بسم الله الرحمن الرحيم
يؤمنُ المسلمون جميعاً بأنَّ في القرآن الكريم تبياناً لكلِّ شيء، فقد قال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ (النحل89).
ويعتقدون أنَّه كتابٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
لكنَّهم يواجهون جملةً من الأسئلة التي تحتاجُ إلى جواب، وكلُّ جوابٍ عليها يستدعي سؤالاً آخر..
1. أين علوم القرآن؟ وما هي؟
نبدأ مع سؤال سائلٍ يقول:
كيف يحوي القرآن الكريم الذي بين أيدينا (كَلَّ شيء)؟
ونحن نرى كثيراً من العلوم غائبةً عنا.. ونجزم أنَّ ما لا يُحصى كثرةً منها ظلَّ مجهولَ الحال والمآل لدينا، وهذا ثابتٌ بالوجدان.. فَمِنَ الجَليِّ إذاً أنَّ الكتاب المجموع بين الدَّفتين لا يحوي كل العلوم، فكيف ذلك؟!
إنَّ أصحابَ الأئمة عليهم السلام كانوا يسألونهم عن تفسير القرآن الكريم، وكانوا عليهم السلام يجيبون في الآية الواحدة بتفاسير عدة، ولمّا سئل الباقر عليه السلام عن ذلك أجاب بقوله:
يَا جَابِرُ إِنَّ لِلْقُرْآنِ بَطْناً، وَلِلْبَطْنِ بَطْناً، وَلَهُ ظَهْرٌ، وَلِلظَّهْرِ ظَهْرٌ.. وَهُوَ كَلَامٌ مُتَّصِلٌ، مُنْصَرِفٌ عَلَى وُجُوه (المحاسن ج2 ص300).
دَلَّ هذا النصُّ الشريف على أنَّ للقرآن الكريم وجوهاً متكثِّرَة، وكَشَفَ نَصٌّ آخر أنَّ وجوه القرآن لا تُحصى، فعن الصادق عليه السلام: وَإِنَّمَا الِاسْمُ الوَاحِدُ فِي وُجُوهٍ لَا تُحْصَى (بصائر الدرجات ج1 ص196).
وعدمُ إحصاء هذه الوجوه يتناسب وشمولها لكلِّ العلوم، فقد أودَعَ اللهُ تعالى كلَّ علوم السماء والأرض في الكتاب العزيز، ولكن على نَحوٍ خاصٍّ لا يُدرِكُه كلُّ أحد.
وقد بيَّن الإمام الصادق عليه السلام ما يضمُّ القرآن فقال: فِيهِ بَدْءُ الخَلْقِ، وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَفِيهِ خَبَرُ السَّمَاءِ وَخَبَرُ الأَرْضِ، وَخَبَرُ الجَنَّةِ وَخَبَرُ النَّارِ، وَخَبَرُ مَا كَانَ وَخَبَرُ مَا هُوَ كَائِنٌ (الكافي ج1 ص61).
فإنَّ ما غابَ في السماء والأرض، وما كان وما يكون من أحداثٍ، مخزونٌ في الكتاب.
وقد تضمَّن القرآن الكريم كلَّ علمٍ يحتاجه الناس إلى آخر الدَّهر.. فعن الصادق عليه السلام: إِنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْزَلَ فِي القُرْآنِ تِبْيَانَ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى وَالله مَا تَرَكَ الله شَيْئاً يَحْتَاجُ إِلَيْهِ العِبَادُ، حَتَّى لَا يَسْتَطِيعَ عَبْدٌ يَقُولُ لَوْ كَانَ هَذَا أُنْزِلَ فِي القُرْآنِ إِلَّا وَقَدْ أَنْزَلَهُ الله فِيهِ (الكافي ج1 ص59).
غايةُ الأمر، إنَّ إيداعَهُ في الكتاب لم يكن على نَحو النصِّ الجليِّ الظاهر كي يتمكَّنَ كلُّ أحد من الوصول إليه.
