الصفحة الرئيسية

الكتب والمؤلفات :

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

  • الكتب والمؤلفات PDF (9)
  • عرفان آل محمد (ع) (17)
  • الإلحاد في مهب الريح (12)
  • قبسات الهدى (14)
  • الثالوث والكتب السماوية (6)
  • الثالوث صليب العقل (8)
  • أنوار الإمامة (6)
  • الوديعة المقهورة (6)

المقالات والأبحاث :

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

  • التوحيد والعدل (13)
  • سيد الأنبياء محمد ص (13)
  • الإمامة والأئمة (28)
  • الإمام عين الحياة (16)
  • أمير المؤمنين عليه السلام (24)
  • السيدة الزهراء عليها السلام (48)
  • سيد الشهداء عليه السلام (47)
  • الإمام المنتظر عليه السلام (9)
  • لماذا صرتُ شيعياً؟ (7)
  • العلم والعلماء (15)
  • الأسرة والمرأة (8)
  • مقالات اجتماعية (19)
  • مقالات عامة ومتنوعة (58)
  • الموت والقيامة (24)

إتصل بنا

أرشيف المواضيع

البحث :




جديد الموقع :


 شَهيدُ الهُدى.. الحُسَينُ بنُ عَليّ (عليه السلام)
 287. الإمام الجواد.. والشيعة في زمن الغيبة!
 286. هَل يُغلَبُ رُسُلُ الله وحِزبُه؟!
 285. هل أراد الله بنا (شرَّاً) فحَجَبَ عنَّا (النَّصر)؟!
 284. لن يُمحَقَ دينُ محمد (ص)!
 283. ما حُكمُ (الجِهَادِ) في أيامنا؟!
 282. الجواد.. إمامٌ يعلمُ ما في النفوس!
 281. ما من خالقٍ.. إلا الله!
 280. هل بينك وبين الله قرابة؟!
 279. المَهديُّ إمامٌ.. تبكيه العيون!

مواضيع متنوعة :


 182. عيدُ الغدير.. قَمَرٌ بين الأعياد!
 195. قتلني هَمُّ يومٍ.. لا أدرِكُه!
 179. الإمامُ الباقر.. والشيعة الأشدّاء!
 136. يومَ يُعرَفُ قَدرُ فاطمة !
 150. ابن السوداء.. يُخرِجُ الزَّهراء !
 259. أتُريدُ أن تكون إماماً؟!
 52. لِمَ لَم تسامح الزهراء؟!
 67. هل بَشَّرَ عيسى برسول الله محمد؟! نظرةٌ في إنجيل يوحنا..
 87. هل (الصادق) خيرٌ من (رسول الله) ؟!!
 فصل4: ألوهية عيسى في الكتب السماوية

إحصاءات :

  • الأقسام الرئيسية : 2
  • الأقسام الفرعية : 22
  • عدد المواضيع : 356
  • التصفحات : 695040
  • التاريخ :



















  • القسم الرئيسي : الكتب والمؤلفات .
        • القسم الفرعي : أنوار الإمامة .
              • الموضوع : الفصل الثاني: الإمامة والسنة النبوية .

الفصل الثاني: الإمامة والسنة النبوية

الفصل الثاني: الإمامة والسنة النبوية

بسم الله الرحمن الرحيم(1)

كان بحثنا في الإمامة، وقد تعرّضنا في الأبحاث السابقة لمدلول آيات الكتاب بالنسبة لموضوع الإمامة، والبحث الآن في دلالة السنة النبوية، لأنّ المرجع في تمام المباحث بحكم البرهان هو الكتاب والسنة.

وفي هذا المقام يقع البحث في عِدَّةٍ من الروايات، ومعيار البحث هو كون الروايات صحيحة السند عند مذاهب المسلمين، كي يُراعى مقتضى الحكمة في البحث.

الرواية الأولى: من أطاع علياً فقد أطاعني

متن الرواية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):

مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ الله، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى الله، وَمَنْ أَطَاعَ عَلِيّاً فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَى عَلِيّاً فَقَدْ عَصَانِي.

وقد نقل هذه الرواية الفريقان من العامة والخاصة، ونَظَرُنا في البحث جهة العامة، والبحث في هذه الرواية من جهتين:

الجهة الأولى: سند الرواية.

الجهة الثانية: دلالة الرواية.

وذلك ليتم الجمع بين الرواية والدراية، فمن جهة الرِّجال يُراعى السند، ومن جهة فِقه الحديث يُحَقَّقُ مدلول كلام الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم).

مصدر الرواية وسندها

أما مصدر الرواية، فالعُمدَةُ على نقل الحاكم في المستدرك (الجزء الثالث ص121)، وعلى نقل إمام نَقد رجال الحديث في التلخيص (ص128)، علاوةً على المحدِّثين مثل كنز العمال (ج1 ص614)، وذخائر العقبى، وينابيع المودة، وقد نقلها المؤرخون أيضاً: تاريخ مدينة دمشق (ج42 ص270).

أما سند الرواية: أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الشَّيْبَانِيُّ مِنْ أَصْلِ كِتَابِهِ، ثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ الرَّازِيُّ، بِمِصْرَ، ثَنَا الحَسَنُ بْنُ حَمَّادٍ الحَضْرَمِيُّ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ يَعْلَى، ثَنَا بَسَّامٌ الصَّيْرَفِيُّ، عَنِ الحَسَنِ بْنِ عَمْرٍو الفُقَيْمِيِّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ‏:‏ مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ الله، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى الله، وَمَنْ أَطَاعَ عَلِيّاً فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَى عَلِيّاً فَقَدْ عَصَانِي‏‏.‏

هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ‏.‏

وقد صحَّحَ الروايةَ الحاكمُ بطريق البخاريّ ومسلم، وهو من أئمة محدِّثي العامة، وعَدَّه مما فات البخاري ومسلم بن حجاج أصحاب الصحيحين المعتمَدَين عند الكلّ، فاستدركه.

والمهم أيضاً أنَّ الذهبيّ الذي دأب على نقد أحاديث الفضائل حَكَمَ بصحة سند هذا الحديث، فقال بضرصٍ قاطع: صحيح.

وللحديث مِزيةٌ أخرى من الجهة الفنية: أن الرواية مرويةٌ عن أبي ذرٍّ الغفاري، ولأبي ذر خصوصيةٌ، فإذا نَقَلَ شيئاً عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يكون قابلاً للقياس مع روايات غيره من الرواة، وإذا تأمّل علماء المذاهب الأربعة بهذه الرواية بالطريقة التي نطرحها تُحَلّ المسألة.

وجه ذلك: معرفة من هو أبو ذر؟

يقول إمام أهل الرجال عند جميع المذاهب الأربعة: أبو ذر الغفاري: جندب بن جنادة على الصحيح أحد السابقين الأوّلين(2).

ينبغي أن يفهم علماء العامة هذا الأمر في عِلم الرجال، فعندما يقول مثل شمس الدين الذهبي عن أبي ذرّ أنّه: أحد السابقين الأولين، يجب أن يفهموا من هم السابقون؟ ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ المُقَرَّبُونَ﴾(3).

ويقول الذهبي: أسلم في أول المبعث خامس خمسة، ثم رجع إلى بلاد قومه، ثم بعد حينٍ هاجر إلى المدينة، وكان رأساً في العلم والزهد والجهاد وصِدق اللهجة والإخلاص.

هذا تعبير الرجاليين من غير الإمامية، رأسٌ في العلم أولاً، وفي الزهد ثانياً، وفي الجهاد ثالثاً، وفي صدق اللهجة رابعاً، وفي الإخلاص خامساً، فأبو ذرّ هو مَن كان عند علماء المذاهب الأربعة (رأساً) في هذه الأمور.

يقول الذهبي: ومناقبه شهيرةٌ منها قول المصطفى: والعمدة في عبارته هذه، وقد أرسلها إرسال المسلمات، أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال دون ترديد في البحث والمطلب: ما أظلّت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجةً من أبي ذر(4).

هذه شهادة إمام أهل الحديث والرِّجال، فراوي الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مِثلُ هذا.

مَتن الرواية

أما مَتن الرواية، فإنّ قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيها محيّرٌ، وفيه بحثٌ مفصَّل، والرواية مشتملةٌ على قياسٍ بُرهانيٍّ من الشَّكل الأول، بديهيِّ الإنتاج عند كل الحكماء والمناطقة.

المتن: مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ الله، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى الله، وَمَنْ أَطَاعَ عَلِيّاً فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَى عَلِيّاً فَقَدْ عَصَانِي.

لماذا قال (فَقَدْ)؟ إنّ الفاء للتفريع، و(قَد) للتحقيق، وفَهمُ كلام الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) ودراية الحديث في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): فَقَدْ أَطَاعَ الله، لماذا؟

لأن كُلّاً من العقل والكتاب والسنة يحكم بأن طاعة النبي طاعة الله تعالى.

وأهميّة الرواية أنها تعرَّضَت لأربع دلالات، وللأسف لو كان هناك فهمٌ لَما ضاع الحق كما أضاعوه.

إذا ما ثبت أحد الضِدَّين عادةً يتضح تكليف الضدّ الآخر، فالدلالة المطابقية بالنسبة إلى الضدِّ الأول تشتمل على الدلالة الالتزامية بالنسبة لضدّه.

وأهمية هذه الرواية أن الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) دقَّقَ إلى حدِّ أنّه تعرّضَ للضدّين بالنسبة لنفسه وبالنسبة لعلي (عليه السلام)، فمن الجهة الفنية لدينا أربع دلالات:

فمن جهةٍ: مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ الله: وتدلُّ هذه الجملة بالدلالة المطابقية على الطاعة، وبالدلالة الالتزامية على نفي الضدّ وهو العصيان، ولم يكتف (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا فتَعَرَّضَ للضدّ الآخر، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم):

وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى الله: إنّ الدلالة المطابقيّة حول العصيان، والدلالة الالتزامية تثبت وجوب الطاعة، وكل هذا أيضاً قاله عن علي (عليه السلام): وَمَنْ أَطَاعَ عَلِيّاً فَقَدْ أَطَاعَنِي: حيث فرّع هنا (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً بالفاء وأتى بـ(قد) للتحقيق: فطاعة عليٍّ تتحقق بطاعتي، بحكم الكتاب والسنة والعقل.

وَمَنْ عَصَى عَلِيّاً فَقَدْ عَصَانِي: هذا قِسمٌ من البرهان، فتصبح النتيجة أنّ طاعة عليٍّ (عليه السلام) أصبحت طاعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعصيان علي (عليه السلام) أصبح عصيان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وطاعة النبي بحكم صدر الرواية هي طاعة الله تعالى، وعصيان النبي معصية الله تعالى.

القياس البرهاني: بِضَمِّ المقدّمة الأولى إلى الثانية ينتج عنه: أن طاعة عليٍّ (عليه السلام) طاعة الله تعالى، ومعصية عليٍّ (عليه السلام) معصية الله تعالى.

أيُّ مقامٍ هذا؟ هنا يعجز العقل!

مقام عليٍّ (عليه السلام) هو مقام مَن كانت طاعته طاعةً لله مطلقاً، ومعصيته معصيةً لله مطلقاً، بلسان من نَصَّ القرآن على أنه ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾(5).

ثمار طاعة علي عليه السلام

كان بحثنا في الرواية الأولى(6) من السُنَّة الشريفة، وخصوصيّتها أنها معتبرةٌ عند مختلف مذاهب العامة مع مختلف مسالكهم في الرجال والسند، بحيث اتفقوا على صحتها، والخصوصية الأخرى أن راوي الحديث هو من شَهِدَ له خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصدق، ليس الصدق وحده بل الأصدقية!

لذا فإن هذه الرواية سُنَّةٌ ثابتةٌ عند كلِّ عالِمٍ مهما كان مقامه العلمي.

ووظيفة أهل التحقيق الدقة في فقه الحديث، ودراية مثل هذه الرواية.

كان متن الرواية: مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ الله، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى الله: وهذه الكبرى ثابتةٌ بحكم العقل والكتاب والسنة، أما التطبيق، ففي مورد الطاعة والتنزيل: وَمَنْ أَطَاعَ عَلِيّاً فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَى عَلِيّاً فَقَدْ عَصَانِي.

ويجب أوّلاً الرجوع إلى القرآن الكريم، لأنّ المستند القطعيَّ عندنا هو الكتاب والسنة، أي كلام الله وكلام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

أما القرآن فيقول عن موضوع طاعة الرسول وطاعة الله: ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله﴾(7)، فالحديثُ إذاً كَنَصِّ القرآن الكريم، وإن كانت خصوصيته أنه كلام الله تعالى، وفي آية أخرى: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾(8).

وقد أصبحت طاعة المؤمنين لعليٍّ (عليه السلام) طاعةً لله تعالى، ولكن: مَن هم المؤمنون هنا؟ اقرؤوا سورة المؤمنين: ﴿قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ﴾(9): المؤمنون المفلحون يقولون عندما دعاهم رسولُ الله ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾.

فما ينبطق على طاعة واتِّباعِ الرسول ينطبق على طاعة واتِّباع عليٍّ (عليه السلام)، وطاعة أمير المؤمنين (عليه السلام) وظيفةُ كل مؤمن، أما مَن لا إيمان عنده فليس مشمولاً لبحثنا، و الذين آمنوا وظيفتهم تجاه كلام عليٍّ (عليه السلام) أن يقولوا: ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾.

هذه النتيجة والثمرة الأولى لضمّ السنة الى الكتاب.

الثمرة الثانية: ﴿وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا البَلَاغُ المُبِينُ﴾(10).

طاعةُ عليٍّ (عليه السلام) صارت طاعةَ الله تعالى بحكم السُنَّة، وثمرة طاعة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومِثلها طاعة عليٍّ (عليه السلام) هي الهداية، والتخلُّفُ عنه هو الضلال.

تلك الهداية التي وردت في سورة الحمد: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ﴾(11).

الثمرة الثالثة: ﴿وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ﴾(12).

فمفتاح دخول الجنات التي تجري من تحتها الأنهار هو طاعة علي بن أبي طالب (عليه السلام) بحكم الكتاب والسنة.

الثمرة الرابعة: ﴿وَمَن يُطِعِ الله وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً﴾(13).

فمن يطع علياً يُحشَر مَع مَن أنعم الله عليه، ومن هم الذين أنعم الله عليهم؟ النبيّون والشهداء والصديقون والصالحون.

فطاعة عليٍّ توجب مَعِيَّة موسى بن عمران وعيسى بن مريم وإبراهيم خليل الله (عليهم السلام)! هذا ما يُنتِجُه ضَمُّ القرآن للسنة.

الثمرة الخامسة: ﴿وَمَن يُطِعْ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾(14).

لو أدرك البخاريّ ومسلم وفَقِهُوا تلك السُنَّة المُسَلَّمَة وكتاب الله فما الذي كان قد حصل؟ لقد جعل الله تعالى الفوز العظيم في طاعة عليٍّ (عليه السلام)، وكلُّ من ينكر ذلك فإمّا أنّه ينكر القرآن أو ينكر السنة الشريفة، والمسألة قائمةٌ على البرهان لا على الخطاب، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله﴾(15).

ضَمُّ تلك السُنَّة لهذه الآية من الكتاب يُنتِجُ أنّ طاعة عليٍّ (عليه السلام) هي طاعة الله والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، والتخلُّف عن طاعته نَقضٌ لغرض ربّ الأرباب مِن إرسال الرسول الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، هذا ما يُحَيِّر العقل!

فالرواية تعرّضت علاوةً على الطاعة لمعصيته (عليه السلام)، فمن عصى علياً عصى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعصى الله تعالى، تلك كانت نتائج الطاعة: الهداية والفوز العظيم والمعية و.. فما هي نتيجة معصيته؟

نتيجة معصية عَليٍّ عليه السلام

ثَبَتَ بِحُكم السُنَّة أن عِصيانَ أمير المؤمنين (عليه السلام) هو عصيانٌ لله تعالى وللرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، هذه الصغرى.

أما الكبرى: ﴿وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً(16).

فمعصيةُ عليٍّ (عليه السلام) تجعل العاصي ضالاً، وليس الحديث عن مطلق الضلال، بل عن ضلالٍ خاصٍّ هو الضلال المبين، فتكون النتيجة أنَّ مَن يعصي علياً يدخل في الضالين، ونص القرآن الكريم: ﴿غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾(17).

أثرٌ آخر: الكبرى فيه: ﴿وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً(18)، فشِدَّةُ الأمر وخطورته بهذا الحد، هذا من الكتاب، أما من السنة: وَمَنْ عَصَى عَلِيّاً فَقَدْ عَصَانِي.

فَضَمُّ هذه الصغرى لتلك الكبرى بالقياس من الشكل الأول ينتج أن معصية علي بن أبي طالب (عليه السلام) معصية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومعصية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) معصية الله، ونَصُّ القرآن يدلُّ على أنّ من يعصي الله والرسول فجزاؤه نار جهنم، وأيُّ نارٍ تلك؟ نارٌ مع الخلود الأبدي.

إنّ دَركَ الأبديّة مُحَيِّرٌ للعقول، حيث لا تناهي.. وعصيانُ عليٍّ على هذا الحدّ من الشدّة، هذه الصغرى والكبرى، وهذا الكتاب وهذه السنة.

إنّ الطَّرَفَ المقابل والمخاطَبَ في هذا البحث هم الفخر الرازي، وشمس الدين الذهبي.. فما هو الجواب؟

ثم تصل النوبة إلى لفظ (وَمَنْ) في الحديث، فما حدود عموم كلمة (مَن)؟

(مَنْ) تَعُمُّ كلّ ذوي العقول، ولا أحد قابل للاستثناء، فتكون النتيجة أنه يجب على أيِّ أحدٍ آمن بالله والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يُسَلِّم مقابل أمر ونهي عليٍّ (عليه السلام)، وكلُّ من يتخلّف يَدخل في كلمة (مَنْ) دون استثناء.

هل مَن يتخلَّف داخلٌ فيها أم لا؟

إن لم يكن داخلاً فليس مخاطَباً، وإن كان داخلاً فجزاؤه جهنم خالداً فيها.

والسؤال الأخير الآن للفخر الرازي والبخاري ومسلم والحاكم والذهبي هو: هل في إحراق بيت علي (عليه السلام) معصيةٌ لعليٍّ (عليه السلام) أم لا؟

وإحراقُهم غير قابل للإنكار من المتقدمين إلى المتأخرين، ومن الأولين إلى الآخرين، فقد تفحّصنا فوجدناهم كلُّهم قد اعترفوا، وكان مِن كلامه بحسبهم كلهم: سأحرق الدار إن لم يخرج علي، قالوا: في الدار فاطمة: قال: وإن! سأحرق الدار بمن فيها حتى فاطمة!!

فهل هذه معصيةٌ لعلي (عليه السلام) أم لا؟ ومعصيته معصية الله والرسول أم لا؟

هذه حجة الله على كل المذاهب الأربعة، وكلُّ من كان عنده جوابٌ فنحن حاضرون.

ثم هل كان معاويةُ مطيعاً لعليٍّ أم عاصياً له؟ ولا منزلة بين النفي والإثبات، فإذا كان عاصياً فجزاؤه جهنم خالداً فيها.

ارجعوا لما جاء بنصّ صحيح البخاري، وليس عندهم أصحُّ من البخاري، ارجعوا وانظروا عندما قالت لهم الزهراء (عليها السلام) آذيتموني ولن أتجاوز عنكم، هذا متن صحيح البخاري: فَغَضِبَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهَجَرَتْ أَبَا بَكْرٍ، فَلَمْ تَزَلْ مُهَاجِرَتَهُ حَتَّى تُوُفِّيَتْ(19).

فهل هذه معصيةٌ لعليٍّ (عليه السلام) أم لا؟ إن كانت معصيةً له (عليه السلام) فمعصيته معصية الله ومعصية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الخِزْيُ العَظِيمُ﴾(20).

ولا يقولَنَّ قائلٌ أنّ هذه الكلمات مُضِرَّةٌ بالوحدة!

على الجُهَّال أن يصمتوا، هذا محلُّ بُرهانٍ ومنطِق، وليسّ محلّ تَعَصُّب.

نحن نعلن لأصحاب المذاهب الأربعة أنهم إن أجابوا على هذا البحث فنحن نُسَلِّمُ لهم.

ونتيجة هذا البحث المنطقيّ المتكوّن من الكتاب والسنة الصحيحة: أنّ مَن فعل ما فعل في الجَمَل كان في فعله معصيةٌ أم لا؟ إذا كانت معصيةً فما هي نتيجة ضم الكتاب والسنة؟ هذه الصغرى وهذه الكبرى وهذه النتيجة.

عصمة عليٍّ عليه السلام

كان بحثنا(21) في مدلول الرواية الشريفة التي اتفق على صحتها العامة والخاصة، ويُستفاد في دراية فقه الحديث ثلاثة مطالب مهمة:

المطلب الأول: أنه اتضح حال العصاة والمتخلّفين عن طاعة أمير المؤمنين (عليه السلام)، وبَعضُ ما ورد في مصيرهم بحسب القياس من الشكل الأول بِنَصِّ كتاب الله تعالى، أنّ كلّ مَن يعصي الله ورسوله فقد ضلّ ضلالاً مبيناً، والقدر المتيقن من قوله تعالى: ﴿وَلاَ الضَّالِّينَ﴾(22) هو الضلال المبين، هذه الكبرى.

 والصغرى أن طاعة عليٍّ (عليه السلام) بحكم سنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هي طاعة الله، ومعصيته معصية الله تعالى والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكلُّ من تخلّف عن طاعته وعَصَاه فقد ضلّ ضلالاً مبيناً، هذه الكبرى والصغرى وهذه النتيجة.

أما مَن هم الذين تخلّفوا وعصوا، فتُثبِتُه الروايات المعتمدة عند الفريقين، هذا المطلب الأول، وهو مما يرجع إلى العصاة.

أما ما يرجع له (عليه السلام) ففيه مطلبان:

الأوّل: إثبات العصمة المطلقة لعليّ بن أبي طالب (عليه السلام).

إنّ للعصمة مراتب متعددة، ونتيجة مدلول هذه الروايات ثبوت المرتبة العالية للعصمة، وهي العصمة المطلقة لعليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، هذا المدعى.

وأما الإثبات، فإنه يحتاج إلى مقدّمة فنيّة، وهي أنّه يجب أولاً فهم الإطلاق، فما هو الإطلاق؟ والطرف المقابل لبحثنا هم علماء العامة ممن كانوا فعلاً من أهل التحقيق، لا أياً كان منهم، فهؤلاء أعلام العامة، والمطلق عندهم جميعاً عبارة عن اللفظ الموضوع للطبيعة، غاية الأمر أن فيه رأيان:

أوّلهما وهو رأيُ عدّةٍ: أن النسبة بين الاطلاق والتقييد نسبة التضاد، فيكون المطلق والمقيد ضدّان.

والرأي الآخر رأي عدّةٍ آخرين، على رأسهم الفخر الرازي: أن النسبة بينهما ليست نسبة التضاد، بل يقولون بأن المطلق جزءٌ من المقيد(23).

وبتعبيرٍ فني: هناك نظريتان علميتان دقيقتان في المسألة: الأولى أن المطلق نفس الطبيعة بنحو لا بشرط مَقسمي، والثانية أنه الطبيعة بنحو لا بشرط قِسمي.

وبعد التحقيق فإنّ الجامع بين هذين القولين هو أنّ مدلول كلّ لفظٍ موضوعٍ للطبيعة هو نفسُ الطبيعة، وأنّ كلَّ قيدٍ خارجٌ.

مثلاً: لفظ الإنسان موضوعٌ لنفس ماهيّة الإنسان، أما الوَحدة والتعدُّد والعِلم والجهل والبياض والسواد وكافة الخصوصيات فهي أمرٌ زائدٌ خارجٌ عنه.

وإذا وقع الإنسانُ موضوعاً في كلام الشارع، فينبغي حمله على نفس الماهيّة، مع صدقه على تمام الموارد المشتملة على القيد، ويكون تخصيصه من أيّ جهةٍ وأيّ خصوصيةٍ أمراً زائداً محتاجاً لبيان.

هذا المطلب الأساسي، وبعد بيان الكبرى نبيّن الصغرى فنقول:

إن الطاعة لفظٌ موضوعٌ لطبيعيّ الطاعة، وتخصيصُه بأيِّ أمرٍ يحتاجُ إلى مخصِّصٍ وبيانٍ زائد، وكذا لفظ العصيان: فإن معنى الموضوع له طبيعة التَخَلُّف، وترك الإمتثال دون التقيُّد بأيّ خصوصيّة من الخصوصيات.

وبناء على هذا، فإنّ حمل الطاعة والمعصية في السنة الشريفة على خصوص الشرك بالله أو معصية الله تعالى، أو إضافة أيِّ قيدٍ آخر، من أبطل الأباطيل.

لماذا؟ لأنَّ حمل اللفظ الموضوع لمطلق العصيان ومطلق الطاعة على الخاص يحتاج الى مخصِّص، فهو موضوعٌ لكلِّ مصاديق الطاعة والعصيان بدءً من التوحيد إلى أن نصل إلى أرش الخدش.

هنا ينبغي الدِّقة جيداً، وعلى أساس أدق الموازين العلمية التي يُحتجُّ بها على جميع علماء العامة، فكلُّ من يقيِّد ويخصِّص هذه الطاعة والعصيان بمورد خاص يُسأل: أين هو المقيِّد؟

على أنّ في تأخير البيان وطرح الإطلاق بدون بيان المراد إذا كان مقيَّداً إضلالٌ وإغواء، وقد جاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للهداية لا للإضلال.

فعندما قال (صلى الله عليه وآله وسلم): مَنْ أَطَاعَ عَلِيّاً: أي في مطلق الأمور، وَمَنْ عَصَى عَلِيّاً: أي في مطلق الأمور، وكلُّ من يدّعي التقييد فهو لم يَنَل نصيباً من أبسط المسائل العلمية، وهو مَحجوجٌ عقلاً ونقلاً.

وبعدما ثبت الإطلاق، فما منشأ لزوم الطاعة المطلقة والمنع من المعصية المطلقة؟ إنّ العلم مهم جداً، ويحتاج الى كمال الدقة، وللأسف أنّ ذلك الجدّ والجهد والاجتهاد قد ذهب.

بعد ثبوت إطلاق الطاعة، وبما أنّ لكلِّ طاعةٍ وعصيانٍ مبادئ خاصة بها، ننقل الكلام إلى المبادئ، فمبدأ الطاعة أمر الآمر، ومبدأ ذلك الأمر إرادة الآمر، هذه أمورٌ برهانية، ومبدأ العصيان هو النهي عن العمل، فما لم ينهَ لا معصية في البَين، وعند التخلُّف عن النهي تقع المعصية، ومبدأ ذلك النهي مبغوضية العمل وكراهته، ونص الرواية يثبت أن طاعة عليّ طاعة الله، ومعصيته معصية الله، فما نتيجة هذه الكلمة؟

نتيجتها أن إرادة عليّ (عليه السلام) إرادة الله تعالى، وكراهة عليّ كراهة الله تعالى، افهموا هذه الأمور جيداً. فإذا كان إطلاق الطاعة والعصيان تاماً، ولم يكن المبدأ غير الكراهة والرغبة، فلا يمكن إلا أن يكون منشأ الإرادة إرادة الله تعالى، ومنشأ الكراهة كراهة الله تعالى.

مَن كانت طاعته طاعة الله مطلقاً وطاعة الرسول في كل الأمور، ومعصيته معصية الله والرسول، فإن إرادته وكراهته فانيةٌ في إرادة وكراهة الله تعالى، وهذا ما تعنيه العصمة.

خلافة عليٍّ عليه السلام بلا فصل

وصل بحثنا(24) في فقه الحديث إلى أنّ الأمر الأول الذي بيّنه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يثبت العصمة المطلقة له (عليه السلام) من الخطأ والهوى، لأنَّ إطلاق أمره ونَهيِه دون تَقَيُّدٍ بأيِّ قيدٍ يعني أنه لازم الطاعة، لأنها طاعة الله والرسول، وهذا محالٌ ما لم تكن إرادة الآمر والناهي وكراهته غير متخلِّفة عن إرادة وكراهة الذات القدوس تعالى، فتكون النتيجة العصمة المطلقة.

الأمر الثاني: أن هذا النصّ الصحيح يُثبت خلافة علي بن أبي طالب (عليه السلام) بعد النبي بلا فصل، هذا المدعى، أما دليلُ هذه الدعوى:

يجب النظر في موضوع الرواية، لأن المحمول تابعٌ للموضوع سِعَةً وضِيقاً، ونصّ الرواية: مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ الله، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى الله، وَمَنْ أَطَاعَ عَلِيّاً فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَى عَلِيّاً فَقَدْ عَصَانِي.

الموضوع الذي محموله الطاعة عنوانه (مَن)، وهذا العنوان عامٌ لمطلق الإنسان العاقل لغةً وعرفاً، لأنّ (ما) أعم الألفاظ لغير ذوي العقول، و(مَن) أعم الألفاظ لذوي العقول.

وعندما يقول (صلى الله عليه وآله وسلم): مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ الله، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى الله، فهل هناك فردٌ مندرجٌ في عنوان (مَن) وغير محكومٍ بلزوم طاعة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!

 لا معنى لذلك وفق كل المذاهب والمسالك، فكلُّ مَن دخل في دائرة طاعة الرسول وحُكِمَ عليه أنه مطيعٌ للخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، ينبغي عليه أن يكون مطيعاً لعلي (عليه السلام)، وكلُّ من كان عليه ألا يعصيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، لا ينبغي عليه أن يعصي علياً (عليه السلام)، هذا الأصل الأول.

ولمّا لم يكن هناك أحدٌ مستثنى، تصل النوبة إلى النسبة بين المطيع والمُطَاع، فكلُّ من دَخَلَ في دائرة الطاعة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ينبغي أن يدخل في دائرة طاعة عليٍّ (عليه السلام)، وتكون النتيجة أن تمام الأمة مُطيعةٌ، وهو الوحيد المُطاع.

وبعد أن ثبت بمقتضى هذه السنة النبويّة أنه مُطاعٌ من قبل كل الأمة بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فمَن دخل في الأمة يجب أن يكون مطيعاً، ويكون هو (عليه السلام) مُطاعاً، ومن المحال أن يكون أحد غيره خليفةً بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع وجوده (عليه السلام)، لأنّ لازم ذلك أن يكون ذاك مُطاعاً وعليٌّ (عليه السلام) مطيعاً، وهذا مخالفٌ لضرورة هذه السُنّة.

فتكون النتيجة القطعية خلافَتُه للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بلا فصل، وهو غير قابل للجواب، مَعَ فهم المطلب. وفي الرواية دليلان على خلافته بلا فصل:

الدليل الأول: عموم (مَن) بالبيان الذي تقدّم.

الدليل الثاني: العصمة المطلقة التي أثبتتها هذه الرواية له.

وكلُّ من كان من هذه الأمّة غير واجدٍ لمقام العصمة، ينبغي أن يكون تابعاً لهذه العصمة المطلقة عقلاً وكتاباً وسنةً.

وبعد البناء على ضروريات العقل، مِن أنّ على غير المعصوم من الخطأ والهوى أن يتّبع المعصوم من الخطأ والهوى، تكون كلُّ الأمة بالضرورة تابعةً له (عليه السلام) لأنها فاقدةٌ للعصمة، ويكون هو (عليه السلام) متبوعاً لأنّه واجدٌ لهذه العصمة، فيكون في هذا البيان برهانٌ على خلافته بلا فصل.

على أنّ لهذه القضية لازماً عقلياً، وشرعياً، وعُرفياً، فإنّه بعد ثبوت العصمة المطلقة لعلي (عليه السلام)، وبعد كون نتيجة عموم (مَن) خلافته للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بلا فصل، وبما أن الجمع بين الضدين محالٌ، فإنّ خلافة غير المعصوم مع وجود المعصوم مردودةٌ بحكم العقل والكتاب والسنة.

فبعد إثبات خلافته (عليه السلام) يصبح بطلان خلافة مدّعي الخلافة بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) تاماً.. هذا ما يتعلق بفقه الحديث.

 

الرواية الثانية: حديث المنزلة

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا خرج إلى تبوك، وَاسْتَخْلَفَ عَلِيًّا: أي جعل علياً خليفة لنفسه: أَلاَ تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ نَبِيٌّ بَعْدِي.

مع فَرقٍ في المنزلة، وهو أنّ لتنزيلك تلك المنزلة استثناءٌ، حيث كان هارونُ نبياً بعد موسى (عليه السلام)، لكنك فاقد النبوة، لأني خاتم النبيين.

والبحث في مقامات ثلاثة:

أولاً: في مصادر الحديث.

ثانياً: في سَنَد الحديث.

ثالثاً: في فِقه الحديث.

مصادر الحديث

هذا الحديث من الأحاديث التي اتّفقت عليها كافّة الفرق الإسلامية دون استثناء، وهو معروفٌ عند العامة والخاصة بحديث المنزلة، لذا فإن المصادر التي تعرّضت لنقل الحديث في حدّ التواتر، ونحن نتعرض لقسمٍ منها فقط:

صحيح البخاري وهو أصحُّ الكتب في موردين، في الجزء الخامس والرابع(25)، صحيح مسلم، سنن الترمذي، سنن ابن ماجة، الخصائص في موارد متعددة، المستدرك للحاكم، تلخيص الذهبي، مسند امام الحنابلة ج1 في موارد متعددة وج3 وج6، فضائل الصحابة، السنن الكبرى للبيهقي، مجمع الزوائد للهيثمي، مسند أبي داوود الطيالسي، مصنف عبد الرزاق، مسند الحميدي، مسند بن جعد، مصنف ابن أبي شيبة، مسند ابن راهويه، مسند سعد بن أبي وقاص، السنن الكبرى للنسائي، مسند أنس، صحيح ابن حبان، المعجم الأوسط للطبراني في مجلداتٍ عدة، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد في موارد متعددة، نظم درر السمطين، شواهد التنزيل، الطبقات الكبرى، تاريخ بغداد في عدة مجلدات، تاريخ مدينة دمشق، أسد الغابة، تهذيب الكمال، تهذيب التهذيب، ذكر أخبار أصفهان، البداية والنهاية، السيرة النبوية لابن كثير، سبيل الهدى والرشاد، ينابيع المودة.. والعديد من المصادر الأخرى.

وعليٌّ أوّلُ مظلومٍ مع كل هذه الشواهد على حقّانيته، وهو القائل: فَصَبَرْتُ وَفِي العَيْنِ قَذىً وَفِي الحَلْقِ شَجاً.

سند الحديث

كان بحثنا(26) في حديث المنزلة، ولأنّ هذا الحديث حجةٌ إلهيةٌ بالغةٌ على إثبات حقّ أمير المؤمنين (عليه السلام)، ينبغي ملاحظة سنده ومتنه بدقة، دون أيّ تعصُّبٍ ورأيٍ مُسبَقٍ وحُبٍّ وبُغض.

لقد أشَرنا لقِسمٍ من مصادر الرواية، والنكتة المهمة في هذا البحث والتي تَلزم الفقيه في كل بحثٍ هي فهم مراتب الحديث، وفي كل حديث احتمالان:

1. أحدهما احتمال كذب المُخبِر.

2. وثانيهما احتمال خطأ المُخبر.

وما لم يرتفع هذان الاحتمالان لا يُعقل أن تتم الحجية.

أما مبنى دفع احتمال الكذب فهو عدالة الراوي، بناءً على حجية خبر العادل، ووثاقة الراوي بناءً على مبنى حجية خبر الثقة، لأن العامّة يشترطون العدالة، لذا فإنَّ احتمال الكذب يُدفع بعدالة الراوي.

وأما احتمال الخطأ فيُدفع بأصالة عدم الغَفلَة، التي تثبتها سيرة العقلاء في كلّ معاملاتهم وأخبارهم، والتي تقوم على أصالة عدم غفلة المخبِر.

وهذان الأصلان يتمِّمان حجية خبر الواحد مع عدالة الراوي، لكنّ المهم مرتبة الحديث، وهو بحثٌ آخر، فكلّما زاد عدد الرواة يضعف كلا الاحتمالين من الناحية العلمية، فمثلاً إذا روى الخبر شخصان عادلان، فإنّ ذلك يختلف عمّا لو رواه شخٌص واحد، لأنّه وبحسب الاحتمالات الرياضيّة فإنّ احتمال الخطأ مع تعدُّد الرواة يصبح أقل، ومثله احتمال مخالفته للواقع.

وإذا وصل عدد المخبرين إلى عشرة أشخاصٍ، ينخفض ويضعف احتمال الخطأ وخلاف الواقع بهذه النسبة، إلى أن يصل الخبر إلى حدّ التواتر، وحينها ينتفي الاحتمال بالوجدان، ويحصل العلم بإصابة الخبر للواقع ويتحقّق.

كلُّ هذه المطالب قائمةٌ على البرهان، والدقة لازمةٌ في هذا البحث، لأنّ الطرف المخاطَب علماء المذاهب الأربعة، مع اختلاف مراتبهم.

وبالنسبة لهذا الحديث فينبغي أن يتم إثبات صحته، والتعرُّض لمرتبة الصحة أيضاً.

أما بالنسبة لصحة الحديث، فإن الكتب الروائيّة عند العامة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

1. أوّلها الصحاح، مثل الصحاح الستة، وفي أعلى درجاتها صحيحا البخاري ومسلم.

2. ثانيها المسانيد، مثل مسند إمام الحنابلة أحمد، وأضراب هذه المسانيد.

3. ثالثها السُنَن.

وإذا ورد حديثٌ في الصحاح وفي المسانيد وفي السنن معاً تكون مرتبة الحديث من هذه الجهة مرتفعة أيضاً عند أصحاب الدقة والعلم والحكمة، وبَحثُنا من هذا القبيل، ونتعرض لقسمٍ من ذلك:

يقول ابن عبد البر في الاستيعاب، وكلماتُ أمثاله لها حساب خاص:

وروى قوله صلى الله عليه وسلم: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» جماعةٌ من الصحابة، وهو من أثبَتِ الآثار وأصحّها(27).

العمدة في هذه الجملة: وهو من أثبَتِ الآثار وأصحّها، وهذه هي الحجّة الإلهيّة، ونحن نلتزم بأمانة النقل لأنّهم لا يقولون (وآله).

جماعةٌ من الصحابة: والصحابة عند أئمة المذاهب عدولٌ، ويستدلون على عدالتهم بالكتاب والسنة، أما من الكتاب فبقوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ﴾(28).

وأما من السنة فبحديث: مَثَلُ أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، وهذا استدلال امامهم الفخر الرازي.

وفي أسنى المطالب ص53 عَبَّر الحافظ الجزري: متّفق على صحّته بمعناه من حديث سعد بن أبي وقاص: والصحّة لها مراتب، فالرواية قد تكون صحيحةً، وقد يُجمِعُ كل العامة على صحّتها، مع اختلاف تمام المشارب في الحديث، وهذا الحديث منها.

وينقل الحافظ أبو القاسم ابن عساكر فيقول: روى هذا الحديث جماعةٌ من الصحابة منهم عمر وعليّ وابن عباس وعبد الله بن جعفر ومعاذ ومعاوية وجابر بن عبد الله الأنصاري وجابر بن سمرة وأبو سعيد وبراء بن عازب وزيد بن أرقم .. وفاطمة بنت أبي حمزة.

فَمِن مزايا الحديث أنّ من رواته حتى مَن بَذَلَ ما بذل لمحو فضائله (عليه السلام)، هذا ما يحيّر العقل، فَمَن دفع مئات الآف الدنانير ليختَلِقَ حديثاً يفيد أنّ قوله تعالى ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْري نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ الله‏﴾ قد نزل في ابن ملجم قاتل أمير المؤمنين (عليه السلام)، مِثل هذا ينقل عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ عليّاً (عليه السلام) منه: بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، وسيُعرَف بعد ذلك معنى هذا الحديث، هذا هو معاوية بن أبي سفيان، وهو واحدٌ من الرواة، وواحدٌ آخر من الرواة عُمِر بن الخطاب، وهكذا.

وفي شرح السنة للبغوي ج14 ص113 بعد نقل الحديث: هذا حديثٌ متّفقٌ على صحته، وقال الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل ج1 ص195: هذا هو حديث المنزلة، الذي كان شيخنا أبو حازم الحافظ يقول: خرّجته بخمسة الآف إسناد. هذا ما ينبغي أن يُفهم.

وبهذا(29) فإنّه علاوةً على نقل صحاح العامة كصحيح البخاري ومسلم ومسانيد وسنن العامة، فإن تعدُّد أسانيد الحديث قد وصل إلى حَدٍّ محيّر، ولا يوجد في روايات الخاصة والعامة سَنَدٌ بهذه القوة، وههنا مطلبان:

أحدهما: تعبير أبي حازم الحافظ بأنّ عدد أسانيد الحديث قد بلغ خمسة آلاف، ومثل هذا المقدار منحصرٌ بهذا الفرد من الأحاديث بعد تصريح مثل هؤلاء.

وثانيهما: تعبير الحاكم وهو من أعلام العامة: هذا حديثٌ دَخَلَ في حَدِّ التواتر(30). وهذه المزية تقطع حجة كل معاند، والتواتر من الناحية الفنية مُفيدٌ للعلم لا للعلميّ، وبينهما بونٌ بعيد.

إنّ الأحاديث الضعيفة إذا بلغت إلى حدِّ التواتر تكون حجةً عقلاً وعقلائياً وشرعاً، فكيف بالحديث الذي يكون سنده صحيحاً أعلائياً بشرط البخاري ومسلم، مثل هذا الحديث وبتلك الصحة إذا بلغ إلى حدّ التواتر يكون برهاناً قاطعاً يُركِع كل معاند.

هذا سند الحديث، وبهذا انتهينا من المرحلتين الأولى والثانية: مصادر الحديث، وسند الحديث.

فقه الحديث: منازل هارون

المرحلة الثالثة فقه الحديث ودراية الرواية، ورُبَّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه، والمهم هو فقه الحديث.

متن الحديث: عَلِيٌّ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى‏.

عَلِيٌّ مِنِّي: فالموضوع عليٌّ (عليه السلام)، ومنزلته ونسبته مِنِّي، وياء (مِنِّي) لمن تعود؟ لعقل الكلّ وكلّ العقل، عِلم الكلّ وكلّ العِلم، إمام كافة الأنبياء والمرسلين، خلاصة الخِلقة، خاتم النبوة والرسالة، في هذه الرواية تتبيّن منزلة عليّ (عليه السلام) بالنسبة لهذه الحقيقة المحمدية، فأيّ منزلة هذه؟

ثم ينزله: بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى‏: فكما كانت منزلة هارون (عليه السلام) من موسى بن عمران (عليه السلام)، فإنّ لِعَليٍّ نسبة مثلها بالنسبة لي.

وههنا نكتتان مهمّتان من الناحية العلمية وتحوزان أهمية كبيرة:

الأولى: إطلاق المنزلة وعمومها، فكلّ المقامات التي كانت لهارون من موسى ثبتَت لعليٍّ (عليه السلام) من النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم).

الثانية: حدود الإستثناء، فإنّ كلّ ما استثناه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من منزلة هارون لموسى بالنسبة لعلي (عليه السلام) هو النبوّة.

