بسم الله الرحمن الرحيم
تنتشرُ في أيامنا هذه مقاطعٌ مرئية باللغة الفارسية، في عزاء المعصومين عليهم السلام، تحوي مِن كلماتِ الغلوّ ما تقشعِرُّ له الأبدان.. يُنسب فيها عليٌّ عليه السلام أنّه الله ! وأنّه الصِّفات والذّات ! وأنّه الخالق غير المحدود ! وأنّه المعبود ! وأمثال ذلك..
1. فَهَل حَطَّ الغُلاةُ رِحَالَهم بين شبابنا ؟! فغُزِينا في عُقرِ دارنا ؟!
2. أم أنَّهُم المتصَوِّفَةُ والعُرَفاء ينشُرون هذه العقائد الفاسدة، ليبلغوا مرادهم في إضلال المؤمنين، وتهون مصيبتهم إذا ما عمَّت البلوى، ويسهل عليهم الافتراء والكذب في دين الله ؟!
3. أم أنَّ هؤلاء شبابٌ جَهَلَةٌ لا يفقهون ما يقولون ! خَرَجَت منهم كلماتٌ خاويةٌ لا يعرفون لوازمها ؟! ولا يُدرِكُون خطورتها ؟!
أم أنّ هذه الأسباب قد اجتمعت، ولكلِّ واحدٍ منها أهلُه ؟!
وعلى كلِّ تقديرٍ، فإنّها مُصيبةٌ في منتهى الخطورة، تستثيرُ حميّة الغَيور على دينه، سواءٌ كانت عملاً مُنَظَّماً مدروساً واسعَ التأثير، أم مبتوراً لا يتجاوز بعضَ الشباب المُتَحَمِّس..
ألا تُنسَبُ هذه البلادُ لِعَلِيِّ بن موسى الرضا ثامن الأئمة المعصومين عليهم السلام ؟!
أليست هذه بلاد الشيعة الذين تَنَزَّهَت عقيدتهم عن الغلوّ والتصوُّف وتَجَاوُزِ الحدّ ؟! واتّسمت بالعلم والفهم والمعرفة.
أما أقرَّ الشيعة دوماً بأنّ الأئمة عِبادٌ مربوبون مخلوقون، وإن بلغوا من العظمة ما أعجز الخلق عن معرفة قدرهم، وبلوغ شأنهم، ووصف شيءٍ من فضلهم ؟!
أليس بعضُ هؤلاء الشباب من أيتام آلِ محمدٍ (ص) ؟! المنقطعين عن إمامهم..
حَقَّ إذاً أن يقتدوا بمن تُنسَبُ له هذه البلاد، الإمام الرضا عليه السلام، وقد وَصَفَ الإمامُ عليه السلام يوماً رَبَّنا عزّ وجل بأحسن وصفٍ، ومَجَّدَهُ ونزَّهَهُ عمّا لا يليق به، فقال له رجلٌ:
بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ، فَإِنَّ مَعِي مَنْ يَنْتَحِلُ مُوَالاتَكُمْ، وَيَزْعُمُ أَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا مِنْ صِفَاتِ عَلِيٍّ (ع)، وَأَنَّهُ هُوَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ !
صفاتُ الله تعالى تُنسَبُ منذ زمن الأئمة عليهم السلام إذاً لأمير المؤمنين عليه السلام، وهؤلاء اليوم أيضاً ينتحلون موالاة آل محمدٍ، وينسبون لعليٍّ عليه السلام صفات الله تعالى، والتاريخ يعيد نفسه.
وما تنقلُه الرواية عن الإمام عليه السلام أمرٌ عجيب، ففيها:
فَلَمَّا سَمِعَهَا الرِّضَا (ع) ارْتَعَدَتْ فَرَائِصُهُ، وَتَصَبَّبَ عَرَقاً، وَقَالَ: (سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ)، سُبْحَانَهُ عَمَّا يَقُولُ الْكَافِرُونَ عُلُوّاً كَبِيراً.
فما بالُ فرائصنا لا ترتعدُ لِهولِ ما يُنسب لله تعالى ! وما بالنا مطمئنين لا نتصَبَّبُ عَرَقاً من خطورة ما قال هؤلاء ؟!
وهذا إمامُ الهدى يُبَيِّن الحقَّ بكلِّ السُّبُل:
- أولاً: حينما وصفَ الله تعالى بصفات الكمال ونزّهه عما لا يليق به.
- وثانياً: عندما ظهرت على جسمه الشريف أماراتُ الإنكار على هؤلاء فارتعدت فرائصه.
- وثالثاً: عندما صرّح بكفرهم ونَزّه الله تعالى عن ذلك.
- ورابعاً: عندما بَيّن الدليل على بطلان ما ذهبوا إليه فقال:
أَ وَ لَيْسَ عَلِيٌّ كَانَ آكِلًا فِي الْآكِلِينَ ؟ وَشَارِباً فِي الشَّارِبِينَ ؟ .. وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ مُصَلِّياً خَاضِعاً بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ذَلِيلًا ؟ وَإِلَيْهِ أَوَّاهاً مُنِيباً ؟ أَ فَمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ يَكُونُ إِلَهاً ؟!
أين هم أصحابُ العقول ؟!
