بسم الله الرحمن الرحيم
تَتَسارَعُ الأحداثُ في أيامنا.. تتوالى وتَزدَحِمُ.. حتى لا تكادُ تَدَعُ للمرء فُرصةً يُعمِلُ بها فِكرَه.. ويُحَدِّدُ بها موقفه..
تدورُ صِراعاتٌ في عالَمِنا.. بين المؤمنين أنفسهم تارة.. وبينهم وبين المخالفين ثانيةً.. وبين المخالفين وأهل الكتاب ثالثةً.. وبين أهل الكتاب أنفسهم رابعةً.. وبينهم وبين الملحدين خامسةً.. وهكذا تتنوَّعَ الصِّراعات، سواءٌ على مستوى الشعوب والأمم.. أو الأفراد والأشخاص..
فما الذي ينبغي على المؤمن فعله في خضَّم هذه الأحداث؟!
يعتقدُ المؤمن أنَّه مسؤولٌ عمّا يطرق سمعه.. وتُبصرُ عينُه.. وينطق لسانه! كما عن سائر فِعاله.. بل حتى عمَّا يعقد عليه قلبه!
قال تعالى: ﴿ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقيبٌ عَتيدٌ﴾ (ق18).
وقال تعالى: ﴿وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً﴾ (الإسراء36).
وفسَّرَها الصادق عليه السلام بقوله: يُسْأَلُ السَّمْعُ عَمَّا سَمِعَ، وَالْبَصَرُ عَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ، وَالْفُؤَادُ عَمَّا عَقَدَ عَلَيْه! (الكافي ج2 ص37).
فليس الإقدامُ أو الإحجام عن المشاركة في كلّ الأحداث فقط هو الذي يُحاسَبُ عليه الإنسان، بل حتى على ما يعقد عليه قلبه، وينطق به لسانه..
وإذا رجع المؤمن إلى كتاب الله تعالى، والعترة الطاهرة، أُنيرَت الطريق أمامه، وارتفع اللّبس والغشاوة، وأبصر الحقَّ جلياً.
إنَّ في تراث آل محمدٍ جملةً من القواعد التي ينبغي على كلِّ مؤمنٍ أن يتنبَّهَ إليها ويُراعيها، ومنها:
أولاً: عدم الرضا بأي ظُلمٍ
إنَّ الظُّلم قبيحٌ بذاته، لا يمكن رفع قباحته بحالٍ من الأحوال، لذا فإنَّ الله تعالى لا يرضى بالظُّلم أبداً، سواءٌ كان المظلوم مسلماً أو كافراً.. مؤمناً أو منافقاً! فالله تعالى لا يرتضي الظُّلم ولو وقع على الكُفّار.
لقد صار العدل عندنا أصلاً من أصول الدين، فمن لم يعتقد بعدل الله تعالى، واعتقد بأنه تعالى ظالمٌ يجور على عباده كان خارجاً عن الإسلام.
لقد ورد في الحديث الشريف عن الصادق عليه السلام:
إِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ أَوْحَى إِلَى نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَائِهِ فِي مَمْلَكَةِ جَبَّارٍ مِنَ الجَبَّارِينَ، أَنِ ائْتِ هَذَا الجَبَّارَ، فَقُلْ لَهُ:
إِنَّنِي لَمْ أَسْتَعْمِلْكَ عَلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ وَاتِّخَاذِ الأَمْوَالِ، وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلْتُكَ لِتَكُفَّ عَنِّي أَصْوَاتَ المَظْلُومِينَ، فَإِنِّي لَمْ أَدَعْ ظُلَامَتَهُمْ وَإِنْ كَانُوا كُفَّاراً (الكافي ج2 ص333).
فالله تعالى لا يترك ظلامة المظلوم ولو كان كافراً، فليس يحقُّ لمؤمن أو غيره أن يظلمَ أحداً على الإطلاق.
ولا يحقُّ لأحدٍ أن يرضى بهذا الظُّلم، وإلا كان شريكاً فيه!
فعن الصادق عليه السلام:
1. العَامِلُ بِالظُّلْمِ
2. وَالمُعِينُ لَهُ
3. وَالرَّاضِي بِهِ
شُرَكَاءُ ثَلَاثَتُهُمْ (الكافي ج2 ص334).
وعن الرضا عليه السلام: وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قُتِلَ بِالمَشْرِقِ فَرَضِيَ بِقَتْلِهِ رَجُلٌ فِي المَغْرِبِ، لَكَانَ الرَّاضِي عِنْدَ الله عَزَّ وَجَلَّ شَرِيكَ الْقَاتِل! (عيون أخبار الرضا ج1 ص273).