فقد كان هارون نبيّاً، أما أنا فلأني خاتم النبيين، تُستثنى النبوّة وحدها من كل المنازل التي ثبتت لهارون من موسى (عليه السلام)، فالحديث يدلّ على العموم.

وتصل النوبة لتحقيق منازل هارون من موسى ‘، حتى تثبت هذه المنازل لعليٍّ (عليه السلام) بمقتضى هذا العموم والاستثناء، والمرجع القرآن، كلام الله، أصدق الكلام، فيجب الرجوع إليه، وأخذ مفتاح قفل الحقائق من كلام الله.

1. الوزارة

ينبغي التَنَبُّه إلى الخصوصيّات المهمّة التي وردت في سورة طه، حيث يلزم النظر فيما أعطاه الله أولاً لموسى (عليه السلام) كالعصا واليد، ثم قال له: ﴿اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾(31)، فأمَرَهُ أن يذهب بهذه الآيات إليه.

﴿قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي﴾: افهموا جيداً مِن أين يبدأ الدعاء وكيف يُختَم، موسى نبيٌّ من أنبياء أولي العزم، من زُمرة خمسة أنبياءٍ هم سادات الأنبياء، يسأل الله تعالى أن يشرح له صدره!

شَرحُ صدري أنا وصدرك أنت غيرُ شرحِ صدره هو (عليه السلام)، دقِّقوا في ذلك جيداً، ذلك الصدر الذي وصل إلى مقام كليم الله، يطلب موسى (عليه السلام) أيضاً أن يشرح الله له صدره.. هذه أولاً.

وثانياً: ﴿وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي﴾: أمرُ موسى هو بلاغ النبوة والرسالة الإلهية، وهو الذي يدعو موسى (عليه السلام) الله تعالى بأن يُيَسِّرَهُ له، وبعد أن طلب هذين الطلبين، ما كان طلبه الثالث؟

ثالثاً: ﴿وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾: لكلِّ هذه الآيات شرحٌ مفصل.

وبعد أن تمَّ كلُّ ذلك مما يتّصل بنبوته ورسالته كان طلبه الأخير: ﴿وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي﴾، فهل فهمت أيها الفخر الرازي؟

واجعل لي وزيراً، وليكن هذا الوزير من أهلي، فينبغي أن يكون وزير موسى من أهله، ووزير الخاتم ينبغي أن يكون من أهل الخاتم أيضاً: عَلِيٌّ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى‏..

﴿هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي﴾، وههنا مطلبان آخران:

1. اشدُد أزري بوزيري وهو هارون، وكل هذه المطالب ينبغي تحقيقها وسنتعرض لذلك لاحقاً إن شاء الله.

2. والمهم قوله: ﴿وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي﴾: اجعل هارون وزيري شريكاً في أمري، وبعد أن تم ذلك قال تعالى: ﴿قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى﴾ فقد أُعطِيتَ ما طلبت، وبعد أن تم كلّ ذلك ماذا تكون منزلة عليٍّ (عليه السلام) من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) باستثناء النبوة؟

يصبح شريكاً في أمر خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومشدِّدَاً لأزر النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ﴾، هذا هو وزيرُ خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، وهذا معنى: بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى‏. ويأتي بيان ضمّ القرآن إلى السنة.

معنى الوزير

بحثُنَا في فقه الرواية(32)، وفي المقامات التي ثبتت لهارون من موسى، وأنّ مقتضى عموم المنزلة يثبت تمام تلك المقامات، وبعد إثبات الاستخلاف قال موسى: ﴿وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي﴾، فينبغي معرفة ما معنى الوزير، والمرجع هو اللغة، وينبغي أن نرى ما قال أئمة أهل اللغة في هذه الكلمة.

كتاب العين للخليل بن أحمد ج7 ص380: الوَزَرُ: الجبل يلجأ إليه، يقال: ما لهم حصن ولا وَزَر، وينبغي الدقة جيداً في مثل هذه التعابير، فالوزير من الوَزَرُ، والوَزَرُ الجبل لأنه الملجأ والحصن، وعلى أهل الدقة والنظر التأمل في هذا الحديث، وتتمة كلام الخليل: والوزير: الذي يستوزره الملك، فيستعين برأيه.

وفي معجم مقاييس اللغة ج6 ص108: وزر: الواو والزاء والراء أصلانِ صحيحان: أحدهما الملجأ، والآخَر الثِّقَل فى الشَّيء. الأوَّل الوَزَر: الملجأ. قال الله تعالى: كَلّٰا لٰا وَزَرَ... والوزير سمِّى به لأنّه يحمل الثِّقل عن صاحِبِه.

فوَجهُ التسمية هو حمله الثِّقل، وتلك المسؤولية التي يحملها الملك في إدارة المُلك، حيث أن سرّ تلك المسؤولية في عهدة الوزير.

وفي لسان العرب ج5 ص282: الوَزَرُ: المَلْجَأُ، وأَصل الوَزَرِ الجبل المنيع، وكلُّ مَعْقِلٍ وَزَرٌ.... قال أَبو إِسحق: الوَزَرُ في كلام العرب الجبل الذي يُلْتَجَأُ إِليه، هذا أَصله. وكل ما التَجَأْتَ إِليه وتحصنت به، فهو وَزَرٌ.. ووضعت الحربُ أَوْزارَها أَي أَثقالها.

هذه كلمات أهل اللغة، فالوزير حامل السرّ، ويُكمِل في لسان العرب ج5 ص283: وكذلك وَزِيرُ الخليفة معناه الذي يعتمد على رأْيه في أُموره ويلتجئ إِليه، وقيل: قيل لوزير السلطان وَزِيرٌ لأَنه يَزِرُ عن السلطان أَثْقال ما أُسند إِليه من تدبير المملكة أَي يحمل ذلك.

نتيجة هذا الكلام أن للوزير خصوصيتان: إحداهما الخصوصية العلميّة، بحيث يستعين برأيه من عيّنه وزيراً، وثانيهما الخصوصية العمليّة حيث يُلقي على كاهله ثقل المسؤولية فيتحملها ويؤديها، وما ينبغي الدِّقة فيه هو أنه هل هناك مراتب في الوزارة أم لا؟

وبعبارة فنيّة: هل عنوان الوزير من العناوين المتواطئة أو من العناوين المشككة، وهذا البحث مهمٌ جداً.

مع التأمل في مقامَي الثبوت والإثبات يتضح أن الوزارة معنىً مشكك، حيث لا يعقل وحدة حال الوزير في مملكةٍ صغيرةٍ مع الوزير في المملكة التي تمتدّ من الشرق للغرب، لأنه يُطلَبُ من الثاني الكثير من الآراء، وتُلقى عليه مسؤوليات أكثر من الأول.

وإذا ثبت هذا المطلب بالبرهان والدليل العلميّ، فينبغي المقايسة بين مرتبة موسى بن عمران (عليه السلام) مع مرتبة خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)، حينها يُعلم في أيّ حدٍّ كان وزير موسى (عليه السلام)، وفي أيّ حدٍّ وزير الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، أما موسى: فمن كان؟

اقرأ القرآن وانظر من كان موسى: ﴿وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً(33)، وقد أعطيَ موسى تسع آيات أحدها العصى مقابل القوم الذين: ﴿سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾(34)، فما الذي كان قد حدث حتى وصف الله تعالى فِعلَهُم ذلك في قرآنه بالعظمة؟!

﴿ فَالقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ(35) هذه هي العصا.. وأما اليد: ﴿وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ﴾(36).

ما هي آية وزير مثل هذا النبيّ؟ هذا المهم في البحث.

موسى (عليه السلام) مع عظمته هذه، عندما رأى مقام وليّ العصر، ورأى وصيّ الخاتم، بعد كل ذلك قال: يا إلهي هل يمكن أن تختارني لذلك المقام؟

موسى مع عظمته هذه جاءه الجواب: أن هذا السؤال ليس على قَدرِك!!

أمّا النسبة بين موسى (عليه السلام) والخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) بالبرهان: قال تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الالوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ(37)، و(مِن) للتبعيض، فما كتبناه في كتاب موسى (عليه السلام) بعضٌ من كل شيء، لكنّه تعالى قال في القرآن الذي أنزله على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ(38).

فانظر التفاوت بين (مِن كُلِّ شَيْءٍ) و(كُلِّ شَيْءٍ)، فوزير الخاتم هو مَن يعتمد خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم) على رأيه، هذه معرفة عليٍّ (عليه السلام).

قال تعالى في القرآن: ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً(39)، ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(40)، ومَن يتّكل عليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) علميّاً وعمليّاً هو علي (عليه السلام)، وهو قوله: عَلِيٌّ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى‏، وهذا نَصُّ السنة القطعية، وفي كتاب الله: ﴿وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي(41).

فتكون النتيجة أن علياً أصبح وزير عقل الكل، وزير خاتم الرسل، مَن كان يتّكل ويرتكز ويركَنُ إليه كلُّ الأنبياء أصبح متّكِئاً على عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، هذه نتيجة الكتاب والسنة.

الوزارة في الروايات

كان بحثنا(42) في حديث المنزلة، وقد تقدم البحث في الوزارة، وبَيَّنا معنى الوزارة لغةً وإجمالاً، والبحث الآن فعلاً في الوزارة من جهة الروايات.

وقد تقدم أن مفهوم الوزير عبارةٌ عمن يختاره أمير المملكة، ويساعده على تدبير أمورها، ويكون رأيه معتمداً في مختلف المجالات في السَّلطنة.

وعلى هذا، كيف ينبغي أن يكون وزير النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي كانت دائرة حكومته شاملةً لكلَ أهل العالم؟ علماً وأخلاقاً وأحكاماً، وقد كانت شاملةً للجنّ والإنس، وفي خير أمةٍ أخرجت للناس.

لقد نقل المحدثون والمفسرون من العامة حتى أمثال الفخر الرازي الرواية التالية، التي ننقل مَتنها لأنّ فيها لطائف ودقائق، وينبغي أن تكون مورد نَظَرٍ دقيق عند أهل الفنّ، والرواية عن تفسير الرازي ج12 ص26:

وروي عن أبي ذرّ رضي الله عنه أنه قال: صلّيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً صلاة الظهر، فسأل سائلٌ في المسجد فلم يعطه أحد، فرفع السائل يده إلى السماء وقال: الّلهم أشهد أني سألت في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فما أعطاني أحد شيئاً، وعليّ عليه السلام كان راكعاً، فأومأ إليه بخنصره اليمنى وكان فيها خاتم، فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم بمرأى النبي صلى الله عليه وسلم: نَقلُ الرواية بهذا المتن محيِّرٌ، والمهمُّ من جِهَةِ فقه الحديث أن كلّ ما جرى كان أمام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

فقال: الّلهم إنّ أخي موسى سألك فقال: ﴿ربّ اشرح لي صدري﴾ إلى قوله ﴿وأشركه في أمري﴾ (طه25-32) فأنزلتَ قرآناً ناطقاً ﴿سنشدُّ عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً﴾ (القصص: 35).

الّلهم وأنا محمدٌ نبيّك وصفيّك: أنا الذي اصطفيتني على كل الأنبياء.

 فاشرح لي صدري: فكما طلب موسى أن تشرح صدره أطلب منك أن تشرح صدري، وبالرجوع للقرآن نقرأ: ﴿ألم نشرح لك صدرك﴾، وشرح صدر موسى (عليه السلام) كانت نتيجته التوراة والألواح، أما شرح صدره (صلى الله عليه وآله وسلم) وثمرته فهو القرآن، القرآن العظيم، القرآن الحكيم، ﴿وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ‏ء﴾، هذا شرح صدره.

ويسِّر لي أمري: إلى هنا الكلام كُبرَويٌّ، ومن هنا يأتي الكلام في الصُغرى والبحث الجزئيّ، ومِن العجائب أنّ محدثي العامة وأئمة التفسير نَقَلوُا مثل هذه الرواية، ومنهم الفخر الرازي إمام المشككين، ونصل للمطلب وهو قوله (صلى الله عليه وآله وسلم):

واجعل لي وزيراً من أهلي: من هم أهل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ هل فهمتَ أيها الفخر أم لا؟ أهل النبي: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾(43)، فالوزير من أهله.

هل كان أبو بكر من أهله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ هل كان عُمَر من أهله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ لم يكتفِ بهذا بل صرّح فقال:

علياً اشدُد به ظهري: ليس الوزير من أهلي مطلقاً، بل خصوص عليٍّ (عليه السلام).

قال أبو ذر: فوالله ما أتمَّ رسول الله هذه الكلمة: فوالله، وممن هذا اللفظ؟ ممن أقرّت كافة مذاهب العامة بأنّه أصدق الناس لهجةً.

 حتى نزل جبريل فقال: يا محمد إقرأ ﴿إنما وليكم الله ورسوله﴾ إلى آخرها.

هل هناك حجةٌ فوق هذا؟ إنّ العمى والحيرة مِن إعماء الله لهم!

هل هناك نصٌ بَيِّنٌ على خلافة عليٍّ (عليه السلام) بلا فصلٍ أعلى من هذا النص الشريف وهذه الآيات المباركة؟

لم يُكمِل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دعاءه وطلبه لوزارة عليّ (عليه السلام) حتى أتى جبرئيل بالآية فصارت الولاية لله أولاً وللنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثانياً ولعلي (عليه السلام) ثالثاً، فما الذي يمكن قوله مقابل هذه الحجة؟ هذا القرآن كتاب الله ينطق بهذا، وهذه سنة خاتم الرسل (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومدلول الحديث يثبت وزارة علي بن أبي طالب (عليه السلام) وشدّ أزر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) به. في المقابل ماذا فعلوا؟

في مقابل هذا الحديث وضعوا حديثاً لكي يطفؤوا النور، ولكنه بدلاً من أن يُطفَأ النور، صار كل ما حاكوه ونسجوه هباءً.

اختلاق الأحاديث مقابل وزارة علي عليه السلام

ثَبَتَ منصب(44) وزارة خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم) لأمير المؤمنين (عليه السلام) بما مرّ من السنة القطعية، وهو المطلب الذي ليس لكافة أئمة العامة خيارٌ بعدم قبوله، لأن السُنَّة مُسَلَّمَةٌ عند الجميع سنداً ودلالة.

ولكن ماذا فعلوا في مقابله؟ وضعوا في قبال هذا الحديث في مصادرهم حديثاً أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إن لي وزيرين من أهل السماء ووزيرين من أهل الأرض، فأما وزيراي من أهل السماء فجبرئيل وميكائيل، وأما وزيراي من أهل الأرض فأبو بكرٍ وعمر(45).

والآن ينبغي تحقيق حال هذا القول من الجهة العلمية، والبحث في اعتباره.

إنّ أحد شرائط حجية الرواية أن لا تكون مخالفةً للعقل والكتاب والسنة، فإذا خالف حديثٌ العقلَ القطعيَّ لا يمكن أن يكون معتبراً، وكذا لو خالف الكتابَ والسنة القطعية.

أما العقل القطعيّ، فقد دل على أنّ إقرار كلِّ عاقلٍ على نفسه أو بما فيه ضرره نافذٌ، وهذا الأمر يحكم به العقل عند كل الأمم والملل، وأساس القضاء في درجته الأولى قائمٌ على الإقرار.

وأما السنة القطعية فقد اتفق كل أئمة الفقه على أن كلَّ أحدٍ يؤخذ بإقراره، فإن كان إقراره بما فيه نفعه يحتاج لشاهدٍ، أمّا إن كان بضرره فلا يحتاج لأيِّ أمرٍ آخر، وهذه القضية ثابتةٌ في فقه جميع المذاهب.

ومع هذه المقدّمة ينبغي ملاحظة الرواية التالية بدقّة، وهي من المصادر المسلّمة عند العامة دون مصادر الخاصة.

الرواية: فصعد (عُمَر) المنبر وحمد الله تعالى وأثنى عليه وقال: أيها الناس لا تزيدوا في مهور النساء على أربعمائة درهم، فمن زاد ألقيتُ زيادته في بيت مال المسلمين، فهاب الناس أن يكلموه(46).

وههنا مطالب:

1. الأوّل: أنه نهى عن الزيادة في مهر النساء عن أربعماءة درهم.

2. الثاني: أنّه قال أنّه سيأخذ تلك الزيادة.

3. والثالث: أنه قال أنّه سيضع الزيادة في بيت مال المسلمين، فهاب الناس أن يكلموه.

فقامت امرأةٌ في يدها طول فقالت له: كيف يحلّ لك هذا والله تعالى يقول: ﴿وآتيتم إحداهنّ قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً﴾.

ما كان ردُّ فعله بعد أن استشهدت المرأة بكلامه تعالى؟ وقالت أنّه لا يحلّ لك أن تذهب إلى ما ذهبتَ إليه؟

فقال عمر رضي الله عنه: امرأةٌ أصابت ورجلٌ أخطأ.

وقد نقل الباقلاني ذلك في التمهيد (ص501)، وهو من أعيان متكلمي العامة، بل نقلها مفسرو السنة ومحدِّثو العامة.

والمهم هذه الجملة عندما قال: كلُّ الناس أفقه منك يا عمر!!

وههنا بحثان: أحدهما سند هذه القضية، والثاني دلالتها.

فينبغي أن يكون السند تاماً من الناحية العلمية، وكذا الدلالة لتصبح حجةً على إثبات الدعوى.

أما السند، فقد عبَّرَ أئمة الحديث بقولهم: تواترت الأسانيد الصحيحة بصحة خطبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب(47).

ولم ترد مثل هذه الجملة في مختلف روايات البخاري ومسلم، يعني أن يكون الحديث بهذه القوة، وينبغي على أهل الفن أن يفهموا هذه الأمور جيداً ليتمكنوا من إثبات الحق ومحو الباطل.

لا يشترط صحّة السند في التواتر من الجهة العلميّة، وذلك باتفاق أصوليي العامة والخاصة، فإذا وصل الخبر لحدّ التواتر أفاد العلم، والعلم حجةٌ عقليةٌ، لذا فإن السَّنَدَ لا يُطرَحُ في باب المتواترات، ولكنَّ المهم هنا هو أن الأسانيد الصحيحة قد وصلت لحدّ التواتر، وهذا ما قلناه أنّه لا وجود لمثل هذا الخبر في تمام صحاح العامة ومسانيدهم وسُنَنِهم، وذلك بتصديق إمام أهل النقد، فالذهبيُّ أيضاً اعترف به. فبلغ السند من القوّة إلى هذا الحد.

أما الدلالة: لقد عُلِم بالضرورة أنّه ليس هناك من أمرٍ في الدين أعلى من حقّ الناس، لأنَّ كل معصية تُغفَرُ بالتوبة إلا حقّ الناس، وأوّل قطرةٍ تسقط من دم الشهيد، حتى الشهيد الذي يسقط مع الإمام المعصوم، تُغفر له بها كلُّ ذنوبه، إلا حقّ الناس! فبأيِّ حقٍ يأخذ خليفة المسلمين مال الناس خلافاً لِنَصِّ القرآن؟!

هل هناك جهلٌ أكبر من ذلك؟

ثم بعد أن أخذه أراد أن يضعه في بيت المال!! هذا الخطأ الثاني.

أما الخطأ الثالث: فعندما يضع المال في بيت المال سيُقَسَّمُ على المسلمين، فيكون سبب أكلهم جميعاً للحرام هو عمر بن الخطاب!

لو اجتمع كل علماء الأزهر، واتّفق كل علماء السعودية، هل عندهم قدرةُ الإجابة على هذا المطلب؟

هذا الكلام ينتشر إلى الدنيا، ولا يبقى محصوراً بين هذه الجدران الأربعة.

فكيف بكلام امرأةٍ مقابل أمير المؤمنين؟ عندما تتكلم امرأةٌ أمامه فتُبَيِّنُ خطأه خلاف القرآن، ثم يصل الأمر إلى إقراره على نفسه، وأيُّ إقرار: كلُّ الناس أفقه منك يا عمر!!

هل هذا نص القرآن أم لا؟ ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ(48)، ﴿أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾(49).

فبحكم العقل والقرآن والسُنَّة: يجب أن تكون تلك المرأة إماماً وعمر بن الخطاب مأموماً! مِثلُ هذا يصبح وزير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)!

عندما يُصاب العقل أو يُسلَب فماذا يمكن أن نفعل؟ مَن هو الوزير؟

العين للخليل وهو إمام أهل الفنّ بالاتفاق: والوزير: الذي يستوزره الملك، فيستعين برأيه(50).  

هذا معنى الوزير، وهو مَن تستند أمور المملكة وتُدار بالاتّكاء إليه.

وفي معجم مقاييس اللغة: والوزير سُمِّي به لأنّه يحمل الثِّقل عن صاحِبِه(51).

وفي لسان العرب: الوَزَرُ: المَلْجَأُ، وأَصل الوَزَرِ الجبل المنيع، وكلُّ مَعْقِلٍ وَزَرٌ.. قال أَبو إِسحق: الوَزَرُ في كلام العرب الجبل الذي يُلْتَجَأُ إِليه، هذا أَصله. وكل ما التَجَأْتَ إِليه وتحصنت به، فهو وَزَرٌ.. ووضعت الحربُ أَوْزارَها أَي أَثقالها(52).

ويكمل في لسان العرب: وكذلك وَزِيرُ الخليفة معناه الذي يعتمد على رأْيه في أُموره ويلتجئ إِليه.

وقد مر تفصيل ذلك وبيان حقيقة الوزارة، وتكون النتيجة أن وزير النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) عُمَر!!

وزير عقل الكل، وزير مرجع تمام الأنبياء هو عمر! فالنبيّ يرجع إليه!

وهو الذي يجب أن تعتمد على رأيه هذه الأمة! ثم يعترف هذا الوزير بنفسه أن النساء أفقه منه! فهل هذا الحديث قابلٌ للقبول؟! هذا برهانٌ ناطقٌ.

فإذا كان جبرائيل وزير النبي في السماء، وقد قال تعالى: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى﴾(53)، أفَهَل يُعقل أن يكون وزير خاتم النبيين في الأرض مَن كان أدوَنَ من جميع أهل الدنيا وأقلَّ فهماً؟

هكذا تحاربون علياً؟ ألا تخجلون حتّى من وُجدَانِكُم؟ تختلقون هذا الحديث مقابل وزارة عليّ (عليه السلام)؟ ألا تعلمون أن سُمعتَكم جميعاً من المفسرين والمحدّثين كالذهبي، والمتكلِّمين كالباقلاني، ستذهب مع الريح بهذا الشكل؟!

2. الأخوة

كان البحث(54) في فقه حديث المنزلة، وكانت المنزلة الأولى الوزارة، وقد بُحِثَت إلى حَدٍّ ما، والثانية الأخوّة، لأنّ مدلول الحديث أنَّ علياً من النبيّ بمنزلة هارون من موسى، فمقتضى عموم التنزيل واستثناء النبوة من الجهة العلميّة أن جميع المزايا التي ثبتت لهارون من موسى قد ثبتت لأمير المؤمنين (عليه السلام) من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قطعاً، وإحدى هذه المزايا هي الأخوّة: ﴿هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي﴾.

فيكون مقتضى عموم هذا التنزيل إثبات أخوّة عليّ (عليه السلام) للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، مع فارقٍ هو أن تلك الأخوّة كانت نسبيّة، وهذه الأخوة ليست في النَّسَب لكنّها في جميع المراتب، لذا حتّى لو لم يكن هناك أيُّ مستندٍ آخر فإنّ هذا الحديث بنفسه يثبت الأخوّة، وهو الذي اتفقت جميع المذاهب على صحته، علاوةً على كونه في حد التواتر.

أنت أخي في الدنيا والآخرة

مضافاً إلى روايات الفريقين التي تثبت الأخوّة بشكل تامّ ومنها هذه الرواية:

عن عبد الله بن عمر قال: لما ورد رسول الله (ص) المدينة آخى بين أصحابه، فجاء عليٌّ تدمع عيناه فقال: يا رسول الله، آخيت بين أصحابك ولم تؤاخ بيني وبين أحد، فقال رسول الله (ص): يا علي أنت أخي في الدنيا والآخرة.

أولاً: نتعرض لمصادر هذا الحديث إلى حدٍّ ما.

وثانيا: نتعرّض لفقه الحديث.

وردت هذه الرواية في الكتب التالية من متون العامة: سنن الترمذي، أسد الغابة، البداية والنهاية، مجمع الدقائق، فتح الباري في شرح صحيح البخاري لابن حجر، تاريخ بغداد، نظم ودرر السمطين، كنز العمال، تاريخ مدينة دمشق، أنساب الأشراف، ينابيع المودة.. هذا قسمٌ فقط من مصادر الحديث في كتب العامة.

وخصوصية هذه الرواية أنها مرويّةٌ عن عبد الله بن عمر بن الخطاب.

ما كان منشأ المؤاخاة؟ وما هي كيفية عقد الأخوّة منه (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ وبأيِّ مناط؟

لقد آخى بعد نزول قوله تعالى ﴿إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَة﴾، وكان هذا أوّل عمل عمله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو الذي فِعلُهُ فِعلُ الله: ﴿وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ الله رَمى‏﴾.

والعمدة على فَهم الحديث، فإنّ فِعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو نفس فعل الله تعالى، فعلى أيِّ نحو آخى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بينهم؟

لقد آخى (صلى الله عليه وآله وسلم) بينهم على قدر منازلهم، ولم تكن هذه الأخوّة دون حساب، لأنّ الأخوّة التي تحصل بيد الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعد نزول الآية لا تكون اعتباطية، إنما بحسب المنازل، فكلٌّ يؤاخى بينه وبين من يتناسب معه، وقد صرّح رواة العامة أنفسهم أن الأخوّة كانت بحسب منازلهم والتَنَاسُب بينهم.

وقد عقد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الأخوّة بين أبي بكر وعمر، وهنا المعجزة!!

وآخى بين عثمان وعبد الرحمان بن عوف!!

إذا أدرك أحدٌ ما هذه الحقائق فإنها الإكسير الأعظم، طالِعوا قضية الشورى عندما جعلها ذاك بين ستة أشخاص وقال: إذا حصل خلاف بينهم فالمرجع رأي عبد الرحمان، وعبد الرحمان اختار عثمان!

هنا يتحيّر العقل، حيث أنّه في اليوم الذي هاجر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة، وكان البناء على تعيين الأخوّة بين الصحابة آخى بين عثمان وعبد الرحمان!! وآخى بين أبي عبيدة وسعد بن معاذ! وهكذا كانت المؤاخاة بين المتناسِبَين من الجهة النفسية والروحية.

هذه الأخوّة كانت بحسب المراتب باعتراف الخصم إذاً، وأصلُها وجذورها في النفوس، والسِّنخيَّةُ عِلَّةُ الإنضمام بناءً على برهان السنخية، فإلى أيّ حَدٍّ كانت السنخيّة بين الأول والثاني حتى آخى (صلى الله عليه وآله وسلم) بينهما؟ بنفس ذلك الحدّ كانت السنخية بين عثمان وعبد الرحمن بن عوف فآخى بينهما، أما السنخية بينه (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين عليّ (عليه السلام)، فقد كان جواب النبي محيراً لعلي (عليه السلام):

فقال رسول الله (ص): يا علي أنت أخي: هنا على الفخر الرازي أن يفكِّر، لَم يَقُل (جعلتك أخي) إنما قال (أنت أخي)، أولئك الأشخاص (جعلتُهُم) أخوةً، أما أنت فلستَ محتاجاً لجعل الأخوّة (أنت أخي)، هذه الإشارة الأولى.

والإشارة الثانية قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): في الدنيا والآخرة: هنا حِيرةُ العقول.

أولاً: بحسب نقل عبد الله بن عمر، وباتفاق تمام علماء المذاهب، فإنّ هذه الأخوّة كانت بحسب السنخيّة والمنازل، وينبغي التأمل في ذلك، فماذا كانت منزلة خاتم النبيين؟ ومن هو الذي يكون لائقاً بأخوّته؟

هنا الحجة البالغة لله تعالى، والتي تُسكِتُ تمام أئمة المذاهب الأربعة، هل كان هناك أحدٌ بهذا الحدّ من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟

هنا البرهان، وهذا بحثٌ عِلميٌّ وفَنيٌّ بناءً على أدقّ موازين الاستدلال، لأنَّ الطرف المقابل هم أركان العامة من أئمة الفنون.

إذا كانت الأخوّة بحسب السنخيّة فهل كان بين أحدٍ من جميع أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سنخيةٌ للأخوّة مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟

الأمر بين النفي والإثبات، فإذا كان منهم من هو كذلك وقد افتخر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأخوة عليٍّ يكون فعله ترجيحاً بلا مرجح، وهو قبيحٌ ومحالٌ من شخص الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، فيثبت بالضرورة أنه لم يكن في مثل هذا الطرز والمستوى أحدٌ من جميع الأصحاب وجميع الأمة، هذا أولاً.

وثانياً: من الجهة الإثباتية، فإنه (عليه السلام) قد صار من نفس طراز من قال فيه تعالى ﴿سُبْحانَ الَّذي أَسْرى‏ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى﴾، فليس (عليه السلام) من طراز موسى (عليه السلام)، بل شأنه أجلّ من ذلك، وليس من طراز عيسى (عليه السلام)، ولا إبراهيم الخليل (عليه السلام)، بل من طراز الشخص الأول لعالم الإمكان (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهل هذا برهانٌ أم لا؟

إذا كان برهاناً، فارجعوا، وإن لم يكن برهاناً أجيبوا، نحن على استعداد.

هذا الكتاب، والسنة، والعقل والمنطق والإستدلال.

إنها أخوّة عقل الكلّ، وكلّ العقل، علم الكل وكل العلم، أخوّة أشرف الأنبياء، أخوّة من كان أفضل من الملائكة، أخوة من قال: أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي‏، وقال فيه تعالى: ﴿دَنا فَتَدَلَّى‏﴾، مَن وصل إلى قاب قوسين، كان عليّ (عليه السلام) من طرازه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعندما وصل (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى هناك (وهذا من مصادر الخاصة) خاطبه الله تعالى بلهجة علي (عليه السلام)، إلى ما قبل هذه النقطة كان الكلام من مصادر العامة، وهذه النقطة كانت من مصادر الخاصة.

ما كان مبدأ هذه الأخوّة؟ وما منتهاها؟ العمدة هو البحث في المبدأ والمنتهى.

مبدأ الأخوّة

كان البحث(55) في هذه الجملة: يا عليّ أنت أخي في الدنيا والآخرة.

ولهذه الأخوّة بين الشخص الأول في العالم (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين عليّ (عليه السلام) مبدأٌ ومنتهى، أما مبدأ وأصل هذه الأخوة ففي الرواية التي نقلها أعلام أهل العامة، كما في: كنوز الحقائق، أخرجه الطبراني، وكنز العمال أخرجه الديلمي، ونحن ننقله عن جلال الدين السيوطي وهو من أعلام العامة وذلك من تفسير الدر المنثور، في ذيل تفسير قوله تعالى: ﴿وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ..﴾ (56).

والرواية: يَا عَلِيُّ، النَّاسُ مِنْ شَجَرٍ شَتَّى، وَأَنَا وَأَنْتَ مِنْ شَجَرَةٍ وَاحِدَة.

فالناس عموماً أُخرِجوا من أشجارٍ شتّى، لكنّي وأنت قد جئنا إلى الوجود من شجرةٍ واحدة.

نفس هذا المبدأ كافٍ ليتضح أصل هذه الأخوّة، وأصل ذلك في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا..﴾ (57).

ينبغي فهم الكتاب والسنة معاً: أَنَا وَأَنْتَ مِنْ شَجَرَةٍ وَاحِدَة، الشجرة التي خُلِقَ منها خاتم الأنبياء وأشرف مَن عليها (صلى الله عليه وآله وسلم) أصلها ثابتٌ، لأنها مستندةٌ إلى الذات القدّوس، وفرعها في السماء، وتلك السماء هي سماء الوحي والتنزيل ﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾.

ثمرة هذه الشجرة غير قابلة للإنقطاع، في كل زمان تُخرِجُ فاكهةَ العلم والحكمة والهداية، بالأمس واليوم وغداً.

إذا دُقِّقَ في المسألة جيداً، فإن القرآن ونهج البلاغة ثمرتان، الأوّل ثمرة الأصل الأول، والثاني ثمرة الأصل الثاني، فهل هما قابلان للزوال؟

وتظهر الحاجة الى ثمار هذه الشجرة عند كلِّ عقلٍ وفي أيّ مرتبة، شاء من شاء وأبى من أبى.

أَنَا وَأَنْتَ مِنْ شَجَرَةٍ وَاحِدَة: إذا كانت تلك الشجرة قد ميّزت الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنسبة للأنبياء، فإنها ميّزت علياً (عليه السلام) بالنسبة للأوصياء.

وكان من ثَمَرِ تلك الشجرة العلم والحكمة: أنا دار الحكمة وعليٌّ بابها.. أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها. وكل هذه الأمور ترجع إلى جملةٍ واحدة: يَا عَلِيُّ.. أَنَا وَأَنْتَ مِنْ شَجَرَةٍ وَاحِدَة.

لا تَمَايُزَ هنا، التمايُزُ في صورة تعدُّد الأصل، فإذا كان الأصل واحداً، وبما أن الفرع منبعثٌ عنه، يكون لا محالة متَّحِداً في كلّ الخصوصيات، لهذا قال (صلى الله عليه وآله وسلم): عَلِيٌّ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، والمستثنى هو النبوّة فقط.

أمّا بعد وصولهم إلى هذه الدنيا، ففي تاريخ الطبري والبلاذري وجامع الترمذي وفضائل الصحابة ومسند إمام الحنابلة، عن زيد بن أرقم وابن عباس قالا: قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أَوَّلُ مَنْ صَلَّى مَعِي عَلِيّ‏.

كلُّ هذا مبنيٌّ على حسابٍ دقيق، ويُطرَحُ من الجهة العلميّة والفنيّة.

أمّا معنى هذه القضية: فإنّ الصلاة معراج المؤمن، ومعراجُ كل شخصٍ بحسبه، ولا يُعقل أن تتحدَّ صلاة المعصوم مع صلاة غيره، هي معراجُ وطريقُ عروج تلك الروح، وهذه طريقُ عروج هذه الروح.

وقد خاطب الله تعالى الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) في القرآن، ولأن الآية موجِبةٌ للسجدة لا نتلوها، ولكنّ مضمونها أن القرب مني في حالة السجود(58).

إن الصلاة التي أتى بها الدين تبدأ من تكبيرة الإحرام، وفيها سبع تكبيراتٍ، ورَفعٌ لتمام الحُجُب، ومن ثمّ الإبتداء باسم الله الرحمن الرحيم، وأمّ الكتاب، والتي فيها تمام القرآن، واسم الله الأعظم مُقَطَّعاً، وبعد هذه السورة تصل النوبة للركوع ونهاية الأمر السجدة، وهناك مقام القرب.

وأما صلاة الخاتم، ففيها كان هو الإمام، وكان المأمومُ شخصاً واحداً هو عليٌّ (عليه السلام)، ومع تلك السجدة وتلك التكبيرات إلى أين يمكن الوصول؟

المطلب مهمٌ بقدر أن الحِميري فَحل الأدب يقول في بيانه:

ألم يصلِّ عليٌّ قبلهم حججــاً * * * وَوَحَّدَ الله ربَّ الشمس والقمر

وهؤلاء ومن في حزب دينهم * * * قومٌ صلاتهم للعــود والحــجر

هذا كافٍ لأن يفكِّرَ المتفكِّرُون في مَن كان أوّل مَن صلى مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ في مَن كان يعبد رب الشمس والقمر لسنواتٍ حينما كان الأول والثاني يسجدان لهُبَل واللات تلك السنوات؟

هذا سرُّ الحديث، وفيه يصرِّحُ عبد الله بن عمر أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) آخى بين الأصحاب بحسب المشاكلة، وبهذا آخى بين أبي بكر وعمر.

إن كان هناك عقلٌ، فهل أخ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي كان وجوده (عليه السلام) ووجود الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) من شجرة واحدة، ومَن لم يسجد لغير الله طيلة عمره بالاتفاق، يكون هو الرابع؟ ومن كانت أخوّته بذلك الحدّ وسَجَدَ للأصنام سنواتٍ يصبح الخليفة الأول؟

العقل هنا أم هناك؟ الكتاب هنا أم هناك؟ السنة هنا أم هناك؟

إنّ برهان بطلان خلافة غيره بلا فصل، وأحقيّة خلافته بلا فصل، هو العقل والكتاب والسنة.

أَنْتَ أَخِي‏: أليس مَن كان أخاً للخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) أولى من الجميع بالخاتم في الدنيا والآخرة؟ هذا حكم القرآن والسنة القطعيّة، وكفاه بأنّه سَبَقَ الناس بفضل الصلاة والتوحيد، وقد نُقِلَ أنّه جاء جبرائيل بأعلى مكة فانفجرت من البادية عينٌ حتى توضأ جبرائيل بين يدي رسول الله، ثم توضأ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه، أولاً جبرائيل ثم الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبعدهما كان عليٌّ أول شخصٍ يتوضأ.

هذه السنّة وهذا القرآن: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولئِكَ المُقَرَّبُون‏﴾.

بين الباب والجدار يُسلَبُ حقُّه، لكن أين العينُ التي ترى؟

منتهى الأخوّة

كان البحث(59) في الأخوّة، التي كانت ثاني مِزيَةٍ من مزايا هارون، لكنّها كانت في هارون أخوّةً في النسب وفي المشاكلة الروحية والنفسية، والأخوّة الأولى ليست قابلةً للإنتقال، أما الأخوّة الثانية فإنها ثابتةٌ لأمير المؤمنين (عليه السلام) من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمقتضى حديث المنزلة، غاية الأمر أن هذه الأخوة أخوّة في الدنيا والآخرة.

والأخوة في الآخرة ليست قابلةً للإدراك، لأنّه وفق الروايات العامة والخاصة، فإن أول من يُنادى من قِبَل الله تعالى هو خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم)، والثاني هو أمير المؤمنين (عليه السلام)، والثالث هو إبراهيم الخليل (عليه السلام).

لواءُ الحمد في يد عليّ (عليه السلام)، والحوض تحت يده، كلُّ هذه مظاهر الأخوّة الأخروية، وهذه الأخوّة من الضروريات بين العامة والخاصة، ولا تحتاج إلى بحث، ونفس حديث المنزلة كافٍ لإثبات هذه الأخوّة، وقد بُيِّنَت بألسِنَةٍ مختلفة.

مناقشتان

وفي الرواية التي كانت مورد بحث عن عبد الله بن عمر مناقشتان:

أولاهما: النقاش السندي.

وثانيهما: النقض بتحقق هذه الأخوة بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وغير أمير المؤمنين (عليه السلام)، وينبغي الجواب عليهما.

المناقشة في سند رواية الأخوّة

أما الاشكال السندي: فإنّ هذه الرواية قد رويت عن جميع بن عمير، ورواها عن عبد الله بن عمر بن الخطاب، ووقع جميع بن عمير في إشكالٍ سنديٍّ حيث يقول البخاري: فيه نظر(60). وابن عدي يقول: هو كما قاله البخاري. وضعّفه ابن نمير. وقال الذهبي أنه متّهم(61). هذا ما ورد في قدح هذا الرجل.

أما أبو حاتم الذي يعدُّ عَلَمَ أعلام رجال العامة فيصرِّح بأنّه: كوفيّ تابعيّ.. محلُّه الصدق، صالح الحديث.

فشَهِدَ له بالصدق، وشهد لأحاديثه، وبين هذين الأمرين فرقٌ، فقد يكون الراوي صادقاً لكنّ مضمون أحاديثه مورد تأمل ونقاش، فلا إشكال أنه لا ملازمة بين صدق الحديث وصحة مضمونه، وشهادة أبي حاتم لهذا الرجل كانت في الجهتين: هو صادقٌ بنفسه، وحديثه سالمٌ ولائقٌ، ومورد قبولٍ من حيث المضمون.

وقال الساجي: صدوق. وقال العجلي: تابعي ثقة(62).

فعنده شهادةٌ على صِدقه وصَدوقِيَّتِه، وكونه ثقة، وعنده شهادةٌ على أنّ أحاديثه من جهة المتن موافقةٌ للكتاب والسنة، وميزان صلاح الحديث هذين الأمرين. والعمدة أنه ينبغي رفع مشكلة ذلك الجرح.

والجرح على قسمين من الجهة الفنية: تارة يُجرَحُ بأصل عدالة الراوي وصِدقه، فيُتَّهَمُ بالكذب، وهذا أحد وجوه إلغاء الحديث أو التوقف فيه.

وعند العامة وجهٌ آخر وهو مخالفة الشخص في مذهبه لمذاهب العامة، والعمدة على تحقيق هذه الجهة، فهل تضعيف البخاري وغيره من جهة كذبه؟ أم من جهة مذهبه؟ لأن هناك فرقاً دقيقاً بين هذين الأمرين بحسب مباني العامّة، فتارةً يكون الجرح من جهة كونه كاذباً وليس ثقة، وتارة يكون الجرح من الجهة المَذهبيّة، وفي هذه الحالة يكون الجرح مذهبياً، لماذا؟

لأن ابن حِبان يقول: كان رافضياً.

لأنه رافضي لا تُقبَل روايته، وتحقيق المسألة من الناحية العلميّة مهمٌ، فمع شهادة أبي حاتم بصدقه، والساجي بصدوقيته، وشهادة العجلي بوثاقته، يكون الجَرحُ مستنداً لمذهبه لا محالة، أي لأنّه كان شيعياً جُرِحَ من هذه الجهة، لكنّ هذا الجرحَ ساقطٌ، ليس تعبُّداً على مباني الشيعة، لكن برأي نفس محققي العامة.

إن جملة من علمائهم مثل القاضي وغيره يقولون: إذا كان من أهل القبلة ولكن لم يكن يوافق العامة في المذهب لا تقبل روايته.

لكن رأي محققي العامة من قبيل الفخر الرازي (وهذا تحقيق أعلام العامة): أن الكافر لا تقبل روايته بالإجماع. وأما أهل القبلة فإنهم على قسمين: قسمٌ يقول بجواز الكذب، وروايتهم ساقطة، ووجه السقوط هو أنهم مع هذا الاعتقاد لا يُضمن الخبر الذي يروونه من جهة الصدق والكذب.

وقسمٌ يعتقدون حرمة الكذب فتكون روايتهم مقبولة حتى لو لم نشترك معهم في المذهب مثل الرافضة.

فتكون النتيجة: أنه علاوةً على الشهادة بالوثاقة والصِّدق والصَدوقيّة من أعيان المعدِّلين في الرجال، يكون هذا الرجل مقبولَ الرواية، وجَرحُ البخاريّ إما مستندٌ إلى قول إبن حِبان أنّه من الروافض، أو محتَمَلُ الإستناد، ولا إشكال أنَّ هذا الراوي ليس من الذين يقولون بجواز الكذب اتفاقاً، فتكون النتيجة أنَّ رواية جميع بن عمير حجةٌ على مسلك أعلام فنّ الفقه والأصول والرجال.

فالمناقشة من الذهبي وحتى من البخاري مردودةٌ، لأن غايتها اتّهامه بالرفض، والاتّهام بالرفض لا يُسقِطُهُ مع وجود شهادة أبي حاتم بصدقه، وأنّه صالح الحديث، فتكون شهادته حجةٌ بلا إشكال.

