فصل4: الثالوث والدليل العقلي: صفات الله
لدى جملةٍ من علماء النصارى محاولةٌ للاستدلال على الثالوث بالعقل، وهي ترجع لمعنى صفات الله تعالى وكيفية فهمهم لها، وقبل عرض دليلهم، نعرض القول الحق في مسألة صفات الله تعالى، ثم نعرض كلماتهم وأدلتهم ونناقشها.
1. صفات الله: صفات الذات وصفات الفعل
وُصِفَ الله تعالى بصفاتٍ عدة في الكتاب المقدَّس، ليست كلُّها على نَسَقٍ واحد، ولنا أن نجعلها على قسمين:
القسم الأول: كالوجود والحياة والقدرة والعلم.
الله تعالى موجودٌ، وهو وحده واجبُ الوجود، مستغنٍ في وجوده عن كلّ أحد، وهذا مما لا يحتاج إلى دليل للاستدلال عليه.
والله تعالى حيٌّ قادرٌ عالمٌ، وَصَفَهُ بذلك الكتابُ المقدس، فمن قوله أنّه حيٌّ: لِتَعْبُدُوا الله الحَيَّ الحَقِيقِيَّ(1)، وفيه: لِتَخْدِمُوا الله الحَيَّ(2).
ومن وصفه له بأنّه (القادر): في التوراة: الله القَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ(3)، وفي الإنجيل: إِنَّ الله قَادِرٌ أَنْ يُقِيمَ مِنْ هذِهِ الحِجَارَةِ أَوْلاَداً لإِبْراهِيمَ(4)، ووُصِفَ بالقدير: لأَنَّ القَدِيرَ صَنَعَ بِي عَظَائِمَ(5).
ووُصِفَ بأنه يعلم: الله يَعْلَمُ(6).
القسم الثاني: كالخلق والرزق والإماتة.
الله تعالى هو الخالق: فِي البَدْءِ خَلَقَ الله السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ(7). يَوْمَ خَلَقَ الله الإِنْسَانَ(8)، وهو الرازق: وَرَزَقَ الرَّبُّ هَيْمَانَ(9)، وهو الذي يميت: فَأَمَاتَهُ الرَّبُّ(10).
الفارق بين القسمين
القسم الأوّل من الصفات، هي التي لا يمكن نَفيُها عن الله تعالى، ويمتنعُ اتّصافه بضدّها، فالله تعالى موجودٌ لا يُمكن أن يوصف بالعَدَم، واللهُ تعالى حيٌّ لا يمكن أن يوصف بالموت، والله تعالى قادرٌ لا يمكن أن يوصف بالعجز، والله تعالى عالمٌ لا يمكن أن يوصف بالجهل.
والقسم الثاني من الصفات، هي التي يمكن أن يتّصف الله تعالى بها وبضدّها، فنقول: (خلق الله آدم وعيسى (عليه السلام)) و(لم يخلق الله لآدم ولعيسى عليهما السلام أباً)، ورَزَقَ الله علياً ولم يرزق بكراً، وأمات الله آدم (عليه السلام)، ولم يُمِت عيسى (عليه السلام).
فإن قيل: إن قولنا: (الله خالقٌ) يعني (الله قادرٌ على الخلق)، وصفة القدرة هذه مما يتّصف الله تعالى بها ويمتنع اتصافه بضدّها.
قلنا: نعم لو فُسِّر (الخلق) ب(القدرة على الخلق) لكان مرجع هذا التفسير إلى صفة (القدرة)، وهي من القسم الأول فعلاً، وقولنا أن الله (قادرٌ على الخلق والرزق والإماتة) يرجع كلُّه لصفة القدرة، ولكن ليس هذا هو المراد من قولنا (الله خالقٌ) ههنا، إنما يراد منها فعليّة الصفة أو إعمالُها، أي أن الله تعالى يخلق فلاناً فعلاً ولا يخلق له شقيقاً مع ثبوت قدرته في الموردين، وهذا الخلق الفعليّ مما يتصف الله تعالى به وبضدّه، باختلاف الموارد، بحسب ارادته ومشيئته.
