الله تعالى قادرٌ على كلّ شيء، هي عقيدةٌ قطعيةٌ لدى المؤمنين بالله تعالى مع تَنَوُّعِ أديانهم، ترجع إلى جذورٍ عقليّةٍ ونقليّة، فالإلهُ الحيُّ العالِمُ لا بدّ أن يكون قادراً، ولا بدّ أن تكون قدرته غير محدودةٍ وإلا لزِم منه الضعف والحاجة وغير ذلك.
دعمت الكتب المنسوبة للسماء هذا القول وصرّحت به، ففي العهد القديم: الله القَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ(1)، وفي العهد الجديد: لأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَى الله(2).
أما القرآن الكريم، فقد ذُكِرَت فيه ألفاظً تدلّ على كونه تعالى على كل شيء قدير 35 مرة، ومنها قوله تعالى: ﴿إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾(3).
وههنا سؤالان في غاية الأهمية:
1. هل يمكن أن يعمل الله المتناقضات؟
2. هل يمكن أن تجتمع في الله المتناقضات؟
1. هل يمكن أن يعمل الله المتناقضات؟
قد يتوهّم الإنسانُ إمكان أن يعملَ اللهُ المتناقضات، لأنّ الجمع بين المتناقضات إنما يكون غيرَ مقدورٍ بالنسبة للإنسان لمكان العَجزِ عنده، فالإنسانُ مفتقرٌ في أصل وجوده لله تعالى، ومحتاجٌ في بقائه له عزّ وجل، فهو يتمكّن من أن يأتي بما أقدَرَهُ الله تعالى عليه حصراً، وليس من ذلك الجمع بين المتناقضين.
أما الله تعالى، فبما أنه (على كل شيءٍ قدير)، فهو إذاً قادرٌ على الجمع بين المتناقضين.
ويلاحَظُ على هذا التَوَهُّم عجزَ أصحابه عن التمييز بين أمرين:
أوّلُهما هو المُمكِنُ في نفسه، أي الذي يكونُ قابلاً للتحقق في نفسه.
وثانيهما هو المُمتَنِعُ في نفسه، أي الذي لا يمكن في نفسه أن يتحقق. بغَضِّ النظر عن قدرة الفاعل على الفعل فيهما.
ولا ريبَ في أنّ الله تعالى قادرٌ على كلِّ شيءٍ ممكِنٍ في نفسه، أمّا ما لا يكونُ ممكِناً في نفسه فإنّه غير قابل للتحقُّق رأساً، فلا يوصَف بعدم القدرة عليه لعدم إمكان تحققه.
رغم ذلك وقع بعض المتوهمين في هذه الشبهة وقالوا بإمكان الجمع بين المتناقضين في القدرة الإلهيّة، فابن عربّي مثلاً يعتقد بأن كل ما حكم العقل باستحالته هو واقعٌ فعلاً في أرض الحقيقة! حتى اجتماع الضدين، قال: وأهل هذه الأرض أعرَفُ الناس بالله، وكلُّ ما أحاله العقل بدليله عندنا وجدناه في هذه الأرض ممكناً قد وقع، وإن الله على كل شيء قدير، فعَلِمنَا أن العقول قاصرة وأن الله قادرٌ على جمع الضدين(4).
لكن موقفَ عموم النصارى والمسلمين كان مخالفاً لهذا الوهم.
أما عند النصارى، فقد قال القديس توما الأكويني: إنّ الاجماع منعقدٌ على أن الله قادرٌ على كل شيءٍ(5).. إنّ المعنى الأحقّ في القول أنّ الله يقدر على جميع الاشياء أنّه يقدر على جميع المُمكِنات، وبهذا الاعتبار يُقال له قادرٌ على كل شيء.. إنما يوصَفُ الله بالقدرة على كل شيءٍ لأنّه يقدر على جميع الممكنات بالإطلاق.. إنما ينافي حقيقة الممكن المطلق المقدور لله ما يتضمّن في نفسه الوجود واللاوجود معاً، لأنّ هذا غير مقدور لله، لا لنقصان القدرة الإلهية بل لامتناع أن يكون له حقيقة المفعول والممكن(6).
وبما أن كلمات رسل السماء لم تصل كلّها لسَمع القديس توما، فإنّه نَسَبَ لله تعالى عدم القدرة على الممتنع بقوله (هذا غير مقدور لله) وإن كان يعتقد أن عدم القدرة راجعٌ لامتناع الشيء في نفسه.
ولعلّه لو سمع حديث عيسى بن مريم (عليه السلام) لنَزَّهَ لسانه عن نسبة عدم القدرة لله تعالى حتى بهذا المعنى، فقد روينا عن إمامنا جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) قوله: جَاءَ إِبْلِيسُ إِلَى عِيسَى (عليه السلام) فَقَالَ: أَ لَيْسَ تَزْعُمُ أَنَّكَ تُحْيِي المَوْتَى؟
قَالَ عِيسَى: بَلَى.
قَالَ إِبْلِيسُ: فَاطْرَحْ نَفْسَكَ مِنْ فَوْقِ الحَائِطِ.
فَقَالَ عِيسَى: وَيْلَكَ، إِنَّ العَبْدَ لَا يُجَرِّبُ رَبَّهُ.
وَقَالَ إِبْلِيسُ: يَا عِيسَى: هَلْ يَقْدِرُ رَبُّكَ عَلَى أَنْ يُدْخِلَ الأَرْضَ فِي بَيْضَةٍ وَالبَيْضَةُ كَهَيْئَتِهَا؟
فَقَالَ: إِنَّ الله تَعَالَى لَا يُوصَفُ بِعَجْزٍ، وَالَّذِي قُلْتَ لَا يَكُونُ(7).
فما سأله إبليس مستحيلٌ في نفسه، دون أن يوصَفَ الله تعالى بالعجز.
وجواب عيسى (عليه السلام) لن يكون مغايراً لجواب أمير المؤمنين ومولى الموحدين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فعَنْ الإمام الصادق (عليه السلام) قَالَ: قِيلَ لِأَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): هَلْ يَقْدِرُ رَبُّكَ أَنْ يُدْخِلَ الدُّنْيَا فِي بَيْضَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُصَغِّرَ الدُّنْيَا أَوْ يُكَبِّرَ البَيْضَةَ؟
قَالَ: إِنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا يُنْسَبُ إِلَى العَجْزِ، وَالَّذِي سَألتَنِي لَا يَكُونُ(8).
ولعلّ الأكوينيّ عاد وتَنَبَّه إلى بعض هذا المعنى، دون أن يتمكّن من صياغته بما يخلو من نفي قدرة الله تعالى، فقال: فاذاً كلّ ما ليس يتضمن تناقضاً فهو يندرج تحت تلك الممكنات التي بالنظر إليها يُقال لله: قادرٌ على كل شيء، وأما ما يتضمن تناقضاً فلا يندرج تحت قدرة الله على كل شيء، لامتناع أن يكون له حقيقة الممكن، فلأن يقال: انه لا يمكن فعله أولى من أن يقال ان الله لا يقدر أن يفعله، وليس هذا منافياً لقول الملاك (ليست كلمةٌ مستحيلةً لدى الله) لأنّ ما يتضمن تناقضاً لا يمكن أن يكون كلمةً لأنه لا يمكن لعقلٍ أن يتصوره(9).
فقدّ عد القولَ الثاني الذي لا يتضمّن نسبة العجز لله تعالى أولى من الأول، وهو كذلك، إلا أن الأوّل لا يصح وقد استعمله بنفسه في الله تعالى مراراً، فقال: ان ما يتضمّن تناقضاً ليس مقدوراً لله.. ان قولنا سقراط جالسٌ وغير جالسٍ معاً يتضمن تناقضاً، وكذلك قولنا سقراط جلس ولم يجلس معاً(10).
وليس الامر مقصوراً عليه، فهذا مقدار معرفتهم، وسار عليه سواه، يقول جون كلايد تارنر عن الله تعالى أنّه: كليّ القدرة. إن الله كليُّ القدرة يملك كل القوى.. وبالطبع هذا لا يعني أن الله يستطيع أن يعمل أشياء تضادّ طبيعته، فقد أعلن بولس أن الله لا يستطيع أن يكذب.. كما أنّه لا يعني أن الله يستطيع أن يعمل أشياء تناقض بعضها بعضاً. لأن هذا يعني إنكار طبيعته(11).
والغرض من نقل هذه الكلمات هو التأكيد على عدم قبول المتناقضات في كلّ مجالٍ، حتى فيما يُنسِبُ لله تعالى من أفعال، فلو نَسَبَ أحدهم لله تعالى فِعلَين متناقضين لَزِمَ عدم تصديق ذلك، لأن المتناقضين لا يجتمعان حتى في فعل الله تعالى لاستحالة ذلك في نفسه.
2. هل يمكن أن تجتمع في الله المتناقضات؟
إذا كان الإنسان على يقينٍ أن الجمع بين المتناقضات غير ممكن فيما يراه في حياته، ثم تيقّن أن الجمع بين المتناقضات غير ممكن حتى في أفعال الله تعالى وهو القادر القاهر القوي العليم، فهل يا ترى يمكن أن تجتمع المتناقضات في الذات الإلهية المقدسة؟!
أليس القول بالتناقض في أفعال الله (والعياذ بالله) أهون من القول بالتناقض في ذاته تعالى؟! فإذا كان الأول مرفوضاً كيف يكون الثاني مقبولاً؟!
إذا كنا لا نقبلُ كون عيسى (عليه السلام) أو بطرس موجوداً وغير موجودٍ في الوقت والظرف عينه، لاستلزامه الجمع بين المتناقضين، هل يمكن أن نقبل اتّصافَ الله تعالى بصفتين متناقضتين؟ كأن يكون واحداً ومُتَعَدِّدَاً؟ أو بسيطاً ومُرِكَّبَاً؟ أي غير مُرَكَّبٍ ومُرَكَّب! أو يكون موجوداً في المكان وغير موجودٍ فيه! إن هذا يعني سقوط أسس الأدلة العقلية، فلا يبقى حجرٌ على حجرٍ في المنظومة الفكريّة البشرية.
قد يُقال: دلّت النصوص الدينية المُتَّفَقُ على صحّتها على اتّصاف الله بالمتناقضات، من ذلك وصفه بالرحمة ووصفه بشدة العقاب، وأمثال ذلك.
والجواب: أن الرحمة والعقاب من صفات الفعل لا صفات الذات، فترجع إلى سؤال الجمع بين المتناقضات في عمل الله، ومن الواضح أن مَصَبَّ رحمة الله مختلفٌ عن مَصَبِّ عِقابه، فما عدا الرحمة العامة، قد يخص الله بعض عباده برحمةٍ خاصّةٍ لطاعتهم له، وقد يعاقبهم لعصيانهم له، فلا يجتمع العفو مع العقاب على فعلٍ واحدٍ من جهةٍ واحدة، فلا اجتماع للمتناقضين، وهكذا.
إذا تبيّن هذا نتساءل: هل تتضمّن عقيدة النصارى في الثالوث جمعاً بين النقيضين كي تكون غير ممكنة في نفسها أم لا؟
يتضح ذلك بالبيان التالي:
1. الله تعالى واحدٌ.
2. الله تعالى بسيطٌ (غير مركب).
3. الآب والابن والروح القدس هم الله، ويصح أن نقول: الله الآب، والله الابن، والله الروح القدس، ويصحُّ أن نطلق على كلّ واحدٍ منهم أنّه الله.
بالنظرة البدويّة يبدو التناقُضُ جليّاً، فكيف يكون الله كلَّ واحدٍ منهم، وكيف يكون الله ثلاثتهم؟ ويكون الله واحداً؟
محاولةُ دفع التناقض كانت بالتمييز بين الجوهر والأقانيم (الأشخاص) وفق مقدمتين:
1. أن الله تعالى واحدٌ في جوهره.
2. أن الله تعالى متعدِّدٌ في أقانيمه.
فهل يُدفَعُ التناقض العقليُّ بذلك؟
نعم يُدفع التناقض العقلي بذلك، على فرض الالتزام بمؤدّى هاتين المقدّمتين، وهو تعدُّد الله تعالى، فيخرج النصارى بذلك عن الوحدانيّة حقيقةً ويدخلون في باب الشرك بالله تعالى.
لكنّ النصارى يرفضون ذلك، ويقولون لسنا مشركين بالله تعالى، ولا تَعَارُضَ في كلامنا!
نقول: لو قال مشركٌ:
1. أنا أؤمن بأن الله واحدٌ في الجوهر.
2. وأؤمن بأن أقانيمه أو أشخاصه أو مصاديقه ثلاثة.
3. وأن كل واحدٍ من الثلاثة بسيطٌ غير مركب.
لقلنا له: لا تَنَاقُضَ في كلامك، لكنّ كلامك شركٌ! وأنت غير مؤمن بالله الواحد الأحد الذي نؤمن به.
لكن النصارى يأخذون من قول الموحدين أنّهم موحدون، ويأخذون من قول المشرك وجود الأقانيم الثلاثة، ثم يزعمون إمكان الجمع بين كل ذلك، وهذا في حقيقته جمعٌ بين المتناقضين.
فإنه يلزم منه:
1. إثبات الوحدانية التي تعني أن لا إله إلا الله.
2. إثبات الثالوث الذي يعني أن عيسى والروح القدس شركاء مع الله.
وهو جمعٌ بين المتناقضين.
ثم يقولون: نحن لا نزعم أنهم شركاء لله، لأنهم هم الله.
فنقول: إذا الله متعدِّدٌ؟! إنّ هذا شِركٌ.
فيقولون: كلا، يكفي الوحدة في الجوهر لنفي التعدُّد!
هو خلطٌ بين المفاهيم للتخلُّص من إشكال الجمع بين المتناقضين، ومِن استلزام هذا القول للشرك بالله تعالى.
وللتَخَلُّص من هذا الإشكال، لجأ علماء النصارى إلى جوابٍ خلاصته القول بأن الثالوث أمرٌ فوق العقل ولا يناقضه! وقد تبيَنت المناقضة جليّة.
وفيما يلي كلماتهم في دعواهم.
1. القول بأنه فوق العقل وغير مناقض له
اختلفت كلمات علماء النصارى في توجيه القول بالثالوث والوحدانيّة معاً، فذهب قسمٌ منهم إلى أنه ليس ضد العقل بل فوقّه، رغم ذلك حاولوا الجمع بين القولين بالاختلاف في الجهة، الذي مآله الى القول بالشرك! حيث يصبح لله ولعيسى وللروح القدس كلُّ صفات الألوهيّة الكاملة، فيكون شِركاً حقيقياً تحت ستار التوحيد في الجوهر.