وعلى كلِّ حالٍ، نقاشنا مع محققي العامة مثل الفخر الرازي وأمثاله، ويكون الإشكال في السند ساقطاً.

على أنَّ قضيّة أخوّة أمير المؤمنين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليست محتاجةً إلى سند، لأن الروايات على قسمين: قسمٌ يدل بالمطابقة على الأخوّة، وأنه (عليه السلام) أخ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقسمٌ يدلّ بالدلالة الإلتزامية والأولويّة القطعية.

وهذا القسم جزءٌ من روايات الأخوّة من الجهة العلميّة أيضاً، لأن الدلالة على الأخوة من الجهة العلمية لا يلزم أن تكون بالمطابقة، فالحجة تشمل الدلالة مطابقيةً كانت أو تضمُّنيَّة أو التزاميّة.

وهذه الرواية (الآتية)، واحدةٌ من تلك الروايات الدالة بالملازمة القطعية أن المسألة قد تجاوزت الأخوّة أيضاً بين أمير المؤمنين (عليه السلام) وخاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم)، فالنسبة بينهما أشدُّ من الأخوّة، وهذه الروايات قد صحَّحَ الجميعُ سَنَدَها، ولأنّ هذا الرجل هو الوحيد الذي يضعِّفُ كلَّ حديثٍ من الأحاديث التي فيها منقبةٌ لأهل البيت (عليهم السلام)إن كان ممكناً، أو يُناقش فيه، ننقله عنه، وهو يقول عن الحديث: صحيح.

متن الرواية بنقل الذهبي، ونَقَلَهُ عنه الآخرون، ولكن لأنّه هو إمام الناقدين ننقل روايته:

عن أبي إسحاق قال سألت قصب بن عباس: كيف ورث عليٌّ رسولَ الله دونكم؟

أي أن السائل يسأل قصب بن عباس: أنت ابن عم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو (عليٌّ) ابن عمه، فماذا حصل حتى صار هو وارث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم تصبحوا كذلك؟ السؤال ذو معنى عميق.

وعلى مسلك العامة لم يكن للنبي ميراثٌ من المال، وإنّما ترك ميراث العلم، وذاك هو علم الخاتمية، هذا مسلك العامة، والسؤال: ماذا حصل حتى ورث ذلك العلم، وأيُّ علم؟ العلم الذي عبر عنه القرآن: ﴿وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً﴾، فعلم الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) يعني علم 124 ألف نبيّ، كلُّهُ جُمِعَ فيه، وهذا الميراث وصل لعلي (عليه السلام)، لماذا؟

هو هنا يرى أن الأقرباء إن لم يرثوا ذلك فالغرباء لن يرثوه بطريقٍ أولى، لذا لم يسأل: لماذا لم يرثه أبو بكر وعمر؟ فإنهما ليسا طرفاً في الميراث، ومَن يُحتَمَل فيه ذلك هو ابن عم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهو من الأصحاب، بل من كبار الصحابة.

والجواب يتضمن علّتين:

قال: لأنّه كان أوّلنا به لحوقاً، وأشدَّنا به لُصوقاً: العلَّةُ في مطلبين: أنه (عليه السلام) أوّل من كان ملتَحِقَاً بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بينما نحن تأخرنا، فيكون إرث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) له هو، مهما كان الإرث، والثاني أنّه كان أكثر التصاقاً منّا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأيّ التصاقٍ ذلك؟ إنّ أشدّنا كلّنا التصاقاً واتحاداً معه (صلى الله عليه وآله وسلم) هو علي بن أبي طالب (عليه السلام).

هكذا ينبغي فَهم القرآن، لا كما يفهمه الفخر الرازي! نَصَّ القرآن على أنَّ علياً (عليه السلام) نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهل هناك أشدّ من هذا؟ وهل تكون الأخوّة محلاً للتأمل مع ذلك؟ هذه الشبهة الأولى وجوابها.

أما الشبهة الثانية: فإنهم قالوا أنّه كان هناك شركاءٌ آخرون في الأخوّة مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا بحثٌ مهم، ونحن سنُثبِتُ إن شاء الله بشكل ندعوا معه جميع علماء العامة معاً للجواب عليه: وهو أن كلّ ما في الصحاح الستة حتى في صحيح البخاري مما روي في فضل هذين الشخصين الأول والثاني كله بمقتضى نص القرآن ونص السنة القطعية باطلٌ، هذا أيضاً جواب المسألة الثانية.

تتميم

كان بحثنا(63) في هذه الرواية، وهي قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام): أنت أخي في الدنيا والآخرة. وقد تمت مناقشة سند الرواية والتفصيل بين أمرين: الأول من جهة البخاري والذهبي وهو قولهم عن الراوي أن فيه نظر أو أنّه مورد تهمة، ومن جهة التصريح بأنّه من الكذابين.

أما القسم الأول فلا يعارِض شهادة أبي حاتم بصدقه وقول العجلي بوثاقته، لأنّ البخاري لم يصرح بتضعيفه وإنما قال أنّ فيه نظر. وكلام البخاري نفسه مردودٌ، حيث أنه في تاريخه يروي عن امرأةٍ بتوسط هذا الشخص.

فننقض أولاً، ثم نقول: أنّ قوله (فيه نظر أو أنه متهم) هو قولٌ مجمَل، لأن إحدى المناقشات التي وقعت حول هذا الشخص هي التدليس، وإحدى المناقشات هي أنه من أهل الرفض، وإحدى المناقشات هي أنّه من القدرية.

بناء على ذلك فإن شهادة مثل البخاري والذهبي تصبح مجملةً مردّدةً بين النقاش المذهبي وكونه من القدرية، ولا محالة لا يكون كلامهم قابلاً لمعارضة المبيَّن لأنه مجمل، فشهادة أبي حاتم والعجلي مبينة، وجرح هؤلاء الأشخاص مجمل، ولا يعقل التعارض بين المجمل والمبين، هذا حل الإشكال الأول.

الإشكال الثاني: وهو قول مثل أبي حِبان أنّه من الكاذبين، وإن تمت هذه الشهادة تصبح معارضة للشهادة بصدقه، ولكن هذه الشهادة أيضاً مخدوشةٌ، لماذا؟ لأن أبي حِبان نفسه يصرِّح أنّه روى كذبه عن مكتوم، ومكتوم مورد اختلاف، له توثيق وله تضعيف، فقد نُقِلَ عن جماعةٍ بأنهم ضعّفوه، فيكون مستند القائل بكذبه ساقطاً عن درجة الاعتبار، وتكون الشهادة بصدقه ووثاقته بلا معارض، هذا الجواب السندي.

والمهم أن مُستندنا في بحث الأخوّة الروايات المتعددة، وخبر المنزلة الصحيح كاشفٌ عن أن المقصود في المنزلة هو كلُّ ما كان لهارون من موسى، وإحدى مقامات هارون هي الأخوّة، غاية الأمر أن أخوّة هارون كانت على قسمين: إحداهما الأخوة النسبية، وهي غير قابلة للسراية بحديث المنزلة، وثانيهما الأخوة من جهة المشاكلة النفسانية، وهذه الأخوة تَثبُتُ بحديث المنزلة.

المناقشة الثانية: برهان قاطعٌ على أهل الخلاف

البرهان القاطع هو أنّ أهل الخلاف قد سعوا إلى أن يخدِشوا بأخوّة عليّ (عليه السلام) بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويُثبِتُ البرهان وِفق القواعد الفنيّة رجاليّاً وأصوليّاً أنّ مِثل هذه المناقشات التي قيلت مُختَلَقَةٌ، غاية الأمر أنّ قدرة الحق تتجلى في أنه لو لم يكن هناك قمرٌ لأشرقت الشمس، وكلُّ تلك المقامات التي أنكروها أو اختلقوا مثلها للآخرين، ثبتت له (عليه السلام)، بل ثبت له مقامٌ أرفع منها وأعلى.

تلك الشمس التي مع طلوعها ذهبت بكل ما حاكوه، حيث صنعوا أخوّةً للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قِبال عليٍّ (عليه السلام)، وناقشوا في حديث الأخوّة، تلك الشمس التي محت كل شيء هي هذا: في صحيح البخاري ج3 ص168، كتاب الصلح: بعد أن كُتِبَ الصلح بيد أمير المؤمنين (عليه السلام)، وتمت تلك القصة، لأن الرواية من البداية مفصلة، ومورد الشاهد هو:

فَخَرَجَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) فَتَبِعَتْهُمُ ابْنَةُ حَمْزَةَ: يَا عَمِّ يَا عَمِّ. فَتَنَاوَلَهَا عَلِىٌّ فَأَخَذَ بِيَدِهَا، وَقَالَ لِفَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلاَمُ دُونَكِ ابْنَةَ عَمِّكِ، احْمِلِيهَا. فَاخْتَصَمَ فِيهَا عَلِيٌّ وَزَيْدٌ وَجَعْفَرٌ، فَقَالَ عَلِيٌّ أَنَا أَحَقُّ بِهَا وَهْيَ ابْنَةُ عَمِّي. وَقَالَ جَعْفَرٌ ابْنَةُ عَمِّي وَخَالَتُهَا تَحْتِي. وَقَالَ زَيْدٌ ابْنَةُ أَخِي. فَقَضَى بِهَا النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) لِخَالَتِهَا. وَقَالَ «الخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الأُمِّ». وَقَالَ لِعَلِيٍّ «أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ».

هذه الجملة حجةٌ قاطعة، غاية الأمر: ﴿خَتَمَ الله عَلى‏ قُلُوبِهِمْ﴾.

قَالَ لِعَلِيٍّ: أَنْتَ مِنِّي، ليس هذا فقط، بل: وَأَنَا مِنْكَ.

هذا المطلب نقله البخاري في الصحيح، لا في التاريخ، في صحيحه الذي يُعَدُّ أوّل مرجعٍ عند العامة بعد القرآن، نقلها في كتاب الصلح، وفي باب عمرة القضاء.

النكتة التي يفهمها أهلها هي أنّه نقلها في هذين الموردين بنحوٍ مُسنَدٍ، والسندُ تامٌ، وأسانيد البخاري غير قابلةٍ للمناقشة عند كلّ أصحاب مذاهب العامة، ونقلها أيضاً في كتاب مناقب الصحابة (مناقب المهاجرين وفضلهم) دون سَنَد، يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم لعليّ: أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ.

إذا كان هو من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منه، فمِثلُ هذا أقرب من الأخ، وهو قوله: أنت مني وأنا منك.

سأعرض لشرح هذا الحديث مفصلاً لاحقاً إن شاء الله، غاية الأمر ولأجل أن نقطع دابر كل شبهة، ونُثبِت كلّ المقامات والمناصب نشير إلى أنها كلّها مندرجة في هذه الجملة، الأخوّة والوزارة والشركة والوصاية.

هل عندهم قدرةٌ للإجابة على هذا؟ ذهب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الدنيا، فكيف جلس أبو بكر مكانه؟ مع وجود من كان النبي منه وهو من النبي؟ بأي منطق؟ وبأي حجة؟ إذا كان عند علماء المخالفين قدرةٌ على الجواب فليجيبوا.

بعد رحلة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومع وجود من كان وجوده من وجود الخاتم، ووجود الخاتم منه، يعني عين أحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، أفلا يكون تصدي أيّ أحد غيره لأمر هذه الأمة مخالفاً للكتاب والعقل والسنة القطعية؟ تمام البحث في هذه الخلاصة.

وأصل هذه الجملة وهذه السُنَّة (أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ) مِنَ الله تعالى.

أين ذلك؟ قال تعالى: ﴿فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ العِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ الله عَلَى الكَاذِبِينَ﴾(64).

هذا حكم القرآن بأن علياً (عليه السلام) نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لاتفاق تمام المذاهب على أنّه ما كان معه غير ابنته وولديه وأمير المؤمنين (عليهم السلام)، وقالوا كلُّهم أنّه كان مصداق (أَنفُسَنَا)، فهذا القرآن وهذه دلالته على أنه (عليه السلام) نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا صحيح البخاري وروايته أن علياً (عليه السلام) من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منه (عليه السلام).

أوليس الفصل بينه (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين نفسه (عليه السلام) بأبي بكر وعُمَر وعثمان مخالفاً للقرآن ولصحيح البخاري؟

3. شدّ أزر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)

﴿وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي﴾(65).

المطلب الثالث(66) من مقامات أمير المؤمن (عليه السلام)، والذي يُثبِتُه ضمُّ القرآن للسنة، بعد الخلافة والوزارة والأخوة هو شَدُّ الأزر، وكان موسى (عليه السلام) قد طلب من الله تعالى وزيراً من أهله يشدُّ به أزره (يعني ظهره)، وقد طلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عين هذا الطلب بنصّ الرواية المعتبرة عند جميع الفرق.

والبحث المهم هنا هو مقدار ثقل حمل الرسالة، فهي الوساطة بين الخالق والخلق، ومقدار مسؤولية هذه الواسطة، على أن دائرة الرسالة تختلف بحسب اختلاف الرسل، فإنّ دائرة رسالة الأنبياء المرسلين في حَدٍّ، ودائرة رسالة أولي العزم في حدٍّ أعلى، بمقدار رِفعة مقامهم، إلى أن تصل إلى الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم).

لا يمكن تصوّر هذا المطلب لكلِّ أحد، فإن دائرة رسالة خاتم الأنبياء والمرسلين (صلى الله عليه وآله وسلم)، ترتبط بالأمة التي بُعثَ فيها ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ(67)، هذا من جهة الكميّة، وجهة الكيفيّة، أما من جهة الزمان فهو إلى يوم القيامة، فَكَم هو ثِقل هذا الحمل الذي به تهتدي هذه الأمة؟ إنه يتضمن المعارف المرتبطة بالمبدأ والمعاد والنفس ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ﴾(68)،  فإنَّ نفس الإنسان مهمةٌ بقدرٍ حيث أن كل الآفاق في جهة والأنفس في جهة أخرى.

أتزعم أنك جرمٌ صغيرٌ * * * وفيك انطوى العالم الأكبر

فكم يكون ثِقل حمل هداية هذه النَّفس لأعلى المراتب والمقامات؟!

﴿اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي﴾ فما لم يساعده في الحمل لا يصل الحمل إلى محلّه.

مَن شَدَّ عضُدَ الأنبياء جميعاً من آدم إلى عيسى هو خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن من الذي شَدَّ عضد خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم)؟

طلب (صلى الله عليه وآله وسلم) بحسب الرواية التي نقلها العامة أنفسهم أن يَشُدَّ الله تعالى أزرَه بشخصٍ من أهله، وقال أبو ذرّ أنه ما أتم كلامه حتى نزل قوله تعالى ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ وعيّن علياً (عليه السلام)، والعمدة والبرهان القاطع ههنا:

بماذا يُشَدُّ الأزر في نشر معالم الدين؟

يُشَدُّ بطريقين: أحدهما باللسان، وثانيهما باليد، فبِيَدِ مَن انتشر الدين في الدنيا؟ وبلسان من حُلَّت مشكلات دين الأمة؟

البرهان الواضح على هاتين الكلمتين هو أمران: أحدهما إحقاق الحق، وثانيهما إبطال الباطل.

أما إحقاق الحق فإنّ مطالِبَهُ متّفَقٌ عليها، لا يخالفها إلا من كان بلا عقلٍ ولا عِلم، فمَن بات مكان النبي ليلة المبيت وحفظ روح النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ مَن كان؟

لمن كانت تلك اليَدُ التي ضربت خراطيم الخلق في بدرٍ وحنينٍ والخندق وخيبر حتى قالوا لا إله إلا الله؟ لسانُ مَن كان ذلك اللسان الذي حلَّ كلَّ مشكلةٍ من مشاكل الأمة؟ هذه القضايا من باب اثنين واثنين أربعة.

ومن حيث المثال، ولأن البحث مع أمثال الفخر الرازي لا أيٍّ كان، ننقل هذه الرواية التي اتفقت كافة الصحاح والسنن وحتى الكتب الكلامية عند العامة على نقل قضيتها، وفي سند الرواية نقلٌ بطريق البزاز وكل رجاله من أصحاب الصحاح، وفيها شخص يعبرون عنه بأن: محله الصدق.

وفي الرواية أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أعطى الراية في اليوم الأول لأبي بكرٍ في خيبر، لكنه رجع منهزماً هو ومن معه.

لماذا فعل ذلك (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ لكي يشير لمثل الفخر الرازي إلى حقيقة من كان يشدُّ أزر النبي فعلاً، وإلى من لم يكن لائقاً لهذا المقام.. ففيه جهة النفي والإثبات.

وهذا برهانٌ وليس كلاماً خطابياً، فكلُّ هذه القضايا وقعت مورد اتفاق، وقد ابتُلِيَت الأمة بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمثل هؤلاء.

لذا فإن البراهين على بطلان خلافة هؤلاء الخلفاء، وبراهين إثبات خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بلا فصل هي آلاف آلاف الأدلة، ليس دليلاً ودليلين، وهذه القضية واحدةٌ منها.

وفي اليوم الثاني أعطى (صلى الله عليه وآله وسلم) الراية لعمر، ماذا يعني فعله هذا؟

ما عبروا عنه بالنسبة لهذا الرجل: فرجع هو وأصحابه منهزمين، يُجَبِّنُ أصحابَه وأصحابُه يُجَبِّنُونه، فمن كانوا فاقدين لكلِّ شيءٍ مقابل مَرحَب، هل عندهم قدرة حمل الثقل الكبير ومسؤولية النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)؟ إنّ العقل مُهمٌّ!!

والمهم هنا: أنّ تمام الصحاح والسنن تنقل هذا المتن:

لأعطين الراية: أولا اللام، ثم نون التوكيد الثقيلة.

غداً رجلاً: لكلّ كلمةٍ معنى: ماذا يعني رجلاً؟ يعني لا رجل غيره، لم يكونوا رجالاً! ينبغي فهم الحديث، رجلاً، وأيُّ رجل؟ يتمتع بخصوصيتين، الخصوصية الأولى:

يُحِبُّ اللهَ ورسولَه: هذه الدلالة المطابقية، وما معنى الدلالة الالتزامية؟ إنها تعني أن الشخصين لم يكونا قد أحبّا الله ولا رسولَه.

برهانه أيضاً أنهم قدّموا أرواحهم على الله تعالى وعلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهاتان الدلالتان المطابقية والالتزامية، وما يحيّر العقل أن مسلم والبخاري وابن حنبل وغيرهم يروون هذا الحديث، أما عند العمل تجدهم محرومين من فقه الحديث بهذا الشكل.

ومقامه الثاني أنه هو محبوب الله والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم):

ويُحِبُّهُ الله ورسولُه: فإلى أيّ مقامٍ وصل حتى أصبح حبيبَ الله وحبيبَ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ المطلب مهمٌ جداً إلى حَدِّ أنَّ ذلك الرجل أذهَبَ النوم من عيون الجميع، حتى صاروا في حالة ترقبٍ لمعرفة من هو ذلك الشخص.

ولما طلعت الشمس كان الجميع بانتظار معرفته، كلّ هذا نص الكلمات التي نُقِلَت بطُرُقِهم، لما طلعت الشمس جاء (صلى الله عليه وآله وسلم) بين الأصحاب وأول كلمة قالها: أين علي؟ اتضحت القضية حينها، والقصة مفصّلة، والأمر المهم المرتبط بالبحث هو شرح المواقف التي حصلت، ومن المواقف المسلّمة أن الشخصان قد فرّا وتركا الراية التي كانت راية فتح خيبرٍ، وأعطيت لعلي (عليه السلام).

الآن فكِّروا، لو فكَّرَ أحدٌ ما هو كتاب المواقف؟ وشرح كتاب المواقف من جهةٍ أخرى، هذا كتابٌ يُعَدُّ مفخَرَةَ علم الكلام عند العامة، هو وشرحه.

والبخاري وشرح ابن حجر والسنن الكبرى للبيهقي من جهةٍ أخرى، كلّهم ينقلون: لأعطين الراية غدا رجلاً.. بهذه المقامات.

من يُشَدُّ به الأزر؟ عليٌّ أم الاثنان؟ هذا السؤال، فما جوابه؟ مَن دخل للميدان وقَتَل؟ ومِمَّن فرّ الإثنان عند الخوف؟

من الذي قلع باب خيبر؟  وَالله مَا قَلَعْتُ بَابَ خَيْبَرَ.. بِقُوَّةٍ جَسَدِيَّةٍ، وَلَا حَرَكَةٍ غِذَائِيَّةٍ، لَكِنِّي أُيِّدْتُ بِقُوَّةٍ مَلَكُوتِيَّةٍ، وَنَفْسٍ بِنُورِ رَبِّهَا مُضِيئة.

﴿وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي﴾: ما استتمّ كلامه حتى نزل جبرئيل (عليه السلام) وقال: وزيرك عليّ بن أبي طالب.

الآن ينبغي أن يُحَكَّم العقل: هل ينبغي أن يجلس الإثنان الفراران محلّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعده؟ ويجلس عليٌّ في بيته؟

أيُّ عقلٍ وأيُّ دينٍ يمكن أن يؤدي إلى هذه النتيجة؟

البرهان القاطع يثبت أنهما مفضولان وأنه الفاضل!

أليس ترجيحُ المفضول على الفاضل باطلاً عقلاً وكتاباً وسنةً؟!

أما العقل: فلا يحتاج الأمر إلى بحثٍ، فمن ذا الذي لا يلومك إن قدَّمتَ الجاهل على العاقل؟ إلا من لم يكن عنده وجدان الآدميين!

وأي عقل يُقرُّ عملك إن قدّمت الجبان على الشجاع؟

واذا رجعنا للقرآن: ﴿لاَّ يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ الله المُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى القَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحُسْنَى وَفَضَّلَ الله المُجَاهِدِينَ عَلَى القَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً(69).

فأين يستوون مع الذين جاهدوا في الله؟ هذا نصُّ القرآن.

أما السُنَّةُ القطعية: فحاكمةٌ أيضاً أنّ من تَسَلَّمَ الخلافة بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو المفضول، وقد جلس الفاضل في بيته! هل هذا عدلٌ أم ظلم؟

ظُلمٌ بَيِّنٌ بلا ترديد.. أياً كان مَن فَعَلَ ذلك، وأيّاً كان من اعتقد ذلك فهو ظالم.. ﴿ أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظَّالِمِينَ﴾(70).

العلم والحكمة عند من يُشدّ به الأزر

كان البحث(71) في شَدِّ أزر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والكلام في الحديث الذي وقع مورد اتفاق الفريقين: عَلِيٌّ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى‏، إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي.

وإحدى الخصوصيات التي كانت في هارون هي شَدُّ الأزر ﴿هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي﴾، فينبغي أن يكون الذي يجلس بعد الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) ممن يُشدُّ به أزرُ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالضرورة، وهو من كان جامعاً لأمرين: أحدهما: القُدرَةُ والصَّولة، وأن يكون كراراً غير فرّار، وثانيهما: العلم والحكمة.

أما بالنسبة للقدرة والصولة فقد تقدّم بحثها، وأما بالنسبة للعلم والحكمة: فما كان مورد اتفاقٍ دون أن يناقش فيه أحدٌ، بل لا يمكن لأحدٍ أن يناقش فيه، هو أنّ حلال المعضلات العلميّة والمشكلات الدينية هو علي بن أبي طالب حصراً.

ولكن إلى أي حدٍّ كان المستوى العلمي لمن جلسوا مكانه على مِسنَد الخلافة؟!

ههنا روايةٌ نقلها أساطين محدّثي العامة، ورجال السند بأكمله مورد وثوق، والرواية من الجهة الفنية حجةٌ عند العامة، وهذه الرواية هي:

جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال يا أمير المؤمنين إنّي غبت عن امرأتي سنتين فجئت وهي حبلى، فشاور عمر رضي الله عنه ناساً في رَجمِها: ومشاورته للأصحاب هنا لكونه محتاجاً في هذه المسألة.

 فقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين إن كان لك عليها سبيلٌ فليس لك على ما في بطنها سبيل، فاترُكها حتى تضع: فإنّ ما قاله معاذ يعني أن المرأة إن كانت مقصِّرة لكن أيُّ ذنبٍ للطفل في رحمها؟ ألم يكن الطفل سيقتل في هذا الرجم؟ وإذا كان سيموت، فما الحال يوم الحساب الذي لا يغادر صغيرةً ولا كبيرة؟ ﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾ أيُّ جوابٍ ستجيب به؟ هذا منطق معاذ بن جبل، فماذا فعل عمر؟

فتَرَكَهَا فولدت غلاماً قد خرجت ثناياه، فعَرَفَ الرجلُ الشبّه فيه، فقال: ابني ورب الكعبة، فقال عمر رضي الله عنه: عجزت النساء أن يلدن مثل معاذ.

إلى أيِّ حَدٍّ كان الجهل؟ ينبغي أن تُحَلَّلَ هذه المطالب جيداً بناء على العلم والبرهان، لا بالسب والشتم والتهكم.

إنّ أقلَّ إنسانٍ عاقلٍ يفهم أنّ الأم لو كانت مذنبةً فأيُّ ذنبٍ للطفل في رحمها؟ إذا كانت الأمّ مستحقةً للجزاء لِفعلٍ فعلته فأيُّ معصيةٍ للطفل في رحمها؟ هذه من أبجديات المطالب!

وقد كان الخليفة جاهلاً إلى حدٍّ وبعيداً عن العلم إلى حدِّ أن كلمة معاذ جعلته يقول أنّ النساء عجزت أن يلدن مثله!! هذا حَدُّ علم الخليفة الثاني! ثم ختم الكلام الذي نقله المحدثون: لولا معاذ لهلك عمر. وهذا اعترافه واقراره.

الخلاصة: أنت مَن ادّعيت أنك أمير المؤمنين وخليفة المسلمين وأنك قد نجوت من جهنم بهذه الكلمة!! بأيّ منطق تجلس كخليفةٍ للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟

ههنا يعجز الجميع، لأن من نقل هذه القضايا قد نقلها عن الثقات، ونقلها أرباب الحديث وأساطين المحدثين وأرباب الفَنّ.

وههنا ظهرت مشكلةٌ لعلماء العامة، وهي مشكلةٌ لا يمكن حلُّها بأيّ عقلٍ ومنطق، فكيف تكون خلافة النبي هكذا؟

وبما أن لكلّ إنسانٍ فطرة، وبما أنّه لا يُعقَل أن تكون خلافة خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي نزل عليه القرآن بهذا النحو، ويكون الجالس مكانه (صلى الله عليه وآله وسلم) والآخذ لخلافته على هذا القدر من الجهل! مع وجود من عنده ذلك المقدار من العلم؟!

إن ذلك لا يعقل، إذ كيف تتقبّل فطرة البشر مثل هذا؟!

وجدوا الحل لذلك فيما يلي، وقد ذكر ذلك أساطين أهل العامة ممن سنذكر أسماءهم وهم مورد اتفاق الكل والمرجع العلميّ لكافة أئمة المذاهب الأربعة في علم الكلام، ومنهم: الباقلاني صاحب التمهيد، والعضدي صاحب المواقف..

لقد وجد هؤلاء أنّ حلّ العقدة في أن يطرحوا هذه النظريّة في باب الخلافة، وهذه ليست نظريّة شخصٍ واحد.

فقالوا: جوّز الأكثرون إمامة المفضول مع وجود الفاضل!

ههنا يعجز الجميع ويظهر الحق كالشمس، فمع وجود الفاضل الذي يقول: سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي فَلَأَنَا بِطُرُقِ السَّمَاءِ أَعْلَمُ مِنِّي بِطُرُقِ الأَرْض‏، تكون إمامة هذا المفضول جائزة!! وهو الذي يقول: لولا معاذ لهلك عمر!!

وما يدعوا لتعجُّب أكابر أهل العلم فعلاً هو قولهم أنّ إمامة المفضول مع وجود الفاضل جائزةٌ شرعاً، فقولهم (جوّز الأكثرون) يعني شرعاً، أن يكون الإمامُ جاهلاً مع وجود العالم! أن يكون الإمامُ فاسقاً مع وجود العادل!

قالوا هذا لكنهم لم يلتفتوا إلى أنهم خالفوا نصّ القرآن الكريم: ﴿إِنَّ الله اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العِلْمِ وَالجِسْمِ وَالله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَالله وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾(72)، لقد قَدَّمَ الله طالوت عليكم جميعاً، ووجه تقديمه أمران: أحدهما شجاعته وثانيهما علمه وحكمته.

هذا نَصُّ القرآن الكريم، فماذا تفعلون مع نَصّ القرآن هذا؟

النتيجة: أنَّ مذهب العامة مخالفٌ لنصّ كلام الله تعالى، وقد صرحوا كلُّهُم أن الجاهل يمكن أن يكون إماماً مع وجود العالم! ونَصَّ القرآن أنّه لا يمكن!

هل لأحدٍ منهم قدرة الجواب على هذا؟

لقد تعلقت مشيئة الله تعالى بأن يَظهَرَ حقُّ عليٍّ (عليه السلام)، ويظهر أن أبا بكر وعمر في أسفل سافلي الجهل، وذلك بما يلي:

قال الجمهور: والكلام للباقلاني في التمهيد، وينبغي أن تفهم الدنيا حتى تعرف أين الحق وأين الباطل.

قال الجمهور من أهل الإثبات وأصحاب الحديث: لا ينخلع الإمام بفِسقه: إذا صار إمام الأمة وخليفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فاسقاً تبقى إمامته محفوظةً مع الفسق!! هذه الكلمة الأولى.

وظلمِه: وإذا صار ظالماً أيضاً يبقى خليفةً وإماماً للأمة! حتى لو وصل ظلمه لهذا الحد:

بغصب الأموال، وضرب الأبشار، وتناول النفوس المحرمة: أن يصل حدُّه حتى إلى أن يقتل تلك النفوس التي حرمها الله تعالى فلا يسقط بذلك عن إمامة الأمة وخلافة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)! هذا مذهبٌ؟!

وتضييع الحقوق: فلو ضيَّعَ حقَّ كلِّ صاحبِ حَقٍّ لا يخرج عن كونه إماماً! كلام من هذا؟! ليس كلام زيد وعمرو، إنه كلام الباقلاني!! وآخر كلمة:

وتعطيل الحدود: فلو عَطَّلَ كلَّ حدود الله تعالى لا يضرّ ذلك بإمامته!!

فهل هذه هي خلافة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ هذا القرآن يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾(73)، فإلى هذا الحدّ انعَدَمَ الوَعي؟!

عندما يكون حَدُّ إدراك الباقلانيّ هو هذا، فما محل بقيّة العامة من الإعراب؟! هذا هو مذهب الحقّ؟!

ومن جهةٍ أخرى فإن إمام الجماعة الذي يأخذ بعهدته القراءة عن المأموم يجب أن يكون عادلاً! أما خليفة النبيّ وإمام الأمة فإنه يبقى على إمامته في نظر متكلمي العامة ولو كان أفسق الفساق!

هل الحق هنا أم هناك؟ ﴿قُلْ فَلله الحُجَّةُ البَالِغَةُ﴾.

4. أشركه في أمري

﴿وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي﴾(74) الشِّركة في أمر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)  ثابتةٌ في القرآن والسنة، فقد طلب موسى (عليه السلام) من الله تعالى إشراك هارون (عليه السلام) في أمره.

وبحسب الرواية التي اتفق العامة والخاصة على صحتها وهي حديث المنزلة، فإنّ كلّ ما ثبت لهارون من موسى ثبت لمن دعا له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): عَلِيٌّ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، وضَمُّ هذا الحديث للقرآن الكريم يُثبت أنّ أحد مناصب أمير المؤمنين (عليه السلام) الشّركة في أمر خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم).

وفَهمُ هذا المطلب صعبٌ جداً، فمَن يُريد أن يُصبح فقيهاً في هذا الحديث ينبغي عليه أن يرى أولاً ما هو أمر الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم بعد ذلك يبحث عن الشّركة في هذا الأمر.

أولاً: ينبغي أن يُفهم التفاوت ما بين أمر موسى (عليه السلام) وأمر الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، فبعثة موسى (عليه السلام) كانت محدودةً، وأَمرُهُ كان بدائرة التوراة والألواح، أما أمر الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو فوق أمر تمام الأنبياء، ونِسبَةُ تَفَوُّقِ وليِّ الخاتم (عليه السلام) على سائر الأولياء هي نفس نسبة تفوق الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) على سائر الأنبياء (عليهم السلام)، هذا أولاً.

وثانياً: أن أمر الخاتم هو أمرُ جميع الأنبياء، فقد جُمِعَ أمرُ آدم ونوحٍ وإبراهيم وموسى وعيسى كلّه في أمر الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم).

عندما يُفهَمُ ذلك يُعرَفُ مقام الشّركة في مثل هذا الأمر.

والحل النهائي هو الرجوع للقرآن، فينبغي فَهمُ كلام الله تعالى ومعرفة أمر الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) وما هو، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾(75)، هذا الأمر الأول.

إن دائرة هذا البحث وسيعةٌ، والأمر الأول مؤلفٌ أيضاً من أربعة أمور: أولها ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾، ثانيها ﴿وَيُزَكِّيهِمْ﴾، ثالثها ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ﴾، رابعها ﴿وَالحِكْمَةَ﴾، فصار الأمر الأول أربعة أمور.. هذا مدلول كتاب الله تعالى.

ما هو أمر النبي إذاً؟

الأول: تلاوة آيات الله، والثاني: تزكية نفوس الأمة، والثالث: تعليم الكتاب، والرابع: تعليم الحكمة، هذا مجموع الأمر الأول، والعمدة في فهم هذا الترتيب، فلماذا كانت تلاوة الآيات في البداية؟ وبعدها التزكية ثم تعليم الكتاب فتعليم الحكمة؟

كُتِبَت كُلُّ تلك التفاسير للقرآن الكريم، لكن أين تَجِد هذه الحقائقَ في أقلام جميع المفسرين؟ ماذا تفعل تلاوة الآيات؟

إذا أرادت الأرض أن تُثمِر فينبغي أولاً أن يأتي نسيم الربيع، وهو مُقَدَّمٌ على كلّ شيء، وهو الذي يحيي الأرض، وبعد إحيائها تصل النوبة للتزكية، ثم تُبذَر البذور.. إنّ عِلمَ وحكمةَ القرآن هي البذرة، وأرضُ هذه البذرة الأرواح المُستَعِدَّة، فأوّل ما يفعله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو إحياء القلوب، وإحياء القلوب يتم بكلام الله تعالى، لكنّ أعمارنا قد مرت ولم نفهم القرآن ولا الحديث.

قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن القرآن: رَبِيعُ القُلُوب‏، وتلك الكلمة التي قُلتُها أصلُها هنا، القرآن ربيع القلوب، هذا كلام معلم الكل (صلى الله عليه وآله وسلم).

فينبغي أولاً أن تُتلى آيات الله تعالى كي تُحيي القلوب بِنَسيم الربيع.

ثم التزكية ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ﴾ فما هي تلك التزكية؟

ينبغي أن تُستَخرَجَ الصفات الذميمة من هذه الروح فتتزكى وتطهر، وترتفع موانع بذور العلم والحكمة، حينها يأتي قوله تعالى:﴿وَيُعَلِّمُهُمُ﴾، فيبذر بذور العلم حينها، لكن ما هو ذلك العلم؟

﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ﴾: في ألف ولام التعريف هنا ما فيها، فينبغي معرفة الكتاب: ما هو الكتاب؟ المرجع هو القرآن أيضاً، ونتعرض لقسمٍ من آياته على وجه الإجمال: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ﴾(76)، فإن النبيّ يُعلِّمُهُم الكتاب الذي أنزلناه بالحق، الكتاب الذي كان بنفسه حقاً: مبدؤه حقٌ، وأُنزِلَ بالحق، وينتهي إلى الحق، إنّ أمر تعليم مثل هذا الكتاب عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

أما صفة الكتاب: ﴿مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ﴾ فهذا الكتاب مهيمنٌ ومسيطرٌ على كل الكتب السماوية، فهل فهم الفخر الرازي ماذا يعني ﴿وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي﴾؟

مع كل هذه العلوم بقي الجميع أجانب عن هذه الحقائق!

ينبغي أن يكون المُعَلِّمُ لهذا الكتاب مُهَيمِنَاً على كلِّ الكتب السماوية، مِن صحف آدم إلى صحف شيث، وصحف إدريس ونوحٍ وإبراهيم، وزَبور داوود، وتوراة موسى، وإنجيل عيسى، كلُّها تحت هيمنة الرسول العلمية.

فمن هو شريك هذا الأمر؟ ههنا مكان محاكمة الفخر الرازي: فمن الذي يناسب أن يكون شريكاً في هذا الأمر؟ هذا ما يعيّن المصداق.

إذا كان أمر الخاتم تعليم هذا الكتاب، وهو يعني تعليم كلّ ما نزل على كلّ الأنبياء، فينبغي أن يكون النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) عالماً بكل هذا، وينبغي أن يكون شريكه كذلك، فمن هو صاحب هذا المنصب؟

قال تعالى ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ﴾(77)، وأعمُّ المفاهيم هو مفهوم الشيء، وما فرطنا فيه من شيء، ويأتي بيانه إن شاء الله.

عظمة الكتاب

كان البحث(78) في الشّركة في أمر الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وما هي الخصوصيات التي ينبغي أن توجد في شريك أمر خاتم النبيين.

قلنا أولاً: أنه ينبغي أن يُفهم ما هو أمر النبي الخاتم، والأمر بحسب القرآن في الرتبة الأولى هو تعليم الكتاب والحكمة بالكيفية التي تعرضنا لها مفصلاً في البحث السابق، وبعد تلاوة الآيات وتزكية الناس يأتي تعليمهم الكتاب.

وينبغي النظر أيضاً في حقيقة الكتاب الذي كان الخاتم معلِّمَاً له، وقد تعرّضنا لقسم من ذلك في الجلسة السابقة، ويجب أولاً معرفة الكتاب كما هو حقّه، لأنّه ما لم تُفهَم هذه المقدمة فإن المقصد الأقصى لن يُعلم، وينبغي استنباط عظمة الكتاب من جهة الوقت والزمان والمكان.

أما الزمان: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَى وَالفُرْقَانِ﴾، فقد نزل الكتاب في شهر الله تعالى، بل في أفضل وأكمل زمانٍ فيه وهي ليلة القدر ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ﴾(79)، ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ﴾(80).

أما المكان:﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ(81)، هذا المكان الأوّل، فإنّ محلّ ومركز ثِقل الكتاب هو أيضاً كتابٌ مكنون، وهذا الكتاب ليس في متناول أيّ أحد﴿كِتَابٍ مَّكْنُونٍ﴾، وينبغي النظر في مكانه النهائي. مَن هو قلب العالم؟

قلبُ عالم الإمكان خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقلبُ قلبِ عالم الإمكان هو محلُّ هذا الكتاب بنص القرآن الكريم. فهذا زمان ومكان الكتاب.

أما نفس الكتاب: ففي القرآن تعبيراتٌ محيّرة للعقول، ونُخبَةُ أسماء الله تُطلق على القرآن، الكتاب بهذا الحدّ.

بيانُ الله الحكيم: ﴿يس * وَالقُرْآنِ الحَكِيمِ(82) فقد تجلّت تلك الحكمة الإلهيّة في هذا الكتاب.

وعلاوة على ذلك: ﴿ق وَالقُرْآنِ المَجِيدِ(83)، هذا عنوانٌ أعطاه الله لهذا الكتاب.

﴿الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾(84)، ودِقَّةُ المطلب أن الإبتداء بالحكمة والإنتهاء بها أيضاً، المبدأ حكيمٌ، وما نزل من المبدأ الحكيم ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ﴾.

﴿الحَمْدُ لله الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا(85)، والذي يُعجِزُ عقلَ كل حكيمٍ أن الله تعالى عبَّر بأنّ الكتاب أنزِلَ على (عَبْدِهِ) (وأشهد أن محمداً عبدُه ورسوله)، ينبغي أن تُدرَكَ هذه الجملة وهذه الكلمة في القرآن الكريم، وههنا مطلبان: أحدهما الحمد، والآخر التسبيح، سبح الله نفسه، أين؟ ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى﴾(86).

فَلَيلَةُ المعراج تلك مهمةٌ لدرجة أنّ الله تعالى قال عن نفسه ﴿سُبْحَانَ الَّذِي﴾ بالنسبة للعمل الذي فعله فيها، فهل وصل المفسرون إلى تلك الدقائق؟

هذا بالنسبة للعبد وتسبيح الله نفسه، أما بالنسبة للكتاب الذي أنزله على عبده فإنه يحمد نفسه: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾ ﴿الحَمْدُ لله الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الكِتَابَ﴾و أيضاً ﴿عَلَى عَبْدِهِ﴾، هكذا هي إشارات القرآن.

كلُّ ما في المعراج الذي يُعَدّ أهم مطلبٍ قوله تعالى: ﴿بِعَبْدِهِ﴾، ونهاية الأمر والمكان الذي ﴿دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى‏﴾ هناك أيضاً ﴿فَأَوْحى‏ إِلى‏ عَبْدِهِ ما أَوْحى‏﴾. هكذا ينبغي معرفة الكتاب.

﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا(87)، فجعلنا الكتاب إرثاً، لكن لا لكلّ أحد، بل للّذين اصطفينا ممن انتخبناهم من كل الخلق، وأورثناهم الكتاب، فمن هم المصطفون؟

﴿اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾: عبادُ الله في الدنيا إن وجدناهم فليسوا في هذا الحدّ، إذ المصطفى مِن العباد هم نُخبَةُ نُخبَةِ العالم، أولئك هم حَمَلَةُ هذا الكتاب.

هل فهمتَ أيها الفخر الرازي هذه الدقائق؟

هل أبو بكر بن أبي قحافة مصطفىً من عباد الله؟ وهل عُمَر بن الخطاب بهذا الحد؟ مع ذلك الجهل، ومع سابقة عبادة الأصنام؟

ينبغي ضَمُّ العقل إلى القرآن.

هذه الأقسام مهمة جداً: ﴿الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ..﴾ (88)، فهذه هي العلّة الغائيّة لإنزال الكتاب، وهي منشأ فاعليّة الفاعل، يعني علّة إنزال الكتاب، ألا وهي إخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومفهومُ الناس يشمل أفلاطون وأرسطو وابن سينا والفارابي، من هو الذي يُستثنى من هذا المفهوم؟

كلُّهم في الظلمات بلا استثناء، الحكماء والفقهاء والعلماء، فالجميع في الظلمات، ومَن يُخرِجُ هؤلاء جميعاً من الظلمات هو شخصٌ واحد، ووسيلة الإخراج واحدة، المخرِجُ هو خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم)، ووسيلة الإخراج القرآن المبين.

هذا نص الكتاب: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾، ثم ما هو النور؟

شرح النور في سورة النور: الظلمات متعددةٌ لكنّ النور واحدٌ، الظلمات هي التي غرق فيها الجميع، وينبغي إخراجهم منها بهذا الكتاب، وإيصالهم لذلك النور الواحد، فما هو ذلك النور؟ ﴿الله نُورُ السَّماواتِ وَ الأَرْض‏﴾، أين عُرِفَ القرآن الكريم؟ ومع كلّ كلمةٍ يزداد العجز: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ(89).