وعن الصادق عليه السلام: مَنْ عَذَرَ ظَالِماً بِظُلْمِهِ سَلَّطَ الله عَلَيْهِ مَنْ يَظْلِمُهُ، فَإِنْ دَعَا لَمْ يَسْتَجِبْ لَهُ، وَلَمْ يَأْجُرْهُ الله عَلَى ظُلَامَتِهِ (الكافي ج2 ص334).
فالمؤمن لا يرتضي ظُلماً، وإلا كان شريكاً للظالم، ولا يعذر ظالماً بظلمه، أو يبرِّرُ له، وإلا وقع الظُّلم عليه.
ثانياً: عدم موالاة أعداء الله.. ولو كانوا مظلومين
إنَّ عدم الرِّضا بالظُّلمِ لا يعني موالاة كلِّ مظلوم، ولا مَودَّتَه، ولا نصرته، ولا الدِّفاع عنه، فالموالاة والمودَّة محصورةٌ بالأخوة في الدين، وهم المؤمنون حقاً.
فالمظلوم إمَّا أن يكون أخاً في الله، أي مؤمناً حقاً، وإما أن لا يكون كذلك.
فإن كان مؤمناً، ثبت له حقُّ الموالاة وحقّ الأخوّة، قال تعالى: ﴿وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْض﴾ (التوبة71)، أي يوالي بعضهم بعضاً.
ولكي تتَّصل هذه الولاية، لا بدَّ من أداء حقوق المؤمن، التي منها: أَنْ تُعِينَهُ بِنَفْسِكَ وَمَالِكَ وَلِسَانِكَ وَيَدَيْكَ وَرِجْلَك.. (الكافي ج2 ص169).
وفي الحديث: كُنْ لَهُ ظَهِيراً فَإِنَّهُ لَكَ ظَهِير (المؤمن ص42).
ومن حقوقه منع عدوِّه منه، ففي الحديث: المُؤْمِنُ أَخُو المُؤْمِنِ، يَحِقُّ عَلَيْهِ نَصِيحَتُهُ وَمُوَاسَاتُهُ، وَمَنْعُ عَدُوِّهِ مِنْه (المؤمن ص42).
والمؤمن المظلوم هو الذي ورد في الحديث: إِذَا رَأَيْتَ مَظْلُوماً فَأَعِنْهُ عَلَى الظَّالِمِ (عيون الحكم ص133).
هذا كلُّه إن كان المظلوم مؤمناً..
أما إن لم يكن مؤمناً.. فالأمر يقفُ عند عدم الرِّضا بوقوع الظُّلم عليه، لكن لا تصحُّ موالاته بحالٍ من الأحوال.
قال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإيمانِ وَمَنْ يَتَوَلّهمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (التوبة23).
فمَن والى أهل الباطل ولو كانوا إخوانَه في النَّسَب صار من الظالمين..
مِن ثمَّ لا يجب على المؤمن حقوق الأخوّة الدينية مع غير المؤمن، ولو كان مسلماً، فمن لم يعرف الإمام ويتَّبعه لم يكن عارفاً بالله تعالى، كما في الحديث:
إِنَّمَا يَعْرِفُ الله عَزَّ وَجَلَّ وَيَعْبُدُهُ مَنْ عَرَفَ الله وَعَرَفَ إِمَامَهُ مِنَّا أَهْلَ البَيْتِ، وَمَنْ لَا يَعْرِفِ الله عَزَّ وَجَلَّ وَلَا يَعْرِفِ الإِمَامَ مِنَّا أَهْلَ البَيْتِ فَإِنَّمَا يَعْرِفُ وَيَعْبُدُ غَيْرَ الله، هَكَذَا وَالله ضَلَالًا (الكافي ج1 ص181).
لذا لم تثبت حقوق الأخوّة مع أحدٍ من غير المؤمنين، سواءٌ كانوا على ظاهر الإسلام، أم كانوا من الكفار والمشركين.
نعم لو كان الإسلام في معرض الخطر، وجب الدِّفاع عن الإسلام لا عن المُتَسَّمِّين به من أهل الخلاف للحق، كما في الحديث الشريف: إِنْ خَافَ عَلَى بَيْضَةِ الْإِسْلَامِ وَالمُسْلِمِينَ قَاتَلَ.. يُقَاتِلُ عَنْ بَيْضَةِ الْإِسْلَامِ لَا عَنْ هَؤُلَاءِ، لِأَنَّ فِي دُرُوسِ الْإِسْلَامِ دُرُوسَ دِينِ مُحَمَّدٍ (ص) (الكافي ج5 ص21).