أيُنسَبُ من اتَّصفَ بصفات المخلوق للربوبية ؟!
كيف نغفلُ عن أنّ شيئاً من صفات المخلوق لا يمكن أن يكون في الخالق..
وأنّ علياً لو كان إلهاً مع كونه مخلوقاً فكلُّ الناس آلهة لاشتراكهم معه في صفة المخلوق !
قال عليه السلام: فَإِنْ كَانَ هَذَا إِلَهاً فَلَيْسَ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ إِلَهٌ لِمُشَارَكَتِهِ لَهُ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ الدَّالَّاتِ عَلَى حَدَثِ كُلِّ مَوْصُوفٍ بِهَا ! (الإحتجاج ج2 ص439).
وليس موقفُ الإمام الرضا إلا كموقف أمير المؤمنين عليهما السلام، حينما قيل له: (هل تصف ربنا نزداد له حبا وبه معرفة؟)
يُريدُ هؤلاء وصفَ الله كما يعقلون، والخلط بين الخالق والمخلوق، حينها (غضب وخطب الناس) (تفسير العياشي ج1 ص163).
وبيّن عليه السلام أنّ هذه طريق الشيطان.. فالله تعالى لا تُدرِكُ العقولُ عظمَتَهُ، ولا يُوصَف إلا بما وَصَفَ به نفسه.
نعم يغضَبُ الإمام للتوحيد، و: مَنْ غَضِبَ لله غَضِبَ اللَّهُ لَه (الباقر عليه السلام في الكافي ج2 ص51).
لقد روينا عن الصادق عليه السلام قوله:
احْذَرُوا عَلَى شَبَابِكُمْ الْغُلَاةَ لَا يُفْسِدُونَهُمْ، فَإِنَّ الْغُلَاةَ شَرُّ خَلْقِ اللَّهِ (الأمالي للطوسي ص650).
ولكن.. عجباً لنا..
أينَ حَذَرُنا من هؤلاء وغيرهم.. وهم يفتكون بشبابنا أو بعضهم..
بالغلوِّ الصريح تارةً، وبالدَّجَلِ الصوفيّ العِرفانيّ تارةً أخرى.. فيصيرُ العابدُ معبوداً.. وبالشُّبُهات ثالثةً، والعصبيّة والجهل والحماقات.. !!
أنصيرُ ممّن يتفكَّر في مأكوله ولا يتفكَّرُ في معقوله ؟!
أيُعصى الله بيننا في أحبّ الأشياء إليه وهو الإيمان به وتوحيده.. ثم نرضى ؟!
أنتخاذلُ عن إرشاد شبابنا حتى يسبِقنا إليهم المنحرفون ؟! ويغويهم أهلُ الباطل والضلال ؟!
أنرى في الاهتمام بالشأن العام ما هو أكثرُ خطراً من أديان الناس ؟!
أتطغى المصالحُ الخاصّة على تفكيرنا فنؤخِّر ما قَدَّمَ الله تعالى ؟!
اللهم إنّا نبرأ إليك من هؤلاء، كما فعل أمير المؤمنين عليه السلام حين قال:
اللَّهُمَّ إِنِّي بَرِيءٌ مِنَ الْغُلَاةِ كَبَرَاءَةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مِنَ النَّصَارَى، اللَّهُمَّ اخْذُلْهُمْ أَبَداً، وَلَا تَنْصُرْ مِنْهُمْ أَحَداً ! (الأمالي للطوسي ص650).
هذا لسانُ حالنا، وحال كلّ الشيعة في كلّ بِلادهم..
ولا يُمَثِّلُ بعضُ الشبابِ الجَهَلَة الشيعةَ بحالٍ من الأحوال، أتباعُ الهوى والشيطان.. قَد بَرِأَ الإمام منهم ومِن قولهم، وتَبِعَه على ذلك شيعته، كما برؤوا ممن يغالي في غير المعصوم فيرفعه إلى رُتبته، حيث لا يدانيهم مَن جَرَت نِعمَتُهُم عليه.
وههنا يُعرَفُ شيءٌ من قدر العلم وأهميّته، فَبِهِ تُحفَظُ الأديان، وبه نجاة الأرواح والأبدان، يوم لقاء الملك الديّان..
لهذا ولغيره قال الإمام زين العابدين عليه السلام: لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ لَطَلَبُوهُ وَلَوْ بِسَفْكِ الْمُهَجِ وَخَوْضِ اللُّجَجِ (الكافي ج1 ص35).
لقد كفانا الله تعالى سفكَ المُهَج في طلبه، حين مَنَّ علينا بعلوم آل محمدٍ، ويسَّرَ لنا بلوغها في أيامنا.
لقد تعلَّمت الملائكة منهم التسبيح والتهليل والتمجيد والتعظيم والتنزيه.. ثم تعلَّمنا كالملائكة.. وعَلِمنَا أنّهم عبادٌ مربوبون، لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، مع رفيع قدرهم، وعظيم شأنهم، وتبرّأنا ممن غالى فيهم أو حطَّ من مكانتهم، أو جحد حقّهم.
حشرنا الله معهم وفي زُمرَتهم، إنّه سميع مجيب.
والحمد لله رب العالمين
الثلاثاء 25 ذي القعدة 1442 هـ
6 - 7 - 2021 م