ولا مفهوم أوسع من مفهوم الشيء، فإنّه يطلَقُ حتى على الله تعالى، غاية الأمر أنه شيءٌ لا كالأشياء، وما في هذه الآية من الناحية الفنيّة أنه تم اختيار أعمّ المفاهيم وهو مفهوم الشيء، فلا شيء خارج عن مفهوم الشيء، كل ما هناك ففي هذا المفهوم، فاستخدم أعمّ المفاهيم مع إطلاقه، وعلاوةً على الإطلاق صُدِّرَ بأداة العموم، ﴿تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾ فينبغي أن يُبَيَّنَ كلُّ شيءٍ بهذا القرآن، وهذا عمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

فهل يمكن أن يقوم أبو بكر بمثل هذا العمل؟ وهو الذي شهد جميع أعيان العامّة أنه كان عاجزاً عن إدراك لفظٍ من ألفاظ القرآن؟ وهل يتأتى هذا العمل من عُمَر بن الخطاب؟

إنّ شريك أمر الخاتم في تعليم البشر ليس هذا ولا ذاك.. مَن هو؟ إنّه مَن كان وارث علم النبي بالاتفاق، وهذه المسألة مورد اتفاق أئمة المذاهب من المحدثين والمفسرين، فقد أجمعوا على أن ميراث علم الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) وصل لعلي بن أبي طالب (عليه السلام).

وعلى هذا، هل ينبغي أن يكون عليٌّ شريك أمره؟ أم يكون شريك أمره الأول والثاني؟

ولأنّ البحث مبنيٌّ على أدقّ موازين المنطق، فلا مجال لعدم ذكر الأسماء، وليس هذا موضع السبِّ واللعن، إنما محلّ العلم والحكمة.

هل فهمتم ما هو القرآن والكتاب؟

نقل أركان وأئمة أهل الحديث هذه القضية(90): إنّ عمر بن الخطاب رُفِعَت إليه امرأةٌ ولدت لستة أشهر فهمّ برجمها، فبلغ ذلك علياً فقال: ليس عليها رجمٌ، فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه: ولأنّه متن المحدّثين والمؤرخين لا نتصرف فيه.

فأرسل إليه وسأله.. فقال: قال الله تعالى: قال لم أقف أمامك أنا، إنما وقف الله تعالى بوسيلتي، وأنا العالم بكلامه: ﴿وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ وقال: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً(91).

ولمّا وصل الكلام لِعُمَر اختلفت كلمات أئمة الحديث هنا، فنقل سبط ابن الجوزي ان عمر قال: اللهم لا تبقني لمعضلةٍ ليس لها ابن أبي طالب. والبقية نقلوا: لولا علي لهلك عمر.

ولدينا سؤال ههنا: هل خصوصيات القرآن التي عرضنا لها كانت منّا أم من الله تعالى؟ ألا تقبلون خصوصيات القرآن هذه؟ ألا تنقلون أنتم أيضاً هذه القضية؟ وعليه: هل ينبغي أن يجلس عمر مكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو القائل: لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها ابن أبي طالب؟ أم ينبغي أن يجلس علي بن أبي طالب؟

أيهما؟ ماذا يقول العقل؟ وماذا يقول القرآن؟ هل هذه الخلافة موافقةٌ لكتاب الله أم مخالفة له؟ هل هي موافقةٌ لعقل تمام البشرية أم مخالفة له؟

هذا كلام الله، وهذا كلام أئمة الحديث، وسؤالنا لمن نقل هذه القضية، وهذه الحجة البالغة لله على كافة العامة.

حكمة القرآن

كان البحث(92) في شركة عليٍّ (عليه السلام) في أمر ودور الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقلنا أنّ حلّ هذه المعضلة مربوطٌ بأن يُعَيَّنَ أمرُ الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، والمرجع هو القرآن الكريم.

ووصل البحث إلى أن أمر الخاتميَة تلاوة آيات الله تعالى، وتزكية النفوس، وتعليم الكتاب والحكمة، وذلك بنص القرآن الكريم ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ﴾(93)، وقد اتّضح إلى حدٍّ ما ما هو الكتاب.

أما الحكمة: فقد عرّفها الحكماء أنها عبارةٌ عن العِلم بحقائق الأشياء على قدر الطاقة البشرية.

وقسموا الحكمة إلى قسمين: الحكمة النظريّة والحكمة العمليّة.

وقسموا النظريّة إلى قسمين: الإلهيّات والطبيعيّات.

وقسموا العملية إلى ثلاثة أقسام: تدبير النفس، وتدبير المنزل، وتدبير المدن.

هذا تعريف الحكمة وتقسيمها برأي الفلاسفة، لكن المرجع هو القرآن هنا أيضاً، فما هو قدر الحكمة فيه؟ إنّ الحكمة في القرآن تختلف عن الحكمة التي عرّفها الحكماء، فالحكمة في تعريف الحكماء هي العلم بالحقائق بقدر الطاقة البشرية، ولكنَّ طاقة البشر من الجهة الفكريّة والعقليّة محدودةٌ جداً، ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّن العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً(94).

أمّا حكمة القرآن فهي عبارةٌ عن نَيل الحقائق كما هي عليها، والوصول إلى واقع الكائنات ومبدأ ومنتهى الوجود.

وتعبيرات القرآن عن الحكمة كاشفةٌ عن عظمة المطلب، فإذا طالعنا القرآن وجدنا أن استعمال اسم الله تعالى في أغلب الموارد كان مقروناً بأنه: عزيزٌ وحَكيمٌ، فالعِزَّةُ هي جانب القدرة الإلهية، والحكمة هي جانب العلم الإلهي.

ثم وُصِفَت التجليّات العلمية لله تعالى بعنوان الحكمة، فإنّ التجلي العلمي للحقّ هو القرآن الكريم: ﴿يس * وَالقُرْآنِ الحَكِيمِ﴾ هذا مقام الحكمة بوصف الله تعالى ووصف كتاب الله الأعظم.

ولا تنتهي المسألة بهذا، فعندما يصل الله تعالى لمتاع الدنيا يقول لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قليل: ﴿فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ(95).

هذه الدنيا التي لم يُعرَف أوّلها وآخرها، هذه الدنيا التي تضمّ كل تلك المجرّات والكواكب ﴿وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ﴾، هذه الدنيا مع هذه العظمة بكل كواكبها ومجرّاتها قليلةٌ بتعبير القرآن.

أما عندما يصل للحكمة فإنه يعبّر: ﴿يُؤتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ﴾(96)، فإنّ الحكمة ليست متاحةً لأيٍّ كان، حيث يؤتاها من يشاء الله.

تلميذُ ابن سينا حكيمٌ بالحكمة البشرية، ومَن كان لديهم استعدادٌ للدخول في الفلسفة يصبحون فلاسفةً دون قيدٍ وشرط، وعندما يطلب أحدٌ حكمة المشّائين، يصبح حكيماً بالحكمة البشريّة، أما الحكمة في القرآن فليست كذلك، فإنّ مَن تتعلق مشيئة الله بإعطائه الحكمة يُعطاها، لا أيّاً كان.

قال تعالى هناك ﴿مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ﴾ وقال هنا ﴿وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً﴾، وهذه التعبيرات تشيرُ إلى حقيقة الحكمة في القرآن.

﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لله﴾(97)، فقد أعطى الله الحكمة للقمان، وهي ليست متاحة لأيٍّ كان.

﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ﴾(98)، فأوَّلُ كلمةٍ هي الدعوة لسبيل الله بالحكمة، وما يحيِّرُ العقل: ﴿وَأَنزَلَ الله عَلَيْكَ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً﴾(99).

أيُّ حكمةٍ هذه التي قال عنها الله تعالى أنّه أنزلها على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعلّمه ما لم يكن يعلم؟! لم تكن لتصل إلى ذلك العلم، ونحن أوصلناك إليه، وكان فضل الله عليك عظيماً، هذه هي الحكمة في القرآن.

وبعد أن عرفتَ ما هي الحكمة، يتّضح لماذا كان شروع فعل النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) تلاوة آيات الله، وكان ختمه الحكمة، فهذا المبدأ وهذا المنتهى، هذا نصُّ القرآن: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾(100).

ولم يكن الرسول غير خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان أوّلُ أفعاله تلاوة الآيات، ثم تزكيتهم ثانياً، ثم تعليم الكتاب ثالثاً، ثم تعليم الحكمة رابعاً، وتمّ أمره بهذا.

هنا ينبغي أن يُحاكَم جميع أئمة أهل السنة:

هل أمرُ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) محصورٌ بزمنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أم مستمرٌ دائماً؟ وأمره يتضمن تعليم هذه الحكمة والكتاب الذي فصّلنا الكلام حوله في البحث السابق، ويجب أن يجيبوا على ذلك لكل العالم.

إذا كان منحصراً بذلك الزمان، فماذا يعني قوله تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المُؤمِنِينَ﴾؟ أوَهَل كان المؤمنون منحصرين بذلك الزمان؟

لقد نص القرآن أن الله مَنَّ على المؤمنين بإرسال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليتلو عليهم الآيات ويصفّي نفوسهم ويعلِّمهم الكتاب والحكمة، فهل يعقل أن يكون محصوراً بزمان خاص؟ هل يبقى بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أم لا؟

إن قلتم نعم، فمن هو معلِّم الكتاب ومعلم هذه الحكمة؟ هذا سؤالٌ ينبغي على مثل الفخر الرازي أن يجيب عليه، هل معلِّمُ هذا الكتاب هو عمر بن الخطاب؟ إما نعم وإما لا.

البحث علميٌّ وليس خِطابيّاً.. البحث بُرهانيٌّ، أنت الذي تعتقد بأن عُمَر قد جلس محلَّ النبيّ الذي هو معلِّمُ الكتاب والحكمة: هل ترى أن لعمر صلاحية تعليم هذا الكتاب وهذه الحكمة؟

إن لم تكن عنده هذه الصلاحية فهو غاصِبٌ بالضرورة، واعتقادك باطل.

وإن كانت عنده الصلاحية، فهل هو معلِّمُ هذا الكتاب والحكمة؟!

هذا البحث يُعَجِّزُ العامة ويُفقِدُهم كلّ حجة، بهذه الطريقة وهذا المنطق.

إنّ بين أعيان علماء العامة اختلافٌ، بعضهم يقدِّم صحيح البخاري ثم صحيح مسلم، وبعضهم يقدِّم صحيح مسلم ثم يعدُّ البخاري ثانياً، وفي هذا المطلب بحثٌ، لكنهم مجمعون على أنّ ما في صحيح مسلم وما في صحيح البخاري سُنَّةٌ مُسَلَّمة، وهذا اعتقاد كافة مذاهب العامة وعلماؤهم.

عمر والصلاة مع الجنابة

ونحن ننقل حديثاً عن مسلم في صحيحه ج1 ص193، يرويه بأربع طُرُق، وطرق الحديث أيضاً تختلف، فتارة يُروى حديثٌ في صحيح مسلم بطريقٍ واحد، وهو حجّةٌ، ورَدُّهُ رَدٌّ على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عند كلّ العامة، وإذا روي الحديث بطريقين تضاعفت حجيته، وإذا روي بثلاثة.. وإذا روي بأربعة.. فبأيِّ حَدٍّ من الاعتبار تكون مثل هذه الرواية؟

أما متن الحديث: أنَّ رَجُلاً أَتَى عُمَرَ فَقَالَ إِنِّي أَجْنَبْتُ: هل للفخر الرازي قدرةٌ على الجواب على هذا التحقيق الذي نذكره في فقه الحديث؟

أولاً: متى حصلت هذه الواقعة؟ عندما جلس عمر على مسند الخلافة بعد وفاة أبي بكر.

فَقَالَ إِنِّي أَجْنَبْتُ فَلَمْ أَجِدْ مَاءً. فَقَالَ لاَ تُصَلِّ: هذا في صحيح مسلم، هل يا ترى هناك جاهلٌ كهذا؟ بل أجهل الجُهَّال، فكلُّ مسلمٍ يعلم أن الصلاة لا تسقط بالجنابة، فإلى هذا الحد يكون خليفةُ النبي جاهلاً؟ ألا تخجلُ أيها الفخر الرازي؟ تقول أنّ عمر خليفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ وهو معلِّمُ الكتاب والحكمة مكان النبي؟

فَقَالَ عَمَّارٌ: أفتى عمر، لكن شخصاً قام، وهو عمار بن ياسر، وقال:

أَمَا تَذْكُرُ: والمسألة الثانية المحيّرة هي قوله له (أما تذكر؟) هل نسيت؟

أَمَا تَذْكُرُ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ: وهذا الدليل على ما قلتُه أنَّهَا كانت وقت خلافته.

 إِذْ أَنَا وَأَنْتَ فِى سَرِيَّةٍ فَأَجْنَبْنَا فَلَمْ نَجِدْ مَاءً، فَأَمَّا أَنْتَ فَلَمْ تُصَلِّ: كلامٌ مُحَيِّرٌ! مسلمُ بنفسه ينقل هذه الرواية بأربع طرقٍ ثم يعتقد بخلافة هذا الرجل! بأيِّ عقلٍ وبأيٍّ منطق؟!

وَأَمَّا أَنَا فَتَمَعَّكْتُ فِى التُّرَابِ وَصَلَّيْتُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: نذكره كما هو لأنه متن حديث عندهم.

إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَضْرِبَ بِيَدَيْكَ الأَرْضَ ثُمَّ تَنْفُخَ ثُمَّ تَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَكَ وَكَفَّيْكَ: هذا أمرُ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأنت الذي تقول للرجل لا تصلِّ لأنه جُنُبٌ، ألم تسمع بنفسك هذا الكلام من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟

من المعلوم أنّه سَمِعَه، ومع أنّه سَمِعَه يقول للرجل: لاَ تُصَلِّ!

فأيُّ توجيهٍ لهذا الكلام؟ هل لكلّ علماء العامة قدرة الجواب على ذلك؟ هل يحقُّ لمن كان على هذا الحدِّ من الجهل وقلّة التقوى أن يجلس محلَّ من قال فيه تعالى ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ﴾؟!

 فَقَالَ عُمَرُ: اتَّقِ الله يَا عَمَّارُ: وهذا يحيِّرُ العقل، هَدَّدَ عمّاراً، فبَدَلَ قبول قوله هدَّدَه حيث قال: اتَّقِ الله يَا عَمَّارُ، وما يحيِّرُ العقل قوله:

 قَالَ إِنْ شِئْتَ لَمْ أُحَدِّثْ بِهِ: إذا كنت تتأذى من ذلك أسكُتُ ولا أحدِّثُ هذا الحديث لأحد، فهل هذا هو الدين؟ ولا تنتهي المسألة هنا، فبرهان بطلان كل مذاهب السنّة في العالم في هذا الحديث.

عمر والجنابة

نتيجة البحث السابق(101) أنّه بمقتضى الروايات التي تُعَدُّ حجّةً عند جميع مذاهب العامة، والتي أجمع كل فقهائهم على صحتها، فإن عمر بن الخطاب في كلِّ مدة جنابته حتى في زمان خلافته كان تاركاً للصلاة، هذه عصارة البحث السابق.

وهذا العمل من هذا الشخص مخالفٌ لإجماع كل المذاهب الإسلامية، لأنَّ كلَّ فرق المسلمين قائلون ببدليّة التيمم للجُنُب عند فقد الماء، وبَحثُ التيمم بحثٌ مهم، ومن أبحاثه أسباب التيمم، ونَفسُ التيمم وكيفيّته وفرائضه وسننه ومكروهاته، والشرائط التي ينبغي أن تتحقق.. وقد كان خليفة النبي جاهلاً بكل ذلك!

وقد اختلفت مذاهب العامّة بالنسبة لشروط التيمم: فشروط التيمم ثمانية عند الأحناف وأتباع مذهب أبي حنيفة، وفي مذهب الشافعية عشرة، وفي مذهب المالكية والحنبلية شرطان، ولكنّ المذاهب الأربعة مُتَّفِقَةٌ على أصل التيمم وكيفيته وواجباته، والاختلاف حاصلٌ في شرائطه فقط، فتكون النتيجة أنّ عمل خليفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مخالفٌ لإجماع تمام أئمة المذاهب، وكافة علماء الإسلام، وتمام المسلمين في العالم. هذه الجهة الأولى.

الجهة الثانية: أن عمل هذا الشخص مخالفٌ للسُنَّةِ النبويّة القطعيّة، فقد نقل صحيح البخاري وصحيح مسلم كيفية التيمم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإحدى هذه الروايات التي ينقلها البيهقي أيضاً وغيره هي: أُعْطِيتُ خَمْساً لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُوراً، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِيَ المَغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً(102).

فمِمَّا أعطيَ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن تكون الأرض له مسجداً وطهوراً، وتكون النتيجة أنّ عمل هذا الشخص مخالفٌ لإجماع كل العلماء وأمّة الإسلام، ومخالفٌ للسنّة القطعيّة في تشريع التيمم.

الجهة الثالثة: مخالفته للقرآن: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً﴾(103)، وهذا أيضاً نصُّ القرآن الكريم على مشروعيّة التيمم للجُنُب غير واجد الماء، وعلى كيفية التيمم.

وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾(104).

نتيجة البحث: سؤالٌ لكل علماء العامة بلا استثناء:

هل يوجد شخصٌ في الدنيا لديه القدرة على الجواب على هذا السؤال بهذه الطريقة البرهانية؟ صغرى وكبرى ونتيجة، والقياس من الشكل الأول.

أما الصغرى: فإن السُنَّة المُسَلَّمة أثبتت أن عمر بن الخطاب لم يكن يصلي حال الجنابة بهذا العذر، وهو عدم وجود الماء، وعدم إمكان الغُسل.

كم مِن وقتٍ بين زمن نزول سورتي النساء والمائدة وبين أيام خلافته؟

كلُّ هذه المدّة كان الرجل تاركاً للصلاة في حال الجنابة مع فقدان الماء! وذلك على خلاف ضرورة دين الإسلام، وعلى خلاف إجماع كل المسلمين، وعلى خلاف السنة القطعية، وعلى خلاف نص القرآن الكريم!! فخالَفَ الله تعالى! وخالف الرسول الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)!

ولا يخلو الأمر من حالتين في هذه المخالفة: إما أنّه كان يعلم، أو أنه لم يكن يعلم! ولا ثالث بين النقيضين فهو محال، فإمّا أن الفعل الذي صدر منه كان عن علمٍ أو عن جهل.

فإن كان عن علم: فهذا يعني أنّه لم يكن عنده دِين.

وإن كان عن جهل: فهل لمثل هذا الجاهل صلاحية إمامة الجماعة فضلاً عن صلاحية خلافة خاتم النبيين؟!

لو اجتمعت كلُّ الدنيا فإنّ جواب هذا السؤال محالٌ، إلا أن يقبلوا جميعاً أن هذا الرجل كان جاهلاً إلى هذا الحدّ، وجلس على كرسي الخلافة، ولم يكن مطّلعاً على شرط الصلاة التي هي عَمُودُ الدين، فبأيِّ منطقٍ يستحق مثل هذا الشخص الخلافة؟!

وليعرف ذلك أهلُ الحق، فيدافعوا عن الحق بقوَّةٍ ورجولة، إنَّ الجهل مقرونٌ دائماً بالضّعف، وأمّا العلم فيولِّدُ قدرةً وشجاعة، والمنطق يسقط حجة كلِّ العالم ويُعجِزُه.

لا يخلو الأمر من احتمالين: الشقُّ الأول: إمّا أنَّهُ بلا دين، والشق الثاني: أو بلا علم. فلا يمكن أن يخلو من أحد الأمرين، وأياً كان الاحتمال منهما، فإنَّهُ يكون ساقطاً من الخلافة بحكم العقل والقرآن والسنة.

من جهةٍ أخرى: فإن الرواية التالية مهمةٌ إلى حدِّ أنّ كل أئمة علماء العامة قَبِلُوها، ونحن بمثل هذا المنطق نخاطب الدنيا، وننقل السَّنَد بنقل إمام الناقدين الذهبي وقد أجمع الكلًّ على هذا المطلب:

(سمعت) قاضي القضاة أبا الحسن محمد بن صالح الهاشمي يقول: سمعت أبا عمر القاضي يقول: سمعت إسماعيل ابن إسحاق القاضي يقول: وذكر له قول قَثَم هذا فقال: إنما يرث الوارث بالنسب أو بالولاء، ولا خلاف بين أهل العلم أنّ ابن العمّ لا يرث مع العمّ، فقد ظهر بهذا الاجماع أن علياً ورث العلم من النبي صلى الله عليه وآله دونهم(105).

فقد أجمع كلُّ العلماء ومحدثوا العامة على أن شخصاً واحداً فقط ورث تمام علم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو علي بن أبي طالب (عليه السلام)، هذا من جهة أخرى.

فما هو العلم الذي ورثه عليّ (عليه السلام)؟ هل للفخر الرازي قدرةٌ في هذا البحث؟ وَرِثَ عليٌّ العلم دونهم، إثباتٌ لعليٍّ (عليه السلام) ونفيٌ عمّن عداه.

لَم يرث الآخرون علم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وورثه عليّ (عليه السلام) فقط.

ما هو علم الخاتم؟ ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾، فعِلم الخاتم يعني علم تمام القرآن، وعلم تمام القرآن يعني ﴿وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾، هذا علمُ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وذاك علم عمر بن الخطاب، فهل هذا مذهب الحق أم ذاك؟ هل هذا الخليفة الحق أم ذاك؟

5. الخلافة

كان البحث(106) في فقه حديث المنزلة، وانتهى الكلام إلى بحث الشركة في أمر الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، ﴿وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي﴾، وخِتامُ كلِّ المناصب منصب الخلافة، فقد كان مقام هارون بالنسبة لموسى هو الخلافة، وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): عَلِيٌّ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، يثبت مقام الخلافة لعلي (عليه السلام).

ههنا ينبغي أن يركع ألفُ فخرٍ رازيّ، قال تعالى: ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المُفْسِدِينَ﴾(107).

فما هو المورد؟ هو الوقت الذي كان موسى مأموراً بالذهاب إلى ميقات الله، والغياب عن قومه ثلاثين ليلة، ثم أتمّها الله له أربعين ليلة، وهذه الأيام العشرة الأولى من ذي الحجة هي متمِّمَةٌ لتلك الأيام.

 على مثل الفخر الرازي أن يدرك المورد، ففي مثل هذه الظروف، ومع الأخطار التي كانت محيطةً ببني إسرائيل، ومع ما جرى حتى دعا الله تعالى موسى (عليه السلام) إلى الميقات، فغاب عن قومه أربعين يوماً، ماذا قال موسى في ذلك الظرف؟

 ﴿وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي﴾: فليضُمَّ علماء المذاهب الأربعة القرآن الكريم لهذه السنة ولينظروا من هو الخليفة؟

قال موسى (عليه السلام): أنت يا هارون خليفتي في قومي، أنت من ينبغي أن يكون الخليفة في أمتي،  ﴿وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المُفْسِدِينَ * وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا﴾: فلما استخلف هارون ذهب لميقات الله تعالى، ﴿وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ﴾: كلَّمَ الله موسى حينها فصار كليم الله، ﴿قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ المُؤْمِنِينَ﴾(108).

القضية هي مثل هذه القضية، والخلافة في مثل هذا الميقات، حيث طلب موسى أن يخلفه هارون في قومه، فصار موسى المُستَخلِف، وهارون خليفة موسى، على أيِّ جَمعٍ؟ على تمام أمّة موسى (عليه السلام)، فهل كانت خلافته مع الفصل أم بدون الفصل؟

عَلِيٌّ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى: المطلب فوق الحدِّ الذي يمكن أن ندركه.

وههنا مقامان:

المقام الأول: معنى الخلافة

المقام الأول: معنى الخلافة، فماذا تعني الخلافة؟

إنّ وجودَ الخليفة بالنسبة لمن استخلفه هو وجودٌ تنزيليٌّ، لماذا؟ لأنّ الخلافة هي القيامُ مقامَ المستخلَف عنه، فيُملأ الفراغ بعد وفاة كلِّ نبيٍّ بمن يخلفه.

هذا مفهوم الخلافة، فإذا اتّضح هذا المعنى يتّضح أن الخلافة من المقولات المُشَكِّكَة، فإن المفاهيم على قسمين:

1. المفاهيم المتواطئة وهي التي يكون صدقها على الأفراد متساوياً.

2. والمفاهيم المُشَكِّكَة وهي التي لا يكون صدقها على أفرادها بالتساوي.

والخلافة من جملة هذه المعاني، فإنّ خليفة آدم ليس كخليفة نوح، وخليفة داوود ليس كخليفة موسى، إذ كلّما كان مقام المستخلَف عنه أرفَع، كان مقام خليفته أرفع، وتكون النتيجة من الجهة العلميّة البرهانيّة أنّ خلفاء الأنبياء هم الذي تتجلى فيهم وِراثة العلم والحكمة ومقامات أولئك الأنبياء.

ويملأ خليفةُ موسى الخلأ والفراغ الذي حصل بعد موسى بن عمران (عليه السلام)، ويُبَيِّنُ التوراة بدلاً منه، ويملأ خليفةُ عيسى الخلأ بعده ويُفَسِّرُ الإنجيل، ويملأ خليفةُ إبراهيم الخلأ بعده وتتجلى فيه صحف إبراهيم.

وتكون النتيجة على هذا القياس، وبحكم المنطق والبرهان، أنّ خليفة الخاتم يملأ الخلأ والفراغ بعد كلّ الأنبياء، لأنّ كلَّ الأنبياء والمرسلين قد جُمِعُوا في مقام الخاتمية، وهو (صلى الله عليه وآله وسلم) إمام الأنبياء، فيكون خليفته بالضرورة بَدرَاً يعكس تلك الشمس.

لو كان لعلماء العامة القدرة على إدراك هذه البيانات البرهانية، ثم راجعوا الأدلة، هل كانت تبقى المشكلة في مسألة الخلافة؟

المقام الثاني: مضمون الحديث: الاستخلاف

المقام الثاني: ما هو مضمون الحديث الذي يُعَدُّ سُنَّةً عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟

ولأنّ البحثَ مع أعيان علماء كافّة الفرق، ينبغي أن يكون الدليل مورداً لإجماع الكلّ، وقد أجمع كلُّ علماء العامة وقطعوا بصحة أسانيد صحيحي البخاري ومسلم، ودَورُنا هو أن نستدلّ على مطالبنا من هذين الصحيحين.

ولأنّ البحث في ميزان البرهان لا الخطابة، ينبغي إبعاد التعصُّب لأنَّهُ حجاب الحقيقة، وينبغي أن تكون الحاكميّة للكتاب والسنّة والعقل والبرهان فقط.

تقول الرواية في صحيح مسلم ج7 ص1198 ح6373: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ  ـ وَتَقَارَبَا فِى اللَّفْظِ ـ قَالاَ: حَدَّثَنَا حَاتِمٌ وَهُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ مِسْمَارٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَمَرَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ سَعْدًا فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسُبَّ أَبَا التُّرَابِ؟

والحديث من عجائب الأحاديث، فبماذا يجيب عليه من كان معاوية في رأيه محترماً ولم يكن مشمولاً للعن الله تعالى؟ وهو الذي سَنَّ سَبَّ عليَّ بن أبي طالب رسميّاً في مملكته! وقد تورَّع أقربُ شخصٍ منه ـ وَمَن أتى بكلِّ فِسقٍ وفجور ـ عن سَبِّ عليٍّ (عليه السلام)، فآخَذَه معاوية في ذلك سائلاً عن السبب.

 فَقَالَ: أَمَّا مَا ذَكَرْتُ ثَلاَثاً قَالهنَّ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَلَنْ أَسُبَّهُ، لأَنْ تَكُونَ لِي وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ: فقد سَمِعَه سَعد من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مباشرة، وهذا في صحيح مسلم، فما جواب دنيا التَسَنُّن مقابل منطق سعد بن أبي وقاص؟

راوي الرواية هو سعد بن أبي وقاص نفسه، وهو مِمَّن قام بأمور معاوية، والمخاطَب هو معاوية، والسَّنَد هو سَنَدُ مسلم بن الحجاج، فهل هناك حجةٌ قاطعةٌ أكثر من هذا؟ بهذا المخاطِب والمخاطَب والخِطاب.

 سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم: والرواية تكون بالواسطة تارة، وتارة مباشرةً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقال هنا: سَمِعْتُ رَسُولَ الله.

 يَقُولُ لَهُ خَلَّفَهُ فِى بَعْضِ مَغَازِيهِ: أي أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) جعل علياً خليفة له في بعض الغزوات.

فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: يَا رَسُولَ الله، خَلَّفْتَنِي مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ؟

فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلاَّ أَنَّهُ لاَ نُبُوَّةَ بَعْدِي»: ألا ترضى أن تكون لك منِّي كلُّ المناصب التي كانت لهارون من موسى نبي الله؟ إلا منصباً واحداً أنّ هارون كان نبياً، ولكن بما أني خاتم النبيين، فإن النبوّة ليست قابلة للإنتقال، وكما أعطى موسى (عليه السلام) كلّ ما عنده لهارون، أعطيك كلّ ما عندي، ألا ترضى بهذا؟ أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنّه لا نبوّة بعدي.

وهذا الاستثناء يُثبِتُ بلا ترديدٍ أنّ كُلَّ المنازل التي ثبتت لهارون من موسى كانت لعليٍّ من الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإحدى تلك المنازل الخلافة، ونَصُّ القرآن يقول: ﴿اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي﴾ أنت خليفتي يا هارون في قومي وأمتي، فتكون خلافة الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) في قومه متحقّقة بلا فصلٍ لعليِّ بن أبي طالب (عليه السلام).

هذا الحديث يُعجِزُ الدنيا، لكن أين الفهم؟ أين الإدراك؟

قال لمعاوية: كيف يمكن أن يتمكن لساني من سب عليّ بن أبي طالب مع ما سمعته بنفسي من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟

هذا الأمر الأول الذي سمعه من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويبقى الثاني والثالث.

حُبُّ الله لعليٍّ عليه السلام

كان البحث(109) في هذه الرواية التي أجمع العامة على صحتها، مع اشتمالها على خصوصيةٍ أن مُبَيِّنَ الفضائل فيها هو سعد بن أبي وقاص، وأن المُخاطَب فيها معاوية بن أبي سفيان، والسبب هو استنكاف سعدٍ عن سبّ أمير المؤمنين (عليه السلام).

وقد تعرّضنا للقسم الأول منها، أما القسم الثاني منها:

وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ يَوْمَ خَيْبَرَ «لأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلاً يُحِبُّ الله وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ الله وَرَسُولُهُ».

قَالَ فَتَطَاوَلْنَا لَهَا فَقَالَ: «ادْعُوا لِي عَلِيّاً». فَأُتِيَ بِهِ أَرْمَدَ، فَبَصَقَ فِى عَيْنِهِ وَدَفَعَ الرَّايَةَ إِلَيْهِ فَفَتَحَ الله عَلَيْهِ.

هذا هو القسم الثاني، أما فقه الحديث:

لقد وقعت هذه القضية بعد أن ذهب الأوّل في اليوم الأوّل فرجع مهزوماً وقد غلبه جيش اليهود، وذهب الثاني في اليوم الثاني، ورجع مع الجيش بعد أن هرب أمام جيش اليهود، وبعد أن امتُحن هذان الاثنان وعادا خائبين، قال حينها (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الجملة: لأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ: لأعطينَّ راية الإسلام رجلاً يتّصف بصفتين: الأولى أنه مُحِبٌّ لله ورسوله، والثانية أنه محبوبٌ مِنَ الله تعالى ورسوله.

ينبغي على علماء العامة أن يُعمِلوا كمال الدقة في هذه الرواية، والنظر في الدلالة المطابقية والدلالة الالتزامية، واستنباط اللوازم والملازمات والملزومات، فقد وصف النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي ضَمِنَ الله تعالى منطقه: ﴿وَما يَنْطِقُ عَنِ الهَوى‏﴾ مَن سيأخذ الراية غداً بهاتين الصفتين، وهنا يعجز كلُّ أعيان علماء العامة، فهل كان له شريكٌ يا ترى في هاتين الصفتين أم لا؟

يستحيل وجود منزلةٍ بين النفي والإثبات، والثالث بين النقيضين غير معقول، فإما أنَّهُ كان هناك أحدٌ واجدٌ لهاتين الصفتين أيضاً، أو لم يكن.

إذا كان هناك أحدٌ، فإنَّ قول النبيِّ تخصيصٌ بلا مخصِّص، وتعيينٌ بلا معيّن، وترجيحٌ بلا مرجّح، وكل هذا باطلٌ عقلاً ومَنطِقاً وبُرهاناً، خاصة من الشخص الأول في عالم الإمكان، ورأس تمام الأنبياء من آدم إلى عيسى بن مريم (عليهم السلام).

فيتعين أنّه لم يكن بين كل أولئك الذين كانوا في محضر الرسول ذلك اليوم أحدٌ يتصف بهذه الصفات غيره، فقط هذا الشخص هو الواجد لها، وهو الذي سيُعطى الراية غداً. هذا أولاً.

ثانياً: أن هذه القضية قد بُيِّنت بعد فرار الشخصين بالاتفاق، فتكون الرواية نصّاً على أن هذين الإثنين ليسا مُحِبّين لله ورسوله، ولا يُحِبُّهُما الله ورسولُه.

فَتَطَاوَلْنَا: كلُّهم تطاولوا، وقد روي في روايات أخرى أنهم لم يناموا، على أمل أن يُكتب لهم ذلك في اليوم التالي، وفي اليوم التالي قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أين علي بن أبي طالب؟ قالوا: إنه أرمد العين، فأمر بأن يأتي مع رَمَدِ عينه، وعند قدومه وضع ماء فمه على عيني عليّ (عليه السلام) ففتحت عيناه مباشرة، لم يبق رمدٌ، كلَّ هذا متنُ شهادة سعد رَجُلِ معاوية بن أبي سفيان، وبعد أن شُفيت عينُه أعطاه الراية، وذهب إلى حرب اليهود، وقال لهم: أنا الذي سمّتني أمي حيدرة.

وارتجت الأرضُ تحت القوم، لأنه قد ذُكر في كتب السلف أنّ حيدر هو الذي سيجتث جذور الكفر، ويرفع عَلَمَ الإسلام في العالم، هو من أسمته أمه حيدرة.

ففعل ما جعل الفخر الرازي العاجز يقول أنّه عندما نزل للميدان لم يضرب سيفه بقوته البدنية بل بقدرة نفسٍ بنور بارئها مضيئة، هذا عين كلام الفخر الرازي، فالضربة التي ضربها لمرحب كانت بيدٍ مستمدةٍ من نفسٍ منوّرة بنور ربها، وسؤالنا للفخر: مع تلك السابقة واللاحقة لعلي (عليه السلام)، ماذا يعني أن يكون ذلك الأول وذلك الثاني الجبان أولاً وثانياً، وأن يكون عليٌّ الرابع؟ بأيّ منطق وكتاب وسنة؟

قال سعد: لقد سمعت هذه الكلمات بنفسي من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد أعطاه هذه الراية لفتح خيبر فكيف أسبّه؟ ثم وصل للمطلب الثالث، وجَمعُ المطالب الثلاثة معجزٌ ومُحَيِّر:

وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ﴿فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ﴾ دَعَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلِيّاً وَفَاطِمَةَ وَحَسَناً وَحُسَيْناً فَقَالَ: «اللهمَّ هَؤُلاَءِ أَهْلِي».

فعندما نزلت الآية عند المباهلة مع نصارى نجران، صَدَرَ تفسيرٌ عَمَليٌّ من صاحب الوحي لهذه الآية الشريفة، حيث دعا أربعة أشخاص من كلّ الأمة والأصحاب والأقوام.

وكما نقل سعد بن أبي وقاص أنّ أوّل شخصٍ دعاه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو عليّ، ثم فاطمة، ثم الحسن، ثم الحسين، ثم قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): اللهمَّ هَؤُلاَءِ أَهْلِي، وأوّلهم عليّ. هذا المطلب الثالث.

وعندما نزلت الآية دعا هؤلاء الأربعة، فقالت أم سلمة: يا رسول الله أدخلني، فقال: أنت على خير، لكن هذا المحل ليس محل أحد سواهم، فانضمّ هؤلاء الأربعة إلى شخصٍ هو خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم)، فصاروا خمسة أشخاص، فحدَّدَ وعيَّنَ (صلى الله عليه وآله وسلم) أهله بهؤلاء، فنزلت الآية الشريفة: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾(110).

جُمِعَت هذه المطالب الثلاث في حديثٍ نقله مسلم، وأجمعت واتفقت عليه المذاهب الأربعة، وهو حجةٌ قاطعةٌ على أن مستحقّ مكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعده هو مَن كان واجداً لهذه الخصال الثلاثة حصراً.

ولكن بما أن هذه الحديث أعجزَ كل أولئك، ولأنّه دليلٌ على بطلان كل شيء أصبحوا عاجزين، ولما وجدوا أن ليس بإمكانهم مناقشة السند، وأنهم عاجزون عن مناقشة الدلالة، كانت العاقبة أن قالوا أقوالاً أبرزت جهلهم بتلك الكلمات، وإن شاء الله وبحول الله سوف أقول في الجلسة القادمة ما قالوا وما هي نتيجة البحث.

معاوية وسَبُّ أمير المؤمنين عليه السلام

كان بحثُنَا(111) في الرواية التي كانت مورد إجماعِ تمام أعيان علماء المذاهب الأربعة، وتشتمل هذه الرواية على عدّةِ خصوصيات، فعلاوةً على الصحة بهذه المرتبة، كان الراوي والناقل لهذه المطالب الثلاثة عن شخص النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) هو سعد بن أبي وقاص، وبما أنّ الرواية سيفٌ قاطعٌ على سائر المذاهب، ينبغي على أهل الدقّة التنبُّه إلى مرتبة سعد عند أعيان علماء العامة.

قال الذهبيّ وهو إمام أهل الرجال عند العامة: سعد بن أبي وقاص، أوَّلُ من رمى بسهمٍ في سبيل الله: هذه ميزته الأولى عند علماء هذه المذاهب.

وكان مجاب الدعوة: وهذه ميزته الثانية.

له مناقبُ جمّة وجهادٌ عظيمٌ وفتوحاتٌ كبيرةٌ ووقعٌ في نفوس المؤمنين(112).

وينبغي تحقيق المنازل التي ثبتت بالرواية:

أولاً: أن معاوية آخَذَهُ لعدم مشاركته بِسَبِّ عليّ بن أبي طالب، والحيرة هنا، فإنّهم يقدِّسون معاوية، واليوم بحول الله وقوته ينبغي أن يستقرَّ هذا الشخص في أسفل السافلين بالبرهان القاطع.

الطرفُ المقابل لنا هم أمثال الفخر الرازي ومسلم بن حجاج والبخاري وأئمة أهل السنة.

السؤال: إن هذه الرواية حُجَّةٌ قطعيَّةٌ عندكم، وما فيها هو قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وصريحُ الرواية أنّ معاوية بن أبي سفيان هو من أسَّسَ سَبَّ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، هل حصل هذا أم لا؟

إن أنكرتم هذا البرهان القاطع فإنّ شأنيّتكم تسقط.

وإذا اعترفتم بذلك، فماذا يعني سبّ علي بن أبي طالب؟

من المُسَلّم أن معاوية قد أمر كل أئمة الجمعة حتى أطراف البلاد الإسلامية، أن يسبوا في خطبة صلاة الجمعة أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهذا أمرٌ تامٌّ، وبرهانه هذه الرواية، والكتاب صحيح مسلم، هذه الكلمة الأولى.

ولكن ماذا يعني سبّه لعلي (عليه السلام)؟ تَذكُرُ الروايةُ المتفقُ على صحتها ما يلي:

(حدثنا) أبو جعفر أحمد بن عبيد الحافظ بهمدان، ثنا أحمد بن موسى بن إسحاق التميمي، ثنا جندل بن والق، ثنا بكير بن عثمان البجلي، قال: سمعت أبا إسحاق التميمي يقول: سمعت أبا عبد الله الجدلي يقول: حججت وأنا غلامٌ فمررت بالمدينة وإذا الناس عنقٌ واحدٌ، فأتبعتهم فدخلوا على أمّ سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله فسمعتها تقول: يا شبيب بن ربعي.

فأجابها رجلٌ جلفٌ جاف: لبيك يا أمتاه.

قالت: يُسَبُّ رسولُ الله صلى الله عليه وآله في ناديكم؟

قال: وأنّى ذلك؟

قالت: فعليُّ بن أبي طالب؟

قال: إنا لنقول أشياء نريد عرض الدنيا.

قالت: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: مَن سبَّ علياً فقد سبني، ومن سبني فقد سب الله تعالى(113).

المُحَيِّر أنّ كل الأعيان قد نقلوا هذا الحديث، ثم يحترمون معاوية!

أين العلم؟ هنا البرهانُ والمنطق، والجملة الأخيرة تكسِر ظهر كل علماء المذاهب الأربعة، فعندما قالت أم سلمة: يُسَبُّ رسولُ الله صلى الله عليه وآله في ناديكم؟ اتضح الأمر في الآخر، وهذه هي الحجة القاطعة التي تذري علماء العامة مع الريح! ومتن صحيح البخاري: عليٌّ منّي وأنا من عليّ.

وبحكم النصوص القطعيّة، فإن معاداة علي (عليه السلام) معاداةٌ للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه، ومعاداةٌ لله تعالى، ونتيجته ﴿لَعَنَهُمُ الله فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ﴾، وهي تشملهم جميعاً، هذا هو معاوية، وهذا هو البرهان، فهل يمكن في دنيا العِلم أن تجد من يكون من أهل العلم والفَهم ثم يقدِّس معاوية؟!

لقد شَمَلَ الجهلُ الجميع، وترك عدم الإطلاع وانعدامُ الرجولة أثره عليهم.

وقد أدّى الجهلُ وعدم القدرة العلميّة إلى الخنوع والخضوع في مقابل مثل هؤلاء الناس، وهم من كانت قيمتهم بهذا الحدّ!

لقد دلَّ الدليل القطعيُّ على أنّ معاوية ملعونٌ من الله تعالى، ومن رسوله، ومن تمام الأنبياء والأولياء.

هذه هي معاداة عليٍّ (عليه السلام)، وهذه الكلمة الأولى في حديث سعد، والمطلب الثاني يأتي إن شاء الله.

من سَبَّ عليا فقد سبَّ الله

كان البحث(114) في فقه الحديث الذي نقله مسلم في الصحيح، وكان المطلب الأول هو حكم سبّ أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهذه رواية أخرى تُثبِتُ أنّ سابّ عليٍّ (عليه السلام) سابٌّ للنبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد نَقَلَ هذه الرواية أعيانُ أهل السنة، كالإمام أحمد بن حنبل، والنسائي، والمتقي، وابن حجر، والحاكم، والذهبي، والرواية مورد اتفاق عندهم، وصحّتها مُسَلَّمَةٌ لديهم، ونَصُّها أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: مَن سَبَّ عليّاً فقد سبّني، ومّن سبَّني فقد سب الله.

ولأنّ البحث مهمٌ فإنه ينبغي أن يتّضح نحو النصوص والتعبيرات عند أهل فقه الحديث.

الروايات متعددةٌ، والأساطين الذين نقلوها متعدِّدُون أيضاً، وقد ذكرنا مضمون بعضها في الجلسة السابقة، والرواية التالية عن ابن عباس حبر الأمة والإمام عند الكلّ، يقول: أشهد بالله، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: مَن سَبَّ عليّاً فقد سبّني، ومّن سبَّني فقد سَبَّ الله (عز وجل) ومن سَبَّ الله (عز وجل) أكبّهُ (الله) على منخريه في النار(115).