نعم عندما تُطلَق ويُرادُ منها القدرة تكونُ من صفات الذات، وعليه نحملُ ما ورد في أحاديثنا عن المعصومين (عليهم السلام) أنّه تعالى كان خالقاً إذ لا مخلوق، ومنها قول الإمام أبي إبراهيم الكاظم (عليه السلام): عَالِمٌ إِذْ لَا مَعْلُومَ، وَخَالِقٌ إِذْ لَا مَخْلُوقَ، وَرَبٌّ إِذْ لَا مَرْبُوبَ(11). على أنّه قد يُراد منها خلقُ التقدير لا خلق التكوين(12).
ويوضح هذه المعاني قولُ الإمام الرضا (عليه السلام): لَهُ مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ إِذْ لَا مَرْبُوبَ، وَحَقِيقَةُ الْإِلَهِيَّةِ إِذْ لَا مَأْلُوهَ، وَمَعْنَى الْعَالِمِ وَلَا مَعْلُومَ، وَمَعْنَى الْخالِقِ وَلَا مَخْلُوقَ، وَتَأْوِيلُ السَّمْعِ وَلَا مَسْمُوعَ.
لَيْسَ مُنْذُ خَلَقَ اسْتَحَقَّ مَعْنَى الخَالِقِ، وَلَا بِإِحْدَاثِهِ الْبَرَايَا اسْتَفَادَ مَعْنَى الْبَارِئِيَّةِ(13).
فهو خالقٌ منذ الأزل لاتصافه بالقدرة على الخلق، وإن لم يكن قد خَلَقَ المخلوقات، وهو خالقٌ بالفعل عند خلقه المخلوقات، دون أن يلزم فيه التغيُّر.
وههنا معضلة في القسم الأول من صفات الله تعالى: فكما أن الله تعالى أزليٌّ، كذلك صفاتُه أزليّة، إذ لو لم تكن أزليّةً لزِمَ النقص فيه أولاً قبل حصول الكمال، ولزم التغيُّر فيه تعالى والتبدُّل بعد تحقُّقها.
فإذا ثبت أنه تعالى أزليٌّ وصفاته أزليّة، بمعنى أنّ الله تعالى كما أنّه موجودٌ غير مسبوق بالعدم، كذلك حياته وعلمه وقدرته ليست طارئة عليه، لزم أحد أمرين:
الأول: إما لزوم التعدد في القديم، فيكون الله متعدداً، لتعدُّد الصفات، فيقال حينها بأن القديم متعدّدٌ: الله، ووجوده، وقدرته، وعلمه، وحياته، وهكذا كلّما ثبتت له صفةٌ ثبت قِدَمُها.
الثاني: أو لزوم التركيب في الذات الإلهية المقدَّسة، فيكون الإلهُ مركَّباً من القدرة والحياة والعلم وسواها.
وكلاهما منفيّان عن الله تعالى، فهو عزّ وجلّ منزّهٌ عن التعدُّد وعن التركيب، باتفاق المسلمين والنصارى.
ولهذا المعنى أشار أمير المؤمنين (عليه السلام): وَكَمَالُ الإِخْلَاصِ لَهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ، لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّهَا غَيْرُ الموْصُوفِ، وَشَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّهُ غَيْرُ الصِّفَةِ، فَمَنْ وَصَفَ الله سُبْحَانَهُ فَقَدْ قَرَنَهُ، وَمَنْ قَرَنَهُ فَقَدْ ثَنَّاهُ، وَمَنْ ثَنَّاهُ فَقَدْ جَزَّأَهُ(14).
كيف يكون الحلُّ إذاً؟
الحلُّ في التمييز بين القسمين:
القسم الأول من الصفات: صفات الذات، وهي أزليّة، لكن لا على سبيل الصفة العارضة على الله تعالى كي يثبت التعدُّد، بل هذه الصفات هي عينُ ذاته.