فالمظلوم غير المؤمن لا تصحُّ موالاته، كما لا يصحُّ الرضا بوقوع الظلم عليه.
إنَّ من مصاديق الموالاة: النُّصرَة، والحُبّ.. فلا تصحُّ نصرة أعداء الله بحال، ولا حُبُّهم..
وقد ورد عن الصادق عليه السلام في رسالته التي كان الشيعة يتعاهدونها ويضعونها في مساجد بيوتهم، فإذا فرغوا من الصلاة نظروا فيها، ورد فيها أنَّ أهل الباطل: سَيُؤْذُونَكُمْ، وَتَعْرِفُونَ فِي وُجُوهِهِمُ المُنْكَرَ، وَلَوْ لَا أَنَّ الله تَعَالَى يَدْفَعُهُمْ عَنْكُمْ لَسَطَوْا بِكُمْ، وَمَا فِي صُدُورِهِمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ أَكْثَرُ مِمَّا يُبْدُونَ لَكُمْ!
مَجَالِسُكُمْ وَمَجَالِسُهُمْ وَاحِدَةٌ، وَأَرْوَاحُكُمْ وَأَرْوَاحُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ لَا تَأْتَلِفُ!
لَا تُحِبُّونَهُمْ أَبَداً وَلَا يُحِبُّونَكُمْ!
غَيْرَ أَنَّ الله تَعَالَى أَكْرَمَكُمْ بِالْحَقِّ وَبَصَّرَكُمُوهُ، وَلَمْ يَجْعَلْهُمْ مِنْ أَهْلِهِ، فَتُجَامِلُونَهُمْ وَتَصْبِرُونَ عَلَيْهِمْ (الكافي ج8 ص3).
إنَّ أحكام الشريعة دقيقةٌ جداً.. فالحبُّ بين أهل الحقِّ وأهل الباطل ممنوعٌ.. لأنَّ الميزان عند المؤمن هو الحبُّ في الله والبغض في الله، بل هو من علامات المؤمن.
وفي الحديث عن الباقر عليه السلام: إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ فِيكَ خَيْراً فَانْظُرْ إِلَى قَلْبِكَ:
1. فَإِنْ كَانَ يُحِبُّ أَهْلَ طَاعَةِ الله، وَيُبْغِضُ أَهْلَ مَعْصِيَةِ الله، فَفِيكَ خَيْرٌ، وَالله يُحِبُّكَ.
2. وَإِنْ كَانَ يُبْغِضُ أَهْلَ طَاعَةِ الله، وَيُحِبُّ أَهْلَ مَعْصِيَةِ الله، فَفِيكَ شَرٌّ، وَالله يُبْغِضُكَ، وَالمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَب! (المحاسن ج1 ص263).
ولمّا اشترك في عداوة الله تعالى كلُّ أصحاب العقائد الباطلة، كالقائلين بالتشبيه أو الجبر أو الغلاة أو غيرهم من أهل الضلال، صاروا جميعاً في سفينةٍ واحدة.. وكان لهم حكمٌ واحد.. من حيث عدم جواز مودَّتهم ومحبَّتهم، وموالاتهم وصِلَتهم، وبرِّهم وإكرامهم!
بل صار حُبُّهم بمثابة بغض آل محمدٍ عليهم السلام!
وصار الإحسانُ إليهم بمثابة الإساءة لآل محمد!
فقد روي عن الإمام الرضا عليه السلام:
مَنْ قَالَ بِالتَّشْبِيهِ وَالْجَبْرِ فَهُوَ كَافِرٌ مُشْرِكٌ، وَنَحْنُ مِنْهُ بِرَاءٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ..
إِنَّمَا وَضَعَ الْأَخْبَارَ عَنَّا فِي التَّشْبِيهِ وَالْجَبْرِ الْغُلَاةُ، الَّذِينَ صَغَّرُوا عَظَمَةَ الله:
1. فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَقَدْ أَبْغَضَنَا، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَقَدْ أَحَبَّنَا!
2. وَمَنْ وَالاهُمْ فَقَدْ عَادَانَا، وَمَنْ عَادَاهُمْ فَقَدْ وَالانَا!
3. وَمَنْ وَصَلَهُمْ فَقَدْ قَطَعَنَا، وَمَنْ قَطَعَهُمْ فَقَدْ وَصَلَنَا!
4. وَمَنْ جَفَاهُمْ فَقَدْ بَرَّنَا، وَمَنْ بَرَّهُمْ فَقَدْ جَفَانَا!