وهنا بعض كلماتهم التي يحاولون عبرها التخلص من إشكال التناقض بكون هذه العقيدة فوق العقل، فيقعون في إشكال الشرك بالله تعالى.
الايمان ليس ضد العقل، بل فوقه!
يقول القس ابراهيم القمص عازر تاوضروس: كيف يمكن للمحدود أن يدرك اللامحدود؟ وهذا لا يعني أن الأمور الإيمانية هي ضد العقل، فهذا ليس صحيحاً، لأن الأمور الإيمانية ليست ضد العقل، ولكنّها فوق العقل، وهنا يأتي الإيمان مكمِّلاً لدور العقل المحدود.. فلا تَعَارُضَ إذن بين العقل والإيمان فكلاهما يُكمِّلُ الآخر.. وهنا يظهر واضحاً أننا لا نلغي العقل أو نُهَمِّش دوره، فهو مطلوبٌ ولكنّه ليس هو الذي نقيس به صحة الإيمانيات أو نحاول فهمها به فقط(12).
يذهب القسّ إذاً إلى عدم التعارض بين العقل والإيمان، ويلتزم بعدم إلغاء دور العقل، إلا أنّ الأمور الإيمانية لا تُقاسُ بالعقل فقط كما يقول.
وههنا مغالطةٌ فيها خَلطٌ بين أمرين، ما يحكمُ العقل باستحالته، وبين ما لا يحكم العقل باستحالته.
ويلاحظ على هذا الكلام:
أولاً: إن كون الأمور الإيمانية كلُّها لا تُقاس بالعقل صحيحٌ بمعنى أن العقل لا يدرك الأمور الإيمانية كلها، إنما تدل عليها الشرائع، التي دلّ العقل على صحتها، فيكون المرجع الأول في قبولها هو العقل ولو لم يعرف وجه الحكمة فيها، وفي هذه الموارد يصحُّ القول أن الأمور الإيمانية فوق العقل بهذا المعنى.
ثانياً: أنّه لا يمكن الجمع بين الإيمان بالمستحيلات وبحكم العقل معاً، لأنّ حُكم العقل هو امتناع وقوعها كالجمع بين النقيضين مثلاً، فلا يجتمع الإيمان بها مع حكم العقل باستحالتها، ولا بدّ أن يكون حكمُ العقل مُقَدَّمَاً، فإنها مناقضةٌ للعقل وليست فوقه.
وإشكالنا في هذه الصورة، حيث يحكم العقل باستحالة الثالوث كما تقدّم، فلا يمكن المصير إلى الإيمان به، وإلا كان تعطيلاً لدور العقل فيما من شأنه أن يكون حاكماً فيه.
لكن القسّ عازر تاوضروس يحاول نفي التناقض بين الوحدانية والثالوث، فيقول: لا يوجد أدنى تعارضٍ بين الوحدانية والثالوث، ومن يظن أو يعتقد أن هناك تعارضاً بين الوحدانية والثالوث فهو مُخطئ تماماً، فلا تعارض أبداً، بل هناك تكاملٌ.. بل نستطيع أن نقول العكس، وهو أن عدم الإيمان بالثالوث هو إنقاصٌ لكمال الله! وهو أمرٌ لا يمكن أن نقبله(13).
ويقول: نقول انه لا تعارض على الإطلاق، بل الثالوث هو كمال الله، هو قمّة التوحيد، ولا قيام لله الحقيقي بدون الثالوث. إذن لا تعارض بين الوحدانية والثالوث(14).
نقول: تقدّم أن نفي التعارض غير ممكن إلا بتعدُّد الآلهة، أي التعدد في الذات الإلهية، وهو نفسه تعدُّد الأقانيم، فمن أصرّ على نفي التناقض إنما كان مآل كلامه إلى عبودية الآب والابن والروح القدس، وهو شركٌ بالله تعالى، وقد تقدّم منا أن المشرك القائل بالثالوث لا يناقض نفسه، لكن الموحد القائل بالثالوث يناقض نفسه.
والقسّ هنا يؤكد على التوحيد وعلى التثليث معاً، بل يزعم أنّ عدم الإيمان بالثالوث فيه نقصٌ لكمال الله تعالى، وكل هذا راجعٌ إلى عدم التمييز بين صفات الذات وصفات الفعل كما تقدم.
أما على ماذا تستند محاولة القسّ في رفع التناقض؟
إنها ترجع إلى أن التناقُضَ هو تناقُضٌ بَدويٌّ، ومع التأمُّل فيه يظهر ارتفاعه تماماً، لاختلاف جهة الوصف بين الواحد والثلاثة، فيقول: إذا وُصف الإنسان مثلاً بأنه واحدٌ وثلاثة، فإن هذا الوصف يبدو لأوّل وهلةٍ متعارضاً مع الحقيقة المعروفة لدينا، لأنه لا يمكن أن يكون شخصٌ ما واحداً وثلاثة. لكن إذا تبيّن لنا أنّه يقصد بهذا الوصف أن الإنسان واحدٌ من جهة المظهر، وثلاثةٌ من جهة الجوهر، فإن الشكّ في صحة هذا الوصف يزول من أمامنا، لأننا نعلم أن الإنسان واحدٌ في مظهره، وفي الوقت نفسه هو في جوهره مُكَوَّنٌ من ثلاثة عناصر متكاملة: هي الجسد والنفس والروح. وعلى هذا القياس، مع مراعاة الفارق الذي لا حدَّ له بين الوحدانية الإلهيّة والوحدانيّة البشريّة، لأن الأولى غير مركّبة وغير محدودة، أما الثانية فمركبة ومحدودة، نقول: ان الله واحدٌ في جوهره ومثلثٌ في أقانيمه، إذاً الله واحدٌ من جهة، وجامعٌ أو شاملٌ من جهةٍ أخرى، دون أن يكون هناك أيُّ تعارضٍ أو تناقضٍ في جوهره(15).
إذاً يرفع القسُّ التناقضَ باختلاف الجهة، فجهة الوحدة هي الجوهر، وجهة الكثرة هي الأقانيم، أي الأشخاص، فيرجع إلى الشرك بالله تعالى.
فلا خيار أمام النصارى إن تمسكوا بالثالوث إلا القول بالتناقض أو الشرك، ولا يكفي التمسُّك بعدم إمكان قياس الوحدانيّة الإلهيّة على البشريّة، بعد فرض التثليث البشريّ غير قابل للنُطقِ إلا على فرض القول بالتركيب، فلو لم نَقُل بالتركيب كان الكلام متعارضاً فعلاً.. وهو ما يُثبِتُ التعارض عند القول بالتثليث.. فلا بُدَّ إما من القول بالتركيب أو نفي التوحيد.
الثالوث فوق العقل ولا يناقضه
يقول عوض سمعان: أمام القول بأن وحدانيّة الله هي وحدانيةٌ جامعةٌ مانعة، لا يجدُ العقل مجالاً للاعتراض.. لأن الله عجيبٌ في ذاته، ولا يمكن الإحاطة به إطلاقاً. ومع كل، فإنه وإن كان يسمو فوق إدراك العقل إلا أنه ليس ضده. وهناك فرقٌ كبير بين الأمور التي تسمو فوق العقل وتلك التي لا تتفق معه، فالأولى هي التي تتفق معه في أساسها لكن لسُمُّوها لا يستطيع الإحاطة بكنهها.
أما الثانية فإنها لا تتفق معه إطلاقا، لا في أساسها أو في كنهها.. إذا قلنا إن الله يحب الخطيئة فلا يكون ذلك أسمى من إدراك العقل بل يكون ضده(16).
ويقول سمعان: الكتاب المقدس يحوي إعلاناتٍ لا يستطيع العقل أن يحكم فيها، هي الاعلانات الخاصة بذات الله. ولكن شكراً له، لأنّه وإن كان العقل لا يستطيع أن يحكم فيها إلا أنه لا يستطيع أن ينقضها لأنها ليست ضدّه بل أسمى من إدراكه.. لأن هذه لا يمكن للعقل أن يضعها موضع الفحص والبحث(17).
إذا لم يكن للعقل أن يضعها في موقع البحث مطلقاً كونها خاصة بذات الله، يلزم أن يكون بالإمكان الالتزام بأن الله بسيطٌ ومركّبٌ في الوقت نفسه، لو كان قد نزل إعلانٌ سماويٌّ بذلك! وكما لزم أن نحكم بامتناع حبّ الله للخطيئة، لأن هذا ينافي كماله عزّ وجل، كذلك يلزم الحكم بامتناع الجمع بين التثليث مع التوحيد للمنافاة بينهما.
إن ما يمكن قبول كونه فوق العقل هو ما لا يقرُّ العقل بامتناعه في نفسه، ثم لا يجد سبيلاً لإدراكه، فيمكن للإعلان السماوي أن يبيّنه ويرشد العقلَ إليه كحال معظم التشريعات السماوية.
الثالوث ليس مناقضاً للعقل ولا يلزم منه اجتماع النقيضين
يقول القمص سرجيوس: نقول نحن المسيحيين: أن الله واحدٌ بالنظر إلى ذاته، وثلاثةٌ بالنظر إلى أٌقانيمه، التي هي كلمة الله وروحه.. واننا نقول جميعاً بذاتٍ واحدةٍ إلهيةٍ، لا تعدُّدَ في الذات، وانما التعدُّدُ في الأقانيم، فهذا القول ليس مناقضاً للعقل، ولا يلزم عليه اجتماع النقيض، ولا ينسبُ لله التركيب، ولم يَقُل أحدٌ من المسيحيين أن الله مركب، فهو مُنَزَّهٌ عن التركيب وعن الجسم والعرض(18).
فتخلَّصَ من التناقض باختلاف الجهة، وهو ما يلزم منه الشرك لتعدُّد الأقانيم.
ثم يقول: فالتثليث ليس فيه ما هو مستحيلٌ ولا ما هو مضادٌ للعقل، لأننا لا نقول: ان الله ثلاثة جواهر بل ثلاثة أقانيم في جوهرٍ واحد. ففيه وحدةٌ وتعدُّد: وحدةٌ في الجوهر وتعددٌ في الأقانيم، والاقنوم غير الجوهر. ولو كان كلامنا ان الثلاثة أقانيم هي اقنومٌ واحدٌ لكان ذلك محالاً ومٌضاداً للعقل والبديهة. ولو قلنا ان الله ثلاثة جواهر وهذه الجواهر الثلاثة هم جوهرٌ واحدٌ لكان ذلك محالاً ومضاداً للعقل. ولكننا نقول ان الله ثلاثةٌ باعتبار، وواحدٌ باعتبارٍ آخر. فنحن متّفقون مع جميع الموحدين في العالم، الله ذاتٌ واحدةٌ، جوهرٌ واحدٌ، ومنفردون بالاعتقاد أنه ثلاثة أقانيم، وتصورنا ان الاقنومية ليست عين الذاتية.
يقول المعترضون: انه لا يوجد في كلّ الخليقة مثالٌ لهذا التعبير، لأنّ كل ذاتٍ في الملائكة والناس هي أقنومٌ، وكل أقنومٍ هو ذاتٌ ممتازٌ عن غيره، فكيف يمكن أن يكون الله ثلاثة أقانيم ولا يكون ثلاثة ذوات؟
الجواب على هذا بأن ليس لله مثيلٌ في الخلق، وقد قرّر علماء الاسلام أنفسهم ان الذات الالهية مغائرة لسائر الذوات.. فانّه لو كانت الذات الالهية محدودةً كالبشر والملائكة لأمكن للعقل البشريّ أن يعلِّلَ عنها أو يحكم باستحالة تعدُّد الأقنوميّة فيها، ولكن بما أنّ عقولنا لم تُخلَق لتحكم ولتدرك الجوهر الالهيّ والاقانيم الالهيّة، فلا حق لها أن تحكم باستحالة وجود ثلاثة أقانيم في الله(19).
أقول: معنى كلامه وإن كان في ظاهره نفي التناقض، إلا أنه يستبطن التسليم بأنّ ما التزموا به تناقضٌ واضحٌ لو كان الحديث عن المخلوق. ولكن بما أنّه حديث عن الخالق غير المحدود فلا يكون تناقضاً!
وهذه مغالطةٌ واضحة، ولها لوازم فاسدة، ويناقضها ما تقدّم من عدم إمكان اجتماع المتناقضين في الله تعالى.
أمّا أنّها مغالطة: فلأنّ العقل الذي يقرُّ بعدم إدراك الذات الالهية، لا يُقرُّ بأنّه ليس له أن يحكم عليها بالأحكام العقلية القطعية، التي منها عدم اجتماع المتناقضين.
مثلاً: لو لم يكن للعقل أن يحكم على الذات الالهية مطلقاً لأنها غير قابلةٍ للادراك، لما أمكن له ان يحكم أو يدرك بأنها موجودةٌ، ولا بأنها كاملةٌ، ولا بأنّها منزّهةٌ عن النقائص، وهذه الأحكام كلها لا تُنافي عدم إمكان الإحاطة بالذات الإلهية.
والتسليم بأن العقل يوصل لله تعالى ويدرك أنه قادرٌ حكيمٌ عالم، يفتح لنا باب الأحكام العقلية القطعية بمقدار إدراكنا.
مثلاً: يقول العقل: الله عادلٌ، والعدل يقتضي استحالة ان يعاقب الله المؤمنين والمحسنين ويكرم العاصين.
لكن لازم كلامهم استحالة الحكم بذلك، لأنّ العدل صفةٌ من صفات الله، وهذه الصفات لا يقدر العقل على الحكم باستحالة شيء فيها.
ويحكم العقلاً مثلاً باستحالة أن يخلق الإلهُ إلهاً آخر لامتناع ذلك، بينما لازم كلامهم ان ليس للعقل الحقُّ في الحكم باستحالة خلق الإله لإله الآخر.
ولما كان اللازم فاسداً تبعه الملزوم في الفساد.
فما المانع على مبناهم أن يقول قائل: الله عادلٌ، ومع كونه عادلاً له أن يعاقب المطيع ويثيب العاصي؟ وهذا ممكنٌ لأن الذات الالهية غير محدودةٍ ولا يمكن للعقل أن يحكم عليها.
لا يقال: إن هذا لازمُ كلامهم، لكنهم لا يلتزمون به.
