمؤلفات .
        • القسم الفرعي : الوديعة المقهورة .
              • الموضوع : الفصل الخامس: عَظيماتُ التاريخ .

الفصل الخامس: عَظيماتُ التاريخ

الفصل الخامس: عَظيماتُ التاريخ

42. خديجة.. الأمُّ المحسودة!

بسم الله الرحمن الرحيم

لَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الإِسْلَامِ غَيْرَ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وَخَدِيجَةَ، وَأَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرَى نُورَ الوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، وَأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ(1).

كانوا ثلاثة: محمدٌ وعليٌّ وخديجة، فجَعَلَهُمُ الله تعالى في آياته: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولئِكَ المُقَرَّبُونَ﴾(2)، فكان: المُقَرَّبُونَ آلُ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم).

ومِصداق هذه الآية: رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وَخَدِيجَةُ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَذُرِّيَّاتُهُمْ تَلْحَقُ بِهِمْ، يَقُولُ الله: ﴿الحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّاتِهِمْ﴾(3).

1. محمدٌ، نورُ الله تعالى، وأفضل خلقه وأحبّهم إليه، مَن دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى.

2. وعليٌّ، وليُّ الله، ونَفسُ محمد، وصنوُه وأفضل الخلق بعده.

3. وخديجة، ثالِثَةُ هذين العظيمين!

فمَن تكون هذه السيّدة الجليلة؟ حتى رُزِقَت هذه الكرامة، وكانت أوّل من أسلَمَ مع أعظم مخلوقات الله؟! ومَن تكون حتى نزلت فيها آية ﴿أُولئِكَ المُقَرَّبُونَ﴾؟! حيثُ لا قُربَ فوق قربهم، ولا يدانيهم أحد؟!

ثُمَّ ما مقدار عظمتها وقد جعل الله تعالى قرّة عينٍ الرسول مِنها؟!

قال تعالى: ﴿وَالَّذينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقينَ إِماماً﴾(4)، فطلبَ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الله تعالى أمرين:

أوّلهما: أن يهبه قرّة أعين، فكان: الحَسَنُ وَالحُسَيْنُ.

وثانيهما: أن يهبه الإمامة، فكان: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام).

ولكنّ النبيّ أرادَ قرَّةَ عينٍ مِن سبيلٍ خاص حين قال ﴿مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا﴾، فكانت ﴿مِنْ أَزْواجِنا﴾: خَدِيجَةُ، وكانت ﴿ذُرِّيَّاتِنا﴾: فَاطِمَةُ، كما فسّرها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه(5)، وكانت هذه الآية في آل محمد أيضاً، كما عن الصادق (عليه السلام): نَحْنُ هُمْ أَهْلَ البَيْت(6).‏

كانت خديجة السبّاقة في الإسلام، فجعلها الله من المقرّبين، وبارك بها فجعل ذريّة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقرّة عينه منها لا من سواها، وأيُّ ذريّة تلك.

قال عنها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إِنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَارَكَ فِي الوَلُودِ الوَدُودِ(7).

وكان يغضبُ كلَّما ذُكرَت بسوء، سيّما إذا ما انتَقَصَت منها الحُمَيراء، ويكثر من الثناء عليها أمامها فيقول: مَا أَبْدَلَنِيَ الله خَيْراً مِنْهَا:

1. صَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِيَ النَّاسُ.

2. وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِيَ النَّاسُ.

3. وَرَزَقَنِيَ الله الوَلَدَ مِنْهَا وَلَمْ يَرْزُقْنِي مِنْ غَيْرِهَا(8).

فَبَلَغَت بها طهارتها وأفعالها أن صارت واحدةً من أفضل نساء الجنة الأربعة، كما عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الجَنَّةِ أَرْبَعٌ: خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ(9).

ثمّ أودَعَ الله تعالى فيها نور سيدة النساء فاطمة، وجَعَلَ أفضل نساء الدُّنيا أنيسةً لها حتى قالت: إنّ الجنين الذي في بطني يكلِّمُنِي وأكلِّمُه، ولي به أنسٌ في حال وحدتي(10).

وكلّما كانت تَغتَمُّ عند خروج رسول الله، وتحزن وتحذر عليه (صلى الله عليه وآله وسلم): كَانَتْ فَاطِمَةُ تُحَدِّثُهَا مِنْ بَطْنِهَا، وَتُصَبِّرُهَا(11).

هي منزلةٌ رفيعةٌ تعجزُ كلُّ نساء الدُّنيا عن بلوغ شأنها، بل عن إدراك فضلها، وكذا الرِّجال، فقد تفوّقت بإيمانها وعملها ونصرتها للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإخلاصها على أعظم رجال التاريخ ونسائه، وتَسَامَت في علياء المجد، وبلغت من المعالي أكملها ومن الكمال أشرفه.

ولكن.. للكمال والرِّفعةِ ثَمَنُه، وكلّما حازَ المؤمن مزيدَ فضلٍ وعظيم منزلةٍ تكاثَرَ عليه الحُسّاد، وكان مِن أكثر الناس حسداً لخديجة امرأةٌ لَم تُدركها!

إنّها عائشة!

يروي مسلم في صحيحه عن عائشة أنها قالت: ما غِرْتُ علَى نِسَاءِ النبيِّ صَلَّى الله عليه وسلَّمَ، إلَّا علَى خَدِيجَةَ، وإنِّي لَمْ أُدْرِكْهَا!(12).

لقد كان رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يكثر من ذكر خديجة (عليها السلام) ومن الثناء عليها، فكانت عائشة تتألم من ذلك وتَغيِرُ منها وتحسدها، حتى أنّها كانت تتعمّد إغضاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بذكر خديجة والانتقاص منها، فتكمل قولها في صحيح مسلم:

فأغْضَبْتُهُ يَوْمًا، فَقُلتُ: خَدِيجَةَ، فَقالَ: رَسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلَّمَ: إنِّي قدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا(13).

فكان حُبُّ النبيّ لخديجة رِزقاً من الله تعالى ساقَهُ إليه، فأشعَلَ في قلب هذه المرأة غيظاً وحنقاً وحسداً وبُغضاً وكراهية، ظهرت في حياته أولاً بالانتقاص منها أمامه (صلى الله عليه وآله وسلم) وإغضابه لذلك، فكانت تقول له (صلى الله عليه وآله وسلم): كأن ليس في الأرض امرأة إلا خديجة!(14).

ثم صارت تُغضِبُ الزهراء (عليها السلام) بقولها لها: والله يَا بِنْتَ خَدِيجَةَ! مَا تَرَيْنَ إِلَّا أَنَّ لِأُمِّكِ عَلَيْنَا فَضْلًا! وَأَيُّ فَضْلٍ كَانَ لَهَا عَلَيْنَا؟ مَا هِيَ إِلَّا كَبَعْضِنَا!(15).