والقسم الثاني من الصفات: هي صفات الفعل، وهذه الصفات ليست قديمةً ولا أزليّة وإلا كان المخلوق والمرزوق قديماً مع الله تعالى.
فكون القسم الأول هو صفة ذاتٍ بمعنى أن صفته هي عين ذاته، ينفي التعدّد، وينفي التركيب.
وكون القسم الثاني ليس قديماً ولا أزلياً ينفي قِدَمَ العالم والمخلوقات.
فيثبت أن الله تعالى كان ولم يكن معه شيء، وأما صفاته فهي عينُ ذاته، فلا هي صفاتٌ متعدِّدةٌ قديمة، ولا هو مُركّبٌ من صفاتٍ متعددة.
ويثبت أن الله مختارٌ في الخلق، يخلق ما يشاء متى يشاء، ويرزق من يشاء ويمنع من يشاء.
كيف تكون الصفات عين الذات؟
ذكرنا بياناً حول صفات الذات في كتاب عرفان آل محمد (عليهم السلام)(15)، نورد بعضه ههنا:
إنّ كونها عين ذاته يعني أنها ليست مغايرة لذاته كصفاتنا، فإنّ علمَنَا زائدٌ عن ذواتنا حيث كنّا جاهلين فعلمنا، وقدرتنا زائدةٌ عن ذاتنا حيث لم نكن قادرين فقدرنا، وهكذا سائر الصفات تكون عارضة على ذواتنا..
أمّا ربّنا عز وجل فهو منزّه عن أن تكون له صفةٌ كصفاتنا زائدةٌ عن ذاته، إذ لو لم تكن صفاته هذه عين ذاته: لَشَهِدَ كلُّ موصوفٍ أنّه غير الصفة كما يقول أمير المؤمنين (عليه السلام)، فيلزم من ذلك سلسلة اللوازم التي منها تثنيته تعالى، والقول بتجزئته إلى أن يصل إلى عدّه وهو خلاف الوحدانية، فيلزم من القول بأن له صفاتٍ طارئة على ذاته إبطال التوحيد الذي هو كمال التصديق بالله تعالى.
لذا كان: كَمَالُ الإِخْلَاصِ لَهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ، لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّهَا غَيْرُ الموْصُوفِ.
أما مع كون الصفة عين الموصوف وذاته، فلا يلزم شيء من تلك اللوازم الفاسدة، ولا بدّ من إثبات هذه الصفات على أنها ذاته وليست صفة عارضة عليه.
وهو ما روي عن أبي عَبْدِ الله (عليه السلام) أنه قال: لَمْ يَزَلِ الله عَزَّ وَجَلَّ رَبَّنَا وَالعِلْمُ ذَاتُهُ وَلَا مَعْلُومَ، وَالسَّمْعُ ذَاتُهُ وَلَا مَسْمُوعَ، وَالبَصَرُ ذَاتُهُ وَلَا مُبْصَرَ، وَالقُدْرَةُ ذَاتُهُ وَلَا مَقْدُورَ، فَلَمَّا أَحْدَثَ الأَشْيَاءَ وَكَانَ المعْلُومُ وَقَعَ العِلْمُ مِنْهُ عَلَى المعْلُومِ، وَالسَّمْعُ عَلَى المسْمُوعِ، وَالبَصَرُ عَلَى المبْصَرِ، وَالقُدْرَةُ عَلَى المقْدُورِ(16)..
ولما سئل الإمام الصادق (عليه السلام): فَتَقُولُ إِنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ؟
قَالَ: هُوَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ، سَمِيعٌ بِغَيْرِ جَارِحَةٍ، وَبَصِيرٌ بِغَيْرِ آلَةٍ، بَلْ يَسْمَعُ بِنَفْسِهِ وَيُبْصِرُ بِنَفْسِهِ.