لأننا نقول: عدم التزامهم به هو التناقض بعينه، فمنعهم عن الحكم باستحالة اجتماع المتناقضين في الذات الإلهية، مع قولهم بالتوحيد والتثليث تناقضٌ بَيِّن.
فإما أن تكون أحكام العقل القطعيّة مقبولةً أو غير مقبولة، بعيداً عن الإحاطة بالذات الإلهية المقدسة.
فإن كانت مقبولة بطل التثليث للزوم التناقض منه، وإن لم تكن مقبولة لم يمكن نفي الظلم عن الله تعالى ولا أمكن التعرُّف عليه تعالى بالعقل ووصفه بصفات الكمال.
وكان للمحلد حينها أن يحتجّ علينا بقوله: دلالة عقلكم على وجود إلهٍ يعجز العقل عن إدراكه ليست حجة ولا هي مقبولة، لأنكم لا تقبلون تحكيم العقل في معرفة الله، فلا نقبل تحكيمه في معرفة وجوده ولا في اتصافه بالعدل ونفي الظلم عنه.
ولا يبقى حينها للنصراني حجةٌ على الملحد.
لقد غاب عن القساوسة والرهبان والآباء أن حجج الله تعالى تتعدَّدُ ولكنّها لا تختلف، وقد روينا عن إمامنا الصادق (عليه السلام) قوله: إِنَّ لله عَلَى النَّاسِ حُجَّتَيْنِ: حُجَّةً ظَاهِرَةً وَحُجَّةً بَاطِنَةً، فَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَالرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَالْأَئِمَّةُ (عليهم السلام)، وَأَمَّا الْبَاطِنَةُ فَالْعُقُول(20).
ومن المحال أن تخالف الحجةُ الظاهرةُ حجّةَ الله الباطنة، فلا يُعقَل تَفَوُّه الأنبياء والرسل بالثالوث لمنافاته التوحيد، ومِثل هذه المنافاة يدركها العقل جَليّاً، لكن التعمية عليها بحجّة أن الذات الإلهية فوق الإدراك هو مصادرةٌ وتعطيلٌ لحكم العقل فيما من شأنه إدراكه.
وقد نبّه الإمامُ المعصومُ من هَدم العقل، فتنهدم بذلك الحجة الباطنة، فلا يبقى ميزانٌ للتمييز بين أنبياء الله وبين من يصفهم الإنجيل بالأنبياء الكذبة، يقول (عليه السلام): مَنْ سَلَّطَ ثَلَاثاً عَلَى ثَلَاثٍ فَكَأنَّمَا أَعَانَ عَلَى هَدْمِ عَقْلِهِ: مَنْ أَظْلَمَ نُورَ تَفَكُّرِهِ بِطُولِ أَمَلِهِ، وَمَحَا طَرَائِفَ حِكْمَتِهِ بِفُضُولِ كَلَامِهِ، وَأَطْفَأَ نُورَ عِبْرَتِهِ بِشَهَوَاتِ نَفْسِهِ، فَكَأَنَّمَا أَعَانَ هَوَاهُ عَلَى هَدْمِ عَقْلِهِ، وَمَنْ هَدَمَ عَقْلَهُ أَفْسَدَ عَلَيْهِ دِينَهُ وَدُنْيَاهُ(21).
لا تناقض بين كونهم واحداً في ثلاثة!
يقول الاب فاضل سيداروس: يعثر العقل حقيقةً أمام الوحي المسيحي من وحدانية الله المطلقة التي لا تقبل على الإطلاق تعدُّد الآلهة، وممّا تؤمن به المسيحية من تمايز الأقانيم الإلهيّة الثلاثة الذي يقرّ بتعدد وجوه الله.. يبدو لأوّل وهلةٍ أن هاتين الحقيقتين متعارضتان متناقضتان مخالفتان لمنطق العقل: فإما أن يكون الله واحداً، وإما أن يكون ثلاثة، ولا يمكن قبول أن يكون واحداً وثلاثة في آنٍ واحد. فكيف يمكن التوفيق بين وحدانية الله / التمايز في الله؟(22).
ثم يقول: إن المنطق الأرسطوطالي قد يقرّ بالتباين بين حقيقتي الوحدانية/ التمايز. وأما المنطق الجدلي Dialectique فيدمجهما، ولنضرب مثلاً بشريّاً سيساعدنا على فهم جدلية الوحدانية / التمايز الإلهية. إن الرجل والمرأة شخصان مختلفان مستقلان متمايزان تماماً، وهما في الوقت نفسه واحد!
فهما واحدٌ في اثنين واثنين في واحد، ولا تناقض بين كونهما اثنين وواحداً معاً، فالجدليّة تسمح بما يبدو لأوّل وهلة متعارضاً أو متناقضاً، فإنها تجمع جمعاً ائتلافياً يحترم كل الاحترام الازدواج الكامل (هما اثنان) والوحدة الكاملة (هما واحد) من دون أن يتلاشى أحد العنصرين في العنصر الآخر..
وبالتالي يمكن التساؤل: ألا يكون هذا الوضع البشريُّ هو (على صورة الله كمثاله)؟ ألا يعبِّرُ الوضع البشريُّ هذا عن حقيقة الله؟ أليس الآب والابن والروح القدس هم واحدٌ في ثلاثةٍ وثلاثةٌ في واحد، بدون أيِّ تعارضٍ أو تناقض، وبدون أيّ تلاشي أقنومٍ في الآخرَين، ولا أي امتصاص أقنومٍ للآخرين.. فإنّ تمايز الأقانيم لا يهدم وحدانية الله، وإنّ وحدانية الله لا تهدم تمايز الأقانيم(23).
أقول: إن مثل هذه الطروحات تُبَسِّطُ الخلاف العَقَديّ العميق وتُسَخِّفُه بشكلٍ غير منطقيٍّ على الإطلاق، فإنّ التعدُّد بين سمير الرجل وسميرة الأنثى هو تعدُّدٌ حقيقيٌّ واقعيٌّ خارجيٌّ يدل على وجودين مختلفين منفصلين تماماً.
وأما الوحدة بينهما فهي وحدةٌ في (الطبيعة البشرية)، لا في حقيقة الوجود الخارجي.
وعليه فعندما ننقل الكلام نفسه للثالوث، فإن أردنا أن نقول أنّ هناك ثلاثة أقانيم لكلٍّ منها وجوده الخاص، وإن كانت طبيعةُ وجودهم واحدة، عنى ذلك وجود ثلاثة أقانيم يتصف كلٌّ منها بصفات الإله!
فلا يخلو الأمر من أن تكون آلهةً ثلاثة! أو أجزاءً ثلاثة لإلهٍ واحد! وكلاهما لا يقول به المسيحي!
لذا يعثر العقل فعلاً في قولهم الذي لا يمكن تبريره بالمنطق والعقل على الإطلاق.
وبعبارة أخرى: إن أردنا تحليل قولهم: الآب والابن والروح القدس هم واحدٌ في ثلاثة وثلاثةٌ في واحد: فإن المقصود بالواحد هو وحدة الطبيعة، والمقصود بالثلاثة التعدُّد والتمايز في الأقنوم أو الشخص.
وإذا حصل التعدّد والتمايز في الأقنوم دل ذلك إما على تعدد الآلهة أو على تركيب الإله الواحد، ومع عدم الالتزام بأي منهما يقع التعارض والتناقض دون شك.
ومع الإلتزام بأي منهما يلزم الخروج عن حقيقة التوحيد.
لا يعني هذا المناقضة للعقل!!
يقول القسّ منسَّى يوحنا: أمَّا تعليم التَّثليث، فلا يدخل تحت حُكم المسائل المُناقِضَة للعقل لأنَّه ما هو التَّناقض فيه؟ هل نقول كما يتصوّر الغير أنَّ الثلاثة واحدٌ والواحد ثلاثة؟ إن قُلنا ذلك، صحّ رفض التَّثليث. ولكنّا نقول إنَّ الله جوهرٌ واحدٌ في ثلاثة أقانيم. ففيه وحدةٌ وتعدُّدٌ. وحدةٌ في الجوهر وتعدُّدٌ في الأقانيم. فلو قُلنا إنَّ الله جوهرٌ في ثلاث جواهر، أو أقنومٌ في ثلاثة أقانيم، لصار قولنا مرفوضاً. ولكنّا نقول عنه إنَّه واحدٌ باعتبارٍ وثلاثةٌ باعتبارٍ آخر، واحدٌ في الجوهر وثلاثةٌ في الأقانيم(24).
ههنا مغالطةٌ واضحة، فإن التناقض ليس في قولهم أنّه أقنومٌ في ثلاثة أقانيم أو جوهرٌ في ثلاثة جواهر، بل في قولهم أنّه ثلاثة أقانيم وأنّه إلهٌ واحدٌ وأنّه غير مركب.
بيان ذلك:
أن الإله إما أن يكون واحداً أو أن يكون متعدّداً.
وإن كان واحداً فإما أن يكون بسيطاً وإما أن يكون مركباً.
هم يقولون: الإلهُ واحدٌ، إذا يسقط القول بالتعدّد.
ويقولون بسيطٌ، فيسقط القول بالتركيب.
وفي الوقت نفسه: يقولون أنّه أقانيمُ ثلاثة، بمعنى أشخاص ثلاثة، فيرجع القول بالتعدد. وهو يناقض القول بالتوحيد، ويناقضُ الالتزام بالوحدانية.
فَهُم كنتيجةٍ يقولون أنّه واحدٌ من جهةٍ واحدةٍ ومتعدّدٌ كذلك. فيقع التناقض من جديد.
لا تناقض بين الوحدانية والثالوث
يقول الدكتور القس عماد شحادة: لا تتناقض عقيدة وحدانية الله مع عقيدة الثالوث، إذ أن وجود الأقانيم الثلاثة هو في الجوهر الواحد، أي أن لكلٍّ من الأقانيم الثلاثة الطبيعة الإلهية الواحدة نفسها(25).
وهذا كما تقدم عنه، اعترافٌ بأن الوحدة للطبيعة فقط وأن التعدُّد في الأقانيم، ما يرجع إلى الشرك بالله، ولا يقرّون به فيعود التناقض.
ويقول القمص زكريا بطرس: بدأ الربّ يعلن عن ذاته بأنّه واحدٌ في ثالوثه الأوحد، ويكشف لنا عن هذا السرّ العظيم الذي كان خَفيّاً عن البشريّة.. ان هذه العقيدة لا تتعارض مع العقل بل تُشبِعُه(26).
الثالوث ليس ضدّ العقل
يقول الدكتور القس لبيب ميخائيل: ونجيب أنّ وحدانية الله في ثالوثٍ ليست شيئاً ضد العقل، فإنّ العقل يُسَلِّمُ بالوحدانيّة الجامعة في كثيٍر من الأشياء المحيطة به دون أن يُبدي على ذلك احتجاجاً أو تَمَرُّدَاً.
- فاليوم المكوّن من 24 ساعة هو يومٌ واحد، لكنّ هذا اليوم الواحد يجمع بين المساء والصباح «وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْماً وَاحِداً» (تك 1: 5). والعقل يقبل هذه الوحدانية الجامعة للمساء والصباح بلا اعتراض.
- ولكي يستطيع الإنسان أن يحصل على حجم مكعّبٍ واحد، فلا بد أن يعرف طوله وعرضه وارتفاعه، ومع أن الطول قياسٌ قائمٌ بذاته، والعرض قياسٌ قائمٌ بذاته، والارتفاع قياسٌ قائمٌ بذاته، لكن هذه الأبعاد تُكَوِّنُ الحجم الكليّ للمكعب الواحد، ولا يمكن معرفة حجم المكعّب بغير معرفتها، والعقل يقبل هذه الوحدانيّة الجامعة في المكعّب الواحد بلا اعتراض(27).
ثم ينقل نموذجاً لبعض قساوستهم يشبّه به الثالوث بالشمس وحرارتها ونورها.
أقول: هذه الأمثال كلّها لا تخرج عن التركيب، فإن اليوم (مركّبٌ) من أجزاء هي ساعاته، وساعاته من دقائق وهكذا، والمكعّب أو أي وجود آخر غير بسيط مركّبٌ من أجزائه، يحتاج إليها وليس له وجود دونها، والله تعالى منزّهٌ عن التركيب وعن الأجزاء باتّفاق المسلمين والنصارى، وهذه مغالطةٌ واضحةٌ من القسّ ميخائيل، ولا يرتفع التناقض بقوله هذا، لأنّه:
إمّا أن يَدُلَّ على أنّ الله تعالى مُرَكّبٌ، وهم قائلون بكونه غير مُرَكَبٍ فيقع التناقض.
وإما أن يدلّ على أنّه تعالى غير مركّب، فيسقط الاستدلال رأساً بما عبّر عنه (الوحدانية الجامعة) لأنّ العقل إنّما يقبل هذا المعنى في المركّب حصراً، أما في البسيط فإنّه يحكم باستحالتها، لذا يكون التثليث مع التوحيد مستحيلاً في نفسه.
2. إثبات أنه ضد العقل
تَبَيَّنَ أن الجمع بين عقيدة التوحيد والتثليث يؤول إلى التناقض (فالواحد ثلاثة والثلاثة واحد) وإلى الشرك، من جهة لزوم تعدُّد الآلهة، مع القول بوحدة الجوهر.
ويتّضحُ التناقض مع الإلتزام بأن الثلاثة هم إلهٌ واحد، وليس كلٌّ منهم إلهاً! دون أن يلزم من ذلك تركيب ولا تعدُّد! وهو ما لا يقبله العقل البشري.
بعدما تبيّن ذلك، فإنّه لم يكن أمام عددٍ من علماء النصارى طريقٌ سوى التسليم بأن (الثالوث صليب العقل)! وأن العقل صار (ضحية الثالوث)، وأنّ علينا أن نُصَدِّقَ بالمستحيلات لو دلَّ عليها الدليلُ الإلهي! ويصبح التناقض مقبولاً في هذه الصورة! وغير ذلك مما لا يمكن لعاقلٍ أن يوافق عليه ما لم تكن قد ترسّخت في ذهنه شُبهَةٌ مَهُولةٌ قطعت الطريق على حكم العقل القطعيّ بامتناع اجتماع المتناقضين حتى في الذات الإلهية المقدسة، يسوغُ معها حينئذ الاعتقاد بأنّ الله تعالى موجودٌ وغير موجود!
