مقال6: شريعتي وأخطاء النبي الكثيرة!
بسم الله الرحمن الرحيم(1)
تقدّم نقل كلام الدكتور شريعتي حول خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم):
ليست قليلة تلك الآيات القرآنية التي تنتقد النبي وتسجل عليه أخطاءً وملاحظات، بل هي أكثر من الآيات التي تمدحه وتشيد به(2).
وقد تقدّم منافاة هذا الكلام لعصمة الأنبياء عند الشيعة، الذين يعتقدون بتنزيه الأنبياء وخصوصاً خاتمهم عن كل خطأ وشبهة(3)..
لكن، ما هي أخطاء النبي الكثيرة هذه التي يتحدث عنها الدكتور شريعتي؟!
وإلى أيّ حدّ تؤثر على شخصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟
نعرض فيما يلي ثلاث نماذج يعتبرها (أخطاء) عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سوى ما تقدم ذكره، ثم نعرج على (ثلاث مناشئ لهذه الشبهات) عنده في هذا المعتقد.. وهذه الأمور هي:
1. عبوس النبي
قال الدكتور شريعتي:
كل ذلك على أساس قرآنه الذي وبّخ فيه نبيّه العزيز، لا شيء إلاّ لمجرد أنه عبس وجهه في وجه الأعمى(4)..
ويلاحظ على هذا التفسير أمور:
أولها: مخالفته لكتاب الله تعالى، فقد وصف تعالى خلق نبيه: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾(5)، وفي سورة آل عمران: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ..﴾ (6).
ثانيها: مخالفته لأحاديث العترة الطاهرة (عليهم السلام)، ومنها ما روي عن الصادق (عليه السلام) أنها نزلت في رجل من بني أمية كان عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فجاء ابن أم مكتوم، فلما رآه تقذّر منه، وجمع نفسه، وعبس، وأعرض بوجهه عنه، فحكى الله سبحانه ذلك، وأنكره عليه(7).
ثالثها: مخالفته لرأي علماء الشيعة، حتى عُدّ رأياً مشهوراً لمذهب الحق في تنزيه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من مثل هذا الفعل الشائن، وموافقته لما التزم به العامة.. وقد أشبع العلماء المسألة بحثاً وتمحيصاً ودفعاً لمثل هذه الشبهة بما لا حاجة معه للكتابة فيها، فلتراجع في مظانها..
2. ضرب النبي للأعرابي ثم اعتذاره
قال الدكتور شريعتي:
وحتى في تلك الحادثة التي كان فيها أحد البدو يسير براحلته بشكل متلاحق مع راحلة النبي مما أدى إلى إصابة رجل النبي إثر ذلك، انزعج النبي قليلاً وضربه بسوط كان يحمله وقال له بغضب: ابتعد عني قليلاً! إلا أنه بعد أن عاد إلى المدينة استدعى ذلك الأعرابي واعتذر منه كثيراً وألزم نفسه تقديم ثمانين رأساً من المعز كفدية على ذلك السوط! (8).
3. غضب النبي وإطعام الدواء
قال الدكتور شريعتي:
صنعت أسماء.. دواء للنبي.. وبينما كان النبي مغمىً عليه ألقوا الدواء في فمه. وبعد أن أفاق وعرف أن النساء أطعمنه الدواء دون إذنه غضب غضباً شديداً.. ولأجل توبيخهم أمر بأن يأخذ كل من حضر المجلس من هذا الدواء إلا العباس، وقد كانت ميمونة صائمة لكن النبي لم يستثنها! (9).
ومراده من هذا الكلام ما عرف بحديث (لدّ النبي) الذي رواه المخالفون في صحاحهم وصار محل طعن على النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم):
قَالَتْ عَائِشَةُ: لَدَدْنَاهُ فِي مَرَضِهِ فَجَعَلَ يُشِيرُ إِلَيْنَا أَنْ لَا تَلُدُّونِي، فَقُلْنَا : كَرَاهِيَةُ المرِيضِ لِلدَّوَاءِ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: أَلَمْ أَنْهَكُمْ أَنْ تَلُدُّونِي؟
قُلْنَا: كَرَاهِيَةَ المرِيضِ لِلدَّوَاءِ.