لَيْسَ قَوْلِي إِنَّهُ سَمِيعٌ يَسْمَعُ بِنَفْسِهِ وَبَصِيرٌ يُبْصِرُ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ شَيْءٌ وَالنَّفْسُ شَيْءٌ آخَرُ، وَلَكِنْ أَرَدْتُ عِبَارَةً عَنْ نَفْسِي إِذْ كُنْتُ مَسْئُولًا وَإِفْهَاماً لَكَ إِذْ كُنْتَ سَائِلًا، فَأَقُولُ: إِنَّهُ سَمِيعٌ بِكُلِّهِ، لَا أَنَّ الكُلَّ مِنْهُ لَهُ بَعْضٌ.
وَلَكِنِّي أَرَدْتُ إِفْهَامَكَ وَالتَّعْبِيرُ عَنْ نَفْسِي، وَلَيْسَ مَرْجِعِي فِي ذَلِكَ إِلَّا إِلَى أَنَّهُ السَّمِيع البَصِيرُ العَالِمُ الخَبِيرُ بِلَا اخْتِلَافِ الذَّاتِ وَلَا اخْتِلَافِ المعْنَى(17)..
فهو السميع البصير العالم الخبير الذي لا بآلةٍ أو جارحةٍ يسمع ويُبصِرُ ويعلم.
ولو لم يكن الأمر كذلك، لعجز النصارى عن تفسير وجوده وحياته وقدرته وعلمه، ولذا اعترف عددٌ من كبار علمائهم بأن صفات الله عين ذاته، قال القديس أوغسطينوس (354-430م): إذا قلنا إن الله محلّ المعاني، وإذا أضفنا إليه صفاتٍ، فليس يعني هذا أن في الله كثرة، وأن الصفات متحقّقة فيه على نحو تحقُّقها في المخلوقات، فإن الله بسيطٌ كل البساطة، وما نتصوّره فيه هو عين الجوهر الإلهي، بل يجب الاحتراز من تسميته جوهراً لئلا يذهب الفكر إلى أن الله موضوعٌ لصفاتٍ أو أعراضٍ متمايزة عنه.. الله هو الموجود إلى أعظم حدٍّ، فلا بدّ أن تكون صفاته عين ذاته.. إذن فالله عظيمٌ (مثلاً) لا بعظمةٍ مغايرةٍ له، بل بعظمةٍ هي عين ذاته. وهكذا يقال بالإضافة إلى الحياة والعقل والسعادة والقدرة، وعلى هذا النحو تتّحد كلُّ صفةٍ إلهيةٍ بالذات الإلهية، ومن ثمة تتّحد الصفات فيما بينها(18).
وإليه نظر القديس يوحنا الدمشقي أيضاً بقوله: وينبغي ألا نقول بصفةٍ في الله لئلا نجعل فيه تركيباً من جوهر وصفة(19).
وإليه أشار القديس توما الأكويني بقوله: فالله عين ماهيته، بل عين وجوده أيضاً، وعين كل ما قد نثبته له من صفات(20).
وقفةٌ مع صفات الذات
فإن قلنا أنّها قابلة للإحاطة والتعقُّل، صار الله تعالى متّصفاً بصفات المخلوقات، وهو منفيٌّ ممتنع.
وإن قلنا أنّها غير قابلة للإحاطة، قيل: كيف ذلك؟ والله عالمٌ وأنتم علماء، والله يسمعُ ويبصر وأنتم تسمعون وتبصرون.. وهكذا.
لقد روينا عن محمّد بن مسلم في بيان ذلك عن إمامنا أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قوله: فِي صِفَةِ الْقَدِيمِ إِنَّهُ وَاحِدٌ صَمَدٌ أَحَدِيُّ المعْنَى لَيْسَ بِمَعَانِي كَثِيرَةٍ مُخْتَلِفَةٍ؟
قَالَ: قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، يَزْعُمُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَنَّهُ يَسْمَعُ بِغَيْرِ الَّذِي يُبْصِرُ وَيُبْصِرُ بِغَيْرِ الَّذِي يَسْمَعُ.