فعن الصادق عليه السلام: مَا مِنْ أَمْرٍ يَخْتَلِفُ فِيهِ اثْنَانِ إِلَّا وَلَهُ أَصْلٌ فِي كِتَابِ الله عَزَّ وَجَلَّ، وَلَكِنْ لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُ الرِّجَالِ (الكافي ج1 ص60).
وعن الباقر عليه السلام: يَا جَابِرُ، لَيْسَ شَيْءٌ أَبْعَدَ مِنْ عُقُولِ الرِّجَالِ مِنْ تَفْسِيرِ القُرْآنِ (المحاسن ج2 ص300).
دلَّت هذه الروايات على أنَّ العلوم الواسعة التي لا تُحصى كثرةً موجودةٌ في القرآن الكريم حقاً، لكن لا يمكن لأيِّ أحدٍ اكتِنَاهُهَا، فهي ليست من النصوص الواضحة الجليَّة، ولا من الظواهر، بل هي معانٍ يستبطِنها النصُّ على هيئة خاصٍة أرادها الله تعالى، وما لم يكن الإنسان مُعَلَّماً من قبل الله تعالى على آلية الاستخراج منه، لم يكن له أن يبلغ ذلك بعقله.
بل إنَّ الإخبار عن هذه العلوم وكشفها يكون مدعاةً للتَّعَجُّب عند ظهورها، كما في الحديث عن الصادق عليه السلام: إِنَّ الله أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ كِتَابَهُ الصَّادِقَ النَّازِلَ فِيهِ خَبَرُكُمْ وَخَبَرُ مَا قَبْلَكُمْ وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَخَبَرُ السَّمَاءِ وَخَبَرُ الأَرْضِ، فَلَوْ أَتَاكُمْ مَنْ يُخْبِرُكُمْ عَنْ ذَلِكَ لَعَجِبْتُمْ (المحاسن ج1 ص267).
أي أنَّ كشفَ هذه العلوم للناس يدعوهم للعَجَب، إما لعظمة هذه العلوم وكثرتها، أو لخفاء آلية استخراجها عندهم واختصاصها بمَن يُخبرُهم بها.
ثمَّ ينقلنا هذا الحديث إلى السؤال الثاني..
2. من هو الكاشف لعلوم القرآن؟
إذا تبيَّنَ أن كلَّ شيءٍ مخزونٌ في القرآن فعلاً، ولكن لا سبيل للعقول إلى معرفة كلّ تلك العلوم، تنقدح في البال أسئلة أخرى.
ومن أهمِّها: كيف يمكن معرفة تلك العلوم؟ وما السبيل إلى بلوغها والاستفادة منها؟
يقول أميرُ المؤمنين عليه السلام في نهجه:
هذَا القُرْآنُ إِنَّمَا هُوَ خَطٌّ مَسْتُورٌ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ، لاَ يَنْطِقُ بِلِسَان، وَلاَ بُدَّ لَهُ مِنْ تَرْجُمَان، وَإِنَّمَا يَنْطِقُ عَنْهُ الرِّجَالُ (الخطبة 125).
فمَن هو تَرجُمان القرآن؟
إنَّهُ عَليُّ بن أبي طالب بالاتفاق، بل ما ادُّعِيَت هذه المنقبة عند عموم المسلمين لأحدٍ بعد النبي (ص) سواه عليه السلام والأئمة من ذريته عليهم السلام. فإنَّ أحداً سواه لا يقدر أن يثبت إحاطته بما في الكتاب من علومٍ وأنه ترجمانه.
والمخالف الذي يعجز كما نعجز عن (استخراج كلِّ شيء) من القرآن الكريم، يَحارُ في تفسير هذه الآية، ويتخبَّط يميناً وشمالاً، حتى يزعم بعضهم أنَّ القرآن يتضمَّن بيانَ كلِّ شيء لدلالته على حجيَّة القياس! الذي به تُعلَمُ الأحكامُ عندهم! فتُنسَب حينها للقرآن! (تفسير الرازي ج20 ص99).
أما الشيعة، فإنَّهم علموا أن هذا الاستخراج مقصورٌ على من علَّمه الله تعالى ذلك، وهو الرسول صلى الله عليه وآله، ومن بعده الإمام المعصوم.
