بسم الله الرحمن الرحيم
سَجَّرَ الجبارُ تعالى ناراً من غَضَبِه، يُساقُ إليها مَن يستحقُّ عقابَه، ولمّا يوقفهم تعالى عليها، يتمنَّونَ العود إلى الدُّنيا ! والإيمان بالله تعالى ! مِن هَولِ ما رأوا !
يصفُ تعالى حالهم في القرآن الكريم فيقول:
(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنينَ) (الأنعام27).
ظاهرُ حالِ هؤلاء أنَّهم لو رُدُّوا إلى الدُّنيا لأطاعوا الله تعالى وكانوا من أهل الحق، لكنَّ العالمَ بما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، أخبرَ عن حقيقة أمرهم فقال تعالى: (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (الأنعام28).
ههنا يظهَر أنَّ الناس على أقسامٍ ثلاثة:
1. القسمُ الأول: قومٌ يكفرون بالله ويعصونه ولو رأوا أهوال الموت والقيامة و(وُقِفُوا عَلَى النَّارِ)!
فإنهم يعودون إلى كفرهم ومعصيتهم، وليسوا ممَّن يُرتجى الخيرُ منهم أبداً، فهم أصحابُ نفوسٍ مظلمةٍ خبيثةٍ قذرةٍ نتنة، وقلوبٍ قاسيةٍ عَفِنَةٍ ليس فيها للرحمة والإيمان محلّ.
2. القسم الثاني: أهل الطاعة الذين لا يعصون الله أبداً، من أنبياء الله ورسله وأوليائه وملائكته: (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (الأنبياء27)، وقد استوى عند الأعاظم من هؤلاء رؤية ما في الدُّنيا والآخرة، فأطاعوا الله دائماً وأبداً.
3. القسم الثالث: المُطيعون العصاة، وهم الذين يطيعون الله تارةً، ويعصونه أخرى، وهم غالبُ المؤمنين.
يخاطبُ أمير المؤمنين علي عليه السلام هؤلاء بخطابٍ عجيبٍ تقشَعِّرُ له الأبدان !
يقول عليه السلام في نهجه الشريف:
فَإِنَّكُمْ لَوْ عَايَنْتُمْ مَا قَدْ عَايَنَ مَنْ مَاتَ مِنْكُمْ:
1. لَجَزِعْتُمْ
2. وَوَهِلْتُمْ
3. وَسَمِعْتُمْ
4. وَأَطَعْتُمْ
وَلكِنْ مَحْجُوبٌ عَنْكُمْ مَا عَايَنُوا، وَقَرِيبٌ مَا يُطْرَحُ الحِجَابُ!
كلماتٌ في غاية العَظَمة ! تتبيَّن منها أمور:
الأمر الأول: الخوف مما بعد الموت !
إنَّ الخطابَ في الحديث الشريف ليس عامّاً لكلّ الناس، بل يختصُّ بالمؤمنين، لأنَّ أهل الشقاق والنِّفاق لا يطيعون الله ولو عاينوا كلَّ هَولٍ كما نصَّ عليه القرآن الكريم !
ولو (عاينَ) المؤمنون ما عايَنَ الأموات لجزعوا، والجَزَع: نقيض الصبر (كتاب العين، ج1، ص: 217)، ثم وهلوا: والوَهَلُ: يجري مجرى الفزع في الأشياء كلها. وَهِلْتُ وَهَلًا، أي: فزعت (كتاب العين، ج4، ص: 88).
يَعجَزُ هؤلاء عن الصَّبر لِهَولِ ما رأوا لو كُشِفَ لهم، ويصيبهم الخوفُ حتى يطيعوا الله تعالى ويجتنبوا معاصيه !
ولكن..
كيف يجتمع هذا مع ما نعتقده من أن المؤمن يعاين ما يحبّ عند قبض روحه ؟!
كما عن الإمام الصادق عليه السلام حول المؤمن عند الموت: ذَلِكَ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ إِذَا رَأَى مَا يُحِبُّ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَقَدَّمَ، وَالله تَعَالَى يُحِبُّ لِقَاءَهُ وَهُوَ يُحِبُّ لِقَاءَ الله حِينَئِذٍ (الكافي ج3، ص: 134).