قَال: فَقَالَ: كَذَبُوا وَأَلحدُوا وَشَبَّهُوا، تَعَالَى الله عَنْ ذَلِكَ، إِنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ، يَسْمَعُ بِمَا يُبْصِرُ وَيُبْصِرُ بِمَا يَسْمَعُ.
قَالَ: قُلْتُ: يَزْعُمُونَ أَنَّهُ بَصِيرٌ عَلَى مَا يَعْقِلُونَهُ.
قَالَ: فَقَالَ: تَعَالَى الله، إِنَّمَا يعْقلُ مَا كَانَ بِصِفَةِ المخْلُوقِ، وَلَيْسَ الله كَذَلِكَ(21).
فنفى ثبوت الأداة التي بها يَعلم ويَسمع ويُبصِر، وأثبت أن هذه الصفات هي عين الذات، فليس هناك أداةٌ للسمع وأخرى للبصر، بل لا أداة أبداً، فما يسمع به يبصر به، لا على معنى يتعقّله الإنسان، لأن الله تعالى ليس على صفة المخلوقات كي تحيط به عقولها.
لذا كان العلم في الله بمعنىً مختَلِفٍ عن العلم فينا، وكذا سائر الصفات، ولذا قال إمامنا الرضا (عليه السلام) عن الله تعالى أنّه: أَلْزَمَ الْعِبَادَ أَسْمَاءً مِنْ أَسْمَائِهِ عَلَى اخْتِلَافِ المعَانِي، وَذَلِكَ كَمَا يَجْمَعُ الِاسْمُ الْوَاحِدُ مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ..
وَ إِنَّمَا سُمِّيَ الله تَعَالَى بِالْعِلْمِ بِغَيْرِ عِلْمٍ حَادِثٍ عَلِمَ بِهِ الْأَشْيَاءَ اسْتَعَانَ بِهِ عَلَى حِفْظِ مَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ أَمْرِهِ.. كَمَا أَنَّا لَوْ رَأَيْنَا عُلَمَاءَ الخلْقِ إِنَّمَا سُمُّوا بِالْعِلْمِ لِعِلْمٍ حَادِثٍ، إِذْ كَانُوا فِيهِ جَهَلَةً وَرُبَّمَا فَارَقَهُمُ الْعِلْمُ بِالْأَشْيَاءِ فَعَادُوا إِلَى الْجَهْلِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الله عَالِماً لِأَنَّهُ لَا يَجْهَلُ شَيْئاً، فَقَدْ جَمَعَ الخالِقَ وَالمخْلُوقَ اسْمُ الْعَالِمِ، وَاخْتَلَفَ المعْنَى عَلَى مَا رَأَيْتَ(22).
وهكذا السميع والبصير وسواها من الصفات، أُطلقت على الله بمعنىً وأطلقت على العباد بمعنىً آخر، فلا يلزم من ذلك لازمٌ فاسد.
فإن قيل: إن من بين أسماء الله الحسنى «السميع» و «البصير» فمن كان يسمع جلّ شأنه؟ ومن كان يُبصر قبل أن يخلق الخلق من العدم؟(23).
قلنا: الجواب نقضيٌ وحليّ.
أما الجواب النقضيّ: فإنّ القول بلزوم وجود المسموع والمُبصَر يعني لزوم وجود المعلوم أيضاً، ولا خلاف بين المسلمين والنصارى في أنّ الله تعالى يعلم بما كان قبل أن يكون، ويعلم بمخلوقاته قبل خلقها، ولازم هذا الإشكال هو قِدَم المخلوقات، والمسموعات والمُبصإرات، لأنّه لا بدّ للعلم من معلوم، وللسمع من مسموع، والله تعالى عالمٌ منذ الأزل وسميعٌ منذ الأزل، فلا بدّ أن يكون المخلوقُ أزليّاً، وهذا باطلٌ بالاتفاق. فإذا بطل اللازم بطل الملزوم.