مع معرفتها بمنزلتها (عليها السلام) عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وفضلها وكرامتها عند الله، كما يقول أمير المؤمنين (عليه السلام):

كَانَتْ عَائِشَةُ تَمْقُتُ خَدِيجَةَ بِنْتَ خُوَيْلِدٍ، وَتَشْنَؤُهَا شَنَآنَ الضَّرَائِرِ، وَكَانَتْ تَعْرِفُ مَكَانَهَا مِنْ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فَيَثْقُلُ ذَلِكَ عَلَيْهَا، وَتَعَدَّى مَقْتُهَا إِلَى ابْنَتِهَا فَاطِمَةَ فَتَمْقُتُنِي وَتَمْقُتُ فَاطِمَةَ وَخَدِيجَة(16).

قال ذلك عندما سئل عن سبب مظاهرة عائشة عليه وخروجها لحربه، فذكر أسباباً (لحقدها عليه) و(حسدها إياه) وكان منها مَقتُها لخديجة!

كان هذا أوّل ما ظَهَرَ من الحسد والغيرة، إغضاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والبضعة (عليها السلام)، ثم بَلَغ حرب الوصي (عليه السلام)! فصارت المصداق الأتم للحديثين الشريفين:

1. غَيْرَةُ المَرْأَةِ كُفْر! كما في النهج الشريف(17).

2. الحَسَدُ هُوَ أَصْلُ الكُفْرِ! كما عن الباقر (عليه السلام)(18).

فاجتمع فيها الغيرة والحسد لأفضل مخلوقات الله معاً، فأيُّ امرأةٍ يؤدي بها حسدُها لخديجة إلى إغضاب رسول الله؟! فأغضبت الله تعالى، ثم أغضبت البضعة، ثم حاربت الوصي، ومَقَتَتهُم جميعاً، واشتركت معها ببعض ذلك صاحبتها حفصة، بينما كان أبواهما يؤسِّسان أساس الظُّلم والجور على آل محمد، وهم مَن أوجب الله تعالى برَّهم.

وجَعَلَ الله خديجة أمّاً للمؤمنين، وأوجَبَ على الناس برّها، لكنّ الأمة عقّت أمّها خديجة! وكان أصعَبُ هذا العقوق بعد وفاتها، عندما عقّتها الأمّة في أولادها.. بظلم الزهراء وسمّ الحسن وقتل الحسين!

عن الإمام الصادق (عليه السلام):

إِنَّ الكَبَائِرَ سَبْعٌ، فِينَا أُنْزِلَتْ وَمِنَّا اسْتُحِلَّتْ..

وَأَمَّا عُقُوقُ الوَالِدَيْنِ فَقَدْ أَنْزَلَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ ﴿النَّبِيُّ أَوْلى‏ بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ﴾:

1. فَعَقُّوا رَسُولَ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فِي ذُرِّيَّتِهِ.

2. وَعَقُّوا أُمَّهُمْ خَدِيجَةَ فِي ذُرِّيَّتِهَا!(19).

ليس العقوق للرسول فقط، بل عقوقٌ لسيّدةٍ في منتهى الكرامة والمنزلة الشريفة.

المرء يُحفظ في ولده، لكنّ هذه الأمّة المنكوسة ما حفظت وُلد الرسول ولا ولد خديجة! فظلموا البضعة الزهراء وهي ذرية خديجة والرسول، ثم تعاقبوا على ظلم أولادها (عليهم السلام)، فكان العقوقُ مضاعفاً.

ولو لم تكن خديجة على تلك المثابة من العَظَمَة، ما كان الحسين (عليه السلام) يقول يوم عاشوراء: أَنْشُدُكُمُ الله هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ جَدَّتِي خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ أَوَّلُ نِسَاءِ هَذِهِ الأُمَّةِ إِسْلَاما(20).

يريدُ القوم قتلَه فيحجُّهم بما أوجب الله تعالى من حفظ مقام خديجة (عليها السلام)، وأنّ ظُلمَهُ عقوقٌ لها، والله تعالى قد أوجب برَّها بحفظ أولادها!

أما علموا ذلك يا أبا عبد الله؟!

بل علموا ذلك وأرادوا قتلك لأنك من نسل محمد وخديجة، وعلي وفاطمة! ولأنك وليُّ الله وخليفته.

عرفوك يا أبا عبد الله، وعرفوا أمك وأباك، وجدك وجدتك وأخاك.. لكنكم القوم المحسودون.. وحاسدكم شرُّ خلق الله.

نِعمَ الصابرون أنتم، ثبّتنا الله على ولايتكم، وألهمنا صبراً على ما جرى عليكم، وعجّل في فرج وليكم. وعظّم أجورنا بكم.

والحمد لله رب العالمين(21).

 

43. لِئامٌ.. في محضر الزَّهرَاء.. والحَورَاء!

في ذكرى ولادتها (عليها السلام)

بسم الله الرحمن الرحيم

عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنَّه قال:

إِنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى اطَّلَعَ إِلَى الأَرْضِ فَاخْتَارَنَا:

رسولُ الله تعالى وآلُهُ الأطهارُ هم خِيَرَةُ الله من خلقه، والله تعالى عَليمٌ حَكيمٌ لا يختار عَبَثاً، ولا ينتخبُ اعتباطاً، لا يرفَعُ حقيرَ النَّفس، ولا يَضَعُ الشَّريفَ العزيز، سبحانه مِن إلهٍ لا تتناهى عظمته.

لقد كشَفَ اختيارُ الله تعالى لهذه الثُلَّةِ الطاهرة أنَّهُم الصفوة وأهلُ الكمال، فحازوا عنده عَظيمَ الدّرجات، ثم تلاهم في الفضل شيعتهم!

يقول (عليه السلام): وَاخْتَارَ لَنَا شِيعَةً:

1. يَنْصُرُونَنَا.

2. وَيَفْرَحُونَ لِفَرَحِنَا.

3. وَيَحْزَنُونَ لِحُزْنِنَا(22).

فكان الشيعةُ أفضلَ الخَلقِ بعدَ محمدٍ وآله (عليهم السلام)، وهم لا يقتصرون على المؤمنين من أصحاب النبي وآله، ولا على أتباعهم المقرّين بفضلهم إلى يوم الدين، بل يدخل في شيعتهم أنبياء الله المتقدَّمون وغيرهم.

يتميَّزُ هؤلاء الشيعة بالنُّصرةِ لآل محمد، قولاً وفِعلاً، والفرح لفرحهم، والحزن لحزنهم، وتبرُزُ هذه الصفات الثلاثة جليَّةً عند الشيعة الأبرار في هذه الأيام المباركة، أيام ولادةِ عَظيمةٍ من عظيمات الأسرة الطاهرة، ولادة سَيِّدَةٍ جليلةٍ، يحارُ أكابرُ الشيعة في منزلتها ومكانتها عند الله تعالى.

إنَّها عقيلة بني هاشم، وفخر المخدرات، وسليلة المجد والشَّرف، زينب بنت عليٍّ (عليه السلام) وفاطمة (عليها السلام).

هي مُناسبةٌ عظيمةٌ تَظهَرُ فيها:

1. نُصرَةُ المؤمنين للعترة الطاهرة، بإحياء أمرهم فيها، وزيارة قبورهم وتعاهدها، وبيان فضائلهم وذكر مناقبهم، سيَّما الحوراء زينب (عليها السلام).

2. وفرَحُ المحبّين لآل محمد حيث تطربُ القلوب في ذكرى الولادة الميمونة.