وهذا الباقر عليه السلام يقول:
مَا ادَّعَى أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّهُ جَمَعَ القُرْآنَ كُلَّهُ كَمَا أُنْزِلَ إِلَّا كَذَّابٌ، وَمَا جَمَعَهُ وَحَفِظَهُ كَمَا نَزَّلَهُ الله تَعَالَى إِلَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (ع)، وَالأَئِمَّةُ مِنْ بَعْدِهِ (ع) (الكافي ج1 ص228).
فهم الذين عندهم علم الكتاب كلُّه دون سواهم: وَالله عِنْدَنَا عِلْمُ الكِتَابِ كُلُّهُ (بصائر الدرجات ج1 ص213).
وعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (ع): مَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ جَمَعَ القُرْآنَ كُلَّهُ ظَاهِرَهُ وَبَاطِنَهُ غَيْرُ الأَوْصِيَاءِ (بصائر الدرجات ج1 ص193).
وليس يطَّلع على كل حقائقه أحدٌ إلا أهل البيت كما في الحديث: لَا يَنَالُهُ كُلَّهُ إِلَّا المُطَهَّرُونَ، إِيَّانَا عَنَى، نَحْنُ الَّذِينَ أَذْهَبَ الله عَنَّا الرِّجْسَ وَطَهَّرَنَا تَطْهِيرا (كتاب سليم ج2 ص847).
وقد قال النبي (ص): لَا يُوَضِّحُ لَكُمْ تَفْسِيرَهُ إِلَّا الَّذِي أَنَا آخِذٌ بِيَدِهِ.. وَهُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (روضة الواعظين ج1 ص94).
ومن الجليِّ أنه لا تنافي بين احتوائه على كل شيء، وبين احتياج الناس للمُبَيِّن، وعدم قدرتهم على استخراج كل ما فيه رغم وجوده.
3. لماذا أخفى الله بعض علوم القرآن؟
إذا تبيَّنَ أن القرآن حاوٍ لكلِّ العلوم، وأنَّه بعيدٌ عن عقول الرجال.. وأنَّ معرفة هذه العلوم مختصةٌ بالمعصومين عليهم السلام.
وإذا تبيَّنَ أنَّ القرآن ليس على نمطٍ واحد، بل يتضمن المحكمات والمتشابهات: ﴿هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهات﴾ (آل عمران 7).
تنقدح تساؤلات عدة:
لماذا خصَّصَ الله سبحانه وتعالى علم القرآن بأكمله بالمعصومين عليهم السلام؟ لمَ لَم يُشرِك معهم الخلق في ذلك؟
ثمَّ لماذا جعل الله سبحانه وتعالى في القرآن متشابهات؟
أليس في هذين الأمرين إخفاءٌ لما ينبغي إظهاره بحسب الظاهر؟ فما السرُّ في ذلك؟
إنَّ لوجود المتشابه في القرآن، وإخفاء الأسرار فيه على نحوٍ لا يدركه كلُّ أحد وجوهاً شتى منها:
الوجه الأول: امتحان العباد
لقد أشار القرآن الكريم إلى سبب احتوائه على محكمٍ ومتشابه، حين قال تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ﴾.
إنَّ الله تعالى عالمٌ بأنَّ المتشابه يفتحُ باباً لمن في قلوبهم زيغٌ، رغم ذلك ضَمَّنَ كتابه المتشابهات، استكمالاً لامتحان العباد..
إنَّ الله تعالى قادرٌ على أن يُنزِلَ قرآناً مقصوراً على محكماتٍ لا تحتملُ وجوهاً، ولا يمكن حملُها على أكثر من معنى، ولكنَّ هذا يغلق أبواب اختبار الخلق من هذه الجهة.. ويصير الإمتحان مقصوراً على قبول النص وَرَدِّه.
ولكنَّ الله تعالى أراد زيادةً في امتحان العباد، ففتح عزَّ وجل هذا الباب، وامتحنهم بالمحكم والمتشابه، حين أمرهم بالإيمان بهما معاً، والعمل بأولهما دون الآخر.