وأمّا الجواب الحَليّ: فهو أنّ السَّمع والبصر لا يقتضي وجود المسموع والمُبصَر، كما أن العلم لا يقتضي وجود المعلوم، نعم بعد وجوده يقع العلم على المعلوم، فيكون منطبقاً عليه دون تغيُّرٍ في الذات الإلهية، فالمتغيِّرُ هو الكائنات المخلوقة، والله تعالى منزّه عن التغيّر: فَلَمَّا أَحْدَثَ الأَشْيَاءَ وَكَانَ المعْلُومُ وَقَعَ العِلْمُ مِنْهُ عَلَى المعْلُومِ، وَالسَّمْعُ عَلَى المسْمُوعِ، وَالبَصَرُ عَلَى المبْصَرِ، وَالقُدْرَةُ عَلَى المقْدُورِ(24).
فيثبت بهذا أمران:
الأمر الأول: أنّه تعالى يعلم ويسمع ويُبصر بلا أداةٍ أو جارحة.
ومما أرشد إليه من كلمات المعصومين (عليهم السلام)، ما قاله أَمِيرُ المؤْمِنِينَ (عليه السلام) فِي خُطْبَةٍ خَطَبَهَا بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بِسَبْعَةِ أَيَّامٍ: فَارَقَ الْأَشْيَاءَ لَا عَلَى اخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ، وَتَمَكَّنَ مِنْهَا لَا عَلَى الْمُمَازَجَةِ، وَعَلِمَهَا لَا بِأَدَاةٍ لَا يَكُونُ الْعِلْمُ إِلَّا بِهَا، وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَعْلُومِهِ عِلْمٌ غَيْرُهُ(25).
فَعَلِمَ تعالى الأشياء لا بأداة ينحصر علمه بها، وليس العلم غيره ليكون قديماً معه، وثالثاً بينه وبين مخلوقاته.
الأمر الثاني: أنّه تعالى عالمٌ إذ لا معلوم، وسميعٌ إذ لا مسموع.
ومما أرشد إليه من كلماتهم (عليهم السلام) حديث الإمام الصادق (عليه السلام): كَانَ رَبّاً إِذْ لَا مَرْبُوبَ، وَإِلَهاً إِذْ لَا مَأْلُوهَ، وَعَالِماً إِذْ لَا مَعْلُومَ، وَسَمِيعاً إِذْ لَا مَسْمُوعَ(26).
وقفةٌ مع صفات الفعل
من صفات الفعل الخلقُ والرزق والعطاء والمنع والعقاب والثواب، والأمرُ في هذه الصفات واضحٌ لا لبس فيه، ومنها صفاتٌ وقع الكلام فيها، واشتبه الأمرُ على قومٍ فعدّوها من صفات الذات، كالكلام والمحبّة، والحال أنّها من صفات الفعل.
والله تعالى لا يطرأ عليه التغيُّر والتبدُّل، فصفاته لا تتغير قبل الخلق وبعده، وقبل الرزق وبعده، وهو لا يتغيّر بالعطاء ولا بالمنع.
قَالَ (عليه السلام): سَأَلْتَ فَافْهَمْ، أمَّا الْوَاحِدُ فَلَمْ يَزَلْ وَاحِداً كَائِناً لَا شَيْءَ مَعَهُ، بِلَا حُدُودٍ وَلَا أَعْرَاضٍ، وَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ. ثُمَّ خَلَقَ خَلْقاً مُبْتَدَعاً مُخْتَلِفاً بِأَعْرَاضٍ وَحُدُودٍ مُخْتَلِفَة(27).
لقد تبيّن فيما تقدّم أن وحدانية العدد منفيةٌ عن الله تعالى، ووحدانية نفي التشبيه ثابتة له، وهي التي نظر لها هذا الحديث، فإنّ الله تعالى كان بلا حدود ولا أعراض، ولا شيء سواه هكذا، ولا يزال كما كان، بلا شبيهٍ ولا حدود، حتى بعد خلقه الخلق، لأن الله ليس واحداً في العدد كي تصير المخلوقات ثانيةً وثالثةً ورابعةً معه.