فَقَالَ: لَا يَبْقَى أَحَدٌ فِي الْبَيْتِ إِلَّا لُدَّ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَّا الْعَبَّاسَ فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ(10).
المناشئ
أما مناشئ مثل هذا القول فهي اعتقاده بما يلي:
1. جهل النبي بالغيب
قال الدكتور شريعتي عند كلامه عن حديث العشرة المبشرين بالجنة:
وهذا الحديث من موضوعات أهل السنة ولا سند له.. ثم كيف يبشر النبي هؤلاء العشرة بالجنة والحال أن بعضهم من أصحاب الجحيم قطعاً بناء على الموازين الدينية؟ والنبي يصرح بأنه لا يعلم الغيب ويقول (ولا أعلم الغيب) (11)..
فهو قد استشهد هنا بقوله تعالى: ﴿ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾(12)، ليذهب إلى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان جاهلاً بالغيب، دون أن يرد الآيات المتشابهة إلى الآيات المحكمة، وإلى ما دلت عليه سائر الأدلة.
فمن القرآن قوله تعالى: ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ..﴾ (13).
ومن الحديث الشريف قول أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة: لَيْسَ هُوَ بِعِلْمِ غَيْبٍ وإِنَّمَا هُوَ تَعَلُّمٌ مِنْ ذِي عِلْمٍ(14).
فكأنه لم يلتفت إلى أن المنفي في علم الغيب هو العلم الذاتي الاستقلالي، والثابت هو العلم بتعليم من الله تعالى، ولم يلتفت إلى أنه لا يلزم أن يكون العلم مسبوقاً بالجهل مطلقاً، كما في قوله تعالى: ﴿ عَلِمَ الله أَنَّكُمْ..﴾ (15) وقوله تعالى: ﴿وَلِيَعْلَمَ الله الَّذِينَ آمَنُواْ.. ﴾(16).
على أن الدكتور شريعتي يعترف بأن النبي يعلم من الغيب ما يوحى له، فقد قال في مورد آخر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
ويردد دائماً أنه لا يعلم من الغيب شيئاً إلا ما يوحى إليه، بالإضافة إلى ما يقوله عنه القرآن (إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي) فكان يتصرف تصرفاً يظهره كأي إنسان عادي آخر(17)..
2. حيرة النبي
قال الدكتور شريعتي:
لذلك كان الرسول الكريم يتمنى على الله أن (ربي زدني حيرة)، إنها حيرة تمخّضت عنها المعرفة..
وقال:
لكن ذلك الإنسان العجيب الذي امتلأ صدره بنور البصيرة والذكاء، فكان أعرف بطرق السماء منه بطرق الأرض، هو الذي يهجر المضجع الدافئ المريح من بعد أن يخفق صدره فيلوذ في جوف الليل ببساتين القرية، ليغرق هنالك في (الحيرة والألم) فيبث الشكاة في ظلمات ذلك الليل البهيم(18).
ثم جعل هذا الشكّ (مقدّساً) وصار يدعوا الله للوصول إليه كطريق للمعرفة! قال:
إلهي أجّج نار (الشك) المقدّسة فيّ، حتى إذا أتت على كل (يقين) نقشوه فيّ أشرقت البسمة الحنون راسمة على شفتي فجر اليقين الذي لا ذرة غبار عليه(19).
ويظهر من العبائر السابقة جهلٌ كبير بمقام النبي والإمام.. ففي حين لا يصيب النبي والإمام أي (حيرة) يقيس شريعتي الحالة التي تصيبه من التحير على الأنبياء والأئمة، فيرى أن هذه الحالة تصيبهم كمقدمة لحالة رفيعة!
وقد غفل عن أن الأنبياء منزهون عن الحيرة منذ الولادة، وقد حكى القرآن عن عيسى (عليه السلام): ﴿ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهْدِ صَبِيّاً * قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً﴾(20).
وغفل عن أن النبي وآله (عليهم السلام) مطهرون من كل رجس ودنس وحيرة وقد قال فيهم تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾(21).
فكأنّه توهّم هنا أن طريق الكمال متوقف على مرحلة النقص والحيرة! فكان لا بد عنده أن يسير الأنبياء على طريق (التكامل) فترتفع درجتهم من الجهل إلى العلم، ومن الحيرة إلى الاطمئنان، بخلاف ما دلّ على أنهم منزهون عن ذلك منذ أول أمرهم على نبينا وعليهم السلام..