5. وَمَنْ أَكْرَمَهُمْ فَقَدْ أَهَانَنَا، وَمَنْ أَهَانَهُمْ فَقَدْ أَكْرَمَنَا!
6. وَمَنْ قَبِلَهُمْ فَقَدْ رَدَّنَا، وَمَنْ رَدَّهُمْ فَقَدْ قَبِلَنَا!
7. وَمَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِمْ فَقَدْ أَسَاءَ إِلَيْنَا، وَمَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِمْ فَقَدْ أَحْسَنَ إِلَيْنَا!
8. وَمَنْ صَدَّقَهُمْ فَقَدْ كَذَّبَنَا، وَمَنْ كَذَّبَهُمْ فَقَدْ صَدَّقَنَا!
9. وَمَنْ أَعْطَاهُمْ فَقَدْ حَرَمَنَا، وَمَنْ حَرَمَهُمْ فَقَدْ أَعْطَانَا!
يَا ابْنَ خَالِدٍ، مَنْ كَانَ مِنْ شِيعَتِنَا فَلَا يَتَّخِذَنَّ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً (التوحيد للصدوق ص364).
هكذا تمنع الشريعة من موالاة أعداء الله، وإن أمرت بحسن العشرة مع المسلمين منهم، سيَّما من كان تحت سلطانهم. فهذا حكمٌ خاصٌّ لا يلازم المودة والمحبة بحال.
من ثمَّ يسري الأمرُ إلى الدُّعاء، فلا يصحُّ الدُّعاء لأعداء الله بحال، وقد قال تعالى: ﴿وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهيمَ لِأَبيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لله تَبَرَّأَ مِنْه﴾ (التوبة114).
ثالثاً: أن يعلم أنَّ للتعاطف حدَّاً
قد يتساءل المؤمن عن حَدِّ التعاطُف الذي يصحُّ أن يقع منه، ويعقد قلبه عليه، ويبرزه بلسانه وفِعاله.. مع المخالف أو الكافر المظلوم..
إنَّ المؤمن رقيق القلب على المؤمنين.. ولكنَّه على أعدائهم لا تأخذه في الله لومة لائم..
ولو رأى المؤمن ظُلماً يقع على نساء وأطفال الكُفّار أو المخالفين، قد يتألَّم قلبه، بل قد يرى من المآسي القاسية ما يُقَطِّعُ نياط القلب.
فكم من جريمةٍ مروِّعةٍ تقع على النِّساء والأطفال في هذه الأيام.. ينفطر القلبُ لصورتها وهي تُنقَلُ من شرق الأرض وغربها..
ههنا يُمَيِّزُ المؤمن بين حالتين:
الأولى: أن يكون المظلوم ناصبياً نجس العين، قَبيحَ الفعل، مُبغضَاً لآل محمدٍ عليهم السلام، فإنَّ الرِّقَّةَ عليه في غير محلِّها، بل ينبغي الحذرُ منها ومنه، فهو أنجس من الكلب وأقذر، وقد ورد في الحديث:
فَأَمَّا النَّاصِبُ فَلَا يَرِقَّنَّ قَلْبُكَ عَلَيْهِ، وَلَا تُطْعِمْهُ وَلَا تَسْقِهِ وَإِنْ مَاتَ جُوعاً وَعَطَشاً، وَلَا تُغِثْهُ، وَإِنْ كَانَ غَرِقاً أَوْ حَرِقاً.. مَنْ أَشْبَعَ نَاصِبِيّاً مَلَأَ الله جَوْفَهُ نَاراً يَوْمَ الْقِيَامَةِ (الأصول الستة عشر ص200).
الثانية: أن لا يكون المظلوم ناصبياً..
فحينها لا يمنع الدين من رقَّة القلب عليه.. ففي الحديث: إِلَّا أَنْ يَرِقَّ قَلْبُكَ عَلَيْهِ فَتُعْطِيَهُ الْكِسْرَةَ مِنَ الْخُبْزِ وَالْقِطْعَةَ مِنَ الْوَرِقِ (الأصول الستة عشر ص200).
والإسلام دين الإنسانية والشَّفقة والعطف والمحبَّة..
وقد روي أنَّ: نُوحاً لمَّا شَاهَدَ غَرَقَ قَوْمِهِ رَقَّ عَلَيْهِمْ رِقَّةَ الْقُرْبَةِ، وَأَظْهَرَ عَلَيْهِمْ شَفَقَةً، فَقَالَ: ﴿رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي﴾، فَقَالَ الله تَعَالَى: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ﴾ (الإحتجاج ج1 ص212).