روي عن الصادق عليه السلام: إِنَّ القُرْآنَ فِيهِ مُحْكَمٌ وَمُتَشَابِهٌ:
فَأَمَّا المُحْكَمُ فَنُؤْمِنُ بِهِ، فَنَعْمَلُ بِهِ وَنَدِينُ بِهِ.
وَأَمَّا المُتَشَابِهُ فَنُؤْمِنُ بِهِ، وَلَا نَعْمَلُ بِهِ (بصائر الدرجات ج1 ص203).
كيف لا نعملُ بالمتشابه؟
لا نعمل بما دلَّ عليه دلالةً بدويَّة، بل نَرُدُّه إلى المحكم، فنكون قد عملنا بالمحكم لا بالمتشابه.. أو نفسِّرُهُ بناءً على المحكم إن كان مُجملاً.
وقاعدة الامتحان هذه ليست عزيزة، بل هي قاعدةٌ سيّالةٌ تجري في سائر ما ابتلى الله به عباده.
إنَّ الأنبياءُ لم يكونوا أهل غلبةٍ دائمة، ولا أصحاب مالٍ لا ينفد، رغم سَعَةِ قدرة الله تعالى، ورغم أن لا حدَّ لسلطانه تعالى، وأن ليس في ساحته عزَّ وجل بُخلٌ على أنبيائه.. حاشاه ربنا عزَّ وجل.
ولكن.. لو كان الله تعالى قد فتح للأنبياء خزائنه، لتعجَّبَ الناس من قدرتهم ومما أعطاهم، ولسهُل عليهم الانقياد لهم لعظيم ما عندهم.
لكنَّه تعالى يريد أن يمتحن العباد، ويريد أن تكون طاعتهم خالصةً له، لا لأجل ما أعطى الأنبياء، لذا قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام:
وَلَكِنَّ الله أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الِاتِّبَاعُ لِرُسُلِهِ، وَالتَّصْدِيقُ بِكُتُبِهِ، وَالخُشُوعُ لِوَجْهِهِ.. أُمُوراً لَهُ خَاصَّةً، لَا تَشُوبُهَا مِنْ غَيْرِهَا شَائِبَةٌ.
تكشف هذه العبارة من الحديث (يَكُونَ.. التَّصْدِيقُ بِكُتُبِهِ) أنَّ الله تعالى أراد من العباد أن يصدِّقُوا كتابه لأنَّه كتابُه، لا لشيء آخر!
أي أن عليهم الإيمان به سواءٌ تضمَّنَ متشابهاً أم لم يتضمَّن، لا أن يؤمنوا به لأنَّه محكمٌ فقط.
وقد فتح الله لهم باباً للتصديق من طريق إعجاز الكتاب، ثم اختبرهم بتضمينه المتشابه إتماماً للاختبار لهم.
وَكُلَّمَا كَانَتِ البَلْوَى وَالِاخْتِبَارُ أَعْظَمَ كَانَتِ المَثُوبَةُ وَالجَزَاءُ أَجْزَلَ (الكافي ج4 ص199).
هي رحمةٌ من الله تعالى إذاً بالعباد، فإنَّ الثواب يتناسبُ مع الامتحان صعوبةً وسهولةً، وكلَّما اشتدَّ الامتحان والاختبار عَظُم الثواب والجزاء، فيكون في اختبار الله تعالى للعبادِ نوعُ رحمةٍ وتفضُّلٍ منه عزَّ وجل، بحيث يفتح لهم أبواباً أوسع لنيل الثواب والجزاء الطَّيِب.