هذه الرواية على درجة من الأهمية بحيث يقول ابن عباس: (أشهد بالله) فإنَّ أهميّة الأمر أوجبت أن يُصَدِّرَ الحديثَ بإشهاد الله تعالى.

فمَن سَبَّ عليّاً أكبّه الله على منخريه في النار، هذا حال معاوية بن أبي سفيان، وهو من ترضّوا عنه ولم يقبلوا أن تُقال كلمةٌ بحقه، وقد قال تعالى: ﴿وَيُضِلُّ الله الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاءُ﴾(116)، وقد نُقِلَت هذه الروايات في الكتاب الذي كُتِبَ للردّ على الشيعة، وكاتبه من أكثر الأشخاص تعصّباً ضد مذهب الحق: من سَبَّ أهل بيتي فإنما يرتدُّ عن الله والإسلام.

هذا مُحَيّر، فإنّ من يَسُبّ أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأولهم علي بن أبي طالب (عليه السلام) يرتدّ عن الله وعن الإسلام.. بالاتفاق عند الكل وبنصّ صحيح مسلم!

ومن آذاني في عترتي فعليه لعنة الله، ومن آذاني في عترتي فقد آذى الله، إنّ الله حرَّمَ الجنة على من ظلم أهل بيتي أو قاتلهم أو أعان عليهم أو سبَّهم(117).

وتكون النتيجة أنه لا ترديد في أن سبّ معاوية لِعَليٍّ بن أبي طالبٍ أذيةٌ له (عليه السلام)، لا شبهة لعاقل في أن السبّ في خطب صلاة الجماعة لعلي (عليه السلام) أذيةٌ لعليٍّ (عليه السلام)، وأذيتّه أذيّة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والله تعالى بالاتفاق، ونَصُّ القرآن: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ الله فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً﴾(118).

فبحكم الكتاب والسنة القطعية يكون معاوية بن أبي سفيان ملعوناً من الله ورسوله، وهذا برهانٌ يقصِمُ ظهر كلّ المذاهب.

خِتام الكلام في قضيةٍ ينقلها هذا الشخص نفسه مع كل عداوته للمذهب عن المنصور: أنّه رأى رجلاً بالشام وجهه وجه خنزير فسأله، فقال: إنّه كان يلعن علياً كلّ يوم ألف مرة، وفي الجمعة ألف مرة، وأولاده معه، فرأيت النبي، وذكر مناماً طويلاً من جملته أن الحسن شكاه إليه فلعنه ثم بصق في وجهه، فصار موضع بصاقه خنزيراً وصار آيةً للناس(119).

هذه ليست لعبة، إنّه سيفٌ قاطعٌ للحق، يُعجِزُ تمام أئمة المذاهب الأربعة.

ما معنى هذا الحديث؟

مَن يسبُّ عليّاً (عليه السلام) خنزيرٌ، غاية الأمر أنّ الوجه الحقيقيّ لا يظهر الآن، لكن لو قُيِّض للعين أن ترى الوجوه على ما هي عليها فإنها ترى وجهَهُ وجه خنزير، مَن يسُبُّ عليّاً يصبح خنزيراً، وأنجس الحيوانات الكلب والخنزير.

أما لو أسَّسً أحدٌ لِسَبِّ عليٍّ، واستمرّ ذلك إلى زمن عمر بن عبد العزيز، كما فعل معاوية بسَنِّه سَبَّ عليٍّ على منابر المسلمين، فما سيكون وجهه يا ترى؟

هذه الرواية لم يروها الكليني والشيخ الطوسي، نَقَلَهَا مَن أَلَّفَ كُتُباً ضدّ مذهب الشيعة، هذه حجة الله تعالى، وهذه حقيقة معاوية.

النتيجة: أنه طِبق الروايات المسلَّمة، حتى عند ابن حجر الهيثمي، فإنّ معاوية خنزيرٌ، معاوية مرتدٌ عن الله تعالى، معاوية مرتدٌ عن الإسلام، معاوية علاوةً على كل ذلك ملعونٌ من الله تعالى ونبيّه بنص القرآن الكريم، هذا حال معاوية، أما غير معاوية، فلو كان هناك فهم!!

إن الدلالة على قسمين: دلالةٌ مطابقية، ودلالةٌ التزامية.

قرأنا نصّ الروايات وهي مورد اتفاق، ودلّت أنّ كل من آذى عترة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو ملعون من الله ورسوله، وصحيح البخاري موجودٌ، والمطلبُ في صحيح البخاري مطبوع، كم آذوا فاطمة الزهراء (عليها السلام)!

الاعتراض الأول: الاستخلاف ليس على الأمة

تقدّم البحث(120) في حديث المنزلة، وأنّ الرواية تثبت خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام) من عدّة جهات: شَدُّ الأزر، الوزارة، الشركة في الأمر، الأخوّة.. فكل واحدٍ من هذه الأمور دليلٌ مستقلٌ على الخلافة القطعيّة له (عليه السلام).

ولأنّ هذا الحديث أعجَزَ أهل النظر من العامّة، نتعرّض لما ذكروه حوله، وبما أن البحث بحثٌ علميّ دون تعصُّبٍ وتهكُّم، فإن الحاكم هو المنطق والقواعد العلمية، وما قيل مأخوذٌ من الباقلاني، وينبغي النظر في متن اعتراض الباقلاني ليتبيّن الحق في المطلب، وفيما يلي تمام كلام صاحب التمهيد:

فإن قالوا ما أنكرتم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم نصَّ على علي عليه السلام بقوله (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنّه لا نبيّ بعدي) قيل لهم لا يجب ذلك لأن معنى ذلك أني أستخلفك على أهلي وعلى المدينة إذا توجهت إلى هذه الغزوة(121).

هذا كلُّ ما عندهم، حتى أنّ متأخري المتكلمين كرّروا ما ذكره الباقلاني.

وخلاصة كلامه أنّه لم يثبت كون الحديث دليلاً على الخلافة، لأنّ مدلوله أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد عيّن علياً (عليه السلام) في هذه الغزوة خليفةً على أهله وعلى المدينة، وهذا لا علاقة له بالخلافة بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). هذا تمام كلامه.

وعلى هذه الكلمة أربعُة إشكالات بل خمسة، فإنِ اجتمع تمام علماء المذاهب للجواب عليها وتَمَّ لهم ذلك كففنا، وإلا فلا.

أولاً: أنّه ينبغي أن يُفهَم التنزيل من الناحية العلميّة، فعندما يتحقق التنزيل يتحقق لدينا: مُنَزَّلٌ، ومُنَزَّلٌ عليه، ثم يُنزَّل المُنزَّل على المنزّل عليه، وحقيقة التنزيل من الناحية العلمية تطبيقُ تمام آثار المنزَّل على المنزَّل عليه.

فينبغي فهم مطلبين، أولاً حقيقة التنزيل، وثانياً إطلاق التنزيل.

أما متن الحديث فهو: أَلاَ تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى؟

ونحن نسأل الباقلاني: أليس بيان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تنزيلاً؟ ولمن كان التنزيل؟ وبالنسبة لمن؟ وفي ماذا؟

إن التنزيل في الحديث إنما كان لعلي بن أبي طالب (عليه السلام)، بالنسبة لنفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فصارت النِسبة كنِسبة هارون من موسى ‘، أليست هذه الكبرى هي كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ وفي كلامه (صلى الله عليه وآله وسلم) نزّل علياً بالنسبة لنفسه منزلة هارون بالنسبة لموسى، والسؤال: هل كان هارون خليفة موسى في أهله وبيته فقط؟ أم خليفته في أمّته؟

هذا هو العِلم، فإنّ إطلاق التنزيل مُحكَّمٌ، وينتج عن ذلك أن كلَّ نسبةٍ كانت لهارون من موسى كان لعليٍّ مثلها بالنسبة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

ينبغي على الباقلاني أن يفهم أن هارون لم يكن خليفة موسى على النساء والأطفال، إنما خليفته على بني إسرائيل، فيكون مقتضى التنزيل أن علياً خليفة الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) في الأمة، ويثبت لعليٍّ من النبيّ في هذه الأمة ما ثبت لهارون من موسى في بني إسرائيل.

ثانياً: ألا يعرف الباقلاني أن هذه الكلمات تسيء لتمام العامة في ميزان العلم؟! فإنّ نَصَّ القرآن الكريم يفيد أن الخلافة قد ثبتت لهارون في قوم موسى لا في أهله، ولا في غزوة معينة، بل كانت خلافة هارون في قوم موسى (عليه السلام).

ثالثاً: إن العلم تَفَقُّهٌ، ودراية الحديث مشكلة جداً، ولا يسلم صاحب التمهيد من المحاكمة، حيث لا يمكن أن يُخَصِّص الواردُ الموردَ من الجهة العلميّة، وههنا تظهر علميّة علماء أهل الحق، فقد نُقِّحَ في الأصول أن الدليل الوارد في موردٍ لا يمكن أن يُقيِّد الإطلاق أو يخصِّص العموم الوارد، وفيما نحن فيه: المورد هو: خَلَّفَهُ فِى بَعْضِ مَغَازِيهِ، فقد جعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) علياً (عليه السلام) خليفةً في بعض غزواته، وشاهَدَ الباقلاني هذا المورد، لكنّه لم يفهم أن هناك وارداً بعد هذا المورد.

وذلك الوارد هو: فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: يَا رَسُولَ الله، خَلَّفْتَنِي مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ؟

فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى.

ههنا دقَّةُ البحث، وإلى هذا الحدّ لم يفهم هذا الرجل، فلو كان الاستخلاف في تلك الغزوة مقتصراً على الخلافة على الأهل والولد لم يكن فيه دليلٌ على استخلافه على الأمة، لكن ألم تُفَكِّر أيها الباقلاني أنّ هناك وارداً على هذا المورد بعده؟ وهي هذه الجملة: مَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى؟

ههنا يظهر العلم، حَدُّ عِلمِ أعاظم علماء العامّة هو هذا، فلم يُشَخِّصُوا حقيقة التنزيل، ولم يفهموا أنه لا يُعقل تخصيصُ العموم الوارد بالمورد، فإن الصغرى لا تُحَدِّد أو تُقَيِّد الكبرى بنفسها بأيّ منطق، وهذا البرهان الثالث.

رابعاً: والكلام للجميع، من الرأس للقدمين، من الباقلاني لأزهر مصر، أليس لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (ألا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى) استثناءٌ؟ وهو قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) (إلاَّ أَنَّهُ لاَ نُبُوَّةَ بَعْدِي).

فالنبوّة فقط هي التي لستَ شريكاً فيها، لأني خاتم النبيين، وسوى هذا الاستثناء، فإنّ كلّ ما في المستثنى منه قد ثبت لك.

وإحدى هذه الأمور في المستثنى منه هي أن الاستثناء برهانٌ قاطعٌ على هذا الامر، وهو عبارةٌ عن خلافة هارون في بني إسرائيل في غياب موسى (عليه السلام).

خامساً(122): أنه ينبغي على الباقلاني وغيره الرجوع إلى القرآن أولاً ثم التكلُّم، وقد نصّ القرآن الكريم أن هارون خليفة موسى في قومه، لا في أهله، فإلى هذا الحدّ من عدم الإدراك قد وصلوا؟!

هناك آيتان في سورة طه والأعراف، والتأمل فيهما كافٍ لتمييز الحق عن الباطل، فماذا قال موسى لهارون؟

قال: ﴿اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي﴾، ثم الكلمة الثانية: ﴿وَأَصْلِحْ﴾، وقد جعل إصلاح بني إسرائيل بعهدة هذا الخليفة، فإلى هذا الحدِّ لم يكن عندهم إدراكٌ لمقدار التفاوت بين الخلافة على الأمة وإصلاحها وبين الخلافة على الأهل والبيت؟!

إذا ثبت أنّ هارون كان خليفة موسى في قومه، أي في أمته، وهم بنو إسرائيل، وكانت مهمته الإصلاح، يُطرَحُ السؤال على هؤلاء: ما معنى (وَأَصْلِحْ)؟ إن إصلاح الأمة يتم بأمرين: العلم والعمل، وحديث المنزلة يثبت لعليٍّ كلّ ما ثبت لهارون في القرآن بالاتفاق، ودَعوانا أن علياً خليفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في إصلاح أمة الإسلام، وهذا نصّ القرآن وحديث المنزلة.

يكفي الانغماس في الجهل إلى هذا الحدّ..

الاعتراض الثاني: هارون خليفةٌ في حياة موسى

الاعتراض الثاني: على حديث المنزلة، أن هارون كان خليفة موسى في حياته، وقد توفي قبل موسى بن عمران، فإذا كان كذلك عليكم أن تثبتوا أنّ خلافة عليٍّ ثابتةٌ بعد رحلة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنّ هارون قد توفي قبل رحيل النبي موسى (عليه السلام)، فكانت خلافته في حياته، أما بعد وفاته فلا خلافة.

وهذه أيضاً حِرفَةُ العاجز.

والجواب في كلمتين: أنّ سبب هذا الاعتراض هو البُعدُ عن العلوم العقليّة أولاً، والجهل بالسيرة العقلائية ثانياً، هذا إشكالنا على هذا الادعاء، وينبغي على أهل الدِّقَة النظر في ذلك، وإن شاء الله يصلُ عددٌ منهم إلى الثمرة المرجوّة، ويتمكنوا من بيان الحق، وإثباته أمام علماء المذاهب الأربعة.

بيان ذلك: ما هو موضوع البحث؟ موضوع البحث: هو أن لعليّ بن أبي طالب الأهليّة لخلافة النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد رحلته، هذه دعوانا.

وقد كانت عنده الأهلية لهذا المنصب، وإذا كانت عنده الأهليّة وجلس غيره في محله تكون النتيجة أنّ غير المؤهل جلس في مكان المؤهل، هذا تمام المُدَّعى.

أما الدليل: إنَّ تَحَقُّقَ الأهلية للخلافة يحتاج إلى أمرين: أولهما: المقتضي، وثانيهما: وجود الشرط، وينبغي أن يكون البحث برهانياً من الجهة العقلية، ليتضح أن منشأ كلامهم هو فقدان العلوم العقليّة.

إن الأهليّة للخلافة تحتاج الى مقتضٍ وشرط، ووجود كلِّ موجودٍ مرتبطٌ بالعلّة، والعلّة مركبةٌ من المقتضي والشرط، وجودياً كان أو عدمياً، والشرط مُتَمِّمُ الفاعل أو مُكمّل القابل، فينبغي أن يتحقق المقتضي وأن يحصل الشرط الذي يُتِمُّ المقتضي ويوصل القابلية لنقطة تحقق المقتضي، حينها تظهر الأهلية.

وتتحقق أهلية الفتوى مثلا بالعلم، وينبغي ملاحظة أهلية كل مقام بما يتناسب معه، أي بملاحظة المقتضي والشرط، وكُلَّ ما كان الأمر أعلى وأرفع، فإنّ مرحلة الاقتضاء والشرط ترتفع بمقتضى التناسب بينهما.

وتتوقف أهليّة خلافة الخاتم على التناسُب بين الخليفة والمستخلَفِ عنه، وذلك في العلم والكمالات النفسيّة والقوة والقدرة على إصلاح الأمة.

أليس هذا الأمر برهانياً؟ ألم تثبت أهلية الخلافة لعليّ بن أبي طالب بحديث المنزلة؟ هي ثابتةٌ بالاتفاق، غاية الأمر أنهم يدّعون أنها كانت في زمان حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما كان هارون خليفة موسى في حياته.

والجواب: هل زالت الأهلية المحقَّقَةُ لعليٍّ ـ والتي اعترفتم بها ـ بوفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ أم لم تَزُل؟

لا منزلة بين السلب والإيجاب والنفي والإثبات، فلا ثالث لهما، إما نفيٌ أو إثبات. فهل سقطت هذه الأهلية برحلة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أم لا؟

أنتم تقولون: أنها سقطت، والسقوط يحتاج إلى علّة!

إلى هذا الحدّ لم تدركوا أن الثبوت يحتاج إلى علة، والسقوط كذلك؟! للأسف لم تصلوا للعلم، وهذه كلماتُ من تُطبَعُ كتبهم في مصر والسعودية ويُكتب عنهم أنّهم أئمةٌ ويُعطَون ألقاباً متعددة!

هل زالت أهلية خلافة عليٍّ برحلة النبي أم لا؟

إذا قلتم أنّها زالت، فقد صارت علَّةُ زوالها رحلة النبي! وينبغي أن يكون هناك سنخيّةٌ بين العلّة والمعلول، فما الربط بين رحيل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وزوال أهلية خلافة عليٍّ (عليه السلام)؟

أين العقل؟ النتيجة أن المعلول قد تحقَّقَ بلا علّة!

نعم، زوال أهليّة خلافة عليٍّ (عليه السلام) يمكن أن يتحقق بأمرين: أحدهما: بزوال العلم، وثانيهما: زوال العمل، كما ثبتت بهما، فهل ذهب عِلمُ عليٍّ برحيل النبي؟ وقد قال ذلك الشخص بالاتفاق: لولا عليٌّ لهلك عُمَر، وقال: لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن!

هل ذهب علم من اتفق الجميع على أنه أعلم الأمة؟ علي (عليه السلام).. ونَصَّت على ذلك عائشة وصريح كلام معاوية، إذاً لم يذهب العِلم، والعَمَل كذلك، فإنّه لم يذهب بالاتفاق أيضاً، فقد بقيت هذه الأهليّة إذاً بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما كانت في حياته، وذلك بحكم العقل والبرهان.

فإذا قلتم: إن علياً لم يتغيّر بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم يَزُل علمُه وعمَلُه، ولكن أهليّة خلافته ذهبت، نسأل: ما هي علة زوال الأهلية؟

إذا صَمَتُّم ولم تجيبوا: يكون معلولاً بلا علة! وتَرَجُّحاً بلا مُرَجِّح!

غاية الأمر أنه ينبغي ان تدركوا أنّ بين التَرَجُّح بلا مُرَجِّحٍ والترجيح بلا مرجحٍ فرقٌ، فكلٌّ منها من باب.

والإلتزام بأن أهليّة علي بن أبي طالب للخلافة على القوم في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ الثابتة بمقتضى نص القرآن وحديث المنزلة ـ قد سقطت بوفاة النبي، هذا الالتزام في نهاية البُعد عن القواعد العقلية، وهو التزامٌ بتحقُّق المعلول بلا علّة.

فلا خيار لكم، إلا أن تقولوا أنّه كما كان أهلاً للخلافة في زمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تثبت له هذه الأهلية بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالبرهان العقلي، ولو لم يثبت ذلك، ولم يجلس على تلك الكرسي.. فما هي لوازم ذلك؟ هذا يكفي، المهم هو هذا.

ثانياً: لا ترديد ولا تأمُّل لأيِّ عاقلٍ بأنّ هارون لو بقي حياً بعد موسى (عليه السلام) فإنّه سيكون خليفته، وهو الذي ورد عنه في نَصّ القرآن ﴿هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي﴾ ﴿وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي﴾ وقال له موسى ﴿اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي﴾.

ينبغي أن يُفهم أنّ هارون وإن ذهب في زمان موسى (عليه السلام)، إلا أنّ أهليتّه لخلافة موسى لا تسقط بعد وفاته (عليه السلام)، فإنّ التفاوت بين ذهابه وذهاب أهليّته كالتفاوت بين السماء والأرض، فهارونُ وإن ذَهَب، إلا أن أهليّته لم تذهب.

إلى هذا الحدِّ لا وَعيَ عندكم؟! ثم صار أحدكم باقلانيّ و..؟ وحصرتم الأهليّة بزمان حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟! وليس البحث في الخلافة، إنما في أهليّة الخلافة، مَن هو المؤهل ومن هو غير المؤهل.

مُدَّعَى هذا المذهب أنّ المؤهّل لخلافة الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) هو عليُّ بنُ أبي طالب (عليه السلام)، وبرهان الأهليّة القرآن وحديث المنزلة، وزوال هذه الأهلية برحلة النبي محالٌ، اثنان واثنان أربعة: عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام) أهلٌ لذلك، وأبو بكر وعمر وعثمان ليسوا أهلاً لذلك. هذا البرهان، وهذه نتيجته.

النتيجة: ضلال المذاهب الأربعة

هذه الرواية(123) التي صَدرُها حديث المنزلة، مُذَيَّلَةٌ بذيلٍ، وهذا الذيل يوضح ملاك الخلافة المطلقة للخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته ومماته، والتوجُّه لهذا الذيل مهمٌ، حيث أن نسبة الذيل لصدر الحديث نسبة العلة للمعلول، وهذه العلّة هي العلة المحدِثة للخلافة، وانفكاك المعلول عن علّته التامة محال، وهذا برهان قاطعٌ وهو ختم الكلام.

متن الرواية: ولمّا نزلت هذه الآية ﴿فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ﴾ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال: الّلهم هؤلاء أهلي(124).

وههنا مباحث:

الأول: أنّ نَصّ الآية يتضمن دعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لتمام أساقفة نجران للمباهلة بحيث يدعو النبيُّ ﴿أَنْفُسَنا﴾ وتدعون ﴿أَنْفُسَكُمْ﴾، وندعو ﴿أَبْنَاءنَا﴾ وتدعون ﴿أَبْنَاءكُمْ﴾، وندعو ﴿نِساءَنا﴾ وأنتم تدعون ﴿نِساءَكُمْ﴾ ﴿ثُمَّ نَبْتَهِل..﴾.

والسؤال هنا: من دعا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مقابل دعوة الأبناء؟ إنّهم الحسن والحسين ‘ بالإتفاق.

ومن دعا مقابل دعوة النساء؟ شخصٌ واحد بالاتفاق، هي فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وفي مقابل دعوة (أَنْفُسنا) دعا شخصاً واحداً هو عليٌّ المرتضى (عليه السلام).

فتعيّنت الكبرى والصغرى بحكم القرآن وبالنصّ الصحيح، بحيث صار عليٌّ نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهل يمكن مع وجود نفس الشخص أن يُملأ خلأ وجوده بغير هذه النفس؟ هذا القرآن وهذا البرهان.

إذاً عَليٌّ بنصّ هذه الرواية، وبحكم الكتاب والسنة: هو نفس الخاتم، وملاك وعلة الخلافة هي هذه النفسيّة، وقد كانت هذه العلّة ثابتة له في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفصله عن الخلافة برحيل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الدنيا يعني تفكيك العلّة عن المعلول.

ثانياً: دعا (صلى الله عليه وآله وسلم) علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً وقال: اللهم هؤلاء أهلي.

لو فُهِمَت هذه الجملة هل تبقى شبهةٌ عند أحد؟ لو اجتمع كلُّ علماء المذاهب الأربعة فهل يمكنهم أن يجيبوا على هذه الجملة وعلى القرآن الكريم؟

اللهم هؤلاء أهلي: أثبَتَت أن علياً أوّل أهله، ونصُّ القرآن: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً(125).

فهو تطهيرٌ من مُطلَق الرِّجس، فقد أذهب عنهم الرجس وطهَّرهم بالتطهير الإلهي، بالطهارة التي تفوق البيان والإدراك، والمرجع أيضاً هو القرآن الكريم: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ(126)، ومدلول هذه الآية أنه لو كان لروحٍ أدنى مرض فإنها مبتلاةٌ بالرجس، أما الروح المنزّهة عن الرجس فهي التي تكون قد وصلت الى حدٍّ تنزهت فيه عن كلّ مرضٍ نفساني.

وتكون النتيجة أن الجهل مَرَضٌ للروح، والكبر مرضٌ للروح، وكلُّ معصيةٍ مرضٌ للقلب، والمنزّه عن الرجس هو المنزّه عن الجهل والمعصية.

هل كان أبو بكر منزّهاً عن الجهل والمعصية أم لا؟ هل كان عُمَر بن الخطاب منزهاً عن الجهل أم لا؟ هل كان عثمان منزهاً أم لا؟

لقد نصَّ القرآن والسنة على أنّ علياً منزّهٌ عن كلِّ رجس، ودلّت السنة القطعيّة أنّ غير عليٍّ ملوّثٌ بالأرجاس!

سبعون مرة: لولا عليٌّ لهلك عمر، تُبَيِّن أيَّ أرجاسٍ حَمَلَها من الجهالات، فهل لِلَوثَةِ الجهل ملاكٌ لخلافة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ هذه الحجة البالغة.

الّلهم هؤلاء أهلي: ونصّ القرآن: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ ﴿وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ﴾.

فالنتيجة أن علياً أصبح عقلَ الكلّ وكلَّ العقل، لأنه خالٍ من كلّ رِجسٍ، والجهلُ بحكم القرآن رِجسٌ، فَعَليٌّ منزّه عنه.

والنتيجة أنّه (عليه السلام) كلّ العلم وعلم الكل، لأنّ كلّ جهلٍ رجسٌ، ومطلق الرجس زائلٌ عن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) بِنَصِّ القرآن.

وختم الكلام عن هذه الرواية: ثم اعلم أنّ لحديث التمسك بذلك طرقاً كثيرة وردت عن نيّفٍ وعشرين صحابياً(127).

هذا الحديث قد روي عما يزيد عن عشرين صحابياً من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذه كلماتُ من لم يأت مثله في تاريخ العامة في معاداة مذهب الشيعة! هذه الحجة البالغة.

قال (ابن حجر): وفي روايةٍ صحيحة: إني تارك فيكم أمرين لن تضلوا إن تبعتموهما: دقِّقوا جيداً، فإنّ الطرف المخاطب كلُّ الأمّة حتى القيامة، فكلهم مأمورون بالتبعية لأمرين: كتاب الله وأهل بيتي عترتي، وفي هذه الرواية قد اختار (صلى الله عليه وآله وسلم) علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً وقال: اللهم إن هؤلاء أهلي: فأثبَتَ أنّ هؤلاء هم أهله وعترته، وفي تلك الجملة أمَرَ كل الأمة باتباع شيئين: القرآن والعترة.

قال ابن حجر:

ثم أحقٌّ من يُتمَسَّك به منهم: أنسب من يُتَمَسَّكُ به وهو قرين القرآن ويُتَّبَع:

إمامهم وعالمهم عليّ بن أبي طالب: ولأنّا نقرأ كلامه فإن الأمانة تقتضي أن نقرأ الكلام كما هو: كرّم الله وجهه: إنّ أنسب من ينبغي على كلّ الأمة التمسُّك به هو عليّ بن أبي طالب، لماذا وما الدليل؟

لما قدّمناه من مزيد علمه ودقائق مستنبطاته: والسؤال لهؤلاء جميعاً: إذا كان عليٌّ عترة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد قال النبي: إني تارك فيكم أمرين: كتاب الله وعترتي لن تضلوا ما ان تمسكتم بهما، وإذا كانت كلّ الأمة مأمورة بالتمسك به واتباعه، فهل الخلافة غير ذلك؟! أين العقل؟!

إن أقروا بذلك فلا اختلاف بعد ذلك، هذه الحجة البالغة.

ومن ثم قال أبو بكر رضي الله عنه: عليٌّ عترة رسول الله: هذا كلام أبي بكر بنقل ابن حجر الهيثمي! فكَونُ عليٍّ عترة رسول الله هي الصغرى. والكبرى: إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي لن تضلوا ما ان تمسكتم بهما أبداً.

النتيجة: أنّ كلَّ من قدّم غير عليٍّ عليه يدخل في أهل الضلال بنصّ القرآن، وينبغي البراءة منهم جميعاً، لأن السنّة القطعية قد حصرت عدم الضلال بالتمسك بعليّ بن أبي طالب، وتكون النتيجة أنّ مَن قدّم غير عليٍّ على عليٍّ (عليه السلام) قد وقع في الضلال، وأصبح من الضالين كائناً من كان: ﴿ اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾.

نتيجة البحث القطعي: أنه ثبت بحكم القرآن والسنة القطعية، وثبت بقول أكثر علماء السنة تعصُّباً: أن المذاهب الأربعة للعامة كلُّها من أهل الضلال، والصراط المستقيم في خلافة علي بن أبي طالب (عليه السلام) للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بلا فصل.

 

الرواية الثالثة: عليٌّ مع القرآن

الحديث الثالث(128) هو الحديث الذي التزم أصحاب المجاميع الروائية عند العامة بصحته سنداً، حتّى أنّ من كان دأبهم المناقشة في أحاديث الفضائل صرّحوا بصحته، وهذا متن الحديث: عليٌّ مع القرآن، والقرآنُ مع عليّ، لن يتفرّقا حتى يَرِدَا عَليَّ الحوض(129). وهذه الرواية صحيحة السند عند العامة، غاية الأمر أن فقه الحديث مُشكِلٌ جداً.

المطلب الأول: أن المعيّة من المفاهيم الإضافية، وليس للمفاهيم الإضافية وجودٌ استقلاليّ، بل إنّها قائمةٌ بغيرها، وموجودةٌ بوجوده، كالفوقيّة، والمهمُّ في هذا الحديث هذه الجهة: عليٌّ مع القرآن.

هذه المعيّة قائمةٌ بين هذين الطرفين بهما، وإذا قام مفهومٌ بمفهومين، فإنّه من الناحية العلميّة يوجب إقامة البرهان على أنّ المعنى الإضافي القائم بهذين الطرفين يحقِّق الوحدة، وهذا رمزٌ مهمٌ في فقه هذا الحديث.

المعيّة مفهومٌ، وإذا قام هذا المفهوم بطرفين فإنّ قيام المفهوم الواحد بطرفين لا يُعقل إلا مع وحدة الطرفين، لذا فإنّ المعيّة تختلف عن الفوقيّة، فالفوقيّة من المفاهيم الإضافيّة مختلفة الأطراف، والفوقيّة قائمة بالفوق، في قبال التحتيّة القائمة بالتّحت، أمّا المعيّة فهي مفهومٌ واحدٌ قائم بطرفيه.

غاية الأمر أن أحداً من علماء العامة لم يَنَل هذه الدقائق، ويمكن أن يبحث أهل التتّبع ليروا هل تعرّض أحدٌ لذلك؟

فقه الحديث هو المهمّ، قال الإمام (عليه السلام): اعْرِفُوا مَنَازِلَ شِيعَتِنَا عِنْدَنَا عَلَى قَدْرِ رِوَايَتِهِمْ عَنَّا وَفَهْمِهِمْ مِنَّا(130)، وعنه (عليه السلام): حَدِيثٌ تَدْرِيهِ خَيْرٌ مِنْ الفِ حَدِيثٍ تَرْوِيه(131)، هذا المطلب الأول الذي ينبغي الوصول لشرحه لاحقاً.

العجزُ عن معرفة القرآن

المطلب الثاني: أن كلام الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي هو خَتم الكلمات، مشتملٌ على قضيّتين لا واحدة: القضية الأولى: عليٌّ مع القرآن، والقضية الثانية: والقرآنُ مع عليّ، وتندرج في هذا التعدد حقائق أيضاً، ولا يمكن فهم المعيّة ما لم يُفهم الطرف في هذا المفهوم، فتكون النتيجة أنّه ينبغي فَهمُ القرآن أولاً في قوله (عليٌّ مع القرآن)، وفهمُ عليٍّ في قوله (والقرآنُ مع عليّ).

وهذا البحث عميقٌ، ونحن نشرع فعلاً بقدرِ ما يشاء الله.

عليٌّ مع القرآن، والقرآنُ مع عليّ: كيف كان سيظهر الحق لو فُهِمَ هذا الحديث فقط؟ وبعد أن قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هاتين الجملتين قال: لن يتفرّقا حتى يَرِدَا عَليَّ الحوض، والتعبير هنا أيضاً عميقٌ، لم يقل: لن (يفترقا)، إنما لن (يتفرّقا)، الهيئة هيئة تَفَعُّل، الوحدة مثل هذه الوحدة، فهل فَهِمَ مفسروا العامة القرآن مع كل التفاسير التي كتبوها والعمر الذي صرفوه؟ هل عرفوا القرآن وموطنه؟

ما بَلَغَهُ عِدَّةٌ منهم هو قشورُ بعض الأحاديث، وقد بقيَ لُبُّها!

هنا يمكن أن تُطرحَ شبهةٌ، فقد قلنا أنّه ينبغي في الجملة الأولى معرفة القرآن، لأنه قال: عليٌّ مع القرآن. وفي الجملة الثانية ينبغي معرفة عليّ، وهذا دورٌ.

ولكنّ الدور يقع في صورة وحدة الجهة: فإذا أردتَ أن تُظهِرَ عظمة مُعَلِّمٍ ما، تنحصر الطريق بإظهار عظمة العِلم، وبعظمة العلم تتضح عظمة المعلم، أما لو أردت أن تُظهِرَ عظمة العِلم، فينبغي أولاً معرفة العالم، هذا اختلاف الجهة.

عظمة المُعَلِّم بعظمة الكتاب والعِلم الذي يفسّره، فمثلاً من يتمكن من شرح كتاب الجواهر يختلف عمّن يتمكن من تعليم المعالم أو شرح اللُّمعة، ومن يُعلِّم مكاسب الشيخ ويستخرج دقائق كلمات الشيخ يختلف عمّن يعلّم المختصر النافع للمحقق ويشرحه.

أين شَرحُ الجواهر وأين شَرحُ المعتبر للمحقق؟ أين تَعليمُ هذا وتَعليمُ ذاك؟ كم يختلف المُعَلِّم؟ لذا ينبغي أن تُعلَم المَعيّة، عليٌّ مَعَ من؟ وبماذا معه؟

ذاك هو القرآن، والقرآن ليس قابلاً للمعرفة عند أحد، لا يُعقل أن يوجد أحدٌ يتمكن من أن يقول: أنا عرفت القرآن، لماذا؟ لأن للقرآن ظهراً وبطناً، وللبطن بطنٌ، لَا تُحْصَى عَجَائِبُهُ وَلَا تُبْلَى غَرَائِبُه‏، فمن وُجِدَ عنده العقل لا يُمكن أن يدّعي الوصول إلى القرآن الكريم، نَعَم أمثال الشيخ الأنصاري، والشهيد الأول، يمكنهم القول أنّا وصلنا إلى مرحلةٍ من مراحل القرآن.

هذا الكتاب لا يُدرَكُ ولا يُوصف، عظمته إلى هذا الحدّ، غاية الأمر أنّ طريق معرفة العظمة أيضاً هي نفس القرآن.

طلوع الشمس دليلٌ على الشمس، ففي معرفة الشّمس لا يمكن الرجوع لغيرها، والقرآن شمسٌ، هو سماءُ النبوّة، وعِلمُ وحكمَةُ الخاتميّة، وينبغي أن تكون معرفته منه نفسه.

وينبغي أولاً فهم طرف الإضافة مع القرآن الكريم، فالنكتة المهمّة مثلاً أنّه في الأشهر الإثني عشر هناك شهرٌ واحدٌ هو شهر الله بالاتفاق، وهو شهر رمضان، وعندما أراد تعالى التعريف بشهر الله كان التعريف بنزول القرآن فيه: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَى وَالفُرْقَانِ﴾(132)، وليس في كلِّ أوقات السنة أعظم وأفضل وأشرف من ليلة القدر، وعُرِّفت ليلة القدر بأنّها ظَرفٌ لِنَفسِ القرآن: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ(133).

وتلك الليلة المباركة قدّ بُيِّنَت في هذه السورة ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ﴾، ثم خاطب الله الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القَدْرِ﴾ فإذا كانت عَظَمَةُ ليلة القدر راجعةً إلى أن كونها ظرفاً، وكان المظروف في هذا الظرف هو القرآن الكريم! فما مقدار عظمته؟!

لو كان الفخر الرازي يفهم هذا الكلام لفَهِمَ معنى: عَليٌّ مع القرآن، والقرآنُ مع عليّ. فإذا كان شُكرُ نزول القرآن صيام شهر رمضان الذي أنزل فيه، وأوجب الله ذلك على تمام الأمة إلى يوم القيامة، فما حال الشخص الذي يكون مع القرآن ولا ينفصل عنه أبداً؟ هذا من جهة الظرف.

معرفة القرآن وأثره

أما من جهة القرآن نفسه: فقد قال تعالى:

﴿الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ﴾ وهنا يَحارُ العقل، الله سبحانه وتعالى عَرَّفَ نفسه بإنزال القرآن، الذات القدوس: الله أكبر من أن يوصف، يقول أنّي أنا نزَّلتُ ﴿أَحْسَنَ الحَدِيثِ﴾ وإلى أن يُفهم لفظ ﴿ أَحْسَنَ﴾! وأيّ أحسنيّة؟!

كلامُ الذات المحيط بتمام عوالم الوجود، والحديث الذي أنزلهُ أحسنُ مِن كلّ حَسَنٍ وكلُّ قولٍ من الأقوال بحَوله وقُوَّته، الإله الذي أنزل التوراة والانجيل والصحف ومزامير داوود، ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا﴾ جَمَعَ كلّ هذا وقال: ﴿الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً﴾ فصار هذا الحديث كتاباً منزّلاً منه متّصفاً بأنه أحسن الحديث. هذا نفس القرآن بالذات.

أما أَثَرُ القرآن، فأوّلاً: لا جوهر في العالم أعلى من جوهر الهداية، لماذا؟ ينبغي أن تكون كلُّ الكلمات مُتَوَائِمَةً مع المنطق والاستدلال، والدليل على ذلك: أنّ أمَّ الكتاب سورةُ الحمد، وكان ختم الدعاء في سورة الحمد: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾، وما هو هذا القرآن؟ ﴿إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ(134)، فصار بنفسه أحسن الحديث، وما يهدي إليه صار أقوم الطرق.

لو فَهِمَ وعَرفَ كلُّ علماء المذاهب الأربعة مَن هو الذي كان مع مثل هذا القرآن، وعالماً بكلّ بطونه، سيعرفون بعد ذلك لماذا قال (صلى الله عليه وآله وسلم) له: يَا عَلِيُّ مَا عَرَفَ الله إِلَّا أَنَا وَأَنْتَ، وَمَا عَرَفَنِي إِلَّا الله وَأَنْتَ، وَمَا عَرَفَكَ إِلَّا الله وَأَنَا.

عليٌّ كالقرآن: يخرج الناس من الظلمات إلى النور

وصل البحث(135) في فقه الحديث إلى أنه ينبغي لمعرفة عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) أن يعُرَف القرآنُ أولاً، يحكم بذلك المنطق والدليل، لأنّ مدلول الحديث الذي تمّت حجيته عند الفريقين: عَليٌّ مع القرآن، فينبغي لإدراك هذه المعيّة تعريف طرفها الآخر، ومعرفة القرآن مستحيلةٌ بغير القرآن نفسه، لذا ينبغي معرفة القرآن بقدر الاستعداد وذلك بالرجوع إليه، وإدراك حقيقة الكتاب.

قال تعالى: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً(136).

فلو اجتمع الإنس بقدراتهم العقلية التي وُزِّعَت على كلّ الناس، وكلمة (الإنس) مُصَدَّرَة بالألف واللام، فتشمل كلّ أفراد البشر من صَدر الخِلقة إلى القيامة، مع الجنّ المتّصفين بتلك القدرة والإحاطة، وتشمل كلّ أفراد الجنّ، إذا كانا معاً مجتمعين، بأن تمركزت كلُّ القوى، على الإتيان بمثل هذا القرآن، لا يأتون بمثله، وههنا بحثٌ مفصل، ﴿علَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ﴾، لا نفس القرآن، إنما بالمماثِل للقرآن، فلا يأتون بمثله. فما معنى هذه الجملة؟

معناها أن اللفظ والمعنى والقالب والمحتوى كلُّه فوق قدرة الإنسان، وفوق قدرة الجنّ، وهذا نموذجٌ عن عظمة القرآن.

أما سرُِّ المطلب: فلماذا عَجِزَ الإنس والجنّ ولم يقدروا على ذلك؟ إذا فُهِمَ ما الذي في القرآن يُعرَف وجه عجز كلّ الجنّ والإنس.

﴿ألم﴾ ﴿حم * عسق﴾ ﴿كهيعص﴾ ﴿طس﴾ ﴿طسم﴾..

لو فُهِمَت هذه الحروف، وعُرِفَ تركيبها، لحصلت القدرة على التصرُّف في كلّ عالم الإمكان، ومِن أين للإنس والجنّ معرفة تركيب وتأليف هذه الحروف حتى يصلوا لبطون هذا الكتاب؟

وقد قال تعالى: ﴿الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ(137).

كلُّ هذا إدراكٌ لعدم الإدراك، وهذا هو المهمّ.. منزِلُ الكتاب هو الله تعالى، يا هو، يا من لا يعلم ما هو إلا هو، المنزِلُ هو هذا، أما المُنَزَّلُ عليه، ﴿أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ﴾ لا إلى موسى وعيسى وإبراهيم (عليهم السلام)، المنزِلُ هو الذاتُ التي لا تتناهى، والمنزَلُ عليه هو عقلُ الكلّ، وخَتم الرسل، أوّلُ شخص في عالم الإمكان.

ما هي غاية الإنزال؟ ﴿لِتُخْرِجَ النَّاسَ﴾ هنا يَحارُ العقل، الغايةُ هي إخراجُ كلِّ البشريّة، كلُّ من يُطلَق عليه أنّه من الناس، لتخرجهم كلّهم ﴿مِنَ الظُّلُمَاتِ﴾ فما هي تلك الظلمات أيضاً؟ ما أثر ألف ولام ﴿الظُّلُمَاتِ﴾؟

﴿إِلَى النُّورِ﴾: فما هو النور؟ وما هي تلك الظلمات؟ كلُّ هوىً وجهلٍ ظلمةٌ، وكلُّ أفراد البشر غرقى في هذه الظلمات، ظلمات الجهل.

هل لدينا نحن معرفةٌ بأنفسنا؟ أبداً.. هذا الظُفرُ في حالة النموّ الآن، ثم يُقطَعُ لاحقاً، هل لدينا عِلمٌ بأظافرنا نحن؟!

كلّ هذه العربدة العلمية في الدنيا! ولم تُفهَم الغاية!

أهل العلم هم الذين فهموا مراتب الجهل! أمّا نحن فلا نعلم حال أظافرنا! وليس عندنا اطلاع على حال أعيُنِنَا! ولا نعرف ما جرى ويجري في عقولنا وأدمِغتنا، ولا دوران الدم في أبداننا! من أين جئنا؟ وإلى أين نذهب؟ أين نحن؟ ظلماتٌ وجهلٌ من الرأس إلى القدمين.

أُنزِلَ هذا الكتابُ إليك لتخرج كلَّ البشر من كلّ الظلمات وتوصلهم إلى النور المطلق ومطلق النور، وههنا بحثٌ مفصّل، الظلماتُ جمعٌ، وأمّا النور فواحدٌ، فماذا يعني ذلك؟ هذه المباحث باقيةٌ على بكارتها!!