فما الداعي للجزع والوهلة إذا كان المؤمن يرى ما يسرُّه عند معاينة الموت ؟!
إنَّ المؤمن وإن كان يرى ما يسرُّه، إلا أنَّ هذا لا يعني أنَّهُ لا يؤاخذ بشيءٍ من أفعاله، حتى أنَّه قد يشدَّد عليه في موته، كما ورد في الحديث: وَإِنَّهُ لَيَبْقَى عَلَيْهِ الشَّيْءُ مِنْ ذُنُوبِهِ فَيُشَدَّدُ بِهِ عَلَيْهِ عِنْدَ مَوْتِه (الخصال ج2 ص636)، وقد يخلص من الذنوب قبل ساعة الموت بما ابتلي به من أنواع البلاء في الدُّنيا.
لكنَّ للموت (حرارة) أو (مرارةً) يشعرُ بها المؤمن حتى لو خلى من الذنوب، فهذا انتقالٌ من دارٍ إلى دارٍ، لا يعلم إلا الله تعالى ما يواجه الخلقُ فيها.. ففي الحديث عن الصادق عليه السلام:
إِنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ جَاءَ إِلَى قَبْرِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا (ع)، وَكَانَ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُحْيِيَهُ لَهُ، فَدَعَاهُ فَأَجَابَهُ، وَخَرَجَ إِلَيْهِ مِنَ الْقَبْرِ.
فَقَالَ لَهُ: مَا تُرِيدُ مِنِّي؟
فَقَالَ لَهُ: أُرِيدُ أَنْ تُؤْنِسَنِي كَمَا كُنْتَ فِي الدُّنْيَا !
فَقَالَ لَهُ: يَا عِيسَى، مَا سَكَنَتْ عَنِّي حَرَارَةُ الْمَوْتِ ! وَأَنْتَ تُرِيدُ أَنْ تُعِيدَنِي إِلَى الدُّنْيَا وَتَعُودَ عَلَيَّ حَرَارَةُ الْمَوْتِ !
فَتَرَكَهُ فَعَادَ إِلَى قَبْرِهِ (الكافي ج3 ص260).
فما هي حرارة الموت أو مرارته ؟! ذاك لا يعرفُهُ إلا مَن ذاقه !
لكن حَقَّ للعاقل أن يعتبر بمّن سبقه !
الأمر الثاني: أين مصلحة المؤمن ؟!
لو عاينَ المؤمن ما يعاين الميِّت لكان لله مُطيعاً، (وَلكِنْ مَحْجُوبٌ عَنْكُمْ مَا عَايَنُوا)، فلماذا حَجَبَ الله تعالى عن المؤمنين ذلك ؟
أليس صلاحُ المؤمن في أن يرى ذلك حتى يخشى الله تعالى ويطيعه فيكون في ذلك رضا الرحمان ؟!
إنّ المؤمن يعتقد بأنَّ الله تعالى حكيمٌ لا يفعل إلا لمصلحة، ولمَّا حجب الله تعالى ذلك عنّا عرفنا أن فيه الصلاح..
فلو كُشِفَ لنا ذلك لأصابنا من الجزع والخوف ما لا يعلمه إلا الله تعالى، حتى لا يستقرَّ لنا قرارٌ في الدُّنيا.
بل لا تبقى الدُّنيا صالحة للسكنى لو أصاب ذلك عبادَ الله المؤمنين !
وهذا النبي صلى الله عليه وآله أقدرُ الناس على الصبر وأعظمهم فيه طلب من الله تعالى أن يريه (جَهَنَّمَ)، فكشفَ له خازِنُها مالك: طَبَقاً مِنْ أَطْبَاقِهَا، فَمَا افْتَرَّ رَسُولُ اللَّهِ (ص) ضَاحِكاً حَتَّى مَاتَ ! (الزهد ص100).
فما حالُ المؤمن لو كُشفَ له ذلك ؟!
ومَن يقدرُ على تحمُّل ذلك؟!