3. وحُزنٌ مقرونٌ وممزوجٌ بالفرح، لا يُغادِرُ محافِلَ آل محمدٍ حتى في أعيادهم، فعنهم (عليهم السلام): مَا مِنْ عِيدٍ لِلْمُسْلِمِينَ.. إِلَّا وَهُوَ يُجَدِّدُ لآِلِ مُحَمَّدٍ فِيهِ حُزْناً(23).

يستذكرُ المؤمنُ في هذه الأيام زينب (عليها السلام)، ومَن كانت لها قدوةً وأسوةً ومثالاً: أمُّها الزهراء (عليها السلام).

لقد ورثت الحوراء من أمِّها إرثاً عظيماً تنوءُ الجبال عن حمله، سَمَت به إلى العلياء، ونالَت به معاقد العزِّ والشَّرَف، وضاهت به الأنبياء والمُرسَلين، حين وَرِثَت من أمِّها (العلم والفَهم) من غَيرِ مُعَلِّمٍ ولا مُفَهِّمٍ، سوى الله عزّ وجل!

حتى قال لها الإمام المعصوم (عليه السلام): وَأَنْتِ بِحَمْدِ الله عَالِمَةٌ غَيْرُ مُعَلَّمَةٍ، فَهِمَةٌ غَيْرُ مُفَهَّمَة!(24).

فما كان لزينب (عليها السلام) مُعَلِّمٌ كسائر الخلق، بل كان تعليمُها من الله تعالى، وهيَ خصيصةُ أقرب الخلق إلى الله تعالى، كما وصفهم عزَّ وجلَّ في كتابه، فقال عن يعقوب (عليه السلام): ﴿وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناه﴾(25).

وعن داوود وسليمان (عليهما السلام): ﴿فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً﴾(26).

وعن الخضر(عليه السلام): ﴿وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً﴾(27).

ثم عن نبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿عَلَّمَهُ شَديدُ القُوى﴾(28).

هكذا ضاهَت هذه السيِّدَةُ العظيمةُ الأنبياء.. في تلقِّي علوم السماء!

فأعطاها الله تعالى قُدرةً فائقة على الفَهم فلا تحتاجُ لتَفهيمٍ من أحد!

فمَن ذا يُدرِكُ شأنَها؟! أو يعرفُ مِقدارَ فضلها؟!

وما الذي اتَّصَفَت به حتى صارت مستحقَّةً لهذا التعظيم من إله السماء؟!

إنَّه أمرٌ يُحَيِّرُ العقول.. فنطوي عنه كشحاً، ونتأمَّل في مواقفها، حيث يستوقفنا موقفٌ تَطابَقَ فيه قولُها مع قولِ أمِّها الزَّهراء (عليها السلام)، في واحدٍ من أشدِّ الظروف التي قد تمرُّ بها امرأة في التاريخ.

موقفٌ ظَهَرَ فيه لؤم الأعداء مع الأم وابنتها، حيث حُكّامٌ يَرَونَ أنَّ لهم حقّ قَهرِ النساء ولو كنّ على هذه الدَّرَجة من العظمة! لا لشيءٍ إلا لدَناءَةٍ وخساسَةٍ فيهم، وحَسَدٍ وحقدٍ دفينٍ، وخُبثٍ قلَّ نظيره، يسري منهم إلى حواشيهم ومَن حولهم.

الموقف الأول: لئيمٌ.. في محضر الزَّهراء!

كانت فَدَك أرضاً تحت يد الزهراء (عليها السلام)، أنحَلَها إياها النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأراد الغاصبان سلبها، فقالت لهما: أَ لَيْسَتْ فِي يَدِي؟ وَفِيهَا وَكِيلِي؟ وَقَدْ أَكَلْتُ غَلَّتَهَا وَرَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حَيٌّ؟

قَالا: بَلَى!

ليس لهما أن يطلُبا منها البَيِّنة، لأن فدَك تحتَ يدها، وهما المُدّعيان أنها فَيءٌ للمسلمين، والبيِّنةُ لازمةٌ عليهما. فأتَمَّت (عليها السلام) الحجةَ عليهما حين قالت:

أَ رَأَيْتُمَا إِنِ ادَّعَيْتُ مَا فِي أَيْدِي المُسْلِمِينَ مِنْ أَمْوَالهِمْ أَ تَسْالونَنِي البَيِّنَةَ أَمْ تَسْألونَهُمْ؟

قَالا: بَلْ نَسْألكِ.

قَالتْ: فَإِنِ ادَّعَى جَمِيعُ المُسْلِمِينَ مَا فِي يَدِي تَسْألونَهُمُ البَيِّنَةَ أَمْ تَسْألونَنِي؟

فَغَضِبَ عُمَرُ!

هكذا يغضبُ أهلُ الباطل من صوتِ الحقِّ المدوّي جَلياً، يتلاعب الأوّلان بدين الله تعالى، ولمّا يعلو صوتُ الحق بالحجة، يصيرُ الغضبُ سلاحاً، ويتمسَّكُ الغاصِبان بضرورة البيِّنة!

تَحتجُّ عليهما بما سَمِعا من كلام النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، من أنَّها سيدة نساء أهل الجنة، فيقرّا بذلك، فتقول: أَ فَسَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الجَنَّةِ تَدَّعِي البَاطِلَ وَتَأْخُذُ مَا لَيْسَ لَهَا؟!

أَ رَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ أَرْبَعَةً شَهِدُوا عَلَيَّ بِفَاحِشَةٍ أَوْ رَجُلَانِ بِسَرِقَةٍ أَ كُنْتُمْ مُصَدِّقِينَ عَلَيَّ؟

فَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَسَكَتَ، أَمَّا عُمَرُ فَقَال: نَعَمْ! وَنُوقِعُ عَلَيْكَ الحَدَّ!

فَقَالتْ: كَذَبْتَ وَلَؤُمْتَ!

الا أَنْ تُقِرَّ أَنَّكَ لَسْتَ عَلَى دِينِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم)!

إِنَّ الذِي يُجِيزُ عَلَى سَيِّدَةِ نِسَاءِ أَهْلِ الجَنَّةِ شَهَادَةً أَوْ يُقِيمُ عَلَيْهَا حَدّاً لَمَلْعُونٌ كَافِرٌ بِمَا أَنْزَلَ الله عَلَى مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم)(29).

هكذا يكون اللّئام! كلمةٌ لا يزال صداها يتردَّدُ على مرِّ التاريخ: (كَذَبْتَ وَلَؤُمْتَ)! فاللهُ تعالى يشهد بطهارة الزهراء (عليها السلام)! وهنا لَئيمٌ مُستَعِدٌ لإقامة الحَدِّ على أطهَرِ مخلوقةٍ في الوجود! بعدما رَدَّ كلامها!

إنَّ اللؤم خُلُقٌ رديءٌ يرجع إلى دناءة الأصل وحقارة النَّفس! وهو داءٌ لا دواء له!

الموقف الثاني: لئيمٌ.. في محضر الحوراء!