ومن نماذج ذلك أيضاً امتحانُ الله تعالى للخلق بالحج الى بيتٍ صُنِعَ من أحجارٍ، كما الأصنام التي أُمِروا بهَدمها.. ثم جعله الله في أوعر البقاع، وأمَرَهُم بالتذلُّل له عند البيت في عبادةٍ من نوعٍ خاص، وكان تعالى قادراً على أن يمتحنهم بالحجِّ إلى بَيتٍ عظيمٍ من زمرد وياقوت ونور، ولو فعل، يقول الإمام:
لَخَفَّفَ ذَلِكَ مُصَارَعَةَ الشَّكِّ فِي الصُّدُورِ، وَلَوَضَعَ مُجَاهَدَةَ إِبْلِيسَ عَنِ القُلُوبِ، وَلَنَفَى مُعْتَلَجَ الرَّيْبِ مِنَ النَّاسِ:
نعم لو شاء الله تعالى أن لا يُبقي شكّاً في النفوس لفعل، ولأعدَمَ كلِّ ما يدعو للريبة، ويَصعُب على القلوب تقبُّلُ أمره.. لكنَّ ذلك يتنافى مع إرادة الله اختبار عباده.. وهو ما فيه خيرُهم وصلاحُهم.
وَلَكِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ يَخْتَبِرُ عَبِيدَهُ بِأَنْوَاعِ الشَّدَائِدِ.. ﴿أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذِبِينَ﴾ (الكافي ج4 ص200).
إنَّ الله تعالى عالمٌ بما كان وما يكون، لكنَّ حكمته اقتضت أن يختبر الناس فعلاً، فتظهر حقائق العِباد بأعمالهم، ويتبين المطيع والعاصي، فيستحق بذلك كلٌّ منهما جزاءه.
الوجه الثاني: الرجوع إلى أبواب الله
على أنَّ هناك وجهاً آخر لِتَضَمُّن الكتاب المتشابهات، وعدم تمكُّن عموم الناس من استخراج كلِّ العلوم منه، واحتياجهم إلى من يكشف لهم بطونه.
والوجه هو التدليل على هؤلاء الذين عَلَّمَهم البطون.
فإنَّ الله تعالى جعل أشخاصاً بأعينهم أبواباً له، وطُرُقاً تدلُّ عليه، وترشد إليه، وأمرَ باتِّباعهم، ثم أنزلَ كتاباً فيه المحكم والمتشابه، فصار المتشابَه خَفياً على الناس، فاحتاجوا إلى أبواب الله، وأُمِرُوا بالرجوع إليهم.
قال الإمام عليه السلام:
إِنَّمَا القُرْآنُ أَمْثَالٌ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَلِقَوْمٍ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ، وَهُمُ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَعْرِفُونَهُ، فَأَمَّا غَيْرُهُمْ، فَمَا أَشَدَّ إِشْكَالَهُ عَلَيْهِمْ، وَأَبْعَدَهُ مِنْ مَذَاهِبِ قُلُوبِهِمْ:
إن لم يتمكن عبدٌ من تمييز المتشابه عن المحكم، وَرَدِّهِ إليه، وقع في عظيم البلاء: (فَمَا أَشَدَّ إِشْكَالَهُ عَلَيْهِمْ)، وسقطَ في الامتحان، لأنَّ فهم هذا القرآن يحتاج إلى مفاتيح وأدلة، وهي عندَهم دون سواهم، فلا بدَّ من العَود إليهم.
وهكذا أنزل الله تعالى آياتٍ متشابهات كي يعرف الناس أبواب الله وأدلائه فيرجعوا إليهم، يقول عليه السلام:
وَإِنَّمَا أَرَادَ الله بِتَعْمِيَتِهِ فِي ذَلِكَ أَنْ يَنْتَهُوا إِلَى بَابِهِ وَصِرَاطِهِ:
هنا بيتُ القصيد، الله تعالى أنزلَ كتاباً بيد النبي (ص)، ثم أمر الأمة باتباعه، ثم اتباع الأوصياء من بعده، وجعلهم تراجمة وحيه، وكان السرُّ في (تَعمِيَتِهِ) أي عدم جعل كلِّ علومه واضحةً جليَّةً لكلِّ أحد، أن يستدل الناس بذلك على الأئمة المعصومين المطهَّرين.
إنَّ من آمن بأنَّ الكتاب معجزةُ الله لعباده، ثمَّ نظر فيه، فوجده يُصَرِّحُ باحتوائه على تبيان كلّ شيء، ثم نظر فيه بعقله وقلبه فعجز عن استخراج كلِّ ما يحتاج إليه، لا بد أن يبحث عمَّن أودعهم الله علومه، وهم الأئمة عليهم السلام حصراً.. إذ لم يُدَّع لأحدٍ من الخلق سواهم مثل هذه المرتبة.