ويلزم من هذا الكثيرُ من اللوازم الفاسدة التي تضرب في الصميم كلَّ حِراكٍ علميٍّ وفِكريٍّ وعقليٍّ للبشريّة.
ومن نماذج كلماتهم في ذلك:
الثالوث صليب العقل!
يقول الشمّاس اسبيرو جبّور: الثالوث هو الإلهُ الواحد، يسوع الرب الواحد هو الإلهُ والإنسانُ معاً. إنهما عقيدتان تصلبان حتّى عقل الملائكة! (28).
ويقول: التوحيد التثليثيّ، والتجسُّد الإلهيّ، صليبان كبيران لرجال الفكر(29).
وكما أطلق كلمته بكل بساطة، نجيبه بأننا نجد أنفسنا مضطرين لردِّ هذه العقيدة، حفاظاً على عقولنا من الصَّلب، ومَنعاً لها من أن يُضحَّى بها على مذبح الكهنة والقساوسة.
لم يُنعِمِ الله تعالى علينا بالعقول كي نهديها لهم لقمةً سائغةً وندعهم متحكِّمين بنا وبمصيرنا وبعقولنا بلا حُجَّةٍ ولا بيّنة!
أما لماذا يكون الثالوث صليب العقل؟ لأنّه يعني أن الواحد ثلاثة، والثلاثة واحد! وعقلُ البشر صغاراً وكباراً لا يُقرّ بذلك!
كم يكون هذا الأمر مصداقاً للآية الشريفة؟ هذا متروك لفطنة القارئ الكريم: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ الله قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾(30).
يحاول جبّور أن يخفف الوطأ بنِسبَة الصدمة للعقل اليوناني خصوصاً! وكأنّ قاعدة: (الواحد لا يساوي) ثلاثة هي قاعدةٌ منطقيةٌ يونانيةٌ حصراً! وليست قاعدةً عقليةً بشريةً لا يمكن نقضها بحالٍ من الأحوال، ويحاول أن يهوّل على النصارى الذين قد لا يقنعهم القول بالثالوث، ليقول لهم أن إنكار مفردةٍ غيبيةٍ لا يقبلها العقل سيؤدي بكم إلى الخروج عن الدين!
يقول جبّور: الدين يقوم على الإيمان بأمور غيبيّة.. إمّا أن يقبل المرء الوحيَ اليهودي - المسيحي ككلّ، وإما أن يرفضه ككلّ. التجزئة مستحيلةٌ. هناك العهد القديم توطئةٌ للعهد الجديد. مَن قَبِلَهُما قَبِلَ ما فيهما من أمورٍ تفوق العقل.. ما هي الصّدمة التي نالها العقل اليوناني؟ لم يستطع أن يفهم كيف أن الله واحد = ثلاثة(31).
مسكينٌ أنت أيُّها العقل لمّا وضعوك على الصليب!
لعلّ بولس عدو المسيحية الأول الذي صار مبشّرها الأول هو أوّل من فتح باب القول بالثالوث، ثم تبلورت عقيدةً على يد جملةٍ من آباء الكنيسة الأوائل، عقيدةٌ غاصت في البحث عن الذات الإلهية المقدسة، فأورثت التيه والضلال والحِيرة، وخرجت بنتيجةٍ غارقةٍ في التناقض المقيت.
إن ملابسات ما جرى بين النصارى في القرون الأولى للمسيحية، والخلافات العقديّة الحادة، والمجامع المسكونيّة المتضاربة، والمراسلات بين الآباء، والمواقف من مختلف الأطراف، والتي تعرّضت لها كُتُبٌ عدّة منها كتاب الشماس جبّور هذا تكشف جانباً من الضياع الذي أصاب القوم حينما غاصوا في الذات الإلهية المقدسة، وتوضِحُ جليّاً أثر الصبغة البشرية، حيث كانت بصماتها واضحةً في تحديد معالم العقيدة الكنسيّة.
أما الاختلافات المذهبيّة بينهم والتي تعدّدت خلفيّاتها فكانت أوضح نموذجٍ عن تبلوُرِ عقيدة الثالوث بحسب الخلفيّات الفكريّة المسبقة عند هذه الفرقة أو تلك.
ليس صحيحاً أنّ العقل اليونانيّ هو الذي عجز عن فهم كيف يكون الواحد ثلاثة 1=3 كما يقول جبّور.
إنما هو العقلُ البشريّ، وليس حكمه هو التوقّف والعجز عن الفهم، إنما الحكم بالاستحالة قطعاً، لذا علّقوه على صليبهم!
ومن قال بذلك لا نَعجَب أن يقول: الآب إلهٌ قائمٌ بذاته، والابن إلهٌ قائم بذاته، والروح القدس إلهٌ قائمٌ بذاته. ولكنّهم ليسوا 3 آلهة بل إلهاً واحداً غير منقسم! القول بعدم ألوهيّة الابن والروح يُزيلُ التثليث. والقول بأن الثلاثة 3 آلهة منقسمين سقوطٌ في الوثنية. فكيف يمكن إذاً التعبير عن الواحد في ثلاثة، عن 1 = 3 ؟ .. وفي هذا لا نقول إلهاً أولاً وإلهاً ثانياً وإلهاً ثالثاً. فدائماً في الثالوث، الواحد = 3. ليس العدد كما في الحساب، فالله غير قابل للزيادة(32).
ولا عجب أن يقول حينها: في سر التثليث حيث كنّا أمام واحد=ثلاثة، دون زوال الوحدة أو الثالوثية؟(33).
فليتأمّل القارئ الكريم كلامهم، وليرى انطباق حديث خامس الأئمة المعصومين عند المسلمين الشيعة عليهم، الإمام محمد الباقر (عليه السلام) حين يقول: إِنَّهُ كَانَ فِيمَا مَضَى قَوْمٌ تَرَكُوا عِلْمَ مَا وُكِّلُوا بِهِ، وَطَلَبُوا عِلْمَ مَا كُفُوهُ، حَتَّى انْتَهَى كَلَامُهُمْ إِلَى الله فَتَحَيَّرُوا، حَتَّى إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُدْعَى مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ فَيُجِيبُ مِنْ خَلْفِهِ، وَيُدْعَى مِنْ خَلْفِهِ فَيُجِيبُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ.
وفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: حَتَّى تَاهُوا فِي الأَرْض(34).
هل يريد النصارى أن يعرفوا ما الذي أوصل آباء الكنيسة وكبار القساوسة إلى صلب العقل؟!
لعلّهم لم يسمعوا كلمات النور من منبعها الصافي بعدما تلاعب بها هؤلاء القساوسة، وها نحن ننقلها من النبع الصافي، العترة الطاهرة لنبي الإسلام محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث بيّنوا الأمر جلياً فقالوا فيما روي عنهم:
1. عن أبي عبد الله (عليه السلام): إِيَّاكُمْ وَالتَّفَكُّرَ فِي الله، فَإِنَّ التَّفَكُّرَ فِي الله لَا يَزِيدُ إِلَّا تَيْهاً، إِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ ﴿لا تُدْرِكُهُ الأَبْصارُ﴾ وَلَا يُوصَفُ بِمِقْدَارٍ(35).
2. وعنه (عليه السلام): يَا مُفَضَّلُ، مَنْ فَكَّرَ فِي الله كَيْفَ كَانَ هَلَك(36).
3. وعن أبي جعفر (عليه السلام): ٍ تَكَلَّمُوا فِي كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَتَكَلَّمُوا فِي ذَاتِ الله(37).
4. عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إِيَّاكُمْ وَالتَّفَكُّرَ فِي الله، وَلَكِنْ إِذَا أَرَدْتُمْ أَنْ تَنْظُرُوا إِلَى عَظَمَتِهِ فَانْظُرُوا إِلَى عَظِيمِ خَلْقِهِ(38).
5. عن أبي عَبْدِ الله (عليه السلام): مَنْ نَظَرَ فِي الله كَيْفَ هُوَ هَلَكَ(39).
6. وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): مَنْ تَفَكَّرَ فِي ذَاتِ الله ألحدَ(40).
7. وعنه (عليه السلام): مَنْ تَفَكَّرَ فِي ذَاتِ الله تَزَنْدَقَ(41).
8. وعنه (عليه السلام): اتَّقُوا الله أَنْ تُمَثِّلُوا بِالرَّبِّ الَّذِي لَا مِثْلَ لَهُ.. أَوْ تُعْمِلُوا فِيهِ الفِكْر(42).
9. وعن أبي عبد الله (عليه السلام): إِيَّاكُمْ وَالكَلَامَ فِي الله، تَكَلَّمُوا فِي عَظَمَتِهِ وَلَا تَكَلَّمُوا فِيهِ، فَإِنَّ الكَلَامَ فِي الله لَا يَزْدَادُ إِلَّا تَيْها(43).
10. وعن أبي جعفر الباقر (عليه السلام): تَكَلَّمُوا فِي خَلْقِ الله وَلَا تَتَكَلَّمُوا فِي الله فَإِنَّ الكَلَامَ فِي الله لَا يَزْدَادُ صَاحِبَهُ إِلَّا تَحَيُّراً(44).
فليتأمّل متأملٌ بهذه الكلمات، وليقارن بينها وبين ما وقع فيه علماء النصارى، وليستمع لكلمةٍ تدخلُ إلى صميم القلب دون استئذان: ﴿فَذَلِكُمُ الله رَبُّكُمُ الحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾(45).
العقل ضحيّة الثالوث!
يقول القسّ منسَّى يوحنا: إنَّ الاعتقاد بسِرّ الثّالُوث الأقدس هو أعظم إكرامٍ تستطيع الخليقة أن تُقدِّمه لله، وذلك لأنَّ الإقرار بأنَّ الله أعظم من أن يُدرَك بالعقل البشريّ هو أعظمُ إكرامٍ له. ولعمري أيُّ سِرٍّ أغمض من سِرّ الثّالُوث؟ فباعترافنا إذاً بهذا السِّر نُكرِّم الله، لأنَّنا حينئذ نُضَحِّي له أعظم شيء فينا وهو العقل، وليس هذا فقط، بل إنَّنا نُضحِّيه عن نوعٍ غريب، إذ أنَّنا نعترف بسِرٍّ لا معرفة لنا به البتَّة ويستحيل على عُقُولنا القاصِرة إدراكه أو معرفته، ولكن الله قد أوحاه لنا ونحن اعتقدنا به دون أن نضعه تحت حُكم العقل، وهذا يجعل ضحيّتنا كاملةً، لأنَّنا نعتقد بما يسمو عقولنا، ويعلو فوق فهمنا البشريّ(46).
ومرّة أخرى يضحي القساوسة بعقولهم وعقول أتباعهم أمام سرِّ الثالوث الذي يُقِرُّون بعدم إدراكه أو معرفته! فكيف يطلبون منّا أن نتّبعهم دون أن نضعه تحت حكم العقل! حتى يصبح العقل ضحيّة كاملة؟!
هل يقبل القس يوحنا أن يضحي بنفسه وماله مقابل شيءٍ لا يفهمه؟! إن مِن أبجديات الفكر البشريّ أن يعرف الإنسان ما يقدم عليه، وينبغي أن يكون إقدامه في مسائله الهامّة مبنيّاً على أدلةٍ قطعيةٍ لا تقبل النقاش، لا على ما يخالف القواعد المنطقيّة والعقليّة القطعيّة.
إن في كلماته مغالطةٌ بيّنة، فإن المسلمين أيضاً يعتقدون أن الله أعظم من أن يُدرَك بالعقل البشري، لكنهم لا يستهينون بعقولهم إلى حد الاعتقاد بالتناقض في الذات الإلهية، أن يكون الله واحداً والواحد ثلاثة!
نعم يشترك المسلمون معهم في أنّ معرفة حقيقة الذات الإلهيّة مما يسمو فوق العقول ويعلو الأفهامَ البشريّة القاصرة، لكنّهم لا يقرّون بإمكان اجتماع التناقض في الذات الإلهية المقدسة، فلا يمكن أن يجتمع التوحيد حقيقةً مع التثليث.
إن في هذا تضيحةٌ صريحةٌ بالعقل كما قال، والعقلُ هو الميزان في الثواب والعقاب، فكيف يطلُبُ الله تعالى منا أن نضحي بعقولنا؟!
إن هذا الطلب مُجحِفٌ بالفطرة البشرية، ومخالِفٌ لتعاليم الكتاب المقدّس حيث أكّد على أهمية العقل بقوله: فَالعَقْلُ يَحْفَظُكَ، وَالفَهْمُ يَنْصُرُكَ(47).
فأيُّ حفظٍ هذا بعد التضحية بالعقل؟!
معرفة الله لا يصدقها عقل!
يخلط توماس ف. تورانس بين أمرين: الأول هو عدم معرفة الذات الإلهيّة المقدسة، والثاني هو إمكانّية هذه المعرفة بطريقةٍ لا يصدّقها العقل! وذلك عبر الثالوث والتجسد!
يقول: الله هو الذي يُعرّفنا ذاته بذاته. وإذا تحدّثنا بصورةٍ أكثر تدقيقاً (كما أشار ق.إيريناؤس): نستطيع أن نقول أنّ الله فقط هو الذي يعرف ذاته، وبالتالي فلا يمكن معرفة الله إلا من خلال الله فقط، وبما أنّ الله وحده كائنٌ داخل سرمديّته ولا نهائيّته الذاتيّة، فإنّه هو وحده الذي يستطيع أن يعرف ذاته بطريقةٍ تتفق تماماً مع من هو الله.. لذلك فإذا أردنا حقاً أن نعرف الله فهذا يتأتى فقط من خلال المشاركة - بشكل لا يصدِّقُه عقل- في المعرفة التي يملكها الله عن ذاته. أي أنّنا نستطيع معرفة الله فقط إذا أدخَلَنا هو في شركة معه في العلاقات الداخليّة له كآبٍ وابنٍ وروحٍ قدس، وهذه المشاركة في المعرفة التي لله عن نفسه صارت ممكنة من خلال تجسد ابن الله وبواسطة روح الآب والابن(48).
المشاركة التي يتحدثون عنها إنّما تكون بشكل لا يصدِّقُه عقل، ونحن عملاً بما يُمليه عقلنا، والذي أقرّه التوراة والإنجيل كما تقدّم في الفصل الأول، نجد أنفسنا مضطرين لردّ هذه العقيدة التي لم يقم عليها دليلٌ من عقلٍ ولا نقل.