لقد أسَّسَت حقارَةُ الأوَّلين لآلاف الظلامات على آل محمد! حتى آل الأمرُ إلى أن تدخُلَ الحوراء زينب مع الإمام زين العابدين (عليه السلام) وسائر العلويَّات إلى مجلس الطاغية يزيد، حيثُ يقوم رجلٌ شاميٌّ إلى يزيد فيقول له:

يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ! هَبْ لِي هَذِهِ الجَارِيَةَ، يَعْنِي فَاطِمَةَ بِنْتَ الحُسَيْنِ!

لقد سَلَبَ الأوائلُ فَدَكاً والإمامة، وسَلَبَ مَن وَرِثَهم خيامَ الحسين (عليه السلام)، أما قِمَّة الحقارة، ففيمن يريد أن يسلُبَ ابنة الحسين نفسَها وذاتَها! لا قِرطَها وخلخالها!

فلاذَت بالحوراء: أَخَذَتْ بِثِيَابِ عَمَّتِهَا زَيْنَبَ بِنْتِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالبٍ (عليه السلام) فَقَالَتْ: أُوتَمُ وَأُسْتَخْدَمُ؟!

لا حول ولا قوّةَ إلا بالله.. كلمةٌ تُقَطِّعُ القلوب.

يكفي تَصَوُّرُ بنات الوحي وهنَّ على هذه الحالة، لكي تضطربَ أركانُ المؤمن، أمّا الحوراءُ زينب، فإنَّها تستحضرُ موقفَ أمِّها الزَّهراء، حين قالت للثاني: (كَذَبْتَ وَلَؤُمْتَ).

فَقَالتْ زَيْنَبُ لِلشَّامِيِّ: كَذَبْتَ وَلَؤُمْتَ! وَالله مَا ذَاكَ لَكَ وَلَا لَهُ!

موقفٌ كمَوقِف أمِّها الطاهرة، يمتلئ عِزّاً وعَظَمةً وهَيبةً وجَلالة، من امرأةٍ في محضر الأجلاف! وكما غَضِبَ عُمَر من قول أمها، غضب يزيدُ من قولها، ثُمَّ قَال: إِنَّ ذَلِكِ لِي، وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَفْعَلَ لَفَعَلْتُ!

قَالتْ زَيْنَبُ: كَلَّا وَالله، مَا جَعَلَ الله ذَلِكَ لَكَ، الا أَنْ تَخْرُجَ مِنْ مِلَّتِنَا، وَتَدِينَ بِغَيْرِ دِينِنَا!(30).

هو مَجلِسٌ أفرَغَت فيه الحوراءُ زينب عن لسان أبيها وأمها، فليس في جلوس (اللئام) بمحضَرِها هَواناً بها من الله، بل طَيشٌ وجَهلٌ منهم، واستدراجٌ وإملاءٌ من الله تعالى، وهم أهلُ الجحود لأمر الله ورسوله، وقد أظهروا الكُفرَ قولاً وعَمَلاً.

وليس أبلغَ مِن قولها (عليها السلام) فيهم: فَتِلْكَ قُلُوبٌ قَاسِيَةٌ، وَنُفُوسٌ طَاغِيَةٌ، وَأَجْسَامٌ مَحْشُوَّةٌ بِسَخَطِ الله وَلَعْنَةِ الرَّسُولِ، قَدْ عَشَّشَ فِيهَا الشَّيْطَانُ وَفَرَخَ!(31).

هكذا تجلّى في الحوراء نَبَضُ الرسالة المحمدية، وروح الإمامة العلوية، وسُموُّ الحكمَة الحَسَنيَّة، وعَبَقُ الشهادة الحسينية.

ها هي وريثةُ أمِّها الزَّهراء، وسَليلة الشَّرَفِ والطُّهر، تلهَجُ بالحقِّ في محضر اللئام! وقد وصفهم بذلك الحسين (عليه السلام) من قبلُ حين أبى أن يؤثر: طَاعَةَ اللِّئَامِ عَلَى مَصَارِعِ الكِرَامِ!(32).

سَلامُ الله على الحوراء زينب.. المرأة العظيمة التي تَتَرَقرَقُ العَبَراتُ لذكرها، حتى في أيام ولادتها، فسلام الله عليها آناء الليل وأطراف النهار.

رزَقَنا الله في الدنيا زيارتها، وفي الآخرة شفاعتها، وحشرنا معها ومع أخويها وأمها وأبيها وجدها. والحمد لله رب العالمين(33).

 

44. زينب.. وريثة الزهراء.. وناعية الحسين!

في ذكرى ارتحالها (عليها السلام)

بسم الله الرحمن الرحيم

قَتَلَ الطّغاةُ حُسَيناً، فَتَجَبَّروا وتكبَّروا، وهانَت عليهم كُلُّ معصية، وأصدَرَ ابنُ زيادٍ أمراً بقتل عليِّ بن الحسين (عليهما السلام)، لمّا بَرَّأ الإمامُ إلهَ السماوات من قتل أبيه الحسين (عليه السلام)!

استشاط اللّعينُ غَضَبَاً، انتصاراً لنفسه الدنيَّة، وأراد أن يُفجِعَ زينب (عليها السلام) بابن أخيها كما أفجعها به (عليه السلام).

استحضَرَت الحوراءُ (عليها السلام) موقف أمِّها الزَّهراء (عليها السلام)، حينما أراد القومُ قتلَ عليٍّ (عليه السلام)، ولَم يكُن له ناصرٌ ولا مُعين، وكان لا بدَّ مِن حفظه لحفظ الإمامة، حينما كادت تنشُر شعرَها، فتقلَّعت حيطان المسجد من أسفلها، وكاد الخسفُ أن يقع بالمدينة، فأخذت الرعدةُ القوم، وأفرجوا عن عليٍّ (عليه السلام) (ثُمَّ أَخَذَتْ بِيَدِهِ فَانْطَلَقَتْ بِهِ)(34).

والحوراء وريثة الزَّهراء: عالمةٌ غير معلَّمة، عارفةٌ بزمانها، وإمامه، وإمامها، تنظر فترى السجّاد (عليه السلام) دون معين.

لم تقدر الحوراء على الدَّفع عن سيِّد الشهداء أمام جحافل الكفر والنفاق، لكنَّها لم تعجَز عن الوقوف إلى جانب ابن أخيها.

فَتَعَلَّقَتْ بِهِ زَيْنَبُ عَمَّتُهُ، وَقَالَتْ: يَا ابْنَ زِيَادٍ، حَسْبُكَ مِنْ دِمَائِنَا!

وَاعْتَنَقَتْهُ، وَقَالَتْ: وَالله لَا أُفَارِقُهُ، فَإِنْ قَتَلْتَهُ‏ فَاقْتُلْنِي مَعَهُ(35).

أيقَنَ ابنُ زيادٍ أنَّها تُريد أن تُقتَلَ فِعلاً لو قُتِلَ الإمام، وتَعَجَّبَ من موقفها وصلابته، فأعرَضَ عن قتله (عليه السلام)، وأعادَت الحوراءُ التاريخَ، فحفظت الإمامَ المعصوم (عليه السلام)، كما حفظت أمُّها أباها علياً (عليه السلام).

لقد كانت (عليها السلام) تفدِّي الحسين بنفسها، لكن لم يُقَدَّر أن تدفع عنه القتل، كانت تقول بعدما رأت الدماء تسيل من شيبته المباركة:

أَنَا الفِدَاءُ لِمَنْ شَيْبَتُهُ تَقْطُرُ بِالدِّمَا(36).