أراد الله إذاً بتعميته على عباده أن:
يَنْتَهُوا فِي قَوْلِهِ إِلَى طَاعَةِ القُوَّامِ بِكِتَابِهِ، وَالنَّاطِقِينَ عَنْ أَمْرِهِ، وَأَنْ يَسْتَنْطِقُوا مَا احْتَاجُوا إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ عَنْهُمْ لَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ:
فليس العبدُ هو المفسِّرُ لكتاب الله الصامت، يقول أمير المؤمنين عليه السلام: ذلِكَ القُرْآنُ فَاسْتَنْطِقُوهُ، وَلَنْ يَنْطِقَ، وَلَكِنْ أُخْبِرُكُمْ عَنْهُ..
فمَن جعلَ نفسَه من أهل استنطاق أسرار القرآن، وزعم أنَّه عالمٌ بكلِّ ما فيه، أو أنَّه مُستغنٍ عن (القُوَّامِ بِكِتَابِهِ).. فقد أنزل نفسه منزلتهم، وسلب الحقَّ أهله، وَضَلَّ وأضلّ.
هؤلاء قُوَّامُ الكتاب، بهم تُستجلى أحكام الله وتُعرَف، ومنهم يؤخذ الحق، وهم سادة الخلق والعباد، فمَن جعل نفسه لهم قريناً، وادَّعى منزلتهم كان منازعاً لله في سلطانه.
هم العالمون بعلوم القرآن حصراً:
فَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَلَيْسَ يعْلَمُ ذَلِكَ أَبَداً، وَلَا يُوجَدُ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ الخَلْقُ كُلُّهُمْ وُلَاةَ الأَمْرِ، إِذْ لَا يَجِدُونَ مَنْ يَأْتَمِرُونَ عَلَيْهِ، وَلَا مَنْ يُبَلِّغُونَهُ أَمْرَ الله وَنَهْيَهُ (المحاسن ج1 ص268).
إنَّ الله تعالى قادرٌ أن يُنزِلَ الوحي على كلِّ العباد، ثمَّ لا يرسل لأحدٍ رسولاً، لكنَّ البلوى بذلك تسقط، والله تعالى يريد اختبار عباده.
وليس يُعقل أن يجعلهم جميعاً ولاةً! فعلى أي أحد يكون الجميعُ ولاةً؟ وإذا كان الجميع ولاةً وكانت طاعة الوالي والوليّ واجبةً فمَن هم الذين أمروا بطاعته وكلُّ الناس ولاة؟
لذا كان مقتضى الحكمة الإلهية أن يخصَّ عز وجل الكمَّل بذلك المنصب، فجعلهم أهل علم القرآن، تفسيراً وتأويلاً، ظاهراً وباطناً، وجعلهم بابه الذين منه يؤتى.
وصار السبب في إخفاء علوم القرآن عن كلِّ أحدٍ هو الإضطرار إلى الرجوع لآل محمد عليهم السلام، قوّام القرآن الكريم.
فما أعظمَ آل محمدٍ عليهم السلام، حيثُ كان الإرشادُ إلى ولايتهم، والتدليل عليهم، سبباً في أن يجعل الله تعالى كتابَه على ما هو عليه!
4. هل يفهم القرآن.. غير الإمام؟
إذا تبيَّنَ أنَّ تمام علوم القرآن مختصةٌ بالمعصومين عليهم السلام، وأنَّ الله تعالى قد أودعها لديهم ليرجع الناس إليهم.
وإذا انكشف أنه تعالى أودعَ الكتاب محكماً ومتشابهاً لامتحان الخلق بذلك، فهل يعني هذا أنَّ القرآن الكريم لا يكون حجةً مطلقاً؟ أو أنه لا يصح العمل بشيء من آياته إلا بعد العودة إلى المعصومين عليهم السلام؟
وهل يدلُّ على هذا المعنى قول الإمام الباقر عليه السلام: وَيْحَكَ يَا قَتَادَةُ إِنَّمَا يَعْرِفُ القُرْآنَ مَنْ خُوطِبَ بِهِ (الكافي ج8 ص312).