فالرِّقة هنا ما عَنَت الدِّفاع عنهم ولا مودَّتَهم..
وهؤلا ما كانوا مظلومين، فالذي يعاقبهم هو الله تعالى، مع أنَّ نوحاً عليه السلام رقَّ عليهم، وأخذته الشفقة، لشدَّة ما وقع بهم..
أما النبيُّ صلى الله عليه وآله، فلقد كان أكثر رِقَّةً وشفقةً ورحمةً من نوحٍ عليه السلام، لكنَّ الميزان عنده وعند الأنبياء دائماً هو رضا الله تعالى، فإنَّه لمّا عانده قومه، و: أَمَرَهُ الله بِالْقِتَالِ، شَهَرَ عَلَى قَرَابَتِهِ سَيْفَ النَّقِمَةِ، وَلَمْ تُحَرِّكْهُ شَفَقَةُ الْقَرَابَةِ (بحار الأنوار ج17 ص251)..
وَلَمْ يَنْظُرْ إِلَيْهِمْ بِعَيْنِ رَحْمَة (الإحتجاج ج1 ص212).
هكذا يتبيَّن أنَّ الشريعة:
1. ترفض وقوع الظُّلم على أيِّ أحد.
2. وتجعل الراضي بوقوعه شريكاً فيه!
3. وتتوعَّد من يعذر الظالم بظلمه بوقوع الظُّلم عليه!
4. لكنَّها تنهى عن موالاة المظلوم إن لم يكن من أهل الإيمان، وعن مودَّته وحُبِّه وصلته وبرِّه وإكرامه والإحسان إليه.
5. وتقبل التعاطُف معه كإنسانٍ مظلومٍ.. ما لم يكن ناصبياً خبيثاً..
ثمَّ تُرشدُ المؤمن، إلى أنَّ الله تعالى يرعى المؤمنين، فإذا وقع صراعٌ بين أهل الباطل، مهما كان دينُهم ومذهبهم، زوى الله تعالى النَّصر عمَّن كان أشدَّ على أهل الإسلام والإيمان..
ففي الحديث الشريف عن الصادق عليه السلام:
مَا الْتَقَتْ فِئَتَانِ قَطُّ مِنْ أَهْلِ الْبَاطِلِ إِلَّا كَانَ النَّصْرُ مَعَ أَحْسَنِهِمَا بَقِيَّةً عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ (الكافي ج8 ص152).
ثمَّ إنَّ من أشدِّ ما ينبغي على المؤمن اجتنابه، هو ظلم أخيه المؤمن، ففي الحديث:
يَا مَعْشَرَ شِيعَتِنَا اتَّقُوا الله، وَاحْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا لِتِلْكَ النَّارِ حَطَباً، وَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بالله كَافِرِينَ، فَتَوَقَّوْهَا بِتَوَقِّي ظُلْمِ إِخْوَانِكُمُ المُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ مُؤْمِنٍ ظَلَمَ أَخَاهُ المُؤْمِنَ، المُشَارِكَ لَهُ فِي مُوَالاتِنَا، إِلَّا ثَقَّلَ الله فِي تِلْكَ النَّارِ سَلَاسِلَهُ وَأَغْلَالَهُ، وَلَمْ يَفُكَّهُ مِنْهَا إِلَّا شَفَاعَتُنَا، وَلَنْ نَشْفَعَ إِلَى الله تَعَالَى إِلَّا بَعْدَ أَنْ نَشْفَعَ لَهُ إِلَى أَخِيهِ المُؤْمِنِ، فَإِنْ عَفَا عَنْهُ شَفَعْنَا [لَهُ]، وَإِلَّا طَالَ فِي النَّارِ مَكْثُهُ! (تفسير الإمام العسكري عليه السلام ص204).
فليحذر مؤمنٌ أن يؤذي أخاه المؤمن ويظلمه حتى بالكلمة، إذا رأى منه ما يخالف رأيه أو هواه..
وليحذر مؤمنٌ أن يوالي أعداء الله.. ويظلم أولياء الله..
وليحذر مؤمنٌ أن يثيرَ فتنةً بين المؤمنين.. على حساب المخالفين أو الكافرين ولو كانوا مظلومين..
فإنَّ أحداً من المؤمنين لا يرضى بظلمهم.. لكنَّ الله تعالى ما أمرنا بموالاتهم ومودَّتهم.. وإن رقَّ قلبنا على الضعفاء منهم..
والحمد لله رب العالمين
الأحد 29 ربيع الأول 1445 هـ، الموافق 15 – 10 – 2023