لو فهم الآف فخرٍ رازيٍّ هذا لفهموا أن الكتاب أبديٌّ، ليس لزمان خاصٍّ ولا لأمّةٍ خاصّة، بل لكلّ الأمم إلى يوم القيامة، وههنا ينبغي أن يُحاكَموا ويجيبوا، أليس هذا نصّ القرآن: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾؟

كم أنت غارقٌ أيها الفخر الرازي في الظلمات؟ وهكذا غيرك، ألا ينبغي أن يُخرِج هذا الكتاب الجميع من ظلمات الجهالات؟ أليس هذا نصّ القرآن؟ ألا يكون المخرِجُ الذي يخرج الناس من كلّ هذه الظلمات مع القرآن؟ إن لم يكن كذلك، فإن نفس هذا الكتاب لغو!! لماذا؟ لأن الطِبَّ دون الطبيب، والعلم دون المُعلِّم، والقانون دون مُفَسِّر، لغوٌ بالضرورة!

إن كان هناك من سيخرجهم، فهل هو أبو بكر؟ أنت تقول أنّه كان عاجزاً عن فهم كلمات القرآن! هل هو عُمَر بن الخطاب؟ الذي تعترفون كلّكم أنه عاجز عن فهم آيات القرآن! قرأتم القرآن من جهةٍ، وكتبتم من جهة أخرى ذلك الحديث: عَليٌّ مع القرآن.

ألم تفهموا هذا المقدار؟ أنَّ مُخرِجَ الناس من الظلمات إلى النور بعد الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) هو مَن كان بنصّ الخاتم مع القرآن والقرآن معه؟!

هذا الكتاب وهذه السنة وهذه المبادئ القطعية، ولو نَظَرَ أيُّ أحدٍ من أهل المنطق: لَوَجَدَ الصغرى والكبرى واستخرج النتيجة القطعية، وهي نفيُ وإبطالُ الجميع، وإثبات ذلك الشخص: عليٌّ (عليه السلام).

لا ينتهي المطلب ههنا.. قال تعالى: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ﴾(138)، فقد نَصَّ الكتابُ أن موطن القرآن هو اللّوح المحفوظ، وينبغي أن يكون الشخص الذي مع القرآن قد وصل إلى اللوح المحفوظ.

إقرأ القرآن لتفهم أنّ ذلك الذي وصل إلى الكتاب المبين هو ذلك الذي قيل فيه أنّ كلّ شيء أُحصيّ في الإمام المبين كما أحصي في القرآن المبين، فالكتاب المبين منضمٌّ للإمام المبين، فهل كان لأبي حنيفة هذا المقدار من الإدراك ليفهم معنى أنّ كلّ شيءٍ قد أحصيناه في الكتاب المبين؟

ونفس القائل قال: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ(139)، لو كانوا قد فهموا هذا، لَفَهِموا الحديث الذي اعترفوا بصحته: عَليٌّ مع القرآن، والقرآنُ مع عليّ، فالإمام الذي أحصينا فيه كلّ شيء، والكتاب الذي أحصينا فيه كل شيء، يُجمَعُ كلُّه في: عَليٌّ مع القرآن، والقرآنُ مع عليّ.

القرآن والأئمة المطهرون

البحث في الحديث الصحيح(140) الذي كان مورد اتفاق: عَليٌّ مع القرآن، والقرآنُ مع عليّ، لن يتفرّقا حتى يَرِدَا عَليَّ الحوض.

وصارت النتيجة من جهة فقه الحديث أنّ معرفة عليٍّ ليست متيسِّرَةً إلا بمعرفة القرآن، ومعرفة القرآن ليست مُيسَّرَةً إلا بنفس القرآن، وقد تعرَّضنا لقسم من الآيات، وهذا قسمٌ آخر: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ(141)، ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا المُطَهَّرُونَ(142).

وهذه الآية تُحَدِّدُ مَحَلَّ القرآن، وأنّه مجيدٌ في لوحٍ محفوظ، أمّا قوله تعالى: ﴿ق وَالقُرْآنِ المَجِيدِ﴾، فإنّ تعريف القرآن فيها بالمجد فوق التصور.

ويظهر نموذج هذا المجد لو دقّقنا في سورة البقرة التي يبدأ فيها: ﴿ذلِكَ الكِتاب‏﴾ أي القرآن الذي بين الدفتين، وفي أيدينا، يُشار إليه بـ (هذا) لكنَّه أشار إليه بلفظ البعيد، وسِرُّ الإشارة للبعيد أن القرآن في اللوح المحفوظ، في كتابٍ مكنون، والكتاب المكنون هو المحلُّ الأرفع وهو موطن القرآن.

أما أوصاف القرآن فهو: مجيدٌ، كريمٌ، عظيمٌ، حكيمٌ ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المَثَانِي وَالقُرْآنَ العَظِيمَ﴾ ﴿يس * وَالقُرْآنِ الحَكِيمِ﴾.

هذه الصفات الأربعة للقرآن، وهي من صفات الله تعالى، ﴿وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ(143)، ونتيجة هذه الكلمات أنّ القرآن مَظهَرُ حكمة الباري تعالى، والمهمّ هو ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا المُطَهَّرُونَ﴾ غاية الأمر أنّ الموجود هو اسم التفسير فقط! أين تَنَبَّهَ أعيان المفسرين عندهم لهذه النكات مع كل هذه التفاسير التي كُتِبَت؟!

﴿لا يَمَسُّهُ إِلَّا المُطَهَّرُونَ﴾ والطهارة على قسمين: طهارةٌ نُحَصِّلها: كالطهارة من الخبث والحدث، فنحن المتطَهِّرون ﴿وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ﴾.

أما هنا فقال ﴿المُطَهَّرُونَ﴾ وليس (المُتَطَهِّرون) وكل ما هناك ففي هذه الكلمة، لا يمس هذا الكتاب إلا المطَهَّرُون، غاية الأمر أن كلّ من كتب التفاسير من العامة لم يدركوا هذه النكتة، فينحصر مَسُّه بأولئك المطهّرين، فَهُمُ الذين يصلون للقرآن، ومن هم أولئك المطهرون؟ ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً(144).

المطهَّرون: فاطمة الزهراء وعليٌّ المرتضى: ﴿لا يَمَسُّهُ إِلَّا المطَهَّرُونَ﴾.

لو فَهِمُوا هذه النكات لم يتلوّثوا بالجهل والأوساخ الروحيّة فيسلبوا خلافة الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعمدة المشكلة عدم إدراك القرآن.

﴿لا يَمَسُّهُ إِلَّا المُطَهَّرُونَ﴾: لماذا لا يمسه إلا المطهرون؟ وينبغي على الجميع أن يأخذوا منهم، سِرّ ذلك أن القرآن بنفسه مُطهَّرٌ بالطهارة الإلهية: فَتَجَلَّى لَهُمْ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا رَأَوْهُ(145).

فالقرآن تجلٍّ لله تعالى، والتناسب بين الفاعل والقابل يوجب بحكم البرهان أن لا يكون هذا الكتاب المُطهَّر من عند الله ممسوساً من غير المطهرين، لأنّ النظام نظام الحكمة، وينبغي الدقة في هذه النكات، ثم يصل الكلام للغرض من نزول القرآن، فما هي حكمة إنزال هذا الكتاب؟

وبيان هذا المطلب في هذه الآية: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ﴾ فإن الغاية بعد اللام، لتحكم بين الناس، والناس كلُّ البشرية، فينبغي أن تكون حاكماً على كلِّ من تَصدُق عليه كلمة (الناس) في جميع موارد الاختلاف.

قال تعالى: ﴿وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(146)، والمطلب الذي لا يُنكرُهُ أحدٌ أن ضَمّ النفي للإستثناء يفيد الحصر الحقيقيّ، وقد استفيد غرض الإنزال من هذا الحصر في هذه الآية، ﴿وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ إِلا﴾ فهذا النفي، والإثبات: ﴿لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ﴾ وهذا غرض الانزال.

وهنا ختم الكلام، حيث يطرح هذا السؤال، لأن البحث وفق أدقّ موازين العلم، التي لا يعرفها إلا من وصل إلى مراتب التحقيق والتعمُّق العالية.

السؤال الأول: هل النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) موجودٌ اليوم أم لا؟

السؤال الثاني: هل الناس موجودون أم لا؟

السؤال الثالث: هل هناك اختلافٌ بين الناس اليوم أم لا؟

أما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فليس موجوداً، وأما الناس فمنتشرون على الكرة الأرضية، وأما الاختلاف في الأفكار والعقائد والأخلاق والأعمال فإلى ما شاء الله.

الطرف المقابل للبحث هو الفخر الرازي لا أيّاً كان، البيضاوي وجلال الدين السيوطي، من كانوا أهل تعمّق، عليهم أن يجيبوا على هذا السؤال.

بالنفي والاستثناء فإن القرآن قد نَزَلَ حصراً لرفع الاختلاف بين الناس في جميع الأمور، لماذا؟ لأن الآية ﴿لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ﴾ تشمل كل ما كان مورداً للاختلاف. والسؤال لجميع أعيان المذاهب الأربعة:

هل هناك أحدٌ مع هذا القرآن يمكنه أن يبيّن كلّ الاختلافات للناس أم لا؟

إن قلتم لا، فإن ذلك مخالفٌ لنصّ القرآن ﴿لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ﴾، ومرجع الضمير في (هم) هو الناس، ﴿لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ﴾ في كل ما كان مورد اختلاف. إما نعم أو لا.

إن قلتم لا فهذا التزامٌ بأن القرآن نفسه ناقصٌ، وكلامكم مخالفٌ لنَصّ القرآن نفسه.

وإن قلتم نعم: فمن هو؟ البعض فَهِمَ ذلك، كابن حجر العسقلاني: تفحصت فوجدت أن شخصاً من عترة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يبقى مع القرآن إلى يوم القيامة(147).

لا حلَّ إلا هذا، فلو استيقظت الدنيا لرأت أنّ بُرهان وجود الإمام (عليه السلام) أوضحُ من أيّ برهان، وأنّ القرآن يبين وجوده من أوله لآخره، لكن مَن الذي يفهم؟ لا بُدَّ من وجود مَن يرفع الاختلاف بين كلّ الناس بالقرآن الكريم، ويُخرج البشرية بالقرآن من كل ظلمةٍ وجهلٍ إلى نور العلم، هذا صريح القرآن، فهل هو قابل للجواب؟ لو اجتمعت الدنيا: هل يمكنهم الإجابة على هذا البرهان؟

الآن ينبغي النظر في من هو رافع الاختلاف: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ فمن هو مُخرج الناس من الظلمات بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ اثنان واثنان أربعة.

أبو بكر والكلالة

أما أبو بكر، فنذكُرُ نَصَّ المطلب:

سئل أبو بكر عن الكلالة: فِطرَةُ الناس توجب أن يسألوا ويتعلّموا القرآن ممن جَلَسَ مكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فينبغي أن يُجيب من جلس مكانه على ما يجهله الناس في القرآن الكريم.

فقال: إنّي سأقول فيها برأيي: لهذه الجملة دلالةٌ مطابقية، وأخرى التزامية، أما الدلالة المطابقية فهي أنّي سأجيب على سؤالكم بحسب رأيي الخاص، والدلالة الالتزامية أنّه ليس عندي علمٌ بكلام الله تعالى، فهو يعترف بِجَهله بالقرآن، وهذا صريحُ كلامه الذي نقله الجميع، والمهم ما قال بعد ذلك:

فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأً فمني ومن الشيطان: هذا المطلب الذي وقع مورد تصديق أهل الفنّ من المفسرين والمحدثين، أنّه لم يعرف معنى كلمةٍ من كلمات القرآن، عندما سألوه عن معنى الكلالة في القرآن فقال أنّه لا يعرف، وأنه سيقول برأيه، فإن كان حقاً فمن الله، وإن كان باطلاً فمن نفسه ومن الشيطان الذي معه. هذا اعتراف الخليفة الأول.

أبو بكر وعمر والتلاعب بقانون الله!

الآية مورد الكلام(148): أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَالله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾(149).

وهذه الآية الكريمة في مورد استفتاء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حول ميراث الكلالة، وفي هذه السورة ذُكِرَ بحث الكلالة في مورد آخر.

لقد قرأنا الآية، وموضوع الاستفتاء هو الكلالة، ومورد البحث هو إرث الكلالة، ونهاية الآية تدل على أن الله يبيِّن لئلا تضلوا، فالنتيجة أنَّ مَن لم يفهم الآية يكون من الضّالين بِنَصِّ الآية، وهذا المطلب يُستفاد من صريح الآية.

بعد ذلك ينبغي النّظر فيما ورد في السُنة، ومقتضى الأمانة أن ننقُلَ نصَّ ما نقله الدارمي في السنن الكبرى ج2 ص366، وبقية المفسرين:

سئل أبو بكر عن الكلالة فقال: إني سأقول فيها برأيي، فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، أراه ما خلا الوالد والولد، فلما استخلف عمر قال: إني لأستحيي الله أن أرُدَّ شيئاً قاله أبو بكر.

وهنا مطالب:

المطلب الأول: هل أنّ من جلس مكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يتحمل مسؤولية الجواب عن آيات القرآن أم لا؟ ماذا يعني الخليفة؟ الخليفة يعني من ينوب عن أحد، وينبغي أن يقوم بالدور الذي كان يقوم به المنوب عنه، إنّ قِوَام الخلافة بذلك. فما هي وظيفة خليفة الرسول؟ إذا كان خليفة أي أحدٍ دون تأملٍ هو الذي يملأ خلأ وفراغ وجود المستخلف عنه، فإذا لم يتمكن طبيبٌ من الحضور للعيادة هل يمكن ان يُجلِسَ بقّالاً مكانه أو عطّاراً أم ينبغي أن يُجلِسَ طبيباً؟

إذا لم يتمكّن الشيخ الأنصاري من إكمال درسه، فمن يا تُرى ينبغي أن يجلس محلَّ الشيخ؟ الدكتور؟ أستاذ الرياضيات؟ أم فقيهٌ كالميرزا الشيرازي أو الميرزا الرشتي؟ هذا برهانٌ، وهذا هو مقتضى القاعدة، لتكون مسؤولية أبي بكر مطابقةً للمنطق والاستدلال.

أما الجواب الذي أجاب به هذا الشخص: إنِّي سأقول فيها برأيي: وهنا أوَّلُ خطأ، سأجيب سريعاً في تفسير الكلالة برأيي، وههنا يُطرَحُ سؤالٌ على علماء المذاهب الأربعة حول هذه القضية المسلمة: هل لأيّ أحدٍ أن يتحدث برأيه في القرآن الكريم؟ مَنْ فَسَّرَ القُرْآنَ بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّار.

كلامُ الله ليس لعبةً، نفس قوله: (سأقول فيها برأيي) دليلٌ قاطعٌ على بطلان خلافته، فينبغي أن يُبيَّن كلامُ الله بواسطة مَن يُعَيِّنُه الله تعالى، وهذه القضية كالمملكة التي لها قانونٌ ثم يُسأل أحدهم عن تفسير قانونها، هل يحقّ له أن يقول: أني سأفسر القانون برأيي أنا؟! لو كان هناك عقلٌ لما وصلت الأمور إلى هنا!

القانون الذي يُقنِّنُه الآخر: ما دورك أنت كي تفسِّرَ قانونه برأيك أنت؟

أليس القرآن قانون الله تعالى؟ أم لا؟ إن كان قانونَ الله تعالى فليُجِب علماء المذاهب الأربعة: كيف لهذا الشخص المعروف بغاية الجهل أن يقول: سأقول فيها برأيي! قانونُ الله يتلاعب به رأيُ أبي بكر بن أبي قحافة؟! هذا المطلب الثاني.

المطلب الثالث: اعتراف هذا الشخص نفسه بأنّه لا يعرف إن كان ما يقوله حقٌ أم لا، وإقرار العقلاء على أنفسهم جائزٌ، والإقرار حجةٌ عند كلِّ الأمم.

فهل دَرَسَ هؤلاء أم لا؟ إن درسوا فإنّ إقرار العقلاء على أنفسهم جائزٌ نافذٌ بحكم جميع الملل والأديان والمذاهب، وهذا الشخص يُقِرُّ صريحاً أني ليس عندي علم إن كان رأيي حقاً أو باطلاً!!

هل لمن لا يعلم أن كلامَهُ حقٌّ أو باطلٌ حَقٌّ في أن يتكلم؟! هذا السؤال موجَّهٌ لعلماء المذاهب الأربعة: مَن كانت له قدرة فليجب!

ينبغي أن يسكت مِثلُ هذا بحكم العقل، فإنّ وظيفة الجاهل عقلاً عبارةٌ عن السكوت مقابل ما لا يعلم، وبحكم الدين أيضاً والقرآن، فإنّ نَصَّ كلام الله تعالى ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً(150). كم هو خطير هذا المطلب!

هذا القرآن، وهذا العقل، وهذا الحديث الذي نَقَلَهُ جميع أعيان مفسري العامة واعترفوا به، مِن أنَّه يُفَسِّرُ كلامه برأيه رغم اعترافه بجهله.

المطلب الرابع: قال: وإن كان خطأ فمنّي ومن الشيطان: فهل لمن يعترف باحتمال أن يكون قوله من الشيطان والرحمن أن يكون إمام الأمة؟ هذا البحث مع من كتبوا هذه الأمور بأنفسهم، لا مع الكليني والشيخ الطوسي، بل مع الدارمي، مع الصحاح والسنن، مع أئمة المذاهب ومن يرجعون لتفسير ابن كثير، فما هو الجواب يا ترى؟ ما هو جوابهم مقابل هذا الكلام غداً يوم القيامة في محكمة العدل؟ إلى هنا مرَّ فِعلُ أبي بكر نفسه.

عمر والكلالة

ثم: فلما استخلف عمر قال: إني لأستحيي الله أن أرُدَّ شيئاً قاله أبو بكر.

أبو بكر يُصَرِّحُ أنّه يقول برأيه الذي يحتمل أن يكون من الشيطان، فكيف تستحي أنت من ردّ هذه الكلمة؟ أليست هذه الكلمة مخالفة للقرآن الكريم؟ إن قلتم كلا فأجيبوا، وإن قلتم أنّها مخالفة: أفلا تخجل من القول بأنك تستحي من الله في مخالفة أبي بكر؟! هذا أبو بكر وهذا عمر.

هذه القضية وحدها كافيةٌ لإتمام الحجة على كلّ الذين يعتقدون بالتفاسير والسنن، فماذا سيجيبون في محكمة العقل والمنطق؟! هل فكروا بيوم القيامة؟

ثم إن نتيجة قوله (إني لأستحيي..) أنَّهُ قَبِلَ كلام أبي بكر!

 وما يهدم مذهب العامة من جذوره هي هذه التَتِمَّة، وقد اعترف بصحة هذه القضية كلُّ علماء الرجال عند العامة، نحن نتحدث بمثل هذا المنطق، فإنهم يصرحون أنّ سند هذه القضية والرواية هو نفس السند الذي يعتمد عليه البخاري ومسلم في صحيحيهما، وهذا الحديث هو (والكلام لعمر): ثلاثٌ لئن يكون النبيّ صلى الله عليه وآله بيّنهم لنا أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها: وإحدى هذه المطالب الثلاثة: الكلالة(151).

ما هو جوابهم يا ترى؟ هذا برهانٌ على بطلان المذاهب الأربعة من الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية، فمِن جِهةٍ قَبِلَ ما قاله أبو بكر، وقال مثله للناس، ومن جهةٍ أخرى يعترف بنفسه أنّه لا يعرف، ولو كان النبيّ بيّنها لهم لكان ذلك أحب له من الدنيا وما فيها!

هذا مذهبٌ يا ترى؟! هذا ما نقوله أنّ مذهب الشيعة مظلوم.

بمثل هذا الجاهل قتلوا الصديقة الزهراء!

كان بحثُنا في الكلالة(152)، وهذه القضيّة حُجةٌ بالغةٌ على إبطال الباطل وإحقاق الحق، غاية الأمر أنّه ينبغي أن تُحَلَّلَ تحت مِجهَرِ العلم من المبدأ للمنتهى.

أمّا مبدأ هذه القضية، فإنّ ما نقله الأعيان والأركان كابن كثير، وهو مِن الأئمة الذين وقعوا مورد قبول الكلّ هو ما يلي:

أنّ عمر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تورث الكلالة؟

قال: فأنزل الله ﴿يستفتونك﴾ الآية.

قال: فكأنَّ عمر لم يفهم، فقال لحفصة: إذا رأيتِ من رسول الله صلى الله عليه وسلم طِيب نفسٍ فسَليه عنها.

فرأت منه طِيبَ نفسٍ فسألته عنها، فقال: أبوك ذكر لك هذا؟ ما أرى أباك يعلمها.

قال: فكان عمر يقول: ما أراني أعلمها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال(153).

هذه الكلمات حجةٌ، فماذا يقول ابن كثير؟ وبماذا يجيب؟ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: ما أرى أباك يعلمها!! أيُّ مرتبة من الجهل يثبتها هذا الكلام؟! حتى أن شخص الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: ما أرى أباك يعلمها!! والنتيجة أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يجبها، وقال عمر أنّه محرومٌ من علمها للأبد.

والسؤال لأمثال ابن كثير والفخر الرازي، وكلِّ علماء العامة: أيُّ أهليَّةٍ لشخصٍ في هذه المرتبة من المستوى الفكريّ المتدني؟! لدرجة أنه لا يمكن أن يفهم آيةً أولاً! ويوسطّ حفصة ثانياً لتسأل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)! ثم يقول لها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ أباها هو الذي سأل، وأنه لا يرى أنّه سيعلم هذه الجملة!

بعد كل هذا، فإن الحجّة البالغة في ما يلي وهو صحيح السند:

أخذ عمرُ كتفاً وجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: لأقضين في الكلالة قضاءً تُحَدِّثُ به النساء في خدورهن.

فخرجت حينئذ حيَّةٌ من البيت فتفرقوا، فقال: لو أراد الله عز وجل أن يتم هذا الأمر لأتمَّه. وهذا إسناد صحيح(154).

فإنّ مَن سَلّم أنّه سيبقى جاهلاً بها إلى الأبد، جَمع الناس ليحكم في نفس القضية! والمهمُّ بعد هاتين القضيتين، أنّ أبا بكر يُسأل فيقول: لا أعلم! وسأقول برأيي! وإن أخطأت فمن الشيطان! ثم عمر نفسه عندما صار خليفة قال أنّ الكلام في الكلالة هو نفس ما قاله أبو بكر!

فبماذا تجيب الدنيا على هذه التناقضات؟ مَن يكون بمثل هذا المستوى من البداية للنهاية، هل يكون لائقاً بخلافة خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم)؟

هذه ليست كلمات علماء مذهبنا، هذه مطالب مسلمة عند أعلام العامة!

وكيف يحلّ هذه المعضلة كلُّ من يعتقد بخلافة هؤلاء الرجال؟!

ما هي الخلافة؟ نحن بعيدون عن التعصُّب، ونُتِمُّ الحُجَّةَ ونُحَاوِرُ بالحكمة والمنطق وِفقَ أدقّ موازين البرهان، ونحن ننقل الكلام الذي اعترفوا به جميعاً، فالخلافة عند العامة:

الخلافة هي الرياسة العامة في التصدي لإقامة الدين بإحياء العلوم الدينية، وإقامة أركان الإسلام، والقيام بالجهاد وما يتعلق به من ترتيب الجيوش، والفرض للمقاتلة وإعطائهم من الفيء، والقيام بالقضاء وإقامة الحدود ورفع المظالم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، نيابة عن النبي صلى الله عليه وسلم(155).

فإنّ الخليفة هو الذي يُقيمُ الدين، والدين عند الله الإسلام، والإقامة بإحياء العلوم الدينية، فهل يَحِقُّ لمثل هذا الجاهل أن ينوب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مثل هذا العمل؟! هذا هو الُمحَيِّر! يعتقدون من جهةٍ هذا الاعتقاد في الخلافة! ثم يجعلون مَن كان جاهلاً الى هذا الحد خليفةً للنبي!

في الجهة المقابلة أمثالُ ابن كثيرٍ والفخر الرازيّ والذهبيّ لا أياً كان! نقول لهؤلاء: الحجة البالغة الإلهية أنكم تُعَرِّفون خلافة النبي بمثل هذا التعريف، ثم تجعلون خليفة النبي من كان على حدٍّ من الجهل لا يعرف معه معنى كلمةٍ من القرآن! فكيف يمكن لمثل هذا الجاهل إقامة الدين؟! الدين الذي ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾.

خَتم الكلام: مطلبٌ نقله البيهقي في السنن الكبرى، والدارمي في السنن، وبهذه الجملة يُختَمُ البحث، وهذا متن ما نقلوه:

عن الحكم بن مسعود الثقفي قال: شهدتُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أشرك الأخوة من الأب والأم مع الأخوة من الأم في الثلث، فقال له رجل: قضيت في هذا عام أوّل بغير هذا!

قال: كيف قضيت؟

قال: جعلته للأخوة من الأم ولم تجعل للأخوة من الأب والأم شيئاً.

قال: تلك على ما قضينا، وهذا على ما قضينا(156).

فما حَكَمنا به العامَ الماضي على ما هو عليه، وما نحكم به الآن على ما هو عليه! هل هذا دين؟!

بمثل هذا الجاني قتلوا الصديقة الزهراء (عليها السلام)، وإلى الآن لم يستيقظوا من الغفلة!!

وقد وصل البعض إلى حَدٍّ من الجهل يتأذى معه من تبيين الحقائق بهذا الشكل!!

ولكن رغماً عنهم جميعاً.. ينبغي أن تُجتَثَّ جذور الباطل من أساسه، ويثبُتَ الحق الضائع لأمير المؤمنين (عليه السلام)، وأن يُثبِتَ بابُ السيدة الزهراء الذي احترق أيَّ باطلٍ كانوا عليه! وأيّ صاحبِ حَقٍّ أجلسوا في بيته!

ماذا يعني عليٌّ أمير المؤمنين؟

وصل البحث(157) في الكلالة إلى أنهم اعترفوا من جهةٍ بأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ما أرى أباك يعلمها، أي عُمَر، فإنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يرى أن هذا الشخص سيعرف الكلالة، وقد اعترف هو نفسه بأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال ذلك، وكمال الجهل أنّه بعد هذا البيان من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والإقرار منه، عاد ليقول أنه سيقول في الكلالة برأيٍ تُحَدِّثُ به النساء في خدورهنّ! ثم تعرضنا لقوله أنّه يخجلُ من رَدِّ كلام أبي بكر!

وجملته هذه عن الكلالة تثير الحيرة والدهشة: ثلاثٌ لئن يكون النبيّ صلى الله عليه وآله بيّنهم لنا أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها!

ألا تُبَيِّنُ هذه التناقضات مقدارَ الانحراف والضلال والجهل؟! ومن جهةٍ أخرى الحديثُ الذي صَحَّ ولا ينكره إلا جاهل، إذ لا يمكن أن يَخدِشَ في سنده مَن عنده عِلمٌ بالرِّجال عند العامة: عَليٌّ مع القرآن، والقرآنُ مع عليّ.

ومع فِقه الحديث، وضميمةِ أنَّهُما لن ينفصلا عن بعضهما البعض، فبأيّ منطقٍ يُقَدَّمُ مثل هذا الجاهل على مثل هذا العالم في الخلافة؟! ما هو الجواب؟!

ما يحيّر العقول هو أنّ هناك أكثر من سبع كتبٍ معتمدةٍ عند العامة قد نقلت الرواية التالية، ودقِّقُوا في كيفية البيان:

يا أمَّ سَلَمة، اشهدي واسمعي: هذا عليٌّ أميرُ المؤمنين، وسيِّدُ المسلمين، وعَيْبَةُ عِلمي "وعاء علمي"، وبابي الذي أوتى منه(158).

وفي هذا الحديث خمسة مطالب، فبعد أن جعل أمَّ سَلَمة شاهدةً بهذه الشِدَّة والتأكيد: اشهدي واسمعي، قال عن علي (عليه السلام):

هذا عليٌّ أميرُ المؤمنين: أحياناً يعبِّر الفخر الرازي عمّن قال عن نفسه (كلّ الناس أفقه من عمر) بأنه أمير المؤمنين!! إلى هذا الحدِّ ليس عنده إدراك!! فمع هذا الإقرار على نفسه كيف يمكن أن يكون أميراً للمؤمنين؟! لكن الذي يقول هنا: هذا عليٌّ أميرُ المؤمنين، هو الذي ﴿مَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى﴾.

وسيِّدُ المسلمين: الوصف الثاني.

وعَيْبَةُ عِلمي "وعاء علمي": وهنا قد استعمل التعبيران.

وبابي الذي أوتى منه: فإنَّ طريقي تنحصر بعلي بن أبي طالب (عليه السلام)، وهذه الكلمات تحتاج إلى شرح.

عليٌّ أميرُ المؤمنين: متى تُفهَمُ هذه الكلمة؟ عندما يُفهَمُ القرآن.

من هم المؤمنون؟ هذا نَصُّ القرآن: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ العَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا العِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخَالِقِينَ﴾(159).

ضَمُّ هذه الآيات لذلك الحديث هو مفتاح المطلب، فإنّ خِلقَةَ الإنسان كانت مِن سُلالةٍ من طين، إلى أن وصل إلى الخلق الآخر، حتى قال تعالى: ﴿فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخَالِقِينَ﴾ فإنّه قَد عَدَّ ثمرة هذه الخلقة أهل الإيمان.

لقد بُيِّنَ الإنسانُ من مبدئه لمنتهاه في هذه الآيات: فالمبدأ ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ﴾ والمنتهى ﴿الَّذِينَ يَرِثُونَ الفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، أما معرفة المؤمنين، الذين وصلوا لحقيقة الإيمان، فمُشكِلٌ جداً.

﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾: هذه الجملةُ وحدَها كافية، أولئك هم الذين يُعرِضُون عن مطلق اللغو، والوصول لهذا المقام يعني أنهم ممن ليس عندهم حَرفٌ ولا فِعلٌ ولا فِكرٌ لَغويّ!

هكذا تُفهم الروايات، وأنّ المؤمن أعزُّ من الكِبريت الأحمر، وهل رأيتَ الكبريت الأحمر؟! المؤمن أعظم من الإكسير الأعظم، وعليٌّ أمير مثل هؤلاء!

المُحَيِّر أنّ هؤلاء يكتبون هذه الأشياء، ثم يقولون أنّه الخليفة الرابع!! فكيف تحل المشكلة يا ترى؟! هذه الكلمة الأولى، ولا ينتهي البحث بهذا.

﴿إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾: وإنما تفيد الحصر، وهل يا ترى نحن كذلك؟ أبداً.. المؤمنون هم الذين إذا سمعوا ذِكرَ الله وَجِلَت قلوبهم، ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً﴾ فكُلَّمَا قرؤوا آيةً زادت في إيمانهم ﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ فتوَكُّلُهم على الله حصراً.

فإن كان هذا مقامُهم، فما هو مقام أميرهم؟!

يا أمَّ سَلَمة، اشهدي واسمعي: هذا عليٌّ أميرُ المؤمنين.

ثم يصل إلى قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): سيِّدُ المسلمين: ما هو الإسلام؟ ومن هو المسلم؟ اقرؤوا القرآن لتعرفوا ما هو الإسلام ومن هو المسلم، أمّا الإسلام ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإِسْلاَمُ﴾، وأمّا المسلم ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾(160).

عليٌّ سَيِّدُ المسلمين، فكُلُّ مَن كان تحت راية الإسلام يكون تحت بيرق سيادة عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، هذه الكلمة الثانية. أما الثالثة:

عَيْبَةُ عِلمي: ما هي العيبة؟ وما هو علمه؟

العَيْبَةُ عبارةٌ عن ذلك الظَّرف الذي تُدَّخَرُ فيه النفائس، فيقال له عَيْبَة.

قد يقال عن أحدٍ أنّه عَيبةُ عِلم موسى بن عمران، وهذا المقدار يُعجِزُ العقل، فمن هو موسى (عليه السلام)؟ ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الالوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ(161).

فعَيْبَةُ عِلم موسى (عليه السلام) غيرُ قابلةٍ لإدراكنا، وَعَيْبَةُ علم إبراهيم (عليه السلام) غير قابلة لأفهامنا، وكُلُّهُم تحت شعاع الشمس، تلك الشمس التي قال الله تعالى عن عِلمها ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً﴾، فصار عليٌّ عَيْبَة العِلم الذي عَلَّمه الله بعظمته، وأودعه في صدر النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومعنى هذه الكلمة أنّ علم تمام الأنبياء من آدم إلى الخاتم كلُّه في قلب علي بن أبي طالب (عليه السلام).

لابن دريد كلامٌ طَرحُهُ لازمٌ، قال عن هذه العبارة:

وهذا من كلامه الموجز الذي لم يسبق ضرب المثل به في إرادة اختصاصه بأُموره الباطنة التي لا يطّلع عليها أحد غيره: أي أنّ قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) (عليٌّ عيبة علمي) يعني أنّ تلك الأمور الباطنة والعلوم المخفية التي لم يطلع عليها أحدٌ، كلُّها قد أودعت عند علي بن أبي طالب (عليه السلام).

وذلك غايةٌ في مدح عليّ: فلا يمكن مدحُ عليٍّ بأرفع من ذلك.

وقد كانت ضمائر أعدائه منطويةً على اعتقاد تعظيمه(162).

فمِن جهةٍ يكتبون الكلالة والجهل، ومن جِهةٍ أخرى ينقلون هذا الحديث، ومن ثم يُجلِسون الإثنَين محلّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويغصبون حق مثلِ هذا؟!

لأيِّ منطقٍ قدرةُ الجواب على هذا؟!

عمر خازن المال فقط

نتيجة المباحث السابقة(163) أنّه ليس لِمَن عَجِزَ عن إدراك كلمةٍ من كلمات القرآن باعتراف الكلّ أهليّةُ خلافة سيّد الأنبياء، بحكم العقل والكتاب والسنة.

هذا المطلب قد تَمَّ بالبرهان القطعيّ، وهذا كلُّه أثَرٌ ومَظهرٌ ونتيجةٌ لهذه الكلمات: عَليٌّ مع القرآن، والقرآنُ مع عليّ، لن يتفرّقا حتى يَرِدَا عَليَّ الحوض.

وتتمة البحث وهو ما يقطع مادّة النزاع، هذه الرواية التي اتفق كلُّ أعيان العامة على توثيق رجال سندها، بتوثيقات أساطين علماء الرجال، وينبغي الدِّقة في متن الرواية ليتميَّز الحق عن الباطل، فعندما وصل الثاني للخلافة خَطَبَ فقال:

من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت أُبَيَّ بن كعب، ومن أراد أن يسأل عن الحلال والحرام فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني فإنّي له خازن(164).

والحديث مع علماء المذاهب الأربعة:

لقد ثبت بالنقل المُسَلَّم حيث لم يناقش أحدٌ من أهل العلم في سند هذه الخطبة، أن هذا الخليفة يصرح أنه ليس المرجعَ في القرآن! وكلُّ من يريد أن يسأل عن القرآن الكريم فيرجع لأُبَيّ بن كعب!

وهو يُقِرُّ بأنّه ليس مرجعاً لأحكام الدّين أيضاً! فمن أراد ان يعرف الحلال والحرام ليسأل معاذ! فإنّ له صلاحية هذا الامر، ويُقِرُّ بأنّه ليس مرجعاً في أحكام الفرائض أيضاً!

والنتيجة: أنَّهُ لا اطّلاع له باعترافه لا على القرآن، ولا على دين الإسلام ومسائل الحلال والحرام، ولا على الفرائض التي قرّرها الله في أموال الناس بالإرث! ليس له اطلاعٌ على هذا كلّه، وكلّ شأنه أن يكون مفتاح خزينة المال بيده!! فهل كان هذا دور النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟

ما هي الخلافة؟ ما اتفق عليه الجميع حول حقيقة الخلافة هو: الخلافة هي الرياسة العامة في التصدي لإقامة الدين، بإحياء العلوم الدينية، وإقامة أركان الإسلام: هذا نَصُّ تعريف الخلافة، وقد أقرّ أزهر مصر بهذه الجملة.

والقيام بالجهاد وما يتعلق به.. والقيام بالقضاء وإقامة الحدود، ورفع المظالم، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر(165).

فكُلُّ هذه الأمور هي من أدوار خليفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنيابة عنه، يقولون مِن جهةٍ أنّ الخلافة هي هذه، ويقولون من جهةٍ أخرى أنّ الخليفة وباعتراف أهل الحديث والرجال قال عندما جلس على مسند الخلافة أنه ليس من أهل الحلال والحرام، وليس عنده علم بالقرآن، ولا بأحكام الله تعالى!! دَورُهُ هو خزنُ أموال المسلمين فقط!! فهل كان دورُ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جمع الأموال والثروات؟! كي تكون خلافة الثاني النيابة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذلك؟! إذا كان لعلماء المذاهب الأربعة قدرة الجواب على هذه المسألة فليجيبوا.

إنّ قول عمر بن الخطاب نفسه يُثبِتُ بطلان خلافته بشكلٍ قطعيٍّ!

هذا هو حقُّ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).

للأسف أنّنا لم نَعرِف قدر هذا المذهب.. لم نعرف علياً ولم نعرف أولئك الذين غصبوا حقَّه.

ينبغي النظر دون تَعَصُّب: لو استيقظ العالم الإسلامي، ونظر الى كلمات هذا الشخص وإلى تعريف تمام متكلمي العامة لخلافة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإن ذلك يكفي لكي تُجتَثَّ جذور تمام المذاهب الأربعة، وتظهر حقانيَّة مذهب الشيعة لكل العالم.

هذا هو البرهان القاطع، هذه الخلافة من جهة، وهذا الخليفة من جهة أخرى وبإقراره، أنَّه لا اطّلاع له على القرآن، وأنه ليس مرجعاً في الحلال والحرام، وليس مرجعاً في الأحكام والفرائض.. شأنه هو خزن المال فقط!!

ختام الكلام هذه الرواية(166): أما رجال السند: فهم أولاد عبد الله بن عباس، كُلُّهُم أعداءُ عليٍّ وأولادِ عليّ! وليس في الروايات مثل هذا السند غير هذه الرواية!

الراوي هو المأمون، عن أبيه هارون، عن أبيه المهدي، عن المنصور الدوانيقي، عن أبيه، عن عبد الله بن عباس، ففي سند هذه الرواية قاتِلُ الإمام الثامن عن قاتِلِ الإمام السابع عن قاتِلِ الإمام السادس، السند مثل هذا السند.

أما المتن:

حدثني عبد الله ابن عباس قال: سمعت عُمَر بن الخطاب يقول: كُفُّوا عن ذكر عليّ ابن أبي طالب، فقد رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه خصالاً لأن تكون لي واحدة منهنّ في آل الخطاب أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس.

كنتُ أنا وأبو بكر وأبو عبيدة في نفرٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتهيت إلى باب أمّ سَلَمَة وعليٌّ قائمٌ على الباب فقلنا: أردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يخرج إليكم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسرِنا إليه فاتكأ على عليّ بن أبي طالب: هذه الأمور تكشف أسراراً، مَن اتّكأ عليه الذي يَتَّكئ عليه عالم الإمكان، فأيُّ مقامٍ مقامه؟ للأسف أنّ أحداً لم يعرف علياً.

 ثم ضرب بيده منكبه ثم قال: إنك مخاصم تخاصم، أنت أوّلُ المؤمنين إيماناً، وأعلمهم بأيام الله: هو أعلَمُ كلّ من دخل في دائرة الإيمان بأيام الله، ولِأَيام الله شَرحٌ ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله‏﴾، أعلَمُ تمام أهل الإيمان من الأوّلين والآخرين بأيام الله أنت.

 وأوفاهم بعهده، وأقسمهُم بالسويّة: لا أحد أوفى منك بعهد الله، ما كان ولن يكون، وليس هناك من يُقَسِّم مثلك بيت المال بالسوية، ما مضى ولن يأتي.

وأرأفهم بالرعيّة، وأعظمهم رزيّة، وأنت عاضدي، وغاسلي، ودافني: مثل هذا يصبح الرابع؟! ومثل ذاك الجاهل يصبح الأول والثاني؟! أيُّ عقلٍ ودينٍ توافق هذه المذاهب؟! ﴿خَتَمَ الله عَلى‏ قُلُوبِهِم‏﴾، واقعاً طبع الله على قلوبهم، وهذا برهانٌ قاطع:

 والمتقَدِّمُ إلى كلِّ شديدةٍ وكريهة، ولن ترجع بعدي كافراً، وأنت تتقدَّمُني بلواء الحمد، وتذود عن حوضي.

فآخر المطلب: في يوم القيامة تكون أمامي ويكون عَلَمي وهو لواء الحمد بيدك يوم القيامة، أنت حامل رايتي في المحشر، وأنت ساقي أمتي في المحشر.

هنا خُتِمَت المسألة، وهذه الرواية عن المأمون عن هارون عن المهدي عن المنصور الدوانيقي، وهذه السلسلة تصل لعبد الله بن عباس ثم الخليفة الثاني نفسه! تلك الجملة في الخلافة، وهذا الحديث في علي بن أبي طالب، برهانٌ قاطعٌ يُرشد إلى الحق والباطل.

عمر يتَقَحَّم جراثيم جهنم!!

وصَلَ البحثُ(167) إلى أنَّ مفهوم الخلافة، والتعريف الذي التزم به علماء ومتكلموا العامة، يُلَخَّصُ في هذه الجملة: النيابة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإدارة أمور الأمة من جِهَتَي الدين والدنيا.

فمَن جَلَسَ مكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يكون نائباً له أولاً، والنيابة وجودٌ تنزيليٌّ للمَنُوب عنه، وتعريف النيابة من الجهة الفنيّة هي: وجودُ المنوبِ عنه تنزيلاً، فتكون النيابة مفهوماً إضافياً، وتختلف مقامات ودرجات النائب باختلاف المنوب عنه في المقامات والدرجات.

وخلافة موسى بن عمران (عليه السلام) ليست قابلة للقياس مع خلافة النبي داوود (عليه السلام)، فبقَدر اختلاف المرتبة بين النبييَّن تختلف مرتبة خليفتَيهما، والنيابة عن خاتم النبيين، وسيّد المرسلين، هي نيابةٌ عن تمام الأنبياء، من آدم إلى عيسى بن مريم (عليهم السلام)، فعلى أيِّ حَدٍّ ومرتبةٍ من العلم ينبغي أن يكون مثل هذا النائب عقلاً وكتاباً وسنة؟! هذه البراهين غير قابلة للجواب.

إذا كان جَهلُ من يصبح خليفةً للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمثل هذا الحدّ، فإلى أيّ حدٍّ تطابق هذه الخلافة الموازين العقلية والنقلية؟

إنّ الصلاة عمود الدين عند كل الفرق، ولا تَأَمُّلَ في كونها أهمّ كل العبادات عند كل مسلم، لأنّ الصلاة جوهر الدين، وإقامة الصلاة انعكاسٌ لتمام ملائكة الملأ الأعلى، حيث أن الملائكة منقسمون لأقسامٍ: فقِسمٌ منهم قائمٌ أبداً، وقسمٌ منهم قاعدٌ أبداً، وقسمٌ منهم في حال الركوع دائماً، وقسمٌ منهم في حال السجود دائماً، هذا من جهة الحالات.

أما من جهة الأعمال: فمنهم مُسَبِّحُون، عملهم تسبيح الله تعالى، ومنهم مُكَبِّرُون، عملهم تكبير الله، ومنهم حامدون، عملهم الحمد والثناء، ومنهم أهل التهليل، ذكرهم لا إله إلا الله.