تعطيل قواعد المنطق
لقد سبق الاب صفرونيوس المعاصر لنبي الإسلام محمدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم) القساوسةَ المعاصرين فيما ذهبوا إليه كما تبيّن من كلماتهم، حيث التزم بعجز قواعد المنطق حتى في مثل اكتشاف التناقض عند الحديث عن حكمة الله، فكيف بالثالوث وهو سرّ الأسرار!
يقول: ومعرفة قواعد المنطق لازمةٌ لفحص الحُجة والدليل، ولاكتشاف التناقض، أو الباطل في كلام الناس.. ولكن قواعد المنطق مهما كانت تعجز أمام عمل الله.. إن قواعد معرفة الصواب من الخطأ - رغم ضرورتها - فهي خاصةٌ بنا نحن البشر، ولا يمكن أن تُستخدَمَ كأداةٍ لفحص حكمة الله، لأنّ حكمة الله أعظم(49).
وههنا أغلق الاب صفرونيوس الباب أمام المنطق حتى في مثل اكتشاف التناقض، وفتحه واسعاً أمام الإعلانات الإلهية، حتى لو كانت متناقضةً بحسب العقل، وما ذاك إلا لإثبات صحّة الثالوث والتجسُّد المُناقِضَين للعقل!
وعليه: كيف نميّز صحة هذا الإعلان الإلهيِّ من سقمه؟ مع كثرة الأنبياء الكذبة بحسب الكتاب المقدس؟
ألا يُحتملُ أن يكون الإعلان الثالوثيُّ من إعلانات الأنبياء الكذبة؟ ألا ينبغي أن نميِّز الحق من الباطل قبل أن نتبعه؟
لعل الاب صفرونيوس وإن سمع بدعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الإسلام وهو المعاصر له، إلا أنه لم يسمع أو يعمل بالآية الشريفة: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ الله وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الالبَابِ﴾(50).
فأيُّ حُسنٍ فيما يؤدي إلى تعطيل قواعد المناطق والالتزام بالمتناقضات؟
ولو كان العقل هنا وقواعد المنطق معطّلة كيف أمكن الاستدلال على التوحيد رأساً؟ أليس الاستدلال بأفعال عيسى (عليه السلام) الإعجازيّة على نبوّته إنما يُقبَل بالعقل؟ فإن كان العقل مُعَطَّلاً هنا كيف نستدل به؟
ههنا صار المسيح عثرَة لهؤلاء النصارى، وقد قال يوماً: وَطُوبَى لِمَنْ لاَ يَعْثُرُ فِيَّ(51).
كيف لا تكون هذه عثرةٌ في المسيح، والأب صفرونيوس يقرّ بأن ما ذهبوا إليه إنما أوصلهم إلى حمل (كلّ تناقض الفكر)! يقول: ندرك أسرار المحبة، لا أسرار جوهر الله، لأننا لا نقدر أن ندرك أسرار جوهر الله، بل ندرك فقط ما تعلنه لنا المحبّة عن جوهر الله، ومن يدرك أسرار المحبة ويمارس المحبة يتعثّر، أما من يحاول بالفضول وبشموخ الفكر أن يدخل هذا الهيكل المقدس، فإنه سريعاً ما يخرج حاملاً معه كل تناقض الفكر وعجزه(52).
عطف في العبارة الأخيرة عجز الفكر على تناقضه، ونحن نقرّ بالعجز دون التناقض، لأنه لا يمكنُ أن يكون الإله متناقضاً بحسب العقل إذ سيدعو العقلُ حينها إلى عدم الإيمان به، لأن المنع من اجتماع المتناقضين من أهم ركائز العقل، فإن سقطت سقط معها كلُّ استدلالٍ عقليّ.
العقلُ يركعُ خارجاً!
يحاول القس إيدن ويلسون توزر الجمع بين ما تقدّم من تعطيل العقل، وبين اعتماد الدين على العلم والعقل والدراسة للكتاب المقدس، حيث يواجه النصارى في ذلك معضلةً عويصة، فيحاول التأكيد أنّه لا بدّ من التحقُّق من (سلامة النصّ) أوّلاً، وبعد ذلك على العقل أن يركع بخشوعٍ خارج دائرة الإيمان! وليس له الحقُّ في أن يحكُم على (الكلمة) بأنها معقولةٌ أو غير معقولة!
كيف يجتمع ذلك مع العلم والمنطق والعقل؟! كيف يجتمع مع نصائح الإنجيل المتعددة بلزوم الأخذ بالحليب العقلي؟! ألا يخشى مِن أن يصيبه الصّرع لقول الكتاب المقدس: شَعْبٌ لاَ يَعْقِلُ يُصْرَعُ(53)؟
يقول القس إيدن ويلسون توزر: فهل معنى ذلك أننا نحكم على الدرس أو العلم بأنّه عديم القيمة في مجال الإعلان الديني؟ كلا وحاشا، فالدارس يلعب دوراً هاماً في حدودٍ متيقنة التعيين. وواجبه أن يضمن سلامة النص، وأن يدقّق جهد طاقته في الالتزام بالكلمة كما أُعطِيَت أصلاً. وله أن يقرن الكتاب بالكتاب حتى يعرف المعنى الحقيقي للنص. وهنا تنتهي سلطته. فلا يجب عليه أبداً أن يأخذ مكان الحكم على ما هو مكتوب، ولا يجب عليه أن يجرؤ على وضع معنى الكلمة في قفص الاتهام أمام عقله. ولا يجب عليه أن يجرؤ على امتداح الكلمة او الحكم عليها بأنها معقولةٌ أو غير معقولةٍ أو أنها علميّةٌ أو غير علمية.. إن عقيدة التثليث حقٌّ للقلب، وروح الإنسان فقط هي التي تستطيع أن تدخل إلى داخل الحجاب، إلى قدس الأقداس.. فالمحبة والإيمان يدخلان إلى سر اللاهوت، أما العقل فليركع بخشوعٍ خارجاً(54).
إن اختلال الموازين في سُلَّم البحث عن المعرفة أودى بهم إلى إنكار الحاجة للبرهان، وإلى لزوم الإيمان بالمستحيل! قال القس توزر: إن القلب يعترف بما يعلنه الله دون ما حاجةٍ إلى برهانٍ آخر. بل ان البحث عن برهانٍ تسليمٌ بالشك، والعثور على برهانٍ يجعل الإيمان غير ضروريّ. وكلُّ إنسانٍ أوتي بموهبة الإيمان يعرف حكمة تلك الكلمات الجريئة التي نطق بها أحد آباء الكنيسة الأولين: "أنا أؤمن أن المسيح مات عنّي لأن هذه الحقيقة بعيدة التصديق، وأنا أؤمن أنه قام من الأموات لأن هذا مستحيل"(55).
لقد عَدَّ العثور على برهانٍ منافياً لكمال الإيمان، وامتدح حكمة الإيمان بالمستحيلات! وكلمة أحد آباء الكنيسة وإن أخطأت في كون القيام من الموت مستحيلاً، فإنّه ممكنٌ في نفسه بلا شبهة، لذا صار بالإمكان قبوله وتصديقه، إلا أنها أورثتهم ثلمَةً لا تُسَدُّ في أسِّ العقيدة الكنسيّة، حينما صار الإيمان بالثالوث مع التوحيد أصلَ الدين، مع كونه مستحيلاً واقعاً!
نعم لعقولهم أن تركع هنا لأنّهم اختاروا لها ذلك، ولكن ليس لهم أن يُلزموا عقول الآخرين بذلك، إنّ رأس مال الإنسان في هذه الدنيا هو العقل، أفَيَزهَدُ بأثمن ما أعطاه الله تعالى تقليداً لآباء الكنيسة؟! فيُصَدِّق بالمستحيلات؟!
لقد حاول الآباء والقساوسة إخمادَ جذوة الفكر كلّما رامت الخروج عن حياضهم التي حدّوها باجتهاداتهم، تحت ذريعة قصور الإنسان وجهله لأبسط مظاهر الطبيعة، فقال القس توزر: ولقد أنكر فكرة الإله المثلّث الأقانيم أولئك الذين يرفضون كلّ نظرية لا يستطيعون تعليلها. فهم إذ يحاولون فهم العليِّ بنظرتهم الباردة الجسدية يخلصون إلى القول بأنه يستحيل أن يكون الله واحداً وثلاثة في آن واحد، وينسون أن حياتهم كلها يحيط بها الغموض، وقد فاتهم أن أيّة محاولةٍ صادقةٍ لتفسير أبسط الظواهر الطبيعية تكمن في غموضٍ وإبهامٍ وليست أيسر من فهمها من سر الثالوث الأقدس(56).. ولقد أنكر البعض أن الكتاب المقدس يُعَلِّمُ أنّ الله ثلاثة أقانيم زاعمين أنّ فكرة التثليث في واحدٍ هي تناقضٌ في الكلمات، ولكننا ما دمنا عاجزين عن تَفَهُّمِ سقوط ورقة شجرٍ على الطريق، أو فقس بيضة عصفورٍ في عشه، فلماذا يكون التثليث عقدةً بالنسبة لنا؟(57).
ولعمري أيُّ أبٍ وقِسٍّ هذا الذي يراوغ مع أبنائه؟! هل يستغلُّ الآباء والقساوسةُ تصديقَ الأتباعِ لهم ليبذروا فيهم بذرة التسليم بالجهل ومخالفة المنطق؟!
ألا يرون أن المُنصِفَ يتمكّن من التمييز بين أمرين:
أولهما: المظاهر الطبيعية التي لا يتمكن من تفسيرها ومعرفة قواعدها، لكنّه لا يرى فيها مناقضةً للعقل ولا جمعاً بين المتناقضات، وهو ما يلمِسُهُ الإنسان في جَسَدِهِ وروحه وسائر مخلوقات الله تعالى، فكلٌّ منا يقرُّ بضحالة علمه أمام علم الله عزّ وجل: ﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلا قَلِيلاً﴾(58).
ثانيهما: المسائل التي يحكم العقل باستحالتها، كوجود القس توزر وعدم وجوده في نفس الوقت وبنفس المعنى! وكالجمع بين التوحيد والتثليث!
لسنا نطمَعُ في إيمان غير المُنصِف، فقد قال تعالى: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ الله ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾(59).
الجمع بين المتناقضات الظاهرة!
يقول الاب فاضل سيداروس: إنّ الجمع بين الشيء ونقيضه (النور / الظلام) يسمِّيه الفلاسفة واللاهوتيون (المفارقة Paradoxe)، وما يبدو متناقضاً في الإنسان، يتجاوزه الله إذ يجمع بين المتناقضات الظاهرة. فالله هو النور والظلام، وهو البعيد القريب، وهو المتعالي المتواضع.. وهو - في ما نحن بصدده - أحدٌ وثلاثة، بدون تناقضٍ بين الواحد والثلاثة(60).
ههنا محطّ الرحال لو أراد النصارى تجاوُزَ ما وقعوا فيه: فإنّ هناك فرقاً كبيراً بين ما (يبدو متناقضاً في الإنسان) وبين ما هو (متناقضٌ حقيقةً في الإنسان).
وهناك فرقٌ بين (المتناقضات الظاهرة) و(المتناقضات الحقيقيّة الواقعيّة).
والخلطُ بين هذين الأمرين يوقعُ النصارى فيما وقعوا فيه، فإنّ المسائل التي قد يُقالُ بتناقضها على قسمين:
القسم الأول: هو ما يبدو للوهلة الأولى أو بحسب الظهور البدويِّ متناقضاً.
ولكنّك بعد التدقيق فيه والفحص والتأمل ترى أنك قد توهّمتَ تناقُضَهُ، وتحكُم عليه بأنّه ليس متناقضاً.
فقولنا مثلاً: الله قريبٌ بعيدٌ، أو: قريبٌ في بُعدِه بعيدٌ في قربه(61)، يظهر منه للوهلة الأولى أنه متناقضٌ، لأنّ جهة القرب والبُعد إن كانت واحدةً فلا يمكن أن يكون قريباً وبعيداً في الوقت عينه من نفسه الجهة واللحاظ.
لكنّا إذا تأمّلنا نجد أن لا محلّ للتناقض بوجهٍ من الوجوه، فإن للقُربِ جهةً وللبعد جهةٌ أخرى.
وكلاهما ليسا مادّيين لأنّ الله تعالى مُنَزَّهٌ عن المكان وعن الجسميّة، فهو عزّ وجلّ أقرب إلينا من أنفسِنا من جهة كونه القادر على كلّ شيء والمحيط بكل شيء والعالم بكل شيء.
وهذا القربُ حالَ بُعدِهِ عن مشابَهَةِ المخلوقات ومجانستها، فلا يكون قربه أو بُعدُهُ عنهم مادياً ليلزم التناقض.
القسم الثاني: هو ما يكون متناقضاً حقيقةً حتى بعد إمعان النظر والتدقيق فيه، فإن التناقض يستقرُّ ويزدادُ وضوحاً كلما بحثت فيه.
فلو قلت أنّ الواحد هو ثلاثة، يظهر للوهلة الأولى أنه متناقض.
وههنا احتمالات ثلاثة:
الاحتمال الأول: أن يُراد بالواحد وبالثلاثة لحاظاتٌ مختلفة، فلا تناقُض.
الاحتمال الثاني: أن يُراد بالواحد والثلاثة معانٍ مختلفة فيكون أحد المعنيين مجازياً والآخر حقيقياً، ويرتفع التناقض حينها.
الاحتمال الثالث: أن يُراد بالواحد وبالثلاثة المعاني الحقيقية، فيكون التناقض ثابتاً لا مفرّ منه أبداً.
أما الاحتمال الأول، وهو إرادة اللحاظات المختلفة، فقد قال به علماؤهم، فأفضى إلى توحيد الجوهر وتثليث الأقانيم أي الأشخاص، وكان في حقيقته شركاً بالله تعالى.
ومع القول بالتوحيد يَضُمُّ هذا الاحتمال إلى جانب الشرك بالله التناقض المُستَقِرّ، لأنّه يؤول إلى الاحتمال الثالث بمعنىً من المعاني.
أما الاحتمال الثاني، فلو قَبِلَهُ النصارى وحَمَلوا التثليث على المجاز مثلاً بأن قالوا أن الثالوث هو نوع إشارةٍ إلى صفاتٍ من صفات الله تعالى، كما يشترك المسلمون والمسيحيون في وصف الله تعالى بصفات الكمال، لو قبلوا ذلك لصار الخلافُ لفظياً..