فأوكلَ الله تعالى لها حِفظَ السجّاد (عليه السلام)، الإمام بن الأمام.

لقد بلغَت بفعلها هذا مكانةً فُضِّلَت بها على كلِّ مَن سواها، فعنهم (عليهم السلام): أَعْرَفُ النَّاسِ بِحُقُوقِ إِخْوَانِهِ، وَأَشَدُّهُمْ قَضَاءً لَهَا، أَعْظَمُهُمْ عِنْدَ الله شَأْناً(37). فلم يكن أحدٌ أعرف منها بحقِّ المعصوم، ولا أشدّهم قضاءً لحاجته في الدِّفاع عنه، فصارت أعظمَ شأناً عند الله تعالى من كلِّ أحدٍ بعد الأئمة (عليهم السلام).

وفي الحديث القدسيّ بعد تفضيل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) على مَن سواهم، قال تعالى: وَأَفْضَلُ النَّاسِ بَعْدَهُمْ مَنْ أَعَانَهُمْ عَلَى حَقِّهِمْ(38).

ولَم يكن في ذلك الزَّمن ولا سواهُ من أعانهم على حقِّهم كما فَعَلَت (عليها السلام)، بما لا يخفى على القاصي والداني، فصارت أفضلَ النّاس بعدهم، فسلامُ الله عليها من عظيمةٍ لا يُدركُ شأنها.

زينب ناعية الحسين

ثمَّ صارَت ناعية الحسين (عليه السلام)، وهذه منزِلةٌ جليلةٌ عظيمةٌ يَخُصُّ الله تعالى بها أقرب خلقه إليه.

لقد صارت ناعيةً له (عليه السلام) من قبل شهادته، مُذ سمعته يقول: (يَا دَهْرُ أُفٍّ لَكَ مِنْ خَلِيلِ)، فتكلَّمَت بكلماتٍ عجيبة: وَا ثُكْلَاهْ! لَيْتَ المَوْتَ أَعْدَمَنِي الحَيَاةَ!

اليَوْمَ مَاتَتْ أُمِّي فَاطِمَةُ وَأَبِي عَلِيٌّ وَأَخِي الحَسَنُ(39).

هذه كلمات مَن تَعرف حقيقة الإمام، فلا ترى للحياة معنىً دونه.

هي كلمات من ترى في أخيها أمَّها وأبيها! وفي فقدانه فقدانهم جميعاً.. لقد كانت تتعزى به بعد فقد الأحبة الأطهار، والآن يُفتقد أهل الكساء جميعاً بفَقد الحسين (عليه السلام)، وقد كان هذا الموقفُ قبل شهادته (عليه السلام)، أما بعدها، فقد خرجت النساءُ من الخيام إلى مصرع الحسين (عليه السلام)، وجعلت زينب تنعاه نعياً مُفجعاً، مخاطبةً جدَّها (صلى الله عليه وآله وسلم): يَا مُحَمَّدَاهْ، صَلَّى عَلَيْكَ مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ، هَذَا الحُسَيْنُ مُرَمَّلٌ بِالدِّمَاءِ، مُقَطَّعُ الأَعْضَاءِ.. هَذَا حُسَيْنٌ مَجْزُوزُ الرَّأْسِ مِنَ القَفَا(40).

ثمَّ أكمَلَت نَعيَها لمّا وصلت المدينة، فأخذت بعضادتي باب مسجد الرَّسول ونادت: يَا جَدَّاهْ، إِنِّي نَاعِيَةٌ اليْكَ أَخِيَ الحُسَيْنَ!(41).

الله أكبر ما أعظم هذا الموقف: زينبٌ على باب مسجد الرَّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، هو مسجدٌ لطالما أظهرَ الرَّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مكانة الحسين فيه وفي كلِّ مكان حلَّ فيه، أمّا اليوم فيُنعى الحسين (عليه السلام) إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) على لسان الحوراء زينب (عليها السلام).

الناعيةُ: خيرُ أختٍ لخَيرِ أخ.. عظيمةٌ من عظيمات الدَّهر، يعجزُ الزمان أن يَجود بمثلها: قِمَّةٌ في الكمال.. عِلمٌ ومعرفةٌ وحِلمٌ وطهارةٌ وإخلاصٌ وعَظَمَةٌ ومَجدٌ وشَرَفٌ لا نَظير له.

المنعيّ: الحسينُ بن عليٍّ (عليه السلام)، خليفة الله في أرضه وسمائه، وحجته على عباده، يدُ الله الباسطة، وعينُه التي لا تنام.

المنعيّ إليه: رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أحبُّ الخلق إليه على الإطلاق، وأقربهم منه، وأرفعهم منزلة، وبابُ كلِّ خَيرٍ يرتجى للخلائق.

إنَّهُ موقفٌ يُقَطِّع نياط قلوب المؤمنين، الذين لم يشهدوا الواقعة، ولم يكونوا من الحسين كما كانت منه زينب.. فما حالُ الحوراء (عليها السلام)؟!

يعجزُ الإنسانُ عن إدراك ما كانت تُعانيه من آلام، حتى كانت: لَا تَجِفُّ لَهَا عَبْرَةٌ، وَلَا تَفْتُرُ مِنَ البُكَاءِ وَالنَّحِيبِ.

وَكُلَّمَا نَظَرَتْ الى عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ تَجَدَّدَ حُزْنُهَا وَزَادَ وَجْدُهَا(42).

فإنا لله وإنا إليه راجعون.

زينب أنموذج الكمال

إنَّ للكمالِ علاماتٍ يُعرَفُ بها، منها ما ورد في الحديث:

إِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ قَدْراً الَّذِي لَا يَرَى الدُّنْيَا لِنَفْسِهِ خَطَراً(43).

ومنها ما ورد: إِنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ عِنْدَ الله مَنْ كَانَ العَمَلُ بِالحَقِّ أَحَبَّ إِلَيْهِ وَإِنْ نَقَصَهُ وَكَرَثَهُ، مِنَ البَاطِلِ وَإِنْ جَرَّ إِلَيْهِ فَائِدَةً وَزَادَه(44).‏

ومنها: أَفْضَلُ النَّاسِ أَعْقَلُ النَّاسِ، إِنَّ الله تَعَالَى قَسَمَ العَقْلَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ.. المَعْرِفَةُ بِالله تَعَالَى، وَحُسْنُ الطَّاعَةِ، وَحُسْنُ الصَّبْر(45).

وقد جمَعَت الحوراءُ كلَّ هذه الخِصال وسواها، فكانت أسطورةً في الصَّبرِ على ما أصابها، بعدما شَهِدَت من الفجائع يوم عاشوراء ما تنوءُ الجبال عن حمله.

وكانت عارفةً بإمام زمانها، ومعرفة إمام الزمان بابُ معرفة الله حقاً وصدقاً.

وكانت أطوَعَ الناس لله تعالى وللإمام (عليه السلام)، وأعمل الناس بالحقّ، ولم تر للدُّنيا قيمةً فقدَّمَت نفسَها في سبيل حفظ إمامها (عليه السلام).