3. وحي الله أم رأي النبي؟
قال الدكتور شريعتي:
النبوغ والوحي مجتمعان معاً عند النبي، كما أن كلام محمد غير كلام القرآن، وهذه المغايرة ملموسة ومقررة ومتجلية في أفعال محمد وأفكاره، وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يميّز بدقة بين ما يوحى إليه وما يصنعه هو من تلقاء نفسه، حينما يقول شيئاً يبين للناس أنه وحي أو رأي، وفي الحالة الثانية يعلم المسلمون أن بمقدورهم إبداء وجهات نظرهم الموافقة أو المخالفة واقتراحهم لتعديل الفكرة أو تبديلها، بينما كانوا يسلمون تسليماً مطلقاً لكل ما جاء النبي عن طريق الوحي(22).
ويظهر أن الدكتور شريعتي لم يدرك حقيقة قوله تعالى: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾(23)، ولم يتنبّه إلى أن (مطلق النطق) مطابق لأمر الله تعالى، ولا فرق في أمر الله تعالى حينها بين أن يكون نصاً قرآنياً أو حديثاً نبوياً، كما قال تعالى في الملائكة: ﴿لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ..﴾(24)، فهل يعقل أن لا يحيد الملائكة في ذلك دون خير الخلق محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!
أما تفرقة المسلمين بين هذين الأمرين فلم يكن هذا وجهها، إنما كان من باب ضعف ايمانهم واعتقادهم بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، يعرف ذلك من قولهم له بعدما أملى عليهم حديث الغدير فقالوا: أهذا شيء من عندك أم من عند الله؟!
التوجيه
ثم إن الدكتور شريعتي قد ذكر ما يحتمل أن يكون وجهاً لتفسير جملة من المتشابهات التي صعب أمر فهمها عليه، حيث أشار إلى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سعى بنفسه لإخفاء جملة مما خصه الله به دفعاً لشبهة الألوهية..
قال:
إن مكانة محمد في القرآن وسيرته وسلوكه لا تدع مجالاً للمسلمين لكي يقولوا بألوهيته.. لماذا؟ لان محمداً سعى دائماً لإظهار نفسه بشراً مثل سائر الناس -كما أكد القرآن ذلك في أكثر من مناسبة- بل حرص النبي على أن يظهر نفسه حتى أقل مما هو عليه في الواقع من منزلة وعلوّ شأن(25).
فلم لم يفسر ما اشتبه عليه من الآيات (المتشابهة) بالآيات المحكمة ولو من الباب الذي ذكره؟!
ألم يكن هذا الاحتمال وأمثاله كافياً عند الدكتور شريعتي لفهم مثل هذه التصرفات على وجهٍ لا يتعارض مع عصمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومكانته؟
أما كان عليه أن يقدّم المحكمات فيعلم من ذلك بطلان ما نسب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من معاصٍ ونقائص؟
وهل هكذا يكون التشيع العلوي الخالص؟!
(1) نشر المقال في 10-9-2015.
(2) معرفة الإسلام ص378.
(3) في نهاية المقال الثالث: العصمة بلا عصمة عند شريعتي.
(4) التشيع العلوي والتشيع الصفوي ص271 وغيره.
(5) القلم 4.
(6) آل عمران 159.
(7) مجمع البيان ج10 ص266.
(8) محمد خاتم النبيين ص180.
(9) محمد خاتم النبيين ص183.
(10) صحيح البخاري الحديث 4124، بل رواه البخاري في ثلاث مواطن من كتابه!.
(11) كتاب الحسين وارث آدم ص198، هامش 2.
(12) الأنعام 50.
(13) الجن 26-27.
(14) الخطبة 128.
(15) البقرة 187.
(16) آل عمران 140.
(17) فاطمة هي فاطمة ص182.
(18) الدعاء ص21.
(19) كتاب الدعاء ص73.
(20) مريم 29-30.
(21) الأحزاب 33.
(22) معرفة الإسلام ص196.
(23) النجم 3.
(24) الأنبياء 27.
(25) معرفة الإسلام ص203.