لذا لا يدلُّ هذا النصُّ في فقرة (وَاحِداً.. وَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ) على وحدة الوجود، لأنّ المثبَت فيه هو كونه واحداً أزلياً (بلا حدود ولا أعراض) وأنّه لا يزال كذلك أي خلياً من هذه الحدود والأعراض لامتناع اتصاف الخالق بها، أما ما سواه من المخلوقات فهو مختلفٌ بأعراضه وحدوده، فلا يتغير الخالقُ غير المحدود بعد خلق الخلق المحدود، وهو الذي لا يحدُّه شيء، فلا يزال كما كان وحده متصفاً بصفات الكمال هذه.
ويشهد لهذا كلام الإمام (عليه السلام): قَالَ لَهُ عِمْرَانُ: يَا سَيِّدِي أَ لَا تُخْبِرُنِي عَنِ الْخَالِقِ إِذَا كَانَ وَاحِداً لَا شَيْءَ غَيْرُهُ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ، أَ لَيْسَ قَدْ تَغَيَّرَ بِخَلْقِهِ الخلْقَ؟
قَالَ الرِّضَا (عليه السلام): لَمْ يَتَغَيَّرْ عَزَّ وَجَلَّ بِخَلْقِ الخلْقَ، وَلَكِنَّ الخلْقَ يَتَغَيَّرُ بِتَغْيِيرِه(28)..
قَالَ عِمْرَانُ: يَا سَيِّدِي فَإِنَّ الَّذِي كَانَ عِنْدِي أَنَّ الْكَائِنَ قَدْ تَغَيَّرَ فِي فِعْلِهِ عَنْ حَالِهِ بِخَلْقِهِ الخلْقَ.
قَالَ الرِّضَا (عليه السلام): أحَلْتَ يَا عِمْرَانُ فِي قَوْلِكَ إِنَّ الْكَائِنَ يَتَغَيَّرُ فِي وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ حَتَّى يُصِيبَ الذَّاتَ مِنْهُ مَا يُغَيِّرُهُ(29)..
فإنّ الخلق لما كان فعلاً منه تعالى، لم يحصل تغيُّرٌ ولا تغييرٌ في الذات الإلهية المقدّسة، وإنّما يقال عن الكائن أنّه متغيِّرٌ بِتَغَيُّر ذاته، وذاته تعالى لا تتغير. فالمتغيِّرُ هو المخلوق دون الخالق.
وهكذا يُفهم قوله (عليه السلام) لأبي قرّة المحدّث: قَدْ كَانَ وَلَا خَلْقَ وَهُوَ كَمَا كَانَ إِذْ لَا خَلْقَ، لَمْ يَنْتَقِلْ مَعَ المنْتَقِلِينَ(30).
ويزيده وضوحاً قول أمير المؤمنين (عليه السلام) لجاثليق النصارى: قَالَ الْجَاثَلِيقُ: .. فَخَبِّرْنِي عَنِ الله تَعَالَى، أَيْنَ هُوَ الْيَوْمَ؟
فَقَالَ: يَا نَصْرَانِيُّ، إِنَّ الله تَعَالَى يَجِلُّ عَنِ الْأَيْنِ، وَيَتَعَالَى عَنِ المكَانِ، كَانَ فِيمَا لَمْ يَزَلْ وَلَا مَكَانَ، وَهُوَ الْيَوْمَ عَلَى ذَلِكَ، لَمْ يَتَغَيَّرْ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ(31).
فلم يتغيّر الله تعالى بخلق الخلق، كما لم يحلّ في المكان بعد خلق المكان، ولا خلاف بين المسلمين والنصارى في ذلك.