ولقد كشفَت مواقفُها عن بَعضِ عظمتها، فمِن ذلك لمَّا أرادَ ابنُ زيادٍ إذلالها بقوله: الحَمْدُ لله الَّذِي فَضَحَكُمْ وَقَتَلَكُمْ وَأَكْذَبَ أُحْدُوثَتَكُمْ!

فنَسَبَ الأطهار إلى البدعة! وقَتلَهُم إلى الله تعالى! وقد هَلَكَت الأمّة بمثل عقيدة الجَبرِ هذه حيث تنسب قبائحها لله تعالى، وبإعراضها عن آل الرَّسول الأطهار. فما شَغَلَها مُصابُها ومَن معها عن تصويب العقيدة الحقَّة، فقالت:

الحَمْدُ لله الَّذِي أَكْرَمَنَا بِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وَطَهَّرَنَا مِنَ الرِّجْسِ تَطْهِيراً، وَإِنَّمَا يَفْتَضِحُ الفَاسِقُ، وَيَكْذِبُ الفَاجِرُ، وَهُوَ غَيْرُنَا وَالحَمْدُ لله.

فإنَّ إكرام الله تعالى لهم بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتطهيرهم من الرِّجس لا يتناسب مع قتل الله تعالى لهم، وإلا لم يكن حكيماً عادلاً.

لكنَّ اللعين ما ارعوى، فعاد وقال: كَيْفَ رَأَيْتِ فِعْلَ الله بِأَهْلِ بَيْتِكِ؟

ههنا يرى ابن زيادٍ نفسَه حاكماً، يأمر فيُطاعُ أمرُه، لكنَّ زينب المفجوعة لم تنكسر رغم الجراح والآلام، ولم يشغلها ما هي فيه عن أن تنقل ابن زيادٍ من محكمةٍ تكونُ يدُه العليا فيها بزعمه، إلى محكمة الله تعالى، حيث يَقفُ خصيماً لآل محمدٍ الأطهار، ويُظهرُ كُلٌّ حُجَّته، فقالت: كَتَبَ الله عَلَيْهِمُ القَتْلَ فَبَرَزُوا إِلَى مَضَاجِعِهِمْ، وَسَيَجْمَعُ الله بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ، فَتُحَاجُّونَ إِلَيْهِ وَتَخْتَصِمُونَ عِنْدَهُ(46).

أدركَ اللَّعين بعدما سمعَ هذا الجواب أن ليس ينفعه في تلك الساعة شيءٌ مما يتجبَّرُ به في هذه الدُّنيا، وأيقنَ بهوانه على الله تعالى، فاستشاط غضباً لما أسقط في يده. وأبانَت (عليها السلام) بكلماتها القصيرة هذه عن حقيقة الاعتقاد بالتوحيد والعدل، ونزَّهت ساحة الربِّ تعالى عن الظُّلم والعبث واللغو.

وأجلَت وأوضحت عن عقيدة النبوّة والإمامة، المقرونة بالطهارة والعصمة.

ثم ختَمَت بتثبيت المعاد.. حيثُ تُجزى كلُّ نفسٍ بما كسبت.

كلماتٌ قصيرةٌ من امرأةٍ مفجوعةٍ عَجِزَ عن جوابها الطاغية ابن زياد، وبانَ بها جلالةُ قَدرِهَا وعظيم شأنها عند ذوي الحجى.

ثم زادَ يَزيدُ بنُ معاوية عمّا فعله ابن زياد، حينما صار يضربُ ثنايا الحسين (عليه السلام).. وهو يقول:

لعبت هاشم بالملك فلا * * خبرٌ جاء ولا وحي نزل..

فلا حول ولا قوَّة إلا بالله.

ما لبِثَت (عليها السلام) أن رَدَّت الكَرَّة، وثَنَّت المقولة، مُذَكِّرَةً بآيات القرآن الكريم، وقالت له: أَ ظَنَنْتَ يَا يَزِيدُ حِينَ أَخَذْتَ عَلَيْنَا أَقْطَارَ الأَرْضِ.. أَنَّ بِنَا مِنَ الله هَوَاناً وَعَلَيْكَ مِنْهُ كَرَامَةً.. فَمَهْلًا مَهْلًا، لَا تَطِشْ جَهْلًا!

أَ نَسِيتَ قَوْلَ الله عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَلا يَحْسَبَنَّ ا لَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ﴾(47).

فجعلت الصِّراعَ بين الإيمان والكُفر جَليّاً، وتَمثَّلَت القرآن الكريم، حين تَوَعَّدَ يزيد وأمثاله بالعذاب المُهين.

يُريدُ يزيد أن يُهين آل محمدٍ بإهانة الرأس الشريف للحسين (عليه السلام)، لكنَّ نصيبه سيكون عذاباً مُهيناً.

ستأتي ساعةٌ لا ينفع فيها النَّدم، أخبرت عنها (عليها السلام) بقولها له:

وَلَتَوَدُّ يَمِينُكَ كَمَا زَعَمْتَ شَلَّتْ بِكَ عَنْ مِرْفَقِهَا وَجُذَّتْ! وَأَحْبَبْتَ أُمَّكَ لَمْ تَحْمِلْكَ، وَإِيَّاكَ لَمْ تَلِدْ. أَوْ حِينَ تَصِيرُ الى سَخَطِ الله وَمُخَاصِمُكَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم)(48).

إنَّ يَداً تتجرأ على سيدِ الشُّهداء (عليه السلام) حقيقٌ أن تُجَّذ قبل جنايتها.

ولكن.. لأنَّ الدُّنيا دار امتحانٍ، خُلِّيَ بين يزيد وبين ما يريد، لكنَّ شدَّة الجزاء وصعوبة العذاب ستجعله شديد النَّدم، يودُّ لو أنَّ أحداً قَطَعَ له يدَه قبل أن يحرِّكها تجاه الرأس الشريف.

سيأتي يومُ الخصومة، يوم ينتصر الله تعالى للمظلوم من الظالم، وسيكون الخصمُ رسولُه المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)، وسيظهر لمن الفَلَجُ في ذلك اليوم.

إنَّها بعضُ مواقف زينب (عليها السلام)، رمز الكمال والعظمة والجلال، تُحاكي مواقفَ الأسرة الشريفة التي تنتمي إليها.

إنَّها سيِّدَةٌ شريفةٌ جليلةٌ احتَمَلَت أعظم المصائب، فما هانت ولا ضَعُفَت ولا استكانت، ولا شَغَلَها المُصابُ عن أن تحمل أعظم الأعباء، وتقوم بأهمِّ الأدوار، فَتَفَوَّقَت عن كُلِّ مَن عَداها، وبَلَغَت من العلا أرفعه، ومن الشرف أعظمه، فسلام الله عليها يوم ولدت ويوم توفيت ويوم تُبعث حية.

السلام على الحوراء زينب في ذكرى ارتحالها.. اللهم ارزقنا في الدّنيا زيارتها، وفي الآخرة شفاعتها وجوارَها.

السلام عليكِ أيتها العظيمة، يا وريثة الزَّهراء، من جِوار سَميَّتها المعصومة.. وإنا لله وإنا إليه راجعون(49).