ولانتفى التناقضُ رأساً، فالله واحدٌ حقيقةً، وأما الثالوث فهو لفظٌ مجازيٌّ لا يُراد منه أنّه ثلاثةٌ حقيقة.
إذ كيف يمكن أن يكون الواحدُ حقيقةً ثلاثة حقيقة؟! هذا ما لا يمكن للعقل أن يقبله ولو دلت عليه آلاف الأدلة النقلية.
ومع تَمَسُّك النصارى بالمعنى الحقيقيّ للواحد والثلاثة، وعدم قبولهم حمل أحد المعنيين على المجاز، يصبح الواحدُ مساوياً للثلاثة! ويُضَحَّى بالعقل على مذبح الثالوث!
وههنا يصدق المثل القائل: أن النصارى أُكِلُوا يوم أُكِلَ الثور الأبيض!(62).
حين سقط العقل وحصلت التضحية به، اضطروا الى الالتزام بالتناقض الصريح الذي لا مهرب منه ولا مفرّ.
فإن قيل: إن التناقض الصريح بهذا الشكل ممكنٌ في الذات الإلهية حصراً لأنها عَصِيَّةٌ على الإدراك.
قلنا: لن نؤمن معكم بإلهٍ تجتمع فيه المتناقضات لأن هذا خلاف الكمال، وخلاف العقل الذي نراه حجةً على الشرائع بغير ما ترون.
تناقضاتٌ ظاهريةٌ تجتمع بحسب الخبرة الروحية
يقرّ كوستي بندلي بأن في العقيدة المسيحية تناقضاتٍ لا حصر لها بحسب الظاهر، ويقرّ بأن الجمع بينها لا يمكن أن يتمّ على المستوى العقلي! إنما على المستوى الروحي حصراً! وكأنّه يقول للإنسان: عليك أن تضع عقلك جانباً وتلتزم بالتناقضات غير المحدودة، بل تؤمن بها حتى تؤمن بها! إن الطريق الطبيعيّ لأيّ مسألةٍ هو قيامُ الدليل عليها، لكن هنا يصبح قيام الدليل متوقفاً على التصديق، والتصديقُ متوقفٌ على قيام الدليل!
يقول بندلي: العقائد المسيحية تحوي - حسب الظاهر- تناقضاتٍ لا حصر لها. فمثلاً نقول بأنّ الله واحدٌ وإنه في الوقت ذاته مثلث الأقانيم.. ونقر بأن المسيح إلهٌ وإنسانٌ في آن.. كل هذه التناقضات – ظاهرياً - تعبّرُ مجتمعة عن الحقيقة، ولكن الجمع بينها لا يتم على المستوى العقليّ، بل على مستوى الخبرة الروحية، وهذا هو معنى السر في المسيحية(63).
لقد كان بندلي صريحاً بخلاف بعض علماء النصارى الذين أتعبوا أنفسهم وأتعبوا الناس معهم في محاولة شرح الثالوث بحسب العقل، وههنا يتبين أن ليس للعقل سبيلٌ إلى ذلك، إنما على المؤمن التسليم دون أن يتعقّل! ولو رأى ذلك جمعاً بين المتناقضات!
التناقض في ما سوى المادة!
للأب توماش شبيدلك اليسوعي محاولةٌ للتخلًّص من إشكال التناقض في عقيدة التثليث، تبتني على التمييز بين المادة وما وراء المادة، فيقرّ بأنه لا يمكن أن يكون الواحدُ ثلاثةً إلا مع القول بالتجزئة، ولكنّ هذا مقصورٌ على عالم المادة ولا يشمل ما وراءها، وعليه يمكن قبول التناقض في الذات الإلهية المقدسة!
يقول: يواصل المشكّكون قولهم (كيف يمكن للواحد أن يكون ثلاثة) بدون تجزئة؟! وهذا بالطبع هو الصواب عينه بالنسبة للأشياء المادية. أما بالنسبة للأشخاص الذين يحيون الإيمان، يؤمنون إيماناً قوياً بأنّ ثلاثة أشخاصٍ يشكّلون شخصيّة واحدة، وهذا هو الغنى الحقيقي الذي يزرعه الإيمان في نفوس المؤمنين(64).
فهو يعترف بأن الإشكال في محله تماماً بالنسبة للأشياء المادية، لكنه يزعم أنه لا ينطبق على مسألة التوحيد.
والجواب: أنّ القول بالتعدُّد والتوحيد معاً يلازم التجزئة، سواءٌ كان ذلك أمراً مادّياً أم غير مادّي بحكم العقل، وما ذكره هو دعوى يخالفها الوجدان والمنطق، فكما لم نقبل اتّصاف الشيء بالبساطة والتركيب في آنٍ واحدٍ ومن جهةٍ واحدةٍ في الماديات، كذلك لا نقبلها فيما وراء المادّة، لأنّ العقل يرى في ذلك تناقضاً.
فهل يمكن اتّصاف الملك وهو كائنٌ غير مادّي بالنسبة إلينا(65) بالوجود وعدم الوجود معاً؟! إنّه جمعٌ بين المتناقضات فيما وراء المادة ولا سبيل للقول به، والثالوث نظيره.
لا ينبغي تحكيم العقل!
يقول الأرخن أ. حلمي القمص يعقوب: من أكثر الأخطاء التي يسقط فيها منكرو ألوهيّة المسيح ما يلي:.. تحكيمُ العقل وطرح الإيمان خارجاً، وإذ يريدون أن يُخضِعُوا الحقائق الإيمانية للفحوصات والمقاييس العقلية، وإذ يظهر ضعفُ العقل ومحدوديّته، فيلجأون للتبريرات التي تطرحهم بعيداً عن حظيرة الإيمان(66).
ليخلص إلى قوله: حاولت مدرسة أنطاكية إخضاع الحقائق الإيمانية للمنطق البشري الأرسطاليسي، ولذلك خرج من هذه المدرسة أشهر هراطقة القرون الخمسة الأولى(67).
حقائق الإيمان إذاً بما فيها الثالوث لا تخضع للمنطق البشري! ولا يصح فيها تحكيم العقل! مع أن الإيمان بها موقوفٌ على المنطق البشري والعقل!
لا استثناء في خضوع العقل!
يقول الدكتور القس عماد شحادة: في الدراسة اللاهوتيّة يجب أن يخضع العقلُ للإعلان الإلهي كما جاء في الكتاب المقدّس. فعندما يكون هناك تناقضٌ بين الاستنتاج البشري والإعلان يخضع الإنسانُ للإعلان، ليس هناك أي استثناء في هذا(68).
فهو يذهب إلى أنه ليس هناك أيّ استثناءٍ في لزوم خضوع الإنسان وعقله للإعلان الإلهيّ حتى لو كان في ذلك تناقضٌ!!
إن التناقض في حقيقة الأمر يكشف عن أحد أمرين:
إما عدم صحة الإعلان الإلهي، أو عدم صحة فَهمِ الإعلان الإلهي.
أما ما ذهبوا إليه من لزوم الخضوع لهذا الإعلان حتى لو تَضَمَّن تناقضاً، فهو منافٍ لحكم الكتاب المقدس من لزوم اتباع العقل كما تقدم، وقد حثّهم الكتاب المقدس على التعقّل والفطنة لبلوغ الآخرة: لَوْ عَقَلُوا لَفَطِنُوا بِهذِهِ وَتَأَمَّلُوا آخِرَتَهُمْ(69).
3. النتيجة: الثالوث مناقضٌ للعقل مقبولٌ!
نَخلُصُ ممّا تقدّم إلى حالةِ ضَياعٍ عند النصارى في عقيدة الثالوث:
فإنّهم يقولون بوحدة الجوهر وتعدد الأقانيم أي الأشخاص، ومعناه تعدُّد الآلهة، ولا يقولون به!
وفسروا ذلك تارةً بأنّه فوق العقل! وتارة بأنه ضدّ العقل ولكنه مقبول!
وأما قولهم بأنها فوق العقل فباطلٌ لما تقدم، حيث ثبت التناقض بيّناً جليّاً.
وأما قولهم بأنها ضد العقل فصحيح، ولكن لا يمكن الموافقة على أي عقيدةٍ ضد العقل لسقوطها عن الحجية رأساً، لأسبقيّة حكم العقل القطعي على أي حكم آخر.
3. مناظرة هشام بن الحكم مع جاثليق النصارى
جَرَت مناظرةٌ بين هشام بن الحكم تلميذ الإمام المعصوم جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)، وكبير أساقفة النصارى بُرَيهَة، أوقَفَ فيها هشامُ بريهةَ على مواطن التناقض في الثالوث، فمع كون الآب والابن واحداً لِمَ صار الآبُ أباً والابنُ ابناً؟ ومع اختلافهما فالإلهُ أحدُهما لا كلاهما، وقد كان بُرَيهةُ منصِفاً طالباً للحق، وقد تَبَيَّنَ ذلك بعد المناظرة الشيّقة التي جمعته بهشام:
ِ عَنْ هِشَامِ بْنِ الحَكَمِ عَنْ جَاثِلِيقٍ(70) مِنْ جَثَالِقَةِ النَّصَارَى يُقَالُ لَهُ بُرَيْهَةُ، قَدْ مَكَثَ جَاثِلِيقَ النَّصْرَانِيَّةِ سَبْعِينَ سَنَةً، وَكَانَ يَطْلُبُ الإِسْلَامَ، وَيَطْلُبُ مَنْ يَحْتَجُّ عَلَيْهِ مِمَّنْ يَقْرَأُ كُتُبَهُ وَيَعْرِفُ المَسِيحَ بِصِفَاتِهِ وَدَلَائِلِهِ وَآيَاتِهِ.
قَالَ: وَعُرِفَ بِذَلِكَ حَتَّى اشْتَهَرَ فِي النَّصَارَى وَالمُسْلِمِينَ وَاليَهُودِ وَالمَجُوسِ حَتَّى افْتَخَرَتْ بِهِ النَّصَارَى وَقَالَتْ: لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ إِلَّا بُرَيْهَةُ لَأَجْزَأَنَا، وَكَانَ طَالِباً لِلْحَقِّ وَالإِسْلَامِ مَعَ ذَلِكَ، وَكَانَتْ مَعَهُ امْرَأَةٌ تَخْدُمُهُ طَالَ مَكْثُهَا مَعَهُ، وَكَانَ يُسِرُّ إِلَيْهَا ضَعْفَ النَّصْرَانِيَّةِ وَضَعْفَ حُجَّتِهَا.
قَالَ: فَعرِفَتْ ذَلِكَ مِنْهُ، فَضَرَبَ بُرَيْهَةُ الأَمْرَ ظَهْراً لِبَطْنٍ، وَأَقْبَلَ يَسْأَلُ فِرَقَ المُسْلِمِينَ وَالمُخْتَلِفِيِنَ فِي الإِسْلَامِ: مَنْ أَعْلَمُكُمْ؟
وَ أَقْبَلَ يَسْأَلُ عَنْ أَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وَعَنْ صُلَحَائِهِمْ وَعُلَمَائِهِمْ وَأَهْلِ الحِجَى مِنْهُمْ، وَكَانَ يَسْتَقْرِئُ فِرْقَةً فِرْقَةً لَا يَجِدُ عِنْدَ القَوْمِ شَيْئاً.
وَقَالَ: لَوْ كَانَتْ أَئِمَّتُكُمْ أَئِمَّةً عَلَى الحَقِّ لَكَانَ عِنْدَكُمْ بَعْضُ الحَقِّ، فَوُصِفَتْ لَهُ الشِّيعَةُ، وَوُصِفَ لَهُ هِشَامُ بْنُ الحَكَمِ.
فَقَالَ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: فَقَالَ لِي هِشَامٌ: بَيْنَمَا أَنَا عَلَى دُكَّانِي عَلَى بَابِ الكَرْخِ جَالِسٌ وَعِنْدِي قَوْمٌ يَقْرَءُونَ عَلَيَّ القُرْآنَ، فَإِذَا أَنَا بِفَوْجِ النَّصَارَى مَعَهُ مَا بَيْنَ القِسِّيسِينَ إِلَى غَيْرِهِمْ نَحْوٌ مِنْ مِائَةِ رَجُلٍ عَلَيْهِمُ السَّوَادُ وَالبَرَانِسُ، وَالجَاثِلِيقُ الأَكْبَرُ فِيهِمْ بُرَيْهَةُ، حَتَّى نَزَلُوا حَوْلَ دُكَّانِي، وَجُعِلَ لِبُرَيْهَةَ كُرْسِيٌّ يَجْلِسُ عَلَيْهِ، فَقَامَتِ الأَسَاقِفَةُ وَالرَّهَابِنَةُ عَلَى عِصِيِّهِمْ وَعَلَى رُءُوسِهِمْ بَرَانِسُهُمْ.
فَقَالَ بُرَيْهَةُ: مَا بَقِيَ مِنَ المُسْلِمِينَ أَحَدٌ مِمَّنْ يُذْكَرُ بِالعِلْمِ بِالكَلَامِ إِلَّا وَقَدْ نَاظَرْتُهُ فِي النَّصْرَانِيَّةِ فَمَا عِنْدَهُمْ شَيْءٌ، وَقَدْ جِئْتُ أُنَاظِرُكَ فِي الإِسْلَامِ.
قَالَ: فَضَحِكَ هِشَامٌ.
فَقَالَ: يَا بُرَيْهَةُ، إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ مِنِّي آيَاتٍ كَآيَاتِ المَسِيحِ، فَلَيْسَ أَنَا بِالمَسِيحِ وَلَا مِثْلِهِ وَلَا أُدَانِيهِ، ذَاكَ رُوحٌ طَيِّبَةٌ خَمِيصَةٌ(71) مُرْتَفِعَةٌ، آيَاتُهُ ظَاهِرَةٌ، وَعَلَامَاتُهُ قَائِمَةٌ.
قَالَ بُرَيْهَةُ: فَأَعْجَبَنِي الكَلَامُ وَالوَصْفُ.
قَالَ هِشَامٌ: إِنْ أَرَدْتَ الحِجَاجَ فَهَاهُنَا.
قَالَ بُرَيْهَةُ: نَعَمْ، فَإِنِّي أَسْأَلُكَ مَا نِسْبَةُ نَبِيِّكُمْ هَذَا مِنَ المَسِيحِ نِسْبَةَ الأَبْدَانِ؟
قَالَ هِشَامٌ: ابْنُ عَمِّ جَدِّهِ لِأُمِّهِ، لِأَنَّهُ مِنْ وُلْدِ إِسْحَاقَ وَمُحَمَّدٌ مِنْ وُلْدِ إِسْمَاعِيلَ.