كل هذه الأذكار والأعمال قد جُمِعَت في الصلاة: القيام، ثم الركوع، ثم السجود، ثم القعود: سَبِّح اسم ربك الأعلى.. سبح باسم ربك العظيم.. التسبيحات الأربعة: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.

لو فَهِمَ أحدٌ ما هي الصلاة يفهم حينها معنى هذا الحديث: الصلاة معِراجُ المؤمن، وبالصلاة يبلغ العبد إلى الدرجة القصوى.

وفي الصلاة أبوابٌ: الأذان والإقامة، تكبيرة الإحرام، القراءة، الركوع، السجود، مباحث الخلل في الصلاة التي تُعَدُّ من أعظم المباحث، المسائل المربوطة بالشك في الركعات والأفعال والأقوال.

وينبغي أن يكون خليفة النبي أعلمَ من كلّ الأمّة في كلّ مسائل الدّين بالضرورة، وينبغي أن يكون أكثرَ اطلاعاً من كل الأمة على أحكام وآداب وخصوصيات الصلاة العبادية، وقياساتُ هذه القضايا معها.

ينقل أعيان علماء العامة هذه القضية: عن ابن عباس أنَّهُ قال له عمر: يا غلام، هل سمعتَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من أحد من أصحابه إذا شك الرجل في صلاته ماذا يصنع؟ يُعلَمُ من هذه الرواية أن ابن عباس كان في سن الشباب، لأنه خاطبه بـ: يا غلام. وكان خليفة النبي جاهلاً إلى حَدِّ أنّه لا يعلم أحكام الشك في الصلاة، وكان يسأل عبد الله بن عباس عنها!

قال فبينا هو كذلك إذ أقبل عبد الرحمن بن عوف فقال: فيم أنتما؟

فقال عمر: سألت هذا الغلام: هل سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحدٍ من أصحابه إذا شك الرجل في صلاته ماذا يصنع؟

فقال عبد الرحمن: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر أواحدة صلى أم ثنتين فليجعلها واحدة، وإذا لم يدر ثنتين صلى أم ثلاثا فليجعلها ثنتين وإذا لم يدر أثلاثاً صلى أم أربعاً فليجعلها ثلاثاً، ثم يسجد إذا فرغ من صلاته وهو جالسٌ قبل أن يسلم سجدتين(168).

أيُّ عقلٍ وكتابٍ وسُنَّةٍ توافق هذه القضية؟ أن يكون خليفةً للنبي وجاهلاً في أحكام الشك في الصلاة! هذا حَدُّ عُمَر بن الخطاب.. هكذا أصبح الدينُ لعبة!

والحجّة البالغة في كلام فَحلِ الحديث والأدب ومختلف الفنون، ابن ابي الحديد المتعزلي، وينبغي على مَن كان أهلاً التأمل في كلامه، ومتن كلامه:

وكان عمر يفتي كثيراً بالحكم ثم ينقضه: لا مرّة ومرّتين، بل كثيراً، فهل هذه هي النيابة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحِفظ دين الأمة؟!

ويُفتي بِضِدِّهِ وخِلافه: هذا ليس كلامنا، كلام عَلَمِ أعلام العامة، أنّ عُمَر كثيراً ما كان يفتي ثم ينقض الفتوى، ويفتي بضدها في حكم الله!

قضى في الجَدِّ مع الأخوة قضايا كثيرة مختلفة: ففي مسألةٍ واحدةٍ وهي ما لو مات أحدٌ وكان وارثه الأخوة مع الجَدّ، حَكَمَ عمرُ أحكاماً مختلفة كثيرة، فإلى هذا الحدّ أصبح دين الله ألعوبةً؟

هذا ليس كلام أحد علماء الشيعة، بل كلام عَلَمٍ من أعلام الإعتزال، ابن ابي الحديد. والمهم هو أنّه بنفسه يقول:

 ثم خاف من الحكم في هذه المسألة فقال: مَن أراد أن يتَقَحَّم جراثيم جهنّم فليقل في الجَدِّ برأيه(169).

مَن الذي تكلم في الجدّ والأخوة برأيه؟ أولاً أبو بكر ثم عمر!! فباعترافه نفسه كان هو والأوّل في قعر جهنم!! ومِثلُ هذا يصبح خليفة النبي؟

هل هناك عقلٌ؟ العقل جوهرٌ.

هذا ليس كلامنا، هذا شرح نهج البلاغة، وهذا كلام ابن ابي الحديد.

يُجلِسُونهم مكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من جهةٍ، ويُصبِحُ جليسَ بيته مَن نقلوا جميعاً أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال فيه: عَليٌّ مع القرآن، والقرآنُ مع عليّ، لن يتفرّقا حتى يَرِدَا عَليَّ الحوض.

خَتمُ الكلام نَقلُ المناوي عن الغزالي(170) (أو الحرالي)، لتكون الحجة تامّة على علماء المذاهب الأربعة بحول الله وقوته.

هذه مرتبة جهل هذين الإثنين: الأول والثاني، وفي المقابل ينقل المناوي عن الغزالي، ومن هو الغزالي؟ صاحب المستقصى في الأصول، صاحب إحياء العلوم في الأخلاق، هذا الرجل إمامُ الفنون عند الكلّ، وهذا اعترافه:

قال الغزالي: قد عَلِمَ الأوّلون والآخرون: فهذا المطلب ليس خافياً على أحد، يعرفه الأوّلون والآخرون.

أنَّ فَهمَ كتاب الله منحصرٌ إلى علم عليٍّ، ومَن جَهِلَ ذلك فقد ضلّ عن الباب الذي من ورائه يرفَعُ الله عن القلوب الحجاب، حتى يتحقق اليقين الذي لا يتغير بكشف الغطاء(171).

وهذه الكلمة من الغزالي عجيبة، فَهمُ كتاب الله منحَصِرٌ بعَليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، فمن جهة تروون كلام ابن ابي الحديد في عُمَر، ومن جهة ترون كلام الغزالي في علي! وهناك كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): عَليٌّ مع القرآن، والقرآنُ مع عليّ.

حديثٌ يغلق دكاكين أبي حنيفة والشافعي

كان بحثنا في الحديث الصحيح(172) عند الكل: عَليٌّ مع القرآن، والقرآنُ مع عليّ، لن يتفرّقا حتى يَرِدَا عَليَّ الحوض.

هذه التوأمة مع الوحي الذي كان تبياناً لكلّ شيءٍ أهمُّ مِن كل المطالب، لذا اعترف أعلام العامة، واعترف المخالف والمؤالف، أنّ أعلم الناس بالقرآن علي بن أبي طالب (عليه السلام).

وقد نقلنا ذلك عن (الغزالي)، حيث نَقَلَتهُ بعض الكتب عنه، ولكنّ بعض الكتب نقلته عن (الحرّالي) وهو ليس أقل من الغزالي، وشهادة كل واحدٍ منهما دليلٌ قاطع على هذا الأمر.

أما مقام الحرّالي العلمي عندهم فهذا حدّه: الحَرَالِّيُّ أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بنُ أَحْمَدَ بنِ حَسَنٍ التُّجِيْبِيُّ الأَنْدَلُسِيُّ.. مفسرٌ، من علماء المغرب.. ما من علمٍ إلاَّ له فيه تصنيف. أصله من «حرَالَّة» من أعمال «مُرْسِيةَ». وُلِدَ ونشأ في مراكش.. وَسَكَنَ حَمَاةَ..  من كتبه «مفتاح الباب المقفل لفهم القرآن المنزل(173).

قال ابن حجر: جعله قوانين كقوانين أصول الفقه(174).. وقال المقري: صنّف في كثيرٍ من الفنون كالأصول والمنطق والطبيعيات والإلهيات.

وقال الذهبي: ..تكلَّمَ فِي علم الحروف والأعداد وزَعَم أَنَّهُ استخرجَ علمَ وقتِ خروج الدَّجَّال، ووقتِ طلوعِ الشمس من مَغْربها(175).

الخلاصة أنّ هذا الشخص إن لم يكن فوق الغزالي، فإنّه ليس دونه، ومتن كلامه أن علياً أعلم بالقرآن من الجميع بشهادة المؤالف والمخالف.

وشهادة صاحب كتاب (مفتاح الباب المقفل في باب القرآن المنزل) بالنسبة لأمير المؤمنين (عليه السلام) مَطلبٌ يُعجِز أعاظم علماء العامة، وقد وردت هذه الكلمة في ذيل هذا الحديث، وقراءة الحديث أمرٌ لازمٌ، أمّا شرحه فيأتي في وقته إن شاء الله.

أنا مدينة العلم، وعَليٌّ بابها: الغزالي او الحرّالي، إذا قالوا هذه الجملة في علم علي (عليه السلام)، فإنّها ذَرَّةٌ من تلك الشمس، حيث قال فيه عقلٌ الكلّ وكلّ العقل، علم الكلّ وكلّ العلم، قال (صلى الله عليه وآله وسلم) باعتراف أعيان العامة: أنا مدينة العلم، وعَليٌّ بابها، فمَن أراد العلم فليأتِ الباب.

يقول المناوي وهو المحقِّق السنيّ ذو الشأن الرفيع عندهم في فيض القدير ج3 ص61: فإنّ المصطفى صلى الله عليه وسلم المدينة الجامعة لمعاني الديانات كلّها ولا بُدَّ للمدينة من باب: هذا كلام من يُعَبَّر عنه عند العامة بأنّه من أعلام الأمة، في فيض القدير.

فأخبَرَ أنّ بابها هو عليٌّ كرّم الله وجهه، فمن أخذ طريقه دخل المدينة، ومن أخطأه أخطأ طريق الهدى: هذه المطالب حجةٌ بالغةٌ واقعاً، اعتراف مثل هذه الشخصية أنَّ أيَّ أحَدٍ ودون استثناء يدخل باب عليٍّ ينال الهداية، وكل من لم يدخل من هذا الباب يصبح من أهل الضلال.. هذه ليست كلمات الكليني والشيخ الطوسي.

 وقد شَهِدَ له بالأعلميّة الموافق والمخالف، والمعادي والمُحَالِف، خرّج الكلاباذي أنّ رجلاً سأل معاوية عن مسألة فقال: سَل علياً هو أعلم مني: فهذا اعتراف معاوية بن أبي سفيان أعدى أعداء عليٍّ (عليه السلام).

فقال: أريد جوابك.

 قال: ويحك، كرهتَ رجلاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعزُّهُ بالعلم عزّاً، وقد كان أكابر الصحب يعترفون له بذلك، وكان عمر يسأله عما أشكل عليه، جاءه رجل فسأله فقال: ههنا عليٌّ فاسأله.

فقال: أريد أسمع منك يا أمير المؤمنين.

قال: فلا أقام الله رجليك، ومحى اسمه من الديوان: وهذا اعترافُ معاوية واعتراف الثاني.

وصَحَّ عنه من طرقٍ أنّه كان يتعوّذ من قوم ليس هو فيهم حتى أمسكه عنده..: إلى أي حد ظُلِمَ هذا المذهب؟ مع هذه البراهين القاطعة!

وأخرج الحافظ عبد الملك بن سليمان قال: ذُكِرَ لعطاء: أكان أحد من الصحب أفقه من عليّ؟ قال: لا والله.

قال الحرّالي: قد علم الأوّلون والآخرون أنّ فهم كتاب الله منحصرٌ إلى علمِ عليّ، ومن جهل ذلك فقد ضلَّ عن الباب الذي من ورائه يرفع الله عن القلوب الحجاب، حتى يتحقق اليقين الذي لا يتغير بكشف الغطاء.

هذا الحديث وبهذه الخصوصيات أعجز كل أعلام العامة، لكنّ الأشخاص المتعصِّبين أرادوا إسقاط الحديث بأيّ قيمة، فشرع عدَّةٌ منهم بالدغدغة في صحة الحديث، ولأنهم عجزوا قالوا أنّه حَسَنٌ! لأن هذه القضية إن تمّت فإن دكاكين أبي حنفية والشافعي وأحمد بن حنبل ومالك ستُغلَق! وسيُشطَب بقلم البطلان على أبي بكر وعُمَر وعثمان!

وكُلَّما طرقوا باباً لم تحل لهم المشكلة، وقد قال الزركشي:

الحديث ينتهي إلى درجة الحسن المحتج به ولا يكون ضعيفاً فضلاً عن كونه موضوعاً، وفي لسان الميزان: هذا الحديث له طرقٌ كثيرةٌ في المستدرك، أقلُّ أحوالها أن يكون للحديث أصلٌ، فلا ينبغي إطلاق القول عليه بالوضع: فإنّ طرقه وصلت إلى حَدٍّ من الكثرة، فما الذي يمكن فعله؟

ورواه الخطيب في التاريخ باللفظ المزبور من حديث ابن معاوية عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس ثم قال: قال القاسم: سألت ابن معين عنه فقال: هو صحيح: وابن معين عَلَمُ أعلام الرجال، وكلامه ناسخٌ لكلِّ كلام.

قال الخطيب: قلت أراد أنه صحيحٌ من حديث أبي معاوية وليس بباطل، إذ رواه غير واحد عنه، وأفتى بحسنه ابن حجر وتبعه البخاري فقال: هو حديث حسن.

والنتيجة أن هذا الحديث حجةٌ عند العامة، وإن شاء الله سنبحث مفصلاً في سنده عندما يأتي وقته. ونتيجة البحث: أن أعلام هذه الأمة قالوا: علٌّي هو الأعلم. والنبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: أنا مدينة العلم، وعَليٌّ بابها. هذه الصغرى.

أما الكبرى: فَمِنَ القرآن: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الالبَابِ﴾(176)، نَصُّ القرآن يدلُّ على أن العالم لا يستوي مع غير العالم أبداً، فما هي النتيجة؟

النتيجة: أن طريق أحقيّة مذهب الشيعة ثابتٌ بِنَصِّ القرآن، وبُطلان المذاهب الأربعة ثابت بحكم القرآن، فإنّ نَصَّ القرآن: ﴿أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى﴾(177)، وكلكم تعترفون أن عُمَر ما اهتدى في المعضلات، إلا عندما أخذ عليٌّ بيده! كلكم تعتقدون بذلك، وقد نَصَّ القرآن أنّ من يهدي هو الذي يليق بالإمامة دون الذي يكون محتاجاً لهادٍ يهديه!

خليفة النبي لا يعرف حدود الله؟!

كان البحث في الحديث الصحيح(178): عَليٌّ مع القرآن، والقرآنُ مع عليّ، لن يتفرّقا حتى يَرِدَا عَليَّ الحوض.

إنّ إحدى الوظائف الصعبة التي يُعهَدُ بها لخليفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإمامِ الأمة هي إجراء الحدود والتعزيرات، وهي إحدى أهمّ كتب ومباحث الفقه عند العامة والخاصة، وإجراء الحدود بيد من إليه الحكم، فينبغي على من صار حاكماً للأمّة أن يكون مُطَبِّقاً لهذه الحدود، لأنّ الحدود الشرعية تُصلِح الفرد والمجتمع، فهي مؤثِّرَةٌ في الدنيا، وفي رفع العقاب في العُقبى.

ولا شكّ أنّه ينبغي حفظ حقوق الناس في الأعراض والأموال، وضمان حفظ الحقوق في دين الله وإجراء تلك القواعد يتم على يد نائب وخليفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإذا أصيب موضعٌ في الجسم فإنّه يَترُكُ أثران: أحدهما في موضع الغدّة المصابة، والثاني في تمام البدن ما لم تُعالَج، فإن النقطة الفاسدة تفسد سائر الأعضاء شاء صاحبها أم أبى.

لذا فإنّ علاج تلك القرحة واجبٌ حفظاً لنفس العضو المصاب، ولبقيّة الأعضاء لارتباطها به، والفرد بالنسبة للمجتمع عضوٌ، فلو وُجِدَت آفةٌ في هذا العضو، ينبغي على حاكم المسلمين إجراء حدّ الله تعالى والتعزير الشرعيّ عليه، صلاحاً للعضو والمجتمع.

ينقل البيهقي في السنن الكبرى(179) القضيّة التالية، ومنها يُعرف معنى الحديث: عَليٌّ مع القرآن، والقرآنُ مع عليّ. يقول:

أُتِيَ عمر بن الخطاب رضي الله عنه برجلٍ أقطَعَ اليد والرِّجل قد سَرَق، فأمر به عمر رضي الله عنه أن يقطع رجله، فقال عليٌّ رضي الله عنه: إنما قال الله عز وجل (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله) إلى آخر الآية.

ونَصُّ الآية: ﴿إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ *  إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ(180).

فإن تابَ المحاربون قبل الوصول للحاكم والقدرة عليهم يُعفى عنهم بعد تلك التوبة، أما إن لم يتوبوا قبل ذلك فجزاؤهم على ثلاث صور: ﴿أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ﴾، فأفهَمَهُ (عليه السلام) بهذه الآية أنّ الحكم إذا كان هكذا في المحارب، فإنّ الوظيفة في السارق قطعاً هي حفظ قدمه الأخرى.

لماذا؟ لأن أثر الحدود يتم في وقتٍ يجري فيه الحدُّ مع الرحمة الرحمانية الإلهية، ومعَ كون خاتم الأنبياء رحمة للعالمين، ينبغي أن يكون الحَدُّ موافقاً لهذين الأمرين، ثم قال (عليه السلام):

فقد قُطِعَت يدُ هذا ورجلُه، فلا ينبغي أن تَقطع رجلَه فتدعه ليس له قائمةٌ يمشي عليها: فينبغي أن يكون الحدُّ بنحوٍ يكون فيه رحمةٌ للمحدود نفسه كما للأمة، ولِقَطع القدم أثرٌ في الوضوء والصلاة، ومَشي الشخص وحركته لمعاشه وحياته، فكم يؤثّر ذلك على الأحكام الإلهية والأعمال الشخصية؟

ثم استدل (عليه السلام) بالكتاب وبحكم العقل وبالرحمة الرحمانية لله تعالى، وبعثة خاتم الأنبياء رحمة للعالمين، ثم قال (عليه السلام):

 إمّا ان تُعَزِّرَه وإمّا أن تستودعه السجن: لا أن تقطع قدمه.

قال: فاستودعه السجن (انتهى).

نتيجة البحث: أنّ البيهقي نفسه وتمامُ متكلمي العامة متّفقون أنّ إجراء الحدود من أعظم وظائف الخليفة، هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى قالوا بخلافة مَن لم يفهم القرآن ولا فلسفة الحدّ وحكمة تشريع الحدود في إقامة حدّ السرقة!!

ومن جهةٍ ثالثةٍ ينقلون صراحةً أن مُبَيِّن حكم الله تعالى وسرّ الحدود هو عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)! فكيف يُجمَع بين هذه الأمور؟!

الإعجاز هنا: أنّ هؤلاء أنفسهم يصرِّحون أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: عَليٌّ مع القرآن، والقرآنُ مع عليّ، وأنّهما لن يتفرَّقا أبداً حتى يَرِدَا عليه الحوض، ومن ثم يذكرون هذه القضايا، ويقولون أننا أتباعُ القرآن، ونَصُّ القرآن ﴿أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى﴾.

اثنان واثنان أربعة: بِنَصِّ سُنَنِ البيهقي يثبتُ بطلان خلافة الخليفة الثاني، وتَظهَرُ أحقيّة المذهب الشيعي كالشمس في رابعة النهار.

هذا هو الإعجاز، أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول تلك الجملة ثم يُثبِتُها وينقلها مثل هؤلاء!

مِن فقه الحديث

أما فقه الحديث: عَليٌّ مع القرآن، والقرآنُ مع عليّ.

فإنّ الإضافة على قسمين: تارةً تكون مختلفة الأطراف، مثل إضافة الفوقية والتحتية، الأبوّة والبنوّة، وتارةً تكون متشابهة الأطراف، وينبغي على علماء الفن الدِّقة في فقه الحديث.

والمعيّة من القسم الثاني، فإنَّ الإضافة قائمةٌ بالطرفين، وهي متَّفقة الأطراف، وخاصيّة هذا القسم من الإضافة هي أنّه لو ذُكِرَ طرفٌ في الكلام فإنّ ذلك يُغني عن ذِكر الطرف الآخر، هذه خاصية هذا القسم من الجهة العلمية.

إذا قلتَ: زيد مع عمرو، فكونه مع عمرو مَعيَّة، ولا يلزم أن تقول مجدداً: عمرو مع زيد، لأنّ الجملة الأولى تبيّن بالدلالة المطابقية أن زيداً مع عمرو، وتبيّن بالدلالة الإلتزامية أن عمرو مع زيد.

عقل الكلّ، النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) يثير الحيرة في هذا الحديث، قال أولاً: عَليٌّ مع القرآن، فأتى بالمعيّة، والإضافة متشابهة الأطراف، ومع تمامية دلالتها المطابقية والإلتزامية قال أيضاً: والقرآنُ مع عليّ.

القرآن أيضاً مع علي بن أبي طالب.. فما السر في ذلك؟ التأمُّل في هذه الروايات يفتح أبواباً للعلماء والفقهاء، لقد قام (صلى الله عليه وآله وسلم) بعملين: الدلالة المطابقية أولاً في: عَليٌّ مع القرآن، واإالتزامية تثبت بالتَّبَع.

وأما في قوله: والقرآنُ مع عليّ: فجعل الدلالة الإلتزامية في الجملة الأولى مطابقيّةً هنا، والمطابقيّة هناك التزاميةً هنا. لماذا؟

سِرُّه: أنَّ عليّاً صار في الطرفين، فالأوَّلُ عليٌّ، والآخرُ عليٌّ، وفي الوسط القرآن، فيصبح القرآن قَلبَاً مُحَاطاً، وعليٌّ يصبح مُحِيطاً.

دَرك الرواية هكذا: عَليٌّ مع القرآن، والقرآنُ مع عليّ.

القرآن في الوسط، وعليٌّ أولاً وآخراً، عَلِيٌّ محيطٌ، والقرآن مُحاطٌ، وشرح هذا المطلب محيّرٌ..

 

الرواية الرابعة: عليٌّ مني وأنا من عليّ

كان بحثُنا(181) في مقام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهذا الحديث هو حُجَّةٌ إلهيّةٌ بالغة: عَليٌّ مع القرآن، والقرآنُ مع عليّ.

وقد تم تحقيق هذه الرواية متناً وسنداً، ووصلت النوبة إلى نسبته سلام الله عليه ممن أُنزِلَ عليه القرآن، وهو خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم)، فما هي النسبة بينهما؟

إنّ صحة الحديث التالي ليست مورد مناقشة مِن أحدٍ، ومَتنُهُ عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): عَلِيٌّ مِنِّي، وَأَنَا مِنْ عَلِيٍّ، فماذا يعني ذلك؟

كلُّ ما في دائرة العالم والوجود مندَرِجٌ في أحد مفهومين ولا يخرج عنهما: أحدهما مفهوم (ما) والآخر مفهوم (مَن)، والأفضل والأشرَف في مفهوم (ما) هو كتابُ الله الأعظم، هو القرآن الكريم، ﴿الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ﴾.

ونِسبَتُه (عليه السلام) للقرآن الذي هو النُّقطة الأعلى لقوس كلمة (ما) هي نسبة المعيّة: عَليٌّ مع القرآن، والقرآنُ مع عليّ.

أما في دائرة (مَن) فليس هناك أشرف وأعلى وأفضل منه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهو النقطة الأعلى لقوس (مَن)، ونِسبته (عليه السلام) إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) هي: عَلِيٌّ مِنِّي، وَأَنَا مِنْ عَلِيٍّ.

فتكون النتيجة أن نسبته (عليه السلام) لأشرف (ما) وهو القرآن الكريم هي نسبة المعيّة المطلقة (لن يتفرّقا)، فهي معيّةٌ غير قابلةٍ للتفرق، لا يفترق القرآن عن عليٍّ ولا عليٌّ عن القرآن أبداً، ونسبته (عليه السلام) للخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) أشرف دائرة مفهوم (مَن): عَلِيٌّ مِنِّي، وَأَنَا مِنْ عَلِيٍّ، والبحث ههنا في مقامين تتم بهما حجية الحديث: أحدهما في سنده ومصادره، والثاني في متنه وفقهه.

مصادر الحديث وسنده

 من مصادر الحديث عند العامة: البيهقي في السنن ج8 ص5، النسائي في الخصائص ص87، إمام الحنابلة أحمد في المسند ج4 ص164، الحاكم النيشابوري في المستدرك ج3 ص120، الطحاوي في مشكل الآثار، الخطيب البغدادي في تاريخه ج4 ص364، الترمذي في الصحيح (السنن ج5 ص300)، وغيرها من المصادر الروائية والتاريخية عند أهل السنة.

ونحن ننقله من صحيح البخاري، أصحّ الكتب عند أئمة المذاهب الأربعة، وقد نَقَلَ هذه الرواية في كتاب الصلح، وفي كتاب مناقب المهاجرين وفضلهم، وفي باب عمرة القضاء، ومتنه فيه: وقال لعليٍّ: أنت مني، وأنا منك (البخاري ج3 ص168، وج4 ص207، وج5 ص85).

ومتن الحديث في غيره: عَلِيٌّ مِنِّي، وَأَنَا مِنْ عَلِيٍّ.

أما السند، فليس مورد كلامٍ عند أحدٍ ممّن له أدنى معرفةٍ بمصادر العامة.

فقه الحديث

أمّا فقه الحديث ودرايته، فينبغي أن يُفهم أولاً أنَّ المقام العلميَّ كلّما كان أرفع وأعلى وأدقّ كانت الكلمات الصادرة عن صاحبه أدقّ، فالمرء مخبوءٌ تحت لسانه، ﴿خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ﴾.

إنّ قولَ وكلامَ أيّ أحدٍ برهانٌ على درجته العلمية، وحكمته وفقاهته، بهذا يُعرَفُ أهل الفضل ومقامهم، وليس هناك أعلى وأجلّ وأشرف من عِلم وفَهم وعقل خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)، وليس كلامه قابلاً للقياس مع كلام أحدٍ أبداً.

ولأنّ كلام كلِّ أحدٍ مُبيّنٌ لمرتبة عقله ودَركه وفهمه وعلمه، فإنّ فَهم كلمات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس أمراً سهلاً وبسيطاً، وشرح هذا الحديث ليس سهلاً، لكنّا نتعرّض له بالقدر الميسور.

في الحديث جُملتان: الأولى: عَلِيٌّ مِنِّي، والثانية: وَأَنَا مِنْ عَلِيٍّ، ولأنّ الجملة الأولى أسهل كانت في البداية، والجملة الثانية كانت مؤخَّرَة لأنّها أصعَب.

عَلِيٌّ مِنِّي

أما الجملة الأولى، فلم يقل (صلى الله عليه وآله وسلم): عليٌّ جزء من جسمي أو بدني، بل قال: عَلِيٌّ مِنِّي، أي عَليٌّ قسمٌ من (إنِّيتِي)، ماذا يعني (أنا)؟

أنا لست هذا البدن، هذه اليد يدي، وهذه القدم قدمي، وهذه العين عيني، والأذن أذني، لكني غير كل هذا.

عليٌّ ليس جزءً من جسم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، هو بعض حقيقة الخاتميّة، وإنِّيّة تلك الحضرة، والخلاصة أنها تعني أنّ وجودي منقسمٌ، وعليٌّ أحدُ أقسامه.

هذه حقيقة الإنيّة، ياء المتكلم الواحد، إذا اتّصلت تكون (مني) وإذا انفصلت تكون (أنا)، وههنا ينبغي أولاً معرفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه، حتى نفهم بعد ذلك ماذا يعني: عَلِيٌّ مِنِّي، لكنّ إنيّته (صلى الله عليه وآله وسلم)، حقيقة أحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، هي حقيقةٌ يعجز العقل عن إدراكها، لماذا؟ وما الدليل؟

دليل ذلك: إنّ مِنَ القضايا الأوليّة أنّ أيَّ جزءٍ لا يصل للكلّ، لماذا؟ لأنّ الكلَّ واجِدٌ للجزء، لكنّ الجزء فاقدٌ للكل.

عقلُ كلِّ عاقلٍ وفي أيّ مقامٍ ومرتبةٍ كان، حتى أعلم العلماء من الأولين والآخرين هو عقلٌ جزئيٌّ، فكلُّ واحدٍ من العقلاء عاقلٌ، لكن بالعقل الجزئي، كل واحد من العلماء عالمٌ، لكن بالعلم الجزئي.

نتيجة البرهان: أن العقل الجزئيّ لا يمكن أن يدرك عقل الكلّ، وخاتمُ النبيين هو عقل الكلّ. فأعلم العلماء وأفقه الفقهاء من أهل الجزء، ويستحيل على أهل الجزء إدراك الكل، وهذه دراية فقه الحديث: أنَّ تلك الإنِّية لعقل الكلّ وكلّ العقل فوق إدراك وتحمّل كلّ البشر.

ونتيجة البحث أنّنا مع كمال الدقّة وإعمال الموازين العلمية الدقيقة، نفهم معنى (عَلِيٌّ مِنِّي) بقدر العقل الجزئي، أما حقيقة (عَلِيٌّ مِنِّي) فليست قابلة لإدراكنا ولا لبياننا.

متى عرفوا النبي حتى يعرفوا عليا؟

كان البحث في الحديث(182) الذي يُبَيِّنُ نسبة أمير المؤمنين (عليه السلام) من خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد صدر هذا الحديث في مواطن متعددة، وخصوصية هذه المواطن مهمة، فتارة بُيِّنَ هذا الأمر بالقول، وتارة بالفعل والتَصَرُّف.

أما بالقول فقد صدر تارةً بصيغة المخاطَب، وتارةً بصيغة الغائب.

لقد كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في غزوةٍ وأرسله (عليه السلام) فيها، فاتّفقَ أربعةُ أشخاصٍ على أن يشكوا أميرَ المؤمنين (عليه السلام)، وبعدما جاؤوا إلى محضره (صلى الله عليه وآله وسلم) وأظهروا ما في قلوبهم، ظهر الغضب في وجهه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقال: ما تريدون من عليٍّ؟ عليٌّ مني وأنا من عليّ، وهو وليُّ كلّ مؤمنٍ بعدي، هذا لسان إحدى الروايات، ورغم سِعة نفسه (صلى الله عليه وآله وسلم) وتحمُّلِه العجيب فقد ظهر الغضب في وجهه في هذا المورد، وخصوصيات الكلام مهمة، فقال لهم: ما تريدون من عليٍّ؟ عليٌّ مني وأنا من عليّ.

وتظهر ثمرة هذا الكلام في الجملة اللاحقة: وهو وليُّ كلّ مؤمنٍ بعدي.

وهذا قسمٌ من بيانه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد بَيَّنَ قِسماً آخر بصورة الخطاب: يا عليّ، أنت مني وأنا منك، وهذه موارد اللفظ والقول.

أما في العمل: فإنَّ أبا بكر أخذ سورة براءة ليقرأها للمشركين، وقبل أن يصل لمقصده جاء من أبلغه أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر بأن تَرجِع، ينبغي أن يُبَلِّغَ هذه السورة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للمشركين مَن كان مِنَ النبيّ، وكان النبيُّ منه، وهو عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، هذا في العمل.

أما فهم الحديث ودراية كلام الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو كَنزٌ من العلم والحكمة الإلهيّة، فبقدر الميسور. وينبغي فهم مطلبين:

أحدهما: مفهوم (أنا) ومصداقُ هذا المفهوم.

ثانيهما: إنيّة الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم).

بعد ذلك يُفهَم معنى (عَلِيٌّ مِنِّي) و (أنتَ مني).

أولاً: مفهوم الإنيّة: هو ما يعبّر عنه بـ (أنا)، فإذا كان متصلاً يكون (الياء)، وإذا كان منفصلاً يكون (أنا)، فهو جوهرُ نفس الإنسان، ولا ربط له بهذا البدن، كلُّهُ مضافٌ وهو المضاف إليه، ودون فهمه خرط القتاد، إذ مَن عَرَفَ نفسَه فقد عرف ربه، ومعرفة الناس مفتاح معرفة الله، وإدراك مفهوم (أنا) وحقيقتها فوق التصور.

بعد أن يَطوي أهلُ الحقائق كلّ المراحل يصلون إلى مرتبة التجرّد والتخلية، وهي حقيقة (موتوا قبل أن تموتوا)، فانظروا قبلَ أن يأتيكم الموت، فالموت الاختياري هو تجريد النفس، وتخلية الروح من البدن، وهناك أيضاً لا تظهر حقيقة (أنا) لأنّه في تلك المرحلة أيضاً تُرى الروح بالأعضاء، كما أنَّكُم ترون في المنام، فأينما ذهبتم ورأيتم لم يكن البدن معكم، لكن كان هناك قَدَمٌ وعينٌ وبَصَر.. لم يحصل (أنا) الكامل.. بعد التجرُّد عن ذلك القالب تَصِلون لحقيقة الإنيّة.

كانت هذه إشارةٌ إلى (أنا) الواردة في الرواية.

ثم إن الإنية أيضاً مختلفةٌ، والعلوم والمعارف في هذه الحقائق واقعاً، فكما أن الصور مختلفة، ولا نرى صورتين متساويتين أبداً، فإنّ الأشكال مختلفةٌ إلى هذا الحدّ، حتى بين الأخوة، فمع كمال الشَّبَه، حتى بين الآباء والأولاء، فإن أشكالهم مختلفة، وهذا الاختلاف نفسه واقعٌ بين الأرواح والنفوس.

الأشكال مختلفةٌ والسِّيرَةُ متفاوتةٌ، وبين النفوس اختلافان، وهذا مفتاح فقه الحديث، ودرايةُ الرواية ليست شيئاً سهلاً: اعْرِفُوا مَنَازِلَ شِيعَتِنَا عِنْدَنَا عَلَى قَدْرِ رِوَايَتِهِمْ عَنَّا وَفَهْمِهِمْ مِنَّا: فإنّ معرفة منازل الشيعة تكون على قدر درايتهم لأحاديثهم (عليهم السلام)، ورُبَّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه.

البخاريُّ هو ناقل الرواية، ودرايةِ هذه الروايات مقامٌ غير قابل للقياس مع مقام الرواية.

قلنا أنَّ بين النفوس اختلافاً عرضياً، واختلافاً طولياً.

أما الاختلاف الطولي: فإنّ نفس الشيخ الأنصاري مع ذلك العلم والعمل ليست أبداً بنفس مرتبة تلميذه، هذا الاختلاف الروحي والطولي.

وإلى أين تصل نسبة هذه الاختلافات الطولية؟ تترقى من الإنسان العاديّ بمقام العلم والحكمة، ثم للعلم والحكمة نفسها مراتب أيضاً، ونَفس كلِّ عالمٍ في مرتبة ذلك العلم الذي يملكه، ومقامُ كلِّ حكيمٍ في مرتبة تلك الحكمة التي عنده.

وبعد أن يترقى في السير الطولي ويتجاوز كل المراحل، فإن أوّل مرتبةٍ هي المرتبة التي يجد فيها جنبتين: إحداهما (يلي الخلق)، وثانيهما (يلي الحق)، فيصل لمقام النبوّة، وما يمتاز به الأنبياء عن كل أفراد البشر هو وجدان الجنبتين: (يلي الحق) و(يلي الخلق).

﴿قُلْ‏ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ ولكن ﴿يُوحى‏ إِلَي﴾، ولهذه الجنبة أيضاً مراتب، والمرتبة الأعلى هي مرتبة الإرسال، فليس كلُّ نبيٍّ رسول، ولكن كلّ مرسلٍ نبيّ.

وبعد أن وصل إلى مقام الرُّسُل، فإنّ فوق هذا المقام مقامٌ أرفع، ولا يصل كلّ المرسلون إلى ذلك المقام، وهو مقام المرسلين أولي الكتب، حيث يصلون إلى مقام النبوة ثم الرسالة ثم حمل الكتاب، ثم هناك مرتبة أعلى أيضاً، وهي أن يصبح صاحب شريعة.

والمرتبة الأعلى أيضاً الوصول إلى أولي العزم، وأولو العزم من الرسل، وكلّما ارتفعت المرتبة فإن الدائرة العددية تضيق، وينحصر أولو العزم بخمسة أشخاص.

وفوق أولي العزم أيضاً مقامٌ واحد، وهو نهاية النهايات، وهو مقام الخاتميّة، ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾، وههنا تختم المراتب، وقد جُمِعَت فيه عصارة وجود كلّ الأنبياء من آدم إلى عيسى (عليهم السلام)، مَعَ مَزيدٍ يُبهِتُ العقول، بعد كل هذا يصبح الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم).

اقرؤوا القرآن ثم افهموا معنى (عَلِيٌّ مِنِّي)، (أنتَ مِنِّي): ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى الله بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً﴾.

هذه المقامات الخمسة: أولها ﴿ شَاهِداً﴾: وقد حَيَّرَت الكلّ.. إلى أن تصل إلى آخر الكلمات، شاهدٌ على ماذا؟ شاهدٌ على رسالة تمام الأنبياء والمرسلين، فهو الشاهد على جميع الأنبياء، وهذا هو المقام الأول.

متى عرفوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى يفهموا معنى (عَلِيٌّ مِنِّي)؟!

فما هي تلك الإنيّة؟ هذا الذي يُبهِتُ العقل.

يقول الله تعالى: ﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾، فإن الله تعالى، الذات القدُّوس الذي لا يتناهى، فوق ما لا يتناهى، بما لا يتناهى، مثل هذه الذات تقسم به ﴿لَعَمْرُكَ﴾! فأيُّ روحٍ هذه التي كان عليٌّ منها؟!

ومن جهةٍ أخرى، لما عجزوا جاؤوا ووضعوا رواياتٍ عن آخرين أنّهم من النبيّ وأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم!

وإن شاء الله سنعرضُ في مرحلةٍ لاحقةٍ للأحاديث الموضوعة، وستذهب جذور المذاهب الأربعة مع الريح إن شاء الله.

بماذا تميَّزَ النبيُّ الخاتم ص عن كل الأنبياء!

وصل بحثنا(183) في فقه الحديث (عَلِيٌّ مِنِّي) إلى أنّه ثبت ببرهان العقل، وبحكم الكتاب والسنة أن (إِنيَّة) الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) جامعةٌ لجميع مراتب الأنبياء والمرسلين، وأولي الكتب وأولي العزم، هذه عُصارَةُ برهان العقل والنقل.

ولكن المهم هو المرحلة الثانية في معرفة تلك الإنيّة، حيث انحصرت الخاتمية به (صلى الله عليه وآله وسلم)، فما هو الذي كان واجداً له مما لم يكن عند أحد من الأنبياء من آدم لعيسى (عليهم السلام)؟ وفي هذا القسم نكتفي بمختصرٍ حول ذلك..

آدم والخاتم

آدم هو مَن ورد حوله في القرآن المجيد: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ﴾(184)، وفهم هذه الآيات يحتاج لتدبُّرٍ عميق.

يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): مِنْ مَلَائِكَةٍ أَسْكَنْتَهُمْ سَمَاوَاتِكَ، وَرَفَعْتَهُمْ عَنْ أَرْضِكَ، هُمْ أَعْلَمُ خَلْقِكَ بِكَ، وَأَخْوَفُهُمْ لَكَ، وَأَقْرَبُهُمْ مِنْك(185).

ومع كل هذه المقامات للملائكة فإنهم جميعاً قالوا أمامه: ﴿سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا﴾، ولما أنبأهم آدم بأسمائهم سَجَدَ الملائكة كلهم مقابل خلق آدم (عليه السلام)، فكم هو التفاوت بينهم وبينه؟ إنّ المقدار غير قابل للتحديد.

أما بين آدم (عليه السلام) وبين الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد خلق الله آدم من طينٍ، بينما (خَلَقَنِي مِنْ نُور)، فخِلقة آدم من الطين، وخِلقة الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) من النور، وأيُّ نور؟! هو الذي خُلِقَ نوره (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل خلق آدم بالآف السنين.

وقد خلق الله العالم، وأعظم منه الكرسي، والكرسيُّ حلقةٌ مقابل العرش، وعندما خُلِقَ العرش الأعظم كان متزلزلاً، وكان هدوء العرش وسكونه في الوقت الذي كُتِبَ عليه اسمان: الإسم السماويّ أحمد، والإسم الأرضيّ محمد، فسَكَنَ العرش. مَن أسكن اسمُهُ عرش الرحمان، ففي أيِّ حَدٍّ ومقامٍ يكون هو؟!

نوح والخاتم

أما الفارق بين نوح (عليه السلام) وبينه (صلى الله عليه وآله وسلم) فيتلخص في كلمتين: دعا نوح قومه 950 سنة بنصّ القرآن، ومع كلِّ ذلك وصلت طاقة نوحٍ إلى حَدِّها فقال: ﴿رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّاراً﴾: أي لا تدع على الأرض أحداً من أهل الكفر، أما سِعة صدر الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم): مَا أُوذِيَ نَبِيٌّ مِثْلَ مَا أُوذِيت‏، وبعد كلِّ تلك الأذيّة التي تُحَيِّرُ العقل قال (صلى الله عليه وآله وسلم): اللهمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُون‏.

انظر للتفاوت بينهما، ولهذا الفارق بين نوح (عليه السلام) والخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم).

هنا يَتيهُ العقل، آذوه كل تلك الأذية، وأضافهم لنفسه فقال (قَوْمِي)، ثم كان دعاؤه: اللهمَّ اهْدِ قَوْمِي، ثم ذَكَرَ عذرَهم: (فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُون) فاقبل يا إلهي عذرهم، إنَّهم لا يعلمون.

هذا فارقٌ بين نوح (عليه السلام) والخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبعد كل تلك الصعاب كانت حدود سعة صدر نوح: ﴿رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّاراً﴾ بينما قال (صلى الله عليه وآله وسلم): اللهمَّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُون، وكان الأثرُ أنّ سفينة نوحٍ (عليه السلام) صارت وسيلة النجاة من الطوفان في الدُّنيا، حيث أعطى الله هذه المنزلة لنوح (عليه السلام).

أما الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم): مَثَلُ أَهْلِ بَيْتِي فِيكُمْ كَمِثْلِ سَفِينَةِ نُوح(186)، فإنّ أهل بيته (صلى الله عليه وآله وسلم) سفينة النجاةُ لكل عقَبات عالم العُقبى، فانظر الى التَّفَاوت.

إبراهيم والخاتم

أما إبراهيم (عليه السلام): ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ﴾ فبعد ابتلاءاته العشر واختيار الله له كانت مرتبته: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾، أما الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى(187).

فقد رأى إبراهيمُ مع مكانته ملكوت السماوات، لكنَّ ذلك كان وهو في الأرض، أما هو (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد أُسرِيَ به إلى أعلى علّيين، إلى ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ ولما وصل إلى هناك ﴿لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى﴾.

أراه الله تلك الآيات الكبرى في مقام قابَ قوسين أو أدنى، إلى هذا الحدِّ بلغ التفاوت بينه (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين إبراهيم (عليه السلام).

موسى والخاتم

وقد اختار عز وجل موسى (عليه السلام) وأوصله لتلك المقامات، ﴿وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً﴾، ولما وصل الى مقام القرب، ﴿وَكَلَّمَ الله مُوسَى تَكْلِيماً﴾ وبعد أن طوى كل المراحل، طلب ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾.. ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ﴾ رُفِعَ قسمٌ من الحقيقة الأحمدية وتجلى نور الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) في الطور ﴿وَخَرَّ موسَى صَعِقاً﴾، هذا التفاوت بين موسى والخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم).