 

45. فاطمةُ المَعصُومة.. قَبَسٌ من نُورِ الزَّهراء!

بسم الله الرحمن الرحيم

تُدفَنُ الزَّهراءُ ليلاً.. ويُعَفِّي عليٌّ موضعَ قبرَها!

تَتَلَهَّفُ قلوبُ الموالين لزيارتها، لكنَّها تُزَارُ دون مَرقَدٍ ظاهر!

خَفيَ قَبرُ فاطمة الزَّهراء (عليها السلام)، فأظهَرَ اللهُ قبراً لفاطمة المعصومة سلام الله عليها! وَكَأنَّ العُلقَةَ الباطنة لا تَروي غليل المؤمنين، فأظهَرَ الله تعالى لهم مَرقداً عظيماً وقبَّةً شامخةً للمعصومة، يقصدونها لتبقى صلةَ وَصلٍ بين الآل وبين شريفات البيت الطاهر، مع ما لهنَّ من عظيم المنزلة عند الله تعالى، وَمِن حَقٍّ يلزمُ على المؤمن معرفته.

لقد خَفيَ قبرُ الزَّهراء، تأصيلاً للبراءة من الأعداء.

وظَهَرَ قبر المعصومة، تأكيداً للولاية والبراءة، ففي زيارتها (عليها السلام): أًتَقَرَّبُ إلَى اللهِ بِحُبِّكُمْ، وَالبَراءَةِ مِنْ أعْدائِكُمْ!

هيَ فاطمةُ المعصومة، قَبَسٌ مِن نور الزَّهراء، سَيِّدَةٌ جليلةٌ عظيمةٌ، لا يُدانيها في الفضل أعاظمُ الرِّجال.

حَقُّها من حقِّ محمدٍ وعليٍّ وفاطمة (عليهم السلام)، وقد اشتهر بين الناس عن أخيها الرضا (عليه السلام) قوله: مَنْ زَارَهَا عَارِفاً بِحَقِّهَا فَلَهُ الجَنَّةُ!(50).

ليست معرفةُ حقِّها مُيسَّرَةً لكلِّ أحد، فكما يحتاجُ الإقرار بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى طينةٍ طيِّبَةٍ، وإخلاصٍ لله، وتوفيق منه، كذلك لا يُقِرُّ بحقِّها وفضلِها إلا شيعة العترة الطاهرة، الذين يعلمون بَعضاً من فضل الذريّة التي قال عنها تعالى: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْض‏﴾(51).

إنَّ لذريَّة النبيِّ كرامةٌ عند الله تعالى، فكيف بأشرافهم وعظمائهم؟!

لقد قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إِنِّي شَافِعٌ يَوْمَ القِيَامَةِ لِأَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ، وَلَوْ جَاءُوا بِذُنُوبِ أَهْلِ الدُّنْيَا:

1. رَجُلٌ نَصَرَ ذُرِّيَّتِي.

2. وَرَجُلٌ بَذَلَ مَالَهُ لِذُرِّيَّتِي عِنْدَ المَضِيقِ.

3. وَرَجُلٌ أَحَبَّ ذُرِّيَّتِي بِاللِّسَانِ وَبِالقَلْبِ.

4. وَرَجُلٌ يَسْعَى فِي حَوَائِجِ ذُرِّيَّتِي إِذَا طُرِدُوا أَوْ شُرِّدُوا(52).

فمَحَبَّتُهُم بنَفسِها شَرَفٌ يُشَرِّفُهُ الله للمؤمن، ينالُ به شفاعةَ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أولاً، ثمَّ شفاعة الزهراء (عليها السلام) ثانياً، حينما يأتي النداء يوم الجزاء من الله جلَّ جلاله:

يَا حَبِيبَتِي وَابْنَةَ حَبِيبِي، سَلِينِي تُعْطَيْ، وَاشْفَعِي تُشَفَّعِي!

.. فَتَقُولُ: إِلَهِي وَسَيِّدِي: ذُرِّيَّتِي، وَشِيعَتِي، وَشِيعَةَ ذُرِّيَّتِي، وَمُحِبِّيَّ، وَمُحِبِّي ذُرِّيَّتِي! فَإِذَا النِّدَاءُ مِنْ قِبَلِ الله جَلَّ جَلَالُهُ: أَيْنَ ذُرِّيَّةُ فَاطِمَةَ وَشِيعَتُهَا وَمُحِبُّوهَا وَمُحِبُّو ذُرِّيَّتِهَا؟

فَيُقْبِلُونَ وَقَدْ أَحَاطَ بِهِمْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ، فَتَقْدُمُهُمْ فَاطِمَةُ (عليها السلام) حَتَّى تُدْخِلَهُمُ الجَنَّةَ(53).

فالرَّسولُ لا يشفعُ لِمَن لا تشفَعُ له الزَّهراء، والزَّهراء لا تشفعُ لمن لا تشفع له المعصومة (عليها السلام)! كيف ذلك؟

إنَّ فاطمة المعصومة جزء من سلسلةٍ طهَّرَها الله وشرَّفها، وأوجب لها حقاً على الخلق لا يَقبَلُ تبعيضَه، فليس من إيمانٍ بالله تعالى دون الإقرار بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا نبوّة دون الإمامة، ولا إمامة دون الزّهراء، ولا يُقبلُ عَمَلُ عاملٍ لم يقرَّ لآل محمدٍ (عليهم السلام) بالفضل.

ولكن.. يقول قائل: إذا كان المؤمن ينالُ شفاعة النبيِّ والزهراء، فما حاجته لشفاعة المعصومة (عليها السلام)؟!

يأتي الجواب عن لسان الإمام الرضا (عليه السلام) أولاً حين يُعَلِّمنا أن نقول في زيارتها: السَّلامُ عَلَيْكِ يا بِنْتَ رَسُولِ الله، السَّلامُ عَلَيْكِ يا بِنْتَ فاطِمَةَ وَخَديجَةَ، السَّلامُ عَلَيْكِ يا بِنْتَ أميرِ المُؤمِنينَ!(54).

يشير في هذه الفقرات وسواها إلى الترابط بين هذه السلسلة، وأنّ إنكار بعضِها إنكارٌ للكلّ، كآيات الكتاب العزيز، وقد قال تعالى: ﴿أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ القِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى‏ أَشَدِّ العَذابِ﴾(55).

وآلُ محمدٍ أعظَمُ آيات الله، فلا يُقبَلُ الإيمان ببعضهم وإنكار الآخر.

وكأنَّ طريقَ الزّهراء تمر بالمعصومة، فهي سلسلةٌ واحدةٌ، وقد بيَّنَ لنا الرضا (عليه السلام) حاجتنا لشفاعة المعصومة، حين نقول في زيارتها: يا فاطمةُ اشْفَعي لي فِي الجَنَّةِ، فَإنَّ لَكِ عِنْدَ اللهِ شَاْناً مِنَ الشَّاْنِ!

أيُّ شأنٍ هو هذا؟! يحارُ أهلُ العلم في فهم هذه العبارة (شَاْناً مِنَ الشَّاْنِ)، ولا نزعمُ الإحاطة بما لها عند الله، فإنَّ حديثاً واحداً في فضلها يُحَيِّرُ العقول، حيثُ روي عن الصادق (عليه السلام) قوله عنها: وَتدخل بِشَفَاعَتِهَا شِيعَتِي الجَنَّةَ بِأَجْمَعِهِم‏!(56).