قَالَ بُرَيْهَةُ: وَكَيْفَ تَنْسُبُهُ إِلَى أَبِيهِ؟
قَالَ هِشَامٌ: إِنْ أَرَدْتَ نَسَبَهُ عِنْدَكُمْ أَخْبَرْتُكَ، وَإِنْ أَرَدْتَ نَسَبَهُ عِنْدَنَا أَخْبَرْتُكَ.
قَالَ بُرَيْهَةُ: أُرِيدُ نَسَبَهُ عِنْدَنَا، وَظَنَنْتُ أَنَّهُ إِذَا نَسَبَهُ نِسْبَتَنَا أَغْلِبُهُ، قُلْتُ: فَانْسُبْهُ بِالنِّسْبَةِ الَّتِي نَنْسُبُهُ بِهَا.
قَالَ هِشَامٌ: نَعَمْ، تَقُولُونَ إِنَّهُ قَدِيمٌ مِنْ قَدِيمٍ، فَأَيُّهُمَا الأَبُ وَأَيُّهُمَا الِابْنُ؟
قَالَ بُرَيْهَةُ: الَّذِي نَزَلَ إِلَى الأَرْضِ الِابْنُ.
قَالَ هِشَامٌ: الَّذِي نَزَلَ إِلَى الأَرْضِ الأَبُ.
قَالَ بُرَيْهَةُ: الِابْنُ رَسُولُ الأَبِ.
قَالَ هِشَامٌ: إِنَّ الأَبَ أَحْكَمُ مِنَ الِابْنِ، لِأَنَّ الخَلْقَ خَلْقُ الأَبِ.
قَالَ بُرَيْهَةُ: إِنَّ الخَلْقَ خَلْقُ الأَبِ وَخَلْقُ الِابْنِ.
قَالَ هِشَامٌ: مَا مَنَعَهُمَا أَنْ يَنْزِلَا جَمِيعاً كَمَا خلقَا إِذَا اشْتَرَكَا؟
قَالَ بُرَيْهَةُ: كَيْفَ يَشْتَرِكَانِ وَهُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ؟ إِنَّمَا يَفْتَرِقَانِ بِالاسْمِ.
قَالَ هِشَامٌ: إِنَّمَا يَجْتَمِعَانِ بِالاسْمِ.
قَالَ بُرَيْهَةُ: جُهِلَ هَذَا الكَلَامُ.
قَالَ هِشَامٌ: عُرِفَ هَذَا الكَلَامُ.
قَالَ بُرَيْهَةُ: إِنَّ الِابْنَ مُتَّصِلٌ بِالأَبِ.
قَالَ هِشَامٌ: إِنَّ الِابْنَ مُنْفَصِلٌ مِنَ الأَبِ.
قَالَ بُرَيْهَةُ: هَذَا خِلَافُ مَا يَعْقِلُهُ النَّاسُ.
قَالَ هِشَامٌ: إِنْ كَانَ مَا يَعْقِلُهُ النَّاسُ شَاهِداً لَنَا وَعَلَيْنَا فَقَدْ غَلَبْتُكَ، لِأَنَّ الأَبَ كَانَ وَلَمْ يَكُنِ الِابْنُ، فَتَقُولُ هَكَذَا يَا بُرَيْهَةُ؟
قَالَ مَا أَقُولُ هَكَذَا.
قَالَ: فَلِمَ اسْتَشْهَدْتَ قَوْماً لَا تَقْبَلُ شَهَادَتَهُمْ لِنَفْسِكَ؟
قَالَ بُرَيْهَةُ: إِنَّ الأَبَ اسْمٌ وَالِابْنَ اسْمٌ يَقْدِرُ بِهِ القَدِيمُ(72).
قَالَ هِشَامٌ: الِاسْمَانِ قَدِيمَانِ كَقِدَمِ الأَبِ وَالِابْنِ؟
قَالَ بُرَيْهَةُ: لَا، وَلَكِنَّ الأَسْمَاءَ مُحْدَثَةٌ.
قَالَ: فَقَدْ جَعَلْتَ الأَبَ ابْناً، وَالِابْنَ أَباً، إِنْ كَانَ الِابْنُ أَحْدَثَ هَذِهِ الأَسْمَاءَ دُونَ الأَبِ فَهُوَ الأَبُ، وَإِنْ كَانَ الأَبُ أَحْدَثَ هَذِهِ الأَسْمَاءَ دُونَ الِابْنِ فَهُوَ الأَبُ، وَالِابْنُ أَبٌ، وَلَيْسَ هَاهُنَا ابْنٌ(73).
قَالَ بُرَيْهَةُ: إِنَّ الِابْنَ اسْمٌ لِلرُّوحِ حِينَ نَزَلَتْ إِلَى الأَرْضِ.
قَالَ هِشَامٌ: فَحِينَ لَمْ تَنْزِلْ إِلَى الأَرْضِ فَاسْمُهَا مَا هُوَ؟
قَالَ بُرَيْهَةُ: فَاسْمُهَا ابْنٌ نَزَلَتْ أَوْ لَمْ تَنْزِلْ.
قَالَ هِشَامٌ: فَقَبْلَ النُّزُولِ هَذِهِ الرُّوحُ كُلُّهَا وَاحِدَةٌ وَاسْمُهَا اثْنَانِ؟
قَالَ بُرَيْهَةُ: هِيَ كُلُّهَا وَاحِدَةٌ رُوحٌ وَاحِدَةٌ.
قَالَ: قَدْ رَضِيتَ أَنْ تَجْعَلَ بَعْضَهَا ابْناً وَبَعْضَهَا أَباً؟
قَالَ بُرَيْهَةُ: لَا لِأَنَّ اسْمَ الأَبِ وَاسْمَ الِابْنِ وَاحِدٌ.
قَالَ هِشَامٌ: فَالابْنُ أَبُو الأَبِ؟ وَالأَبُ أَبُو الِابْنِ؟ وَالِابْنُ وَاحِدٌ؟
قَالَتِ الأَسَاقِفَةُ بِلِسَانِهَا لِبُرَيْهَةَ: مَا مَرَّ بِكَ مِثْلُ ذَا قَطُّ، تَقُومُ؟
فَتَحَيَّرَ بُرَيْهَةُ وَذَهَبَ لِيَقُومَ، فَتَعَلَّقَ بِهِ هِشَامٌ قَالَ: مَا يَمْنَعُكَ مِنَ الإِسْلَامِ أَفِي قَلْبِكَ حَزَازَةٌ؟ فَقُلْهَا، وَإِلَّا سَألتُكَ عَنِ النَّصْرَانِيَّةِ مَسْأَلَةً وَاحِدَةً تَبِيتُ عَلَيْهَا لَيْلَكَ هَذَا فَتُصْبِحُ وَلَيْسَ لَكَ هِمَّةٌ غَيْرِي.
قَالَتِ الأَسَاقِفَةُ: لَا تُرِدْ هَذِهِ المَسْأَلَةَ لَعَلَّهَا تُشَكِّكُكَ.
قَالَ بُرَيْهَةُ: قُلْهَا يَا أَبَا الحَكَمِ.
قَالَ هِشَامٌ: أَ فَرَأَيْتَكَ الِابْنُ يَعْلَمُ مَا عِنْدَ الأَبِ؟
قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: أَ فَرَأَيْتَكَ الأَبُ يَعْلَمُ كُلَّ مَا عِنْدَ الِابْنِ؟
قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: أَ فَرَأَيْتَكَ تُخْبِرُ عَنِ الِابْنِ، أَ يَقْدِرُ عَلَى حَمْلِ كُلِّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الأَبُ؟
قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: أَ فَرَأَيْتَكَ تُخْبِرُ عَنِ الأَبِ، أَ يَقْدِرُ عَلَى كُلِّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الِابْنُ؟
قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ هِشَامٌ: فَكَيْفَ يَكُونُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ابْنَ صَاحِبِهِ وَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ؟ وَكَيْفَ يَظْلِمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ؟
قَالَ بُرَيْهَةُ: لَيْسَ مِنْهُمَا ظُلْمٌ.
قَالَ هِشَامٌ: مِنَ الحَقِّ بَيْنَهُمَا أَنْ يَكُونَ الِابْنُ أَبَ الأَبِ، وَالأَبُ ابْنَ الِابْنِ، بِتْ عَلَيْهَا يَا بُرَيْهَةُ.
وَ افْتَرَقَ النَّصَارَى وَهُمْ يَتَمَنَّوْنَ أَنْ لَا يَكُونُوا رَأَوْا هِشَاماً وَلَا أَصْحَابَهُ.
قَالَ: فَرَجَعَ بُرَيْهَةُ مُغْتَمّاً مُهْتَمّاً حَتَّى صَارَ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ الَّتِي تَخْدُمُهُ: مَا لِي أَرَاكَ مُهْتَمّاً مُغْتَمّاً؟
فَحَكَى لَهَا الكَلَامَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هِشَامٍ، فَقَالَتْ لِبُرَيْهَةَ: وَيْحَكَ أَ تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ عَلَى حَقٍّ أَوْ عَلَى بَاطِلٍ؟
فَقَالَ بُرَيْهَةُ: بَلْ عَلَى الحَقِّ.
فَقَالَتْ لَهُ: أَيْنَمَا وَجَدْتَ الحَقَّ فَمِلْ إِلَيْهِ، وَإِيَّاكَ وَاللَّجَاجَةَ، فَإِنَّ اللَّجَاجَةَ شَكٌّ، وَالشَّكُّ شُؤْمٌ وَأَهْلُهُ فِي النَّارِ.
قَالَ: فَصَوَّبَ قَوْلَهَا وَعَزَمَ عَلَى الغُدُوِّ عَلَى هِشَامٍ، قَالَ: فَغَدَا عَلَيْهِ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: يَا هِشَامُ أَ لَكَ مَنْ تَصْدُرُ عَنْ رَأْيِهِ وَتَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ وَتَدِينُ بِطَاعَتِهِ؟
قَالَ هِشَامٌ: نَعَمْ يَا بُرَيْهَةُ.
قَالَ: وَمَا صِفَتُهُ؟
قَالَ هِشَامٌ: فِي نَسَبِهِ أَوْ فِي دِينِهِ؟
قَالَ: فِيهِمَا جَمِيعاً صِفَةِ نَسَبِهِ وَصِفَةِ دِينِهِ.
قَالَ هِشَامٌ: أَمَّا النَّسَبُ خَيْرُ الأَنْسَابِ: رَأْسُ العَرَبِ وَصَفْوَةُ قُرَيْشٍ وَفَاضِلُ بَنِي هَاشِمٍ، كُلُّ مَنْ نَازَعَهُ فِي نَسَبِهِ وَجَدَهُ أَفْضَلَ مِنْهُ، لِأَنَّ قُرَيْشاً أَفْضَلُ العَرَبِ، وَبَنِي هَاشِمٍ أَفْضَلُ قُرَيْشٍ، وَأَفْضَلُ بَنِي هَاشِمٍ خَاصُّهُمْ وَدَيِّنُهُمْ وَسَيِّدُهُمْ، وَكَذَلِكَ وُلْدُ السَّيِّدِ أَفْضَلُ مِنْ وُلْدِ غَيْرِهِ، وَهَذَا مِنْ وُلْدِ السَّيِّدِ.
قَالَ: فَصِفْ دِينَهُ.
قَالَ هِشَامٌ: شَرَائِعَهُ أَوْ صِفَةَ بَدَنِهِ وَطَهَارَتِهِ؟
قَالَ: صِفَةَ بَدَنِهِ وَطَهَارَتِهِ.
قَالَ هِشَامٌ: مَعْصُومٌ فَلَا يَعْصِي، وَسَخِيٌّ فَلَا يَبْخَلُ، شُجَاعٌ فَلَا يَجْبُنُ، وَمَا اسْتُودِعَ مِنَ العِلْمِ فَلَا يَجْهَلُ، حَافِظٌ لِلدِّينِ، قَائِمٌ بِمَا فُرِضَ عَلَيْهِ مِنْ عِتْرَةِ الأَنْبِيَاءِ، وَجَامِعُ عِلْمِ الأَنْبِيَاءِ، يَحْلُمُ عِنْدَ الغَضَبِ، وَيُنْصِفُ عِنْدَ الظُّلْمِ، وَيُعِينُ عِنْدَ الرِّضَا، وَيُنْصِفُ مِنَ الوَلِيِّ وَالعَدُوِّ، وَلَا يَسْأَلُ شَطَطاً فِي عَدُوِّهِ، وَلَا يَمْنَعُ إِفَادَةَ وَلِيِّهِ، يَعْمَلُ بِالكِتَابِ، وَيُحَدِّثُ بِالأُعْجُوبَاتِ، مِنْ أَهْلِ الطَّهَارَاتِ، يَحْكِي قَوْلَ الأَئِمَّةِ الأَصْفِيَاءِ، لَمْ تُنْقَضْ لَهُ حَجَّةٌ، وَلَمْ يَجْهَلْ مَسْأَلَةً، يُفْتِي فِي كُلِّ سُنَّةٍ، وَيَجْلُو كُلَّ مُدْلَهِمَّةٍ.
قَالَ بُرَيْهَةُ: وَصَفْتَ المَسِيحَ فِي صِفَاتِهِ وَأَثْبَتَّهُ بِحُجَجِهِ وَآيَاتِهِ، إِلَّا أَنَّ الشَّخْصَ بَائِنٌ عَنْ شَخْصِهِ، وَالوَصْفَ قَائِمٌ بِوَصْفِهِ، فَإِنْ يَصْدُقِ الوَصْفُ نُؤْمِنْ بِالشَّخْصِ.
قَالَ هِشَامٌ: إِنْ تُؤْمِنْ تَرْشُدْ، وَإِنْ تَتَّبِعِ الحَقَّ لَا تُؤَنَّبْ.
ثُمَّ قَالَ هِشَامٌ: يَا بُرَيْهَةُ، مَا مِنْ حُجَّةٍ أَقَامَهَا الله عَلَى أَوَّلِ خَلْقِهِ إِلَّا أَقَامَهَا عَلَى وَسَطِ خَلْقِهِ وَآخِرِ خَلْقِهِ، فَلَا تَبْطُلُ الحُجَجُ وَلَا تَذْهَبُ المِلَلُ وَلَا تَذْهَبُ السُّنَنُ.