عيسى والخاتم

اقرؤوا القرآن وانظروا الى مقامات عيسى المسيح: ﴿ فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ ﴿وتُكَلِّمُ النَّاسَ فِي المَهْدِ﴾ ﴿إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً﴾.

هذا عيسى ابن مريم، وبعد مقاماته كلها كان دوره: ﴿وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾، فكان افتخاره أنّي جئت لأبشر بنبيٍّ سيأتي بعدي اسمه أحمد.

وبالحديث التالي يُختَمُ المطلب، فإنّ الاسم الأعظم ثلاثة وسبعون حرفاً، وقد أعطي موسى بن عمران أربع أحرف منها، وأعطي نوحٌ نبي الله خمسة أحرف، وأعطي إبراهيم خليل الله ثمانية أحرف، أما الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد أعطي اثنان وسبعون حرفاً.. وبقي حرفٌ واحدٌ فقط، وهو مختصٌ بالذات القدوس الحق المتعال، حَجَبَ عنه جميع خلقه.

إذا بقي العقلُ حَياً، فإن هذا الحديث يحدِّد التفاوت بين جميع الأنبياء وبين الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، من ثمانية إلى اثنين وسبعين، كم هي الفاصلة؟

وبينه وبين الله حَرفٌ واحد، هذه إنيّة الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم).

فإن عُرِفَ هو، سَيُعرَف عليٌّ (عليه السلام): عَلِيٌّ مِنِّي.

كيف يقدر البشر على معرفة علي؟!

كان بحثنا(188) في فقه هذا الحديث الصحيح بالاتفاق: عَلِيٌّ مِنِّي، وَأَنَا مِنْ عَلِيٍّ.. أنت مني وأنا منك.

إن (إنّية) الإنسان مرتبطةٌ بأمرين: العقل، والنفس، أمّا العقل، فهو دعامة الإنسانيّة، فالإنسانُ بالعقلِ إنسانٌ، وأما النفس، فهي هويّة الإنسانيّة والآدمية.

ولكلِّ واحدٍ من هذين الأمرين كمالٌ: فكمال العقل بالعلم، وكمال النفس بالخُلُق، ولهذين الأمرين مراتب أيضاً، واختلاف البشر في هذه المراتب في سِيَرِهِم واقعٌ كاختلاف صُوَرِهم، فكما أن كلّ شخصين مختلفان من جهة الجسم، فإنهما كذلك من جهة النفس والسيرة.

ولما تُختَم كلّ مراتب العلوم، يصبح صاحبُها وحامِلُها الإنسانَ الكاملَ على الإطلاق، لأنّ الكمال على درجات: الكمال المطلق ومطلق الكمال، وهو الذي تجتمع فيه كلّ العلوم بكلِّ مراتبها في عقلٍ واحد.

وأما كمال النفس: فيحصل في الوقت الذي تجتمع كل المَلَكَات الفاضلة والأخلاق الحميدة بجميع مراتبها في نفسٍ واحدة.

فيصبح ذلك العقل عقل الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتلك النفس تصبح نفس الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، هذه حقيقة الخاتمية: ﴿مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ(189)، فجُمِعَت في نفسه كلُّ المراتب من علوم الأنبياء وأخلاق المرسلين، وفي القرآن تعبيران، والقرآن كلام الله: عِبارةٌ راجعةٌ لعلم الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعبارةٌ راجعةٌ لخُلُق الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم).

أما ما يرجع لعلمه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهو قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً﴾(190)، وههنا تعجَزُ عقول الجميع، فَعِلمُ الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) قد عَلَّمَهُ إيّاه الله العليُّ العظيم بعظمته، ثم وصفه بالعظمة، هذا علمه.

أما خُلُقُه: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(191)، وقد صُدِّرَت هذه الجملة بـ(إنّ)، ثم بـ(لام) التأكيد (لَعَلى)، ومن ثم وُصِفَ الخُلُقُ بأنّه (عظيم).

لقد ورد حديثان في مصادر أهل السنة، وكلاهما بُرهانٌ قاطعٌ على بطلان خلافة الإثنين، وحقانيّة خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام).

أوّلهما(192) عن أبي بكر، عندما جاء أحد كبار اليهود بعد خلافة الأول إليه، فقال: جئت إليك لأحصل منك على جواب سؤالٍ: إنّا رأينا وصف خُلُقِ النبي الخاتم في الكتب السماوية، في التوراة، العهد العتيق، عندما شرحها الله لموسى (عليه السلام)، لنرى هل أن الذي ظهر عند العرب هو نفسه الذي وصفه الله تعالى لموسى (عليه السلام)، والحجة ههنا: فقال: ليس عندي علمٌ عن خلقه!! قالوا: لمن نرجع؟ قال: لعلي بن أبي طالب!! هذه من عجائبه، والحديث مفصل.

أما الحديث الثاني(193): فقد جاء أحد فصحاء العرب إلى الثاني، وكان من أحبار اليهود، وناقل الخبر هو الفخر الرازي في تفسيره الكبير، قال: جئت لتبينّ لي خُلُقَ نبيكم، الأول كان قد أرجعه لعلي (عليه السلام) مباشرة، أما الثاني فقال: ارجع إلى بلال، قال له عمر: ارجع الى بلال الحبشي في هذا السؤال فهو أعلم به مني.

والمحيِّر أن الفخر الرازي المقبول عند الكل من المذاهب الأربعة في المعقول والمنقول ينقلها.

وههنا بحثٌ مع الفخر الرازي: ينبغي أن يكون القائم مقام أيِّ أحدٍ أعرفَ الناس بأحوال من قام مقامه، وأبو بكر جاهلٌ بأوصاف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فبأيِّ منطقٍ يقوم مقامه (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ وهو الذي يصرِّحُ مجيباً أنّ عليكم أخذ الجواب من عليّ (عليه السلام)!

كيف تعتقد أنت أيها الفخر الرازي بخلافة من كانت خلافته باطلةً بنَصِّ القرآن الكريم؟! وذلك النص هو: ﴿أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(194).

أنت الذي تنقل هذه الرواية أنّ حبر اليهود رجع لعمر ليعرف منه أخلاق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأرجعه لبلال الحبشي قائلاً: هو أعلم به مني، ونَصُّ القرآن يقول: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الالبَابِ﴾(195).

فبِحُكمِ إقرار الإثنين، وبحكم القرآن تكون خلافتهما باطلة!

ثم جاء إلى بلال وقال: لقد رجعت للخليفة وسألته عن خُلُق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال أنّك أعلم منه، وجئت إليك، قال بلال: أين أنا من وصف خُلُقه؟!

قال: إلى أين اذهب؟ قال: اذهب الى باب بيت فاطمة الزهراء (عليها السلام)، ابنته وبضعته، فاسألها، جاء إلى باب بيت الصدّيقة الكبرى، وقال: جئت أسأل عن خُلُق الرسول العربيّ، وأرجَعُوني لبلال وهو أرجعني لكِ، قالت الصديقة الكبرى: جواب هذا السؤال عند علي بن أبي طالب (عليه السلام).

هذا ما ينقله الفخر الرازي، فجاء إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال: رأيت في التوراة شرح حال نبيّ آخر الزمان، وجئت لأحَقِّقَ وأبحث، فبَيِّن لي خُلُقَه.

الجملة التي قالها أمير المؤمنين (عليه السلام) بحسب كلام الفخر الرازي: عدّد لي ما في الدنيا من متاع، قال: يا عليّ، ليس عندي قدرةٌ لأعدّ لك ما في الدنيا، هذه الدنيا من سماواتها وأرضها، كيف يمكن عَدُّ ما فيها؟!

فكروا في ما أجابه به بابُ العلم والحكمة، أجابه أمير المؤمنين (عليه السلام): أنت وغيرك عاجزون عن تعداد متاع الدنيا، والحال أنّ الله تعالى يصرِّح في كتابه بأن متاع الدنيا قليل، كلُّ متاع الدنيا قد وُصِفَ بالقِلَّة، أما لمّا وصف خُلُقَ الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد قال تعالى: ﴿إِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيم‏﴾.

فإن كنتَ مع كل الناس عاجزاً عن تِعداد متاع الدنيا القليل، فكيف يكون خُلُقُه مع تلك العظمة قابلاً للبيان؟!(196).

هذا عِلمُهُ، وهذا خُلُقه، وهذه إنيّة الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم).

إنّ حلّ المسألة وفِقه الحديث ودِرايته هنا:

كَتَبَ البخاري في صحيحه، وإمام الحنابلة في مسنده، وكلُّ أعلام العامة في كُتُب الحديث والتفسير كتبوا: عَلِيٌّ مِنِّي: يعني تلك الإنيّة والعلم والخُلُق قد انقسم، فقسمٌ أنا وقسم هو (عليه السلام)، هذه دراية الحديث، وهذا فقه هذه الرواية.

فكيف يمكن وصف عليّ بن أبي طالب؟!

كيف يقدر البشر على معرفة علي؟!

مَن كان بعضاً مٍن إنّية عقل الكلّ وعلم الكلّ.

بأيِّ منطقٍ أيها الفخر الرازي يصبح مثل هذا الرابع، ويصبح الجاهلان الأول والثاني؟! هل لكل الدنيا إذا اجتمعت بما في ذلك كلّ علماء الأزهر قدرة الجواب على هذا؟

وأنا من عليّ

كان البحث(197) في الحديث المتفق عليه: عَلِيٌّ مِنِّي، وَأَنَا مِنْ عَلِيٍّ.

أما كونه (صلى الله عليه وآله وسلم) من عليٍّ (عليه السلام)، فهو بحرٌ عميق، نبحثه بالقدر الميسور وبالحدّ المقدور، ليتضح فقه الحديث.

ينبغي النظر أولاً في مقام وَحَدِّ (إنيّة) أمير المؤمنين (عليه السلام) ونفسه النفيسة، ويتوقف بيان المطلب على معرفة رأي أعيان أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذه هي المرحلة الأولى، أما المرحلة الثانية: فهي رأي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه في أمير المؤمنين.

كلام ابن مسعود في أمير المؤمنين عليه السلام

عبد الله بن مسعود موردُ اتّفاق كلّ العامة، عِلماً وعملاً وكتاباً وسنةً، والبحث حوله مفصلٌ، ونكتفي بما قاله بحَقِّهِ إمامُ أهل النقد، فقد قال الذهبي في حقّه: فلقد كان من سادة الصحابة(198): وصحابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عند العامة كلُّهم عدولٌ ببيعة الرضوان، لذا فإنّ كل من صار صحابياً عند العامة لا يحتاج لتعديل، لأن اعتقادهم:﴿لَقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المُؤْمِنينَ﴾ فهؤلاء مورد رضىً خاصٍّ من الله تعالى ﴿إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ﴾ وهذا مقامُ مطلق الصحابيّ عندهم، والتعبير عن ابن مسعود أنّه: مِن سادة الصحابة.

 وأوعية العلم: فإن وعاءه من العلم مملوء.

 وأئمة الهدى: وهذا مقامه الثالث عندهم، فمقامه أنّه من سادة الأصحاب وأبواب العلم وإمام هدىً عند مختلف المذاهب وأئمتهم.

ثانياً: ورد بحقه أيضاً: وقد نظر عمر إلى ابن مسعود قد قام فقال: .. مُلِئ علماً: وهذا مما قيل بحقه أيضاً.

ثالثاً: وأحد السابقين الأولين، ومن كبار البدريين، ومن نُبَلاء الفقهاء والمقرئين(199)، والجملة الأولى ناظرةٌ إلى الآية ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُون‏﴾، وغزوات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مختلفةٌ، ومقام البدريين وصلّ إلى حدٍّ أن الملائكة المسوَّمين جاءت لحمايتهم بِنَصِّ القرآن، هذه تعابير أئمة رجال العامة بالنسبة لابن مسعود، والمهم هو هذه الرواية التي ينقلها الذهبي، أن النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: مَن أحبّ أن يقرأ القرآن غَضَّاً كما أُنزِل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد(200).

وهذا الحديث في شأنه أيضاً، على أنّ ابن مسعود نفسه يقول عن القرآن: إذا أردتم العلم فانثروا القرآن، فإنّ فيه علم الأولين والآخرين(201)، ففي القرآن علم 124 ألف نبيّ، بضميمة علم الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، كلُّه في القرآن الكريم.

بعد كلّ هذا فإنّ الذي يُثبِتُ عجز الجميع، ويبطل المذاهب الأربعة، ويجعل الشيعة عَلَمَاً في الدنيا، هو شهادة هذا الرجل، فإنّ ابن مسعود مع كل مقاماته ودرجاته هذه من كلمات الأعلام، إلى إمام الأنبياء والرسل، يقول عن القرآن الذي جُمِعَ فيه علمُ الأولين والآخرين:

أنزِلَ القرآن على سبعة أحرف: ماذا يعني ذلك؟ يعني أن كلَّ حرفٍ من القرآن له سبعة أحرفٍ أو بطون، يعني لحرف (ألف) سبعة أحرفٍ في القرآن، وللام سبعة أحرف، وللميم سبعة أحرف، وكلُّ حرفٍ من هذه الأحرف السبعة له ظهرٌ وبطنٌ، ظاهر ٌوباطنٌ، أما الظاهر فهو تنزيل القرآن، وأما الباطن فهو تأويل القرآن، هذا ما قلتُه، أنّ الذي يثبت بطلان المذاهب الأربعة ويشطب عليها هو هذا القول:

ما منها حرفٌ إلا وله بَطنٌ وظَهرٌ، وأمّا عليٌّ فعنده منه علمُ الظاهر والباطن(202).

كلام من هذا؟ كلام من نقلت المذاهب الأربعة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كلامه فيه بأنّ من أراد أن يقرأ القرآن كما نزل فليأخذ عن ابن مسعود، هو بنفسه يقول أنّ هذا القرآن نزل على أحرفٍ سبعة، ولكلِّ حرفٍ ظاهرٌ وباطنٌ، وعلم الظاهر والباطن لكلّ حروف القرآن في صدر علي بن أبي طالب (عليه السلام).

فماذا يقول الذهبي، والفخر الرازي، والبخاري، وأبو حنيفة، وأحمد بن حنبل، بماذا يجيبون؟! هذا عليٌّ بشهادة ابن مسعود.

أما عُمَر، فإنه جاهلٌ بأحكام الصلاة بشهادة البخاري ومسلم!!

فأين هو مذهب الحق؟!

هذه جهةٌ مِن إنيّة عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).

إفهموا القرآن: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾ العقل يحتار ههنا، نحن أنزلنا القرآن عليك، ليس لموسى (عليه السلام) ظرفية هذا النزول، ولا لعيسى ولا إبراهيم، لم نترك شيئاً لم ننزله في القرآن ﴿تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾، فالله تعالى شيءٌ لا كالأشياء، وكلُّ الكائنات في كل العوالم، كلُّه في القرآن، وكلُّ ذلك في روح عليّ بن أبي طالب!

هذا ليس كلامي وكلامكم! هذا ليس كلام الكليني والصدوق والمجلسي! هذا كلام عبد الله بن مسعود إمام الكلّ عند الكلّ!

هذه عظمة هذا المذهب!

فهل الحق مع من يعتقد بإمامته (عليه السلام)؟ أم مع من اعتقد بخلافة الأول والثاني؟! الحَكَمُ ابن مسعود وهو بهذه المقامات.

يقف العقلُ متحيّراً مهما كرّر العبارة: ما من حرفٍ إلا له ظَهرٌ وبطنٌ، وإنَّ عليَّ بن أبي طالب عنده علمُ الظاهر والباطن!

كلام ابن عباس في أمير المؤمنين عليه السلام

كان بحثنا(203) في دراية هذه الرواية: عَلِيٌّ مِنِّي، وَأَنَا مِنْ عَلِيٍّ. أنتَ منِّي وأنا منك، إنّ رواية هذه الكلمات سهلةٌ، لكنَّ درايتها ليست كذلك، وكلما تعمَّقنا فيها يظهر أن عمقها لا يُدرك ولا يُوصف.

ويتوقف هذا المطلب على أن يتّضح رأي أعاظم الصحابة الذين اتفق جميع العامّة على قبولهم، وكان قولهم ورأيهم حجةٌ قاطعةٌ عندهم.

وقد مرّ بحث شهادة ابن مسعود، عبد الله ابن أمّ عبد، والبحث اليوم في شهادة عبد الله بن عباس بن عبد المطلب.

الكلماتُ المنسوبة له عند العامة كثيرةٌ، ونحن نكتفي بأدقِّ المطالب التي لا يمكن لأحدٍ أن يناقش فيها، فإنّ إمام أهل النقد يقول عن عبد الله بن عباس:

الامام البَحر، عالم العصر: مقامه مثل هذا المقام، بحرٌ من العلم.

وقد دعا النبيُّ أن يفقهه الله في الدين ويُعَلِّمه التأويل(204).

وأما عبد الله بن مسعود، الذي نقل الذهبيُّ نصَّ الرسول عنه أنّ من أراد أن يقرأ القرآن كما أنزل فليقرأ على قراءة ابن أمّ عبد، فشهادة مثل هذا عن ابن عباس: قال ابن مسعود: نِعمَ تُرجُمَانُ القرآن ابن عباس: وهذه تبيِّن مقامه العلمي.

عن أبي وائل: استعمل عليٌّ ابن عباس على الحج، فخطب يومئذ خطبة لو سمعها الترك والروم لأسلموا، ثم قرأ عليهم سورة النور فجعل يفسرها.

فأيُّ قدرةٍ هذه وأيُّ علمٍ هذا وأيُّ كمال؟!

توفي ابن عباس بالطائف في سنة ثمان وستين، فصلى عليه محمد ابن الحنفية وقال: اليوم مات ربانيُّ هذه الأمة رضي الله عنه(205).

هذا مقام هذه الشخصية، ومثل هذا يقول بحسب ما نقل أعلام العامة(206):

وعن ربعي بن حراش قال: استأذن عبد الله بن عباس على معاوية وقد علقت عنده بطون قريش، وسعيد بن العاص جالسٌ عن يمينه، فلما رآه معاوية مقبلاً قال: يا سعيد، والله لألقين على ابن عباس مسائل يعيا بجوابها.

فقال له سعيد: ليس مثل ابن عباس يعيا بمسائلك..

قال معاوية: فما تقول في علي بن أبي طالب؟: وليدقِّق أهلُ النظر في المسألة، فكلُّ عبارةٍ منها بَحرٌ، ونحن نقرأ العبارة اليوم وليس عند صدورها، حينما كانت الشام مركز حكومة معاوية، ومع عداوة معاوية لعلي (عليه السلام) وسؤاله لعبد الله بن عباس سؤالاً يعيا بجوابه.

 قال: رحم الله أبا الحسن، كان والله علم الهدى: كلُّ جملةٍ تحيّر العقول، والله كان عليٌّ علم هدايةٍ لكلّ العالم.

 وكهف التقى: كان عليٌّ مركز سرِّ حقيقة التقوى.

 ومحلّ الحجا.. وطَود البها: مَن كان بهاؤه.. هل قرأتم دعاء السحر؟ اللهم إني أسألك من بهائك بأبهاه.. كان عليٌّ طود ذلك البهاء.

 ونور السرى في ظُلَم الدجى: كان نور عالم الوجود، ماذا تقول يا معاوية في رجل لو لم يكن لكان العالم ظلماتٍ محض؟

 داعياً إلى المحجة العظمى، عالماً بما في الصحف الأولى: شرح كل كلمة يحتاج إلى كتاب، كلُّ ما نزل على 124 ألف نبيٍّ قد جمع في قلب عليّ بن أبي طالب.

 وقائماً بالتأويل والذكرى، متعلقاً بأسباب الهدى، وتاركاً للجور والأذى: ذاك علمه وهذا عمله، فهل له نظير ثانٍ في هذه الدنيا؟! وَالله لَوْ أُعْطِيتُ الأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلَاكِهَا عَلَى أَنْ أَعْصِيَ الله فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جُلْبَ شَعِيرَةٍ مَا فَعَلْتُهُ. هذا عدله وذاك علمه.

 وحائداً عن طرقات الرَّدى، وخير من آمن واتّقى، وسَيِّد من تقمّص وارتدى: فهو خير من آمن واتقى، ولا إيمان فوق إيمانه ولا أفضل من تقواه.

 وأفضل من حج وسعى: والمحيِّر أّن أعلام العامة نقلوا هذه الأمور عن مثل ابن عباس، فماذا ستكون النتيجة؟!

 وأسمح مَن عَدَل وسَوَّى، وأخطب أهل الدنيا..: وابن أبي الحديد يعترف أن كلامه (عليه السلام) دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق، كلّ مخلوق.

 وصاحب القبلتين فهل يوازيه موحد؟

 وزوج خير النساء: وهذا يكفي، فآدم ومن دونه لم يكونوا كفواً لها كما كان.

 وأبو السبطين، لم تر عيني مثله ولا ترى إلى يوم القيامة واللقاء: أيُّ فصاحةٍ وبلاغةٍ وأيُّ معنى ولفظ!

إنّ العلم يصنع الرجولة، والجهلُ يَذهَبُ بها!

هؤلاء الذين يتنازلون أمام علماء العامة فإن ذلك ناتجٌ عن الجهل! إذا وُجِدَت القدرة العلمية يمكن أن يتحدث الإنسان بهذا البيان وهذا الاستدلال والمنطق ويكسر ظهر معاوية، عندما وصل إلى هنا قال ابن عبّاس الجملة التالية عن عليّ (عليه السلام):

مَن لَعَنَهُ: ومن الذي لعنه غير معاوية؟ من الذي فتح باب السب واللعن لعليٍّ في خطب صلاة الجمعة؟! كانت عبارته الأخيرة:

مَن لَعَنَهُ فعليه لَعنَةُ الله والعباد إلى يوم القيامة: ذاك أوّله وهذا آخره، وهذه شهادة ابن عباس مقابل تسليم علماء العامة أمام معاوية بن أبي سفيان.

والسؤال: أنتم الذين نقلتم هذه الأمور في كتبكم، كيف تعدون مثل هذا خليفةً رابعاً؟ وتجعلون مَن لم يَفهم تفسير كلمة الكلالة أولاً وثانياً؟

عَلَمُ الهدى، والعالِمُ بما في الصحف الأولى يكون الرابع؟ ومثل هذا الجاهل يكون خليفةً أولاً وثانياً؟ ههنا ينكسر ظهر علماء المذاهب الأربعة، أما شرح هذه العبارات ففوق هذه المجالس.

كلام النبي ص في أمير المؤمنين عليه السلام

اتّضح(207) رأيُ أعاظم الصحابة في أمير المؤمنين (عليه السلام)، والعمدة على بيان خاتم النبيّين (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه، لأنَّ هذا البحثَ مبنيٌّ على ما نُقِلَ في كتب العامة، ليكون وفق قاعدة ﴿وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن﴾.

وطريق الجدال بنحوٍ أحسن هي أن يَتِمَّ الاحتجاج بما في الصحاح والمسانيد مما نُقِلَ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومنها الرواية التالية، مع كون القرآن قد نَصَّ على لزوم الأخذ عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوه﴾ فقولُهُ قولُ الله تعالى، وما يُبَيِّنُه (صلى الله عليه وآله وسلم) هو بيان الله تعالى، ووظيفةُ كلِّ مسلمٍ الأخذ بقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اعتقاداً وعملاً.

أما كلامُه (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو: أَنَا دَارُ الحِكْمَةِ، وَعَلِيٌّ بَابُهَا، فَمَنْ أَرَادَ الحِكْمَةَ فَلْيَأْتِ البَاب‏(208). هذا بيانُ من لا ينطِق عن الهوى، وقد قال أولاً: أَنَا دَارُ الحِكْمَةِ.

واشتُقَّت (دَارُ) من (دور)، اعتباراً بدورانها حول الحيطان، وتفصل بين ما في الدار وما خرج عن الدار، أَنَا دَارُ الحِكْمَةِ: فإنّ الحكمة مرتَكِزَةٌ في هذه الدار، كُلُّ الحكمة في بيتٍ قلبُه هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والطريق لهذه الدار تنحَصِرُ بباب هذه الدار، وباب هذه الدار هو عليُّ بن أبي طالب حصراً: أَنَا دَارُ الحِكْمَةِ، وَعَلِيٌّ بَابُهَا.

والمهم هو فاء التفريع، فَمَنْ أَرَادَ الحِكْمَةَ: فَنِسبَةُ ما بعد الفاء لما قبلها نسبة المعلول للعلّة، فكلُّ من أراد الحكمة وجوهرها: فَلْيَأْتِ البَاب، دون استثناء، واللاّم أيضاً لام التأكيد، وَمَن وَصَلَ إلى الباب وَصَلَ إليَّ، ومَن وَصَلَ إليَّ وَصَلَ إلى الحكمة.

ثم ينبغي فهمُ الحكمة أيضاً، لأنّ الرواية سهلةٌ لكنّ الفقاهة صعبةٌ، الدرايةُ صَعبةٌ، والمرجع هو القرآن الكريم، فينبغي الرجوع للقرآن الكريم، ثم استنباط معنى الحكمة ومعرفتها، ولماذا استُخلِصَت في وجود الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولماذا عَيَّنَ الله تعالى الباب لهذه الدار؟!

أما القرآن، فمنذ أن أوصَلَ الله تعالى إبراهيمَ الخليل إلى تلك المراتب اتّضحت كلمة الحكمة من دعائه، واتضح في أيِّ بابٍ هي: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ﴾(209)، فههنا كان دعاء خليل الله وذبيح الله أثناء بناء بيت الله بِنَصِّ القرآن: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾(210).

فمُنتهى الغايات ونهاية النهايات في دَور الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ﴾، هذا دعاءُ خليل الله، وتأمينُ ذبيح الله عليه، عند بناء بيت الله، هذه هي الحكمة!

ثم نَصَّ القرآن على أنّ متاع الدنيا قليل، وكَم هي سعة الدنيا أولاً؟! يتَّضح حَدُّ سَعة الدنيا بقراءة القرآن، يقول تعالى: ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الكَوَاكِبِ(211)، فكلُّ هذه الكواكب التي يصل نورُ بعضها بعد مليار سنةٍ ضوئيةٍ إلى الأرض هي زينةٌ في هذه الدنيا! وكَم هي الفاصلة بيننا وبينها؟! إنّ عَدَدَها وبُعدَها غيرُ معروفٍ لأحدٍ إلا لله تعالى، ولشهدائه على خلقه، كلُّ هذا وكلُّ ما في هذه الدنيا قليل! ﴿قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ﴾.

أما الحكمة: ﴿يُؤتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً(212).

وقَدَ حَصَرَ إيتاءَ الحكمة بمشيئته، فليس هذا الجوهر مباحاً لتصل إليه يَدُ كلِّ أحدٍ، فليس للدنيا وما فيها شرطٌ، إذ قد ينالها الفاسقُ والكافرُ فيصل إلى المقامات الدنيوية، كلُّ المقامات والفنون (لا بشرط)، أما الحكمة فإنها (بشرط)، وذلك الشرط هو مشيئة الحقّ تعالى: ﴿يُؤتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً﴾.

الشيء الذي يراه الله تعالى خيراً يُحَيِّرُ العقل!! ثم هو بعد ذلك ﴿خَيْراً كَثِيراً﴾! فكلُّ الدنيا قليلةٌ ولكنّ جنس الحكمة بل كلمة من الحكمة خيرٌ كثير!

﴿فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً﴾(213)، ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لله(214)، فعندما يختارُ مثلَ لقمان ويعطيه الحكمة يَضُمُّ إليها الأمر بالشكر!

﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ ﴾(215)، والطريق إلى الله تعالى محصورةٌ بالحكمة، ولا يمكن الوصول إليه إلا بتوسُّط هذه الأداة.

وختم الكلام: أنَّ مقام الحكمة نفسها هو أنَّهُ ما لم تُعلَم الحكمة فإن حديث: أَنَا دَارُ الحِكْمَةِ، وَعَلِيٌّ بَابُهَا، لن يُفهم.

وقد استجاب الله دعاء إبراهيم، فأعطى النعمة للبشر، لكنّهم أساؤوا استخدام النعمة، أمّا هنا: ﴿لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً﴾، فقد كانت ثمرة وجود الرسول: أولاً: يتلو عليهم آياته، وثانياً: يزكيهم، وثالثاً: يعلمهم الكتاب، ورابعاً: وهو ختم الكلام: والحكمة!

والنتيجة أنَّ خَلقَ تمام العالم، من السماوات والأرضين مُقَدَّمَةٌ لخلق آدم (عليه السلام)، وخلق آدم (عليه السلام) مقدَّمَةٌ لبعثة الأنبياء، وبَعثة الأنبياء من آدم لعيسى مقدمة، وذي المقدمة هو بعثة الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم).

ثم الخاتم نفسه (صلى الله عليه وآله وسلم) مقدمةٌ، وآخِرُ ثمرةِ هذه الشجرة الطيبة هو الحكمة، وعليٌّ باب هذه الحكمة!

هذا معنى أنَّ أحداً لم يعرفه (عليه السلام)، كما قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه: يَا عَلِيُّ مَا عَرَفَ الله إِلَّا أَنَا وَأَنْتَ، وَمَا عَرَفَنِي إِلَّا الله وَأَنْتَ، وَمَا عَرَفَكَ إِلَّا الله وَأَنَا.

 


(1) ألقيَ هذا البحث يوم السبت 15 ذي القعدة 1434 هـ الموافق 21-9-2013 م.

(2) تذكرة الحفاظ للذهبي ج1 ص17.

(3) الواقعة10-11.

(4) تذكرة الحفاظ للذهبي ج1 ص18.

(5) النجم3-4.

(6) ألقيَ هذا البحث يوم الإثنين 17 ذي القعدة 1434 هـ الموافق 23-9-2013 م.

(7) النساء80.

(8) النور51.

(9) المؤمنون1.

(10) النور54.

(11) الفاتحة6-7.

(12) النساء13.

(13) النساء69.

(14) الأحزاب71.

(15) النساء64.

(16) الأحزاب36.

(17) الفاتحة7.

(18) الجن23.

(19) صحيح البخاري ج4 ص42.

(20) التوبة63.

(21) ألقيَ هذا البحث يوم السبت 22 ذي القعدة 1434 هـ الموافق 28-9-2013 م.

(22) الفاتحة7.

(23) يراجع كتاب المحصول ج3 ص142.

(24) ألقيَ هذا البحث يوم الإثنين 24 ذي القعدة 1434 هـ الموافق 30-9-2013 م.

(25) الجزء الخامس ص129، الحديث رقم4177، (باب غزوة تبوك) من (كتاب المغازي).

(26) ألقيَ هذا البحث يوم السبت 29 ذي القعدة 1434 هـ الموافق 5-10-2013 م.

(27) الاستيعاب ج3 ص1097.

(28) البقرة143.

(29) ألقيَ هذا البحث يوم الإثنين 1 ذي الحجة 1434 هـ الموافق 7-10-2013 م.

(30) كما نقله عنه الحافظ الكنجي في كفاية الطالب ص283.

(31) طه24، والآيات الآتية كلُّها لاحقة لهذه الآية حتى الآية 36 من سورة طه.

(32) ألقيَ هذا البحث يوم السبت 6 ذي الحجة 1434 هـ الموافق 12-10-2013 م.

(33) مريم52.

(34) الأعراف116.

(35) الشعراء45.

(36) النمل12.

(37) الأعراف145.

(38) النحل89.

(39) النساء113.

(40) القلم4.

(41) طه29.

(42) ألقيَ هذا البحث يوم الإثنين 19 محرم 1435هـ الموافق 23-11-2013 م، بعد بحث (منزلة الأخوّة)، وهو متمِّمٌ لبحث (منزلة الوزارة) فقدّمناه ليتّصل بما يرتبط به.

(43) الأحزاب33.

(44) ألقيَ هذا البحث يوم الإثنين 21 محرم 1435 هـ الموافق 25-11-2013 م.

(45) المستدرك على الصحيحين ج2 ص264، سنن الترمذي5: 279، وغيرهما.

(46) المستطرف في كل فن مستظرف ج1 ص105، وغيره من المصادر.

(47) المستدرك على الصحيحين ج2 ص177.

(48) الزمر9.

(49) يونس35.

(50) العين ج7 ص380.

(51) معجم مقاييس اللغة ج6 ص108.

(52) لسان العرب ج5 ص282.

(53) النجم5-7.

(54) ألقيَ هذا البحث يوم السبت 13 ذي الحجة 1434 هـ الموافق 19-10-2013 م.

(55) ألقيَ هذا البحث يوم الإثنين 15 ذي الحجة 1434 هـ الموافق 21-10-2013 م.

(56) الرعد4.

(57) إبراهيم24-25.

(58) العلق19: ﴿كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾.

(59) ألقيَ هذا البحث يوم السبت 20 ذي الحجة 1434 هـ الموافق 26-10-2013 م.

(60) تاريخ البخاري ج2 ص242.

(61) أو واهٍ كما في الكاشف ج1 ص296، وفي مورد آخر: روى الناس حديثه وأحسبه صادقاً، وقد رماه بعضهم بالكذب، فالله تعالى أعلم (المغني ج1 ص215).

(62) معرفة الثقات ج1 ص272.

(63) ألقيَ هذا البحث يوم الإثنين 22 ذي الحجة 1434 هـ الموافق 28-10-2013 م.

(64) آل عمران61.

(65) طه29-31.

(66) ألقيَ هذا البحث يوم السبت 26 محرم 1435هـ الموافق 30-11-2013 م.

(67) آل عمران110.

(68) فصلت53.

(69) النساء95.

(70) هود18.

(71) ألقيَ هذا البحث يوم الإثنين 28 محرم 1435 هـ الموافق 2-12-2013 م.

(72) البقرة247.

(73) الحجرات6.

(74) ألقيَ هذا البحث يوم السبت 4 صفر 1435هـ الموافق 7-12-2013 م.

(75) الجمعة2.

(76) المائدة48.

(77) الأنعام38.

(78) ألقيَ هذا البحث يوم الإثنين 6 صفر 1435 هـ الموافق 9-12-2013 م.

(79) القدر1.

(80) الدخان3.

(81) الواقعة77-78.

(82) يس1-2.

(83) ق1.

(84) هود1.

(85) الكهف1.

(86) الإسراء1.

(87) فاطر32.

(88) إبراهيم1.

(89) النحل89.

(90) السنن الكبرى للبيهقي ج 7 ص 442 وغيره.

(91) الأحقاف15.

(92) ألقيَ هذا البحث يوم السبت 11 صفر 1435 هـ الموافق 14-12-2013 م.

(93) الجمعة2.

(94) الإسراء85.

(95) التوبة38.

(96) البقرة269.

(97) لقمان12.

(98) النحل125.

(99) النساء113.

(100) الجمعة2.

(101) ألقيَ هذا البحث يوم الإثنين 13 صفر 1435 هـ الموافق 16-12-2013 م.

(102) صحيح البخاري كتاب التيمم حديث 335.

(103) النساء43.

(104) المائدة6.

(105) المستدرك على الصحيحين ج3 ص126.

(106) ألقيَ هذا البحث يوم السبت 9 ربيع الأول 1435 هـ الموافق 11-1-2014م، وبعض فقراته تقدّم بحثها سابقاً لكن نُقِلَت إلى هنا لمناسبتها لهذا البحث.

(107) الأعراف142.

(108) الأعراف143.

(109) ألقيَ هذا البحث يوم الإثنين 11 ربيع الأول 1435 هـ الموافق 13-1-2014 م.

(110) الأحزاب33.

(111) ألقيَ هذا البحث يوم السبت 16 ربيع الأول 1435 هـ الموافق 18-1-2014 م.

(112) تذكرة الحفاظ ج1 ص22.

(113) المستدرك للحاكم ج3 ص121.

(114) ألقيَ هذا البحث يوم الإثنين 18 ربيع الأول 1435 هـ الموافق 20-1-2014 م.

(115) ينابيع المودة ج2 ص156.

(116) إبراهيم27.

(117) الصواعق المحرقة ص240.

(118) الأحزاب57.

(119) الصواعق المحرقة ص 196.

(120) ألقيَ هذا البحث يوم السبت 23 ربيع الأول 1435 هـ الموافق 25-1-2014 م.

(121) تمهيد الأوائل للباقلاني ص457.

(122) ألقيَ هذا البحث يوم الإثنين 25 ربيع الأول 1435 هـ الموافق 27-1-2014 م.

(123) ألقيَ هذا البحث يوم السبت 1 ربيع الثاني 1435 هـ الموافق 1-2-2014 م.

(124) صحيح مسلم ج7 ص121.

(125) الأحزاب33.

(126) التوبة125.

(127) الصواعق المحرقة ص150.

(128) ألقيَ هذا البحث يوم الإثنين 3 ربيع الثاني 1435هـ الموافق 3-2-2014 م.

(129) مستدرك الحاكم ج3 ص124، المعجم الأوسط للطبراني ج5 ص135 وغيرها من المصادر.

(130) الغيبة للنعماني ص29.

(131) معاني الأخبار ص2.

(132) البقرة185.

(133) الدخان3.

(134) الإسراء9.

(135) ألقيَ هذا البحث يوم السبت 8 ربيع الثاني 1435 هـ الموافق 8-2-2014 م.

(136) الإسراء88.

(137) إبراهيم1.

(138) البروج21-22.

(139) يس12.

(140) ألقيَ هذا البحث يوم السبت 15 ربيع الثاني 1435 هـ الموافق 15-2-2014 م.

(141) البروج21-22.

(142) الواقعة77-79.

(143) النمل6.

(144) الأحزاب33.

(145) الكافي ج8 ص387.

(146) النحل64.

(147) نصُّ كلامه: وفي أحاديث الحثّ على التمسك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متأهل منهم للتمسك به إلى يوم القيامة، كما أن الكتاب العزيز كذلك (الصواعق المحرقة ص151).

(148) ألقيَ هذا البحث يوم الإثنين 17 ربيع الثاني 1435 هـ الموافق 17-2-2014 م.

(149) النساء176.

(150) الإسراء36.

(151) المستدرك على الصحيحين ج2 ص304.

(152) ألقيَ هذا البحث يوم السبت 22 ربيع الثاني 1435 هـ الموافق 22-2-2014 م.

(153) تفسير ابن كثير ج1 ص608.

(154) تفسير ابن كثير ج1 ص608.

(155) وليّ الله الدهلوي في إزالة الخفاء، نقله عنه الميلاني في نفحات الازهار ج17 ص315، والسيد حامد في عبقات الأنوار ج11 ص257.

(156) السنن الكبرى ج6 ص255.

(157) ألقيَ هذا البحث يوم الإثنين 24 ربيع الثاني 1435 هـ الموافق 24-2-2014 م.

(158) المناقب للخوارزمي ص142، ينابيع المودة للقندوزي ج1 ص159وغيرها من المصادر بتفاوتٍ يسير.

(159) المؤمنون1-14.

(160) البقرة127-128.

(161) الأعراف145.

(162) جمهرة اللغة ج1 ص369، وفيض القدير ج4 ص470.

(163) ألقيَ هذا البحث يوم السبت 29 ربيع الثاني 1435 هـ الموافق 1-3-2014 م.

(164) مستدرك الحاكم ج3 ص273 وغيره.

(165) عبقات الأنوار ج11 ص257.

(166) كنز العمال ج13 ص117.

(167) ألقيَ هذا البحث يوم الإثنين 1 جمادى الأولى 1435 هـ الموافق 3-3-2014 م.

(168) مسند أحمد ج1 ص190.

(169) شرح نهج البلاغة ج1 ص182.

(170) نُقلت عنه في بعض المصادر، وعن الحرّالي في مصادر أخرى، وقد أشار سماحة الشيخ في البحث اللاحق لذلك، والحرّالي هو أبو الحسن الحرّالي المراكشي المتوفى سنة 638 هـ.

(171) فيض القدير ج3 ص61.

(172) ألقيَ هذا البحث يوم السبت 6 جمادى الأولى 1435 هـ الموافق 8-3-2014 م.

(173) يراجع الأعلام للزركلي ج4 ص256 وغيره.

(174) لسان الميزان ج4 ص204.

(175) تاريخ الإسلام ج46 ص337.

(176) الزمر9.

(177) يونس35.

(178) ألقيَ هذا البحث يوم الإثنين 8 جمادى الأولى 1435 هـ الموافق 10-3-2014 م.

(179) السنن الكبرى ج8 ص274.

(180) المائدة33-34.

(181) ألقيَ هذا البحث يوم الإثنين 7 جمادى الثاني 1435 هـ الموافق 7-4-2014 م.

(182) ألقيَ هذا البحث يوم السبت 12 جمادى الثاني 1435 هـ الموافق 12-4-2014 م.

(183) ألقيَ هذا البحث يوم الإثنين 14 جمادى الثاني 1435 هـ الموافق 14-4-2014 م.

(184) البقرة31-32.

(185) نهج البلاغة الخطبة109.

(186) الغيبة ص44.

(187) الإسراء1.

(188) ألقيَ هذا البحث يوم السبت 19 جمادى الثاني 1435 هـ الموافق 19-4-2014 م.

(189) الأحزاب40.

(190) النساء113.

(191) القلم4.

(192) تاريخ مدينة دمشق ج54 ص197.

(193) تفسير الرازي ج32 ص21.

(194) يونس35.

(195) الزمر9.

(196) النصُّ منقولٌ بالمعنى، ويمكن الرجوع لنَصِّ ما نقله الفخر الرازي في تفسيره ج32 ص21.

(197) ألقيَ هذا البحث يوم الإثنين 21 جمادى الثاني1435 هـ الموافق 21-4-2014 م.

(198) تذكرة الحفاظ ج1 ص16.

(199) تذكرة الحفاظ ج1 ص13.

(200) تذكرة الحفاظ ج1 ص14.

(201) تذكرة الحفاظ ج1 ص16.

(202) فيض القدير ج3 ص60.

(203) ألقيَ هذا البحث يوم السبت 26 جمادى الثاني 1435 هـ الموافق 26-4-2014 م.

(204) تذكرة الحفاظ للذهبي ج1 ص40، وسائر ما نقل عن ابن عباس فمن هذا المصدر.

(205) تذكرة الحفاظ للذهبي ج1 ص41.

(206) المعجم الكبير للطبراني ج10 ص240، ومجمع الزوائد للهيثمي ج9 ص158.

(207) ألقيَ هذا البحث يوم الإثنين 28 جمادى الثاني 1435 هـ الموافق 28-4-2014 م.

(208) من المصادر التي ذكرته بهذا اللفظ مناقب عليّ بن أبي طالب (ع) لابن المغازلي ص93.

(209) البقرة127.

(210) البقرة129.

(211) الصافات6.

(212) البقرة269.

(213) النساء54.

(214) لقمان12.

(215) النحل125.

بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

  طباعة  | |  أخبر صديقك  | |  إضافة تعليق  | |  التاريخ : 2022/07/26  | |  القرّاء : 1785



للإنضمام إلى قناة العلم والإيمان (أنقر على الرمز الخاص) ->
| تلغرام | واتساب | يوتيوب | فيسبوك | انستغرام |


كتابة تعليق لموضوع : الفصل الثاني: الإمامة والسنة النبوية
الإسم * :
الدولة * :
بريدك الالكتروني * :
عنوان التعليق * :
نص التعليق * :
 

تصميم، برمجة وإستضافة :
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net