إنَّ كلَّ مؤمنٍ يدخُلُ الجنّة بشفاعة فاطمة الزهراء (عليها السلام) (فَتَقْدُمُهُمْ فَاطِمَةُ (عليها السلام) حَتَّى تُدْخِلَهُمُ الجَنَّةَ)، فكيف صارَ دخولهم (بِأَجْمَعِهِم‏) للجنة بشفاعة فاطمة المعصومة (عليها السلام)؟!

إنَّها قَبَسٌ مِن فاطمة الزهراء! ونورٌ من نورها.. ونورها نور الله تعالى!

وقد وَرِثَت منها الفضيلة والكرامة والعزّ والشرَّف والشفاعة، وما لا يخطر على بال.

هكذا تكون الشفاعةُ متسلسلةً عند الأطهار، فيحتاجُ المؤمن إلى شفاعة آخرهم كأوَّلِهم، ولا يشفعُ الأوَّلُ ما لم يشفع الآخر!

فما مِن شفاعةٍ للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا للزهراء (عليها السلام) ولا لأمير المؤمنين (عليه السلام) ما لم تشفع سلسلة الأطهار، فهي شفاعةٌ مُوَحَّدَةٌ لهم جميعاً، ومنهم السيدة المعصومةُ، مَعَ أنَّ لكلٍّ منهم (عليهم السلام) خصوصيَّتُه، وللأربعة عشر فضلهم.

أما المعصومة، فقَد شرَّفَها الله تعالى، وشرَّفَ الأرضَ التي دُفِنَت فيها شَرَفاً عظيماً، فصارت: قُمُّ عُشّ آلِ مُحَمَّدٍ وَمَأْوَى شِيعَتِهِمْ(57).

وهي التي ظَهَرَ العِلمُ فيها، ثم (يُفِيضُ العِلْمُ مِنْهُ إِلَى سَائِرِ البِلَادِ فِي المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ)(58).

كلُّ هذا نَزرٌ من بركات العترة الطاهرة، تَظهَرُ حيثُ يريد الله تعالى لها ذلك، وما خَفيَ وادَّخَرَهُ الله عزَّ وجلّ لهم ولمحبيهم أعظم.

لقد خَفِيَت عنّا سيرةُ هذه السيدة الجليلة، وشخصيّتها، وغاب عنّا جُلُّ ما جرى عليها، ولكن أبى الله تعالى إلا ان يُظهِرَ شيئاً من فضلها، فلا يُعقَل أن تنال هذه المنزلة العظيمة لو لم تتمتع بما يؤهلها لذلك.

إنَّها من قومٍ زُقّوا العلم زقاً، أصحابُ نُفوسٍ قُدسيَّةٍ كساها الله تعالى من نوره.

السلام عليكِ يا فاطمة المعصومة، السَّلامُ عَلَيْكِ يا بِنْتَ فاطِمَةَ وَخَديجَةَ، أنتِ شفيعتنا عند الله تعالى، وأنتِ أهلٌ للقبول، فما رَجَعَ مَن جاوَرَكِ يوماً خائباً، وما رُدَّ نَزيلُكِ عن بابك يوماً، ونحن الراجون كَرَمَكم في الدُّنيا والآخرة.

اللهمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ تَخْتِمَ لِي بِالسَّعَادَةِ، فَلَا تَسْلُبَ مِنِّي مَا أَنَا فِيهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِالله العَلِيِّ العَظِيمِ. وإنا لله وإنا إليه راجعون(59).

  

(1) نهج البلاغة ص301.

(2) الواقعة10-11.

(3) تفسير القمي ج‏2 ص412 عن الإمام الصادق (عليه السلام).

(4) الفرقان74.

(5) تفسير فرات الكوفي ص295.

(6) تفسير القمي ج2 ص117.

(7) الخصال ج‏2 ص405.

(8) الإفصاح في الإمامة ص217.

(9) الخصال ج‏1 ص206.

(10) عيون المعجزات ص59.

(11) دلائل الإمامة ص77.

(12) صحيح مسلم ج7 ص134.

(13) صحيح مسلم ج7 ص134.

(14) شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار (عليهم السلام) ج‏3 ص18.

(15) الخصال ج2 ص405.

(16) الجمل للمفيد ص411.

(17) نهج البلاغة ص491.

(18) الكافي ج‏5 ص505.

(19) من لا يحضره الفقيه ج‏3 ص562.

(20) الأمالي للصدوق ص159.

(21) التاسع من أيام شهر الله 1442 هـ الموافق الموافق 22 - 4 - 2021 م.

(22) الخصال ج2 ص635.

(23) الكافي ج4 ص170.

(24) الإحتجاج ج2 ص305.

(25) يوسف68.

(26) الأنبياء79.

(27) الكهف65.

(28) النجم5.

(29) كتاب سليم بن قيس ج2 ص678.

(30) الاحتجاج ج‏2 ص310.

(31) الاحتجاج ج‏2 ص309.

(32) اللهوف ص98.

(33) الخميس 4 جمادى الأولى 1443 هـ الموافق 9 - 12 - 2021 م.

(34) الكافي ج‏8 ص238.

(35) الإرشاد ج2 ص117.

(36) مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) ج‏4 ص113.

(37) تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) ص325.

(38) تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) ص43.

(39) الإرشاد ج2 ص93.

(40) اللهوف ص133.

(41) بحار الأنوار ج‏45 ص198.

(42) بحار الأنوار ج‏45 ص198.

(43) الكافي ج‏1 ص19.

(44) نهج البلاغة ص182.

(45) كنز الفوائد ج‏1 ص56.

(46) الإرشاد ج‏2 ص115.

(47) الإحتجاج ج‏2 ص308.

(48) الإحتجاج ج‏2 ص309.

(49) الخميس 15 رجب 1443 هـ الموافق 17 – 2 – 2022 م.

(50) بحار الأنوار ج99 ص266.

(51) آل عمران34.

(52) الكافي ج4 ص60.

(53) الأمالي للصدوق ص18.

(54) بحار الأنوار ج99 ص266.

(55) البقرة85.

(56) بحار الأنوار ج‏57 ص228.

(57) بحار الأنوار ج‏57 ص214.

(58) بحار الأنوار ج‏57 ص213.

(59) من جوار المعصومة، في ذكرى ارتحالها سلام الله عليها، ليلة العاشر من ربيع الثاني 1443 هـ الموافق 15 - 11 - 2021 م.

بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

  طباعة  | |  أخبر صديقك  | |  إضافة تعليق  | |  التاريخ : 2022/12/24  | |  القرّاء : 1389



للإنضمام إلى قناة العلم والإيمان (أنقر على الرمز الخاص) ->
| تلغرام | واتساب | يوتيوب | فيسبوك | انستغرام |


كتابة تعليق لموضوع : الفصل الخامس: عَظيماتُ التاريخ
الإسم * :
الدولة * :
بريدك الالكتروني * :
عنوان التعليق * :
نص التعليق * :
 

تصميم، برمجة وإستضافة :
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net