إنَّ الأمَّةَ كلُّها قد خوطبت بالقرآن، لكنَّها لو اجتمعت بأَسرِها سوى المعصوم ما أمكنها أن تعرف القرآن كلَّه بتمامه وكماله.
فلا جرم أن يكون المخاطب المباشِر به هو الذي يعرفه، وهو الرسول صلى الله عليه وآله، ثمَّ مَن نُزِّل منزلته وهم الأئمة الأطهار عليهم السلام.
فهل يصير القرآن كتاباً لا يمكن العمل به إلا بعدَ العودة إلى النبيِّ والإمام عليه السلام؟ فيسقط عن الحجية بنفسه؟!
إنَّ ههنا معنىً في غاية الأهمة، وهو أن الآيات التي يجبُ الإيمان بها ولا يصحُّ العملُ بها هي المتشابهات فقط، وليس من المتشابه ما يكونُ ظاهراً في معنى، ثمَّ لا تقوم قرينةٌ على صرفه عنه، فإنَّ هذا الظاهر مما يجبُ العملُ به بلا شكٍّ وشبهة.
أي أنَّ ظواهرَ القرآن لا بدَّ أن تكون حجَّةً بنفسها، إلا في مواردَ يقوم الدليل على لزوم صرفِها عن ظهورها.
بعبارة أخرى:
إنَّ آيات القرآن على أصناف، فمنها: النَّصُّ، والظاهرُ، والمُجمَل.
1. النَّصُّ: هو العبارةُ التي يُفهَمُ منها معنى ولا تَحتَمِلُ خلافه. ولا شك بلزوم العمل به، والنصوصُ مِنَ المحكمات التي أُمِرنَا بالعمل بها.
2. الظاهرُ: هو العبارةُ التي ظَهَرَت في معنى، لكنَّها تحتَمِلُ معنى آخر. وهنا لا يُصار إلى العدول عن الظاهر إلا بقرينة، ومَعَ فقدها لا شكّ بلزوم العمل بالظاهر.
نعم قد يكون كلامُ الإمام قرينةً على حَمل الظاهر على خلاف ظهوره، فلا يصحُّ العمل بظاهر هذه الآيات إن وُجِدَت تلك القرينة أو سواها من القرائن، أما مع بقائها على ظهورها، وعدم وجود قرينةٍ صارفةٍ لها، يكون حكمها حكم النصّ من لزوم العمل بها جزماً.
وقد يقال بأنَّ الظاهر الذي قامت قرينة على صرفه عن ظهوره، كان من المتشابه، وببركة القرائن عرفنا كيفية التعامل معه بردِّه إلى المحكم.
3. المجملُ: وهو من المتشابه، حتى قيل أنَّه هو المتشابه.
وفي المجمل يكون لِلَّفظ معنَيان أو أكثر، مع تساوي النسبة إلى هذه المعاني.
ويلزم النظر في القرائن التي تُعَيِّنُ المعنى المراد حقاً، ويكون ذلك عبر الآيات المحكمات، أو عبر أدلة العقل القطعي، أو عبر نصوص الأئمة المعصومين عليهم السلام.
أما ما يقال: أنَّ القرآن ليس حجَّةً أبداً! فهذا مما لا يمكن الالتزام به.
فهو وإن تَضَمَّنَ المتشابهات، إلا أنه ليس كتاباً مبهماً.
وإن كان تمام علمه عند المعصوم عليه السلام، إلا أن ما يظهر منه يكون حُجَّةً بلا شك، إلا أن تقوم القرينة على خلاف ذلك.
بل إن من زعم أن القرآن لا يمكن أن يُفهَمَ شيء منه، وأنه مُبهَمٌ غامضٌ بتمامه فقد أحال، إذ كيف يكونُ كتابٌ أنزله الله للهداية غامضاً مُبهَماً؟! وأيُّ ثمرةٍ تترتب عليه حينها؟ ولو كان كذلك لصارَ لغواً لا حاجة له بحالٍ من الأحوال!