قَالَ بُرَيْهَةُ: مَا أَشْبَهَ هَذَا بِالحَقِّ وَأَقْرَبَهُ مِنَ الصِّدْقِ، وَهَذِهِ صِفَةُ الحُكَمَاءِ يُقِيمُونَ مِنَ الحُجَّةِ مَا يَنْفُونَ بِهِ الشُّبْهَةَ.
قَالَ هِشَامٌ: نَعَمْ.
فَارْتَحَلَا حَتَّى أَتَيَا المَدِينَةَ وَالمَرْأَةُ مَعَهُمَا وَهُمَا يُرِيدَانِ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) فَلَقِيَا مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ (عليه السلام) فَحَكَى لَهُ هِشَامٌ الحِكَايَةَ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ مُوسَى بْنُ جَعْفَر(عليه السلام): يَا بُرَيْهَةُ كَيْفَ عِلْمُكَ بِكِتَابِكَ؟
قَالَ: أَنَا بِهِ عَالِمٌ.
قَالَ: كَيْفَ ثِقَتُكَ بِتَأْوِيلِهِ؟
قَالَ: مَا أَوْثَقَنِي بِعِلْمِي فِيهِ.
قَالَ: فَابْتَدَأَ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ (عليه السلام) بِقِرَاءَةِ الإِنْجِيلِ.
قَالَ بُرَيْهَةُ: وَالمَسِيحُ لَقَدْ كَانَ يَقْرَأُ هَكَذَا، وَمَا قَرَأَ هَذِهِ القِرَاءَةَ إِلَّا المَسِيحُ، ثُمَّ قَالَ بُرَيْهَةُ: إِيَّاكَ كُنْتُ أَطْلُبُ مُنْذُ خَمْسِينَ سَنَةً أَوْ مِثْلَكَ.
قَالَ: فَآمَنَ وَحَسُنَ إِيمَانُهُ، وَآمَنَتِ المَرْأَةُ وَحَسُنَ إِيمَانُهَا.
قَالَ: فَدَخَلَ هِشَامٌ وَبُرَيْهَةُ وَالمَرْأَةُ عَلَى أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) وَحَكَى هِشَامٌ الحِكَايَةَ وَالكَلَامَ الَّذِي جَرَى بَيْنَ مُوسَى (عليه السلام) وَبُرَيْهَةَ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَالله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾.
قَالَ: هِيَ عِنْدَنَا وِرَاثَةً مِنْ عِنْدِهِمْ نَقْرَؤُهَا كَمَا قَرَءُوهَا وَنَقُولُهَا كَمَا قَالُوهَا، إِنَّ الله لَا يَجْعَلُ حُجَّةً فِي أَرْضِهِ يُسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ فَيَقُولُ لَا أَدْرِي.
فَلَزِمَ بُرَيْهَةُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) حَتَّى مَاتَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام)، ثُمَّ لَزِمَ مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ (عليه السلام) حَتَّى مَاتَ فِي زَمَانِهِ فَغَسَّلَهُ بِيَدِهِ وَكَفَّنَهُ بِيَدِهِ وَلَحَدَهُ بِيَدِهِ وَقَالَ: هَذَا حَوَارِيٌّ مِنْ حَوَارِيِّي المَسِيحِ يَعْرِفُ حَقَّ الله عَلَيْهِ، قَالَ: فَتَمَنَّى أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ أَنْ يَكُونُوا مِثْلَهُ(74).
مناظَرَةٌ بديعةٌ، ومن الظريف فيها أسلوب هشام بن الحكم حين استنطق بريهة فأقرَّه على حجيَة العقل، حينما احتج على كلام هشام بكونه (خلاف ما يعقله الناس)، فأثبتَ بهذا ومن حيث لا يشعر حجيّة العقل.
ثم حاجَّهُ هشامُ مُبَيِّناً فساد قوله، إذ لو كان الخلقُ خلقَ الأب كان الأبُ أحكمَ من الابن وثبت التفاوت.
ولو كان الخلقُ خلقهما، فَلِمَ افترقا بنزول أحدهما إلى الأرض دون الآخر؟
فهل هما اثنان يشتركان بالاسم؟ أم واحدٌ له اسمان؟
ولمّا كانت الأسماءُ محدَثة، فإن اسمي (الآب والابن) محدَثان، فمن هو المُحدِثُ لهما: إن أحدثهما الأب ثبت تفوُّقه على الابن، وإن كان الابن أحدثهما، فهو أحقُّ وأليَقُ بأن يُقال أنه الآب، أو أن يقال عنهما الآب.
ولمّا عجز بريهةُ عن إيجاد وجهٍ في إطلاق الآب على الآب، والابن على الإبن، دون أن يستلزم ذلك تفوّق الآب على الابن، ألزمه هشام بلازم كلامه، من كون الابن أباً والاب ابناً، فيلزم كون كلّ منهما أباً للآخر وابناً له، ويؤول إلى اجتماع المتناقضين.
ولمّا كانا متساويين وقد صار الأب أباً دون فرقٍ، صار ظالماً للابن، وصار الابنُ ظالماً للاب اذ صار ابناً له دون أن يكون أباً له.
كلّ هذا الاستدلال يُلَخَّصُ في جملتين:
1. إما أن يكون الأب متفوِّقاً عن الابن، فيلزم كونه الإله الواحد دون الابن.
2. وإما أن يكونا متساويين، فلم صار الأول أباً والثاني ابناً؟ هذا خلافُ العدل وخلاف التساوي.
وعلى التقديرين يثبت بطلان التثليث، لأنه على التقدير الأول الإله واحدٌ وعيسى (عليه السلام) دونه، وعلى التقدير الثاني يلزم بطلان هذا التوحيد لجَمعه بين المتناقضين، ومخالفته للحكمة والعدل.
ويتأكّد إشكال هشام ويتعزَّز بكلام علماء النصارى، حيث صرّحوا أنه لولا الآب لما وُجِدَ الابن، دون العكس، وأنّ الآب علَّةُ وجود الابن، وفي هذا دليلٌ قاطعٌ على ترجيح القول الأول بتفوّق الآب على الابن وبطلان الثالوث، وإن حاولوا الجمع بين القولين المتناقضين!
نستذكر هنا قول القديس الدمشقيِّ المتقدّم في الفصل الثالث حين قال: المسجود لهم ثلاثة: الآب آبٌ واحدٌ، وهو لا مبدأ له أي لا علّة له، لأنّه ليس من أحد. والابن ابنٌ واحدٌ وهو ليس بلا مبدأ أي بلا علة، وهو من الآب.. الابن لا بدء له، لأنه صانع الأزمان وهو ليس تحت الزمان.. واعلم أننا لا نقول بأن الآب من أحد، بل نقول انه أبو ابنه، ولا نقول إن الإبن علّةٌ أو آبٌ، بل نقول إنه من الآب وإنه ابن الآب. ونقول أيضاً إن الروح القدس من الآب ونُسَمِّيه روحَ الآب(75).
عَثَرَ الدمشقيُّ كبُرَيهة وسائر علماء النصارى، لكنّ بريهة أنصف نفسه وأنزل عقله عن الصليب، لكن الآخرين جعلوا أحدهما علّة الآخر ثم قالوا بأنهما متساويين، والحال أن المعلوَل محتاجٌ إلى علّته مفتقرٌ إليها، والعلّة غنيّةٌ عن المعلول متفضِّلةٌ عليه.
ولما رأى بريهةُ كبير الأساقفة التناقض، وثبت عنده حجيّة العقل وبطلان ما يعارضه، مال مع الدليل على يد تلميذ العترة الطاهرة، حَمَلَةِ إرث الأنبياء (عليهم السلام).
(1) التكوين48: 3.
(2) لوقا1: 37.
(3) البقرة20.
(4) الفتوحات المكية (أربع أجزاء) ج1 ص130.
(5) الخلاصة اللاهوتية ج1 ص332.
(6) الخلاصة اللاهوتية ج1 ص333.
(7) قصص الأنبياء عليهم السلام (للراوندي) ص269، وبحار الأنوار ج14 ص271.
(8) التوحيد للصدوق ص130.
(9) الخلاصة اللاهوتية ج1 ص334.
(10) الخلاصة اللاهوتية ج1 ص336.
(11) هذه عقائدنا ص27.
(12) مدخل الي حقيقة الثالوث ص26-27.
(13) مدخل الي حقيقة الثالوث ص55.
(14) مدخل الي حقيقة الثالوث ص66.
(15) مدخل الي حقيقة الثالوث ص67.
(16) الله في المسيحية ص119.
(17) الله في المسيحية ص363.
(18) ردّ القمص سرجيوس على الشيخ العدوي ص52.
(19) ردّ القمص سرجيوس على الشيخ العدوي ص62-63.
(20) الكافي ج1 ص16.
(21) الكافي ج1 ص17.
(22) سر الثالوث الاحد ص111.
(23) سر الثالوث الاحد ص112.
(24) شمس البِر ص122.
(25) الآب والإبن والروح القدس ص74.
(26) الله واحد في الثالوث الأقدس ص2.
(27) هل المسيح هو الله!؟ ص21-22.
(28) سر التدبير الإلهي التجسد ص22.
(29) سر التدبير الإلهي التجسد ص24.
(30) البقرة170.
(31) سر التدبير الإلهي التجسد ص29.
(32) سر التدبير الإلهي التجسد ص204.
(33) سر التدبير الإلهي التجسد ص215.
(34) الكافي ج1 ص92.
(35) الأمالي للشيخ الصدوق ص503.
(36) التوحيد للشيخ الصدوق ص460.
(37) الكافي ج1 ص92.
(38) الكافي ج1 ص93.
(39) الكافي ج1 ص93.
(40) عيون الحكم ص449.
(41) عيون الحكم ص456.
(42) روضة الواعظين ص37.
(43) التوحيد للشيخ الصدوق ص457.
(44) الكافي ج1 ص92.
(45) يونس32.
(46) شمس البِر ص115.
(47) الأمثال 2: 10-11.
(48) الإيمان بالثالوث ص76.
(49) فرح الخليقة الجديدة ص15.
(50) الزمر18.
(51) متى11: 6.
(52) فرح الخليقة الجديدة ص28.
(53) هوشع 4: 14.
(54) معرفة القدوس ص19.
(55) معرفة القدوس ص19.
(56) معرفة القدوس ص17.
(57) معرفة القدوس ص18.
(58) الإسراء85
(59) البقرة75.
(60) سر الثالوث الاحد ص21-22.
(61) كما عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في الكافي ج1 ص86.
(62) أي أنّهم لما ضحوا بالعقل وتنازلوا عن التثبُّت من صحة النقل طريقاً ومعنى، وصل بهم الحال إلى الالتزام بالمتناقضات. والمثال المعروف هو: (إِنَّمَا أُكِلْتَ يَوْمَ أُكِلَ الثَّوْرُ الأَبْيَضُ)، وقصته: زَعَمُوا أَنَّهُ كانَ في أَجَمَةٍ ثَلاثةُ أَثوَار- أَبيَضُ وأَسوَدُ وأَحمَرُ- ومعهم فيها أَسَدٌ، فكانَ لا يَقْدِرُ عليهنَ لاجتِمَاعِهِنَّ عليهِ، فقالَ يَوْماً للأَسوَدِ والأَحمَرِ: إِنَّ لَوْنِي على لَونِكُما ولَوْنُ الأَبيَضِ غَريبٌ بَيْنَنا، فلو تَرَكْتُماني آكُلُهُ خَلَتْ لَكُما الأجَمَةُ وصَفَتْ. فَقالا: كُلْهُ، فأَكَلَهُ، ثُمَّ بَعْدَ أَيَّامٍ قالَ للأَحمَرِ: لَوْني لَوْنُكَ فَدَعْنِي آكُلُ الأَسوَدَ، فقالَ لهُ: شَأْنَكَ بِهِ، فَأَكَلَهُ، ثُمَّ انفَرَدَ بالأَحمَرِ فقالَ لَهُ: إِنِّي آكِلُكَ لا مَحَالَةَ، فقالَ: دَعْنِي أُنَادِي ثَلاثَةَ أَصوَاتٍ، فقالَ: افْعَلْ، فَنَادَى: إِنَّمَا أُكِلْتُ يَوْمَ أُكِلَ الثَّوْرُ الأَبيَضُ؛ قالها ثَلاثاً، ثُمَّ أَكَلَهُ. يُضْرَبُ لِمَنْ يُسْلِمُ أَنصَارَهُ لعَدُوٍّ حَتَّى إِذا فَرَغَ منهم أَنحَى عليهِ (الطراز الأول والكناز لما عليه من لغة العرب المعول، ج7، ص: 163).
(63) مدخل الي العقيدة المسيحية ص18.
(64) وهذا القيد (بالنسبة إلينا) ناظرُ إلى ما ذهب إليه جمعٌ من علماء النصارى من أن :الملاك مجرّدٌ عن الجسم وعن المادة بالنسبة إلينا، وأما بالنسبة إلى الله فهو جسميٌّ وماديّ (نقله القديس توما الأكويني عن الدمشقي في الخلاصة اللاهوتية ج2 ص9)، لكنّ الأكويني ذهب إلى أنّها ليست مادية وليس فيها شيء من الطبيعة الجسمية، وفسّر وصفها بالجسمية بالنسبة إلى الله من جهة أنّها الواسطة بين الله والمخلوقات الجسمية، فتظهر لله تعالى أنّها الطرف الآخر الجسمي لكونها واسطة!! (الخلاصة اللاهوتية ج2 ص10).
(65) كما في كتاب: نحن في الثالوث ص23.
(66) أسئلة حول ألوهية المسيح: الكتاب الثالث ج1 ص195.
(67) أسئلة حول ألوهية المسيح: الكتاب الثالث ج1 ص196.
(68) الآب والإبن والروح القدس ص81.
(69) التثنية 32: 28-29.
(70) كلمة أصلها يوناني كانت تطلق على كبير الأساقفة، وهي رتبة أدنى من البطريرك وأعلى من المطران.
(71) أي خالية منزّهة من الرذائل النفسية والكدورات المادية.
(72) كأنّه أراد منه القول المتقدّم في مطاوي الكتاب بأنّ الأقانيم هي صفات.
(73) فبريهة ذهب إلى أنّهما شيء واحد، والمُحدِثُ للأشياء واحدٌ، فحقَّ أن يكون الابنُ الآب.
(74) التوحيد للصدوق ص270-275.
(75) المئة مقالة في الايمان الارثوذكسي ص72.