إنّ المؤمن لا يزال متحيِّراً في كلماتٍ قالها جبرئيل لرسول الله (ص):
وَلَوْ أَنَّ حَلْقَةً مِنَ السِّلْسِلَةِ الَّتِي طُولُهَا سَبْعُونَ ذِراعاً وُضِعَتْ عَلَى الدُّنْيَا لَذَابَتِ الدُّنْيَا مِنْ حَرِّهَا !
وَلَوْ أَنَّ سِرْبَالًا مِنْ سَرَابِيلِ أَهْلِ النَّارِ عُلِّقَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَمَاتَ أَهْلُ الْأَرْضِ مِنْ رِيحِهِ وَوَهَجِه ! (تفسير القمي ج2 ص81).
فصارَ في إخفاء ما يجري بعد الموت من أهوالٍ رحمةٌ بالمؤمن، حقَّ أن يشكر الله تعالى عليها، فيسمع ويمتثل قبل أن يعاين ويرى، وهو المتيقن من قرب تلك الساعة، كما قال عليه السلام:
وَقَرِيبٌ مَا يُطْرَحُ الحِجَابُ!
كلُّ آتٍ قريب، والموتُ آتٍ لا شك فيه، يُكشَفُ لنا الغطاء فنرى ما لا نطيقه ونحن في هذه الدُّنيا، ثم نعتبر بما بيَّنه من ليس بينه وبين الآخرة حجاب، ذاك عليُّ بن أبي طالب حين يقول: لَوْ كُشِفَ الْغِطَاءُ مَا ازْدَدْتُ يَقِيناً ! (المناقب ج2 ص38).
الأمر الثالث: ما أبلَغَ العِبَر !
يكمل عليه السلام كلماته فيقول:
وَلَقَدْ بُصِّرْتُمْ إِنْ أَبْصَرْتُمْ، وَأُسْمِعْتُمْ إِنْ سَمِعْتُمْ، وَهُدِيتُمْ إِنِ اهْتَدَيْتُمْ !
وَبِحَقٍّ أَقَولُ لَكُمْ:
لَقَدْ جَاهَرَتْكُمُ العِبَرُ، وَزُجِرْتُمْ بِمَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ، وَمَا يُبَلِّغُ عَنِ اللهِ بَعْدَ رُسُلِ السَّماءِ إِلاَّ البَشَرُ.
ما أكثرَ العِبَر وأظهَرَها وأوضحها.. يكفي أن نتوجه إليها فنهتدي ونسمع ونبصر، وننزجر عن معاصي الله تعالى.
كلُّ نَفَسٍ ينقضي من أيامنا عِبرَةٌ لما يأتي.. كلُّ لحظةٍ تمرُّ علينا في الدُّنيا تُقَرِّبنا من الموت..
كلُّ ماضٍ صار ذكرى هو رسولٌ من رُسُل الموت..
كلُّ حبيبٍ فقدنا.. صار عبرَةً لنا..
كلُّ صَريعٍ تحتَ الثَّرى.. هو رسالةً لنا..
وليس أعظم لمَن أراد أن يُبصِر من كلمات أمير المؤمنين عليه السلام مع هؤلاء:
يَا أَهْلَ التُّرْبَةِ، وَيَا أَهْلَ الْغُرْبَةِ، أَمَّا الْمَنَازِلُ فَقَدْ سُكِنَتْ، وَأَمَّا الْأَمْوَالُ فَقَدْ قُسِمَتْ، وَأَمَّا الْأَزْوَاجُ فَقَدْ نُكِحَتْ، هَذَا خَبَرُ مَا عِنْدَنَا، فَمَا خَبَرُ مَا عِنْدَكُمْ ؟
ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ:
وَاللَّهِ لَوْ أُذِنَ لَهُمْ فِي الْكَلَامِ لَأَخْبَرُوكُمْ أَنَّ (خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) ! (الأمالي للطوسي ص595)
جعلنا الله من أهلها.. ورحمنا برحمته
والحمد لله رب العالمين
الإثنين 8 جمادى الأولى 1443 هـ
13 - 12 - 2021 م