وقد نبَّه الإمام الباقر عليه السلام لخطورة هذا الأمر حين قال:
مَنْ زَعَمَ أَنَّ كِتَابَ الله مُبْهَمٌ فَقَدْ هَلَكَ وَأَهْلَكَ (المحاسن ج1 ص270).
هلك لأنَّه أسقط القرآن عن الحجية، فلم يعد يصح الاستدلال به بحال.. وبهذا لا يبقى حجرٌ على حجر.
وكيف يسقط وقد جعله الأئمة دليلاً لهم على مَن خاصمهم، وقد استدلَّت به الزهراء عليها السلام على من سلبها حقها.
لقد استدلوا بمحكماته لا بمتشابهاته، بل أمروا بعرض رواياتهم المشكوك بأمرها على القرآن، أي على محكمات القرآن الكريم، وَرَدِّ ما عارضه معارضةً مستقرَّة، فإنَّهم لا يخالفونه ولا يخالفهم.
وكما أن القرآن يوافق بعضه بعضاً، ولا يخالف شيءٌ منه شيئاً آخر، كذلك كلامُهم كُلُّه مُتَّسِقٌ لا يختلف، ولا يُخالفُ القرآنَ بحال.
ثمَّ إنَّ النصوص صريحةٌ في حرمة مخالفة ما في ظهر القرآن وبطنه، فيكون الظاهر والباطن حجَّة معاً.. والظاهر يعرفه كلُّ أحد، والبطنُ يكشفه الإمام عليه السلام، فعنهم عليهم السلام:
وَإِيَّاكُمْ وَالإِصْرَارَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا حَرَّمَ الله فِي ظَهْرِ القُرْآنِ وَبَطْنِه (الكافي ج8 ص10).
وصفوة القول..
أنَّ القرآن الكريم حجةٌ في ظواهره وبطونه، وفي تنزيله وتأويله.
ولا مجال لِرَدِّ الظواهر والكُفر بها لأنه يعني سقوط القرآن عن الحجية.
وقد قال أَبُو عَبْدِ الله (ع):
1. إِنَّ قَوْماً آمَنُوا بِالظَّاهِرِ وَكَفَرُوا بِالبَاطِنِ، فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ شَيْءٌ.
2. وَجَاءَ قَوْمٌ مِنْ بَعْدِهِمْ فَآمَنُوا بِالبَاطِنِ وَكَفَرُوا بِالظَّاهِرِ، فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ ذَلِكَ شَيْئاً.
3. وَلَا إِيمَانَ بِظَاهِرٍ إِلَّا بِبَاطِنٍ وَلَا بِبَاطِنٍ إِلَّا بِظَاهِرٍ (بصائر الدرجات ج1 ص537).
المؤمنون إذاً يؤمنون بظاهر القرآن وباطنه.
وظاهرُهُ ومحكماتُهُ تُرشدُ إلى المعصومين عليهم السلام، فما كشفوا لنا عن بطونه أخذنا به، وما ستروه عنا عرفنا أنَّ في إخفائه حكمةٌ بالغة.
هكذا تثبت الثنائية بين القرآن الكريم وبينهم عليهم السلام: فَعِلمُ تمام القرآن محصورٌ بهم، والقرآن يدلُّ عليهم، ويرشد إليهم، ويأمر باتِّباعهم.
ولا اتباعَ لأمر القرآن دون اتباع أمرهم، فوِلايتهم قطب القرآن، وعليها تدورُ مُحكماته.. بل إنَّ ولايتهم وإمامتهم أسُّ الإسلام النامي، وفرعه السامي.
جعلنا الله من أوليائهم حقاً وصدقاً، وعَجَّلَ فَرَجَ وليهم، كي ننعم بركة الثَّقلين ظاهرَين غيرَ مُستَتِرَين، ونحتجب بهما عن الضلالة، ونسترشد بهما إلى طريق الله.
والحمد لله رب العالمين
10 شهر رمضان المبارك 1443 هـ الموافق 12-4-2022 م