لكنّ الخلاف وقع في صفتي الكلام والحب، ففي حين قلنا أنّ كلام الله تعالى حادثٌ غير أزليّ، وأن حبَّه هو فِعلُه بمعنى رحمته بخلقه أو مغفرته لذنوبهم أو رضاه عنهم أي قبوله منهم وإعطاؤهم المثوبة وأمثال ذلك، استدلّ بعض علماء النصارى بصفتي الكلام والحبّ على إثبات الأقانيم، بتقريبٍ مفاده: أن الله تعالى كان متكلّماً ومُحِبَّاً منذ الأزل، فمع من كان يتكلّم؟ ومن كان يحبّ؟
ولما لم تكن المخلوقات أزليّة، كان لا بدّ من وجود أقانيم في الله تعالى لئلا يلزم تعطيل هذه الصفات!
ومن كلماتهم في ذلك ما ذكره القس الدكتور لبيب ميخائيل بقوله: الله «متكلم» وتَعَلُّقُ صفة الكلام بذات الله جلّ شأنه أمر مُسَلَّمٌ به.. فالذي وهب الإنسان القدرة على الكلام لا بدّ أن يكون متّصفاً بالكلام.. فصفة الكلام من صفات الله كعلمه.. وقدرته.. وحكمته(32).
ثم يستشهد بكلام بعض علماء المسلمين القائلين بأنّ الله تعالى لم يزل متّصفاً بالكلام أزلاً وأبداً، ليقول بعد ذلك: ما دام الكلام صفةً أزليةً من صفات الله.. فمع من كان الله تبارك اسمه يتكلم قبل أن يخلق الملائكة والناس؟ هل كانت صفة الكلام فيه - وهي صفةٌ أزليّةٌ من صفات ذاته - معطّلةً حتى خلق خلقه؟ وبهذا نجعله جلّت قدرته ناقصاً بذاته.. كاملاً بمخلوقاته.. وحاشا لله أن يكون كذلك(33).
والاستدلال نفسه يورده حول (المحبّة) فيقول: إن من بين أسماء الله الحسنى أنه «الودود».. فلمن كان يتودد قبل أن يخلق الملائكة والناس؟(34).
ليخلص إلى أنّه كان يُحِبُّ ويتودّد لأقانيمه الأخرى.
ويقول الأب هنري بولاد اليسوعي: من الواضح ممّا سبق أنّ الله، حتّى يكون الله، يجب أنْ يتّصف بالمحبّة المطلقة، وأنَّ المحبّة تقتضي الثنائيّة، وأنّ الثنائيّة على شكل إلهٍ آخر مستحيلة، إذ لا إله إلاَّ الله، وأنّ الثنائيّة على الخليقة والإنسان مستحيلة، لأنّ الإنسان عاجزٌ عن أن يمثّل الطرف الآخر للمحبّة الإلهيّة للأسباب التي عرضناها. إنّنا مضّطرّون إذاً، لعجزنا عن إيجاد الثنائيّة خارج إطار الألوهيّة، إلى البحث عنها داخل إطار الله ذاته، أي في داخل إطار وحدانيّة الجوهر الإلهيّ، لا في خارجه(35).
فصار دليلهم مركّباً من مقدّمات:
المقدّمة الأولى: أن الكلام والمحبّة من صفات الله الأزلية.
المقدّمة الثانية: أن هذه الصفات لا بدّ وأن تكون مفعّلة لا معطّلة.
المقدّمة الثالثة: أنّه لا بدّ من وجود طرفٍ يتكلّم معه الله ويحبّه.
المقدّمة الرابعة: أنّه يمتنع كون هذا الطرف هو المخلوق لكونه غير أزليّ.
النتيجة: أنّه لا بدّ من وجود تعدُّدٍ (داخل الله) مع الحفاظ على (وحدة الجوهر)، وليس إلا القول بالثالوث.
ويُلاحظ على هذا الاستدلال: أن المقدّمات الأربعة باطلة بأجمعها، ويكفي بطلان واحدةٍ منها لتبطل النتيجة، لأن النتيجة تتبع أخسّ المقدّمات، فكيف ببطلانها جميعاً؟!
يضاف إلى ذلك أنّ النتيجة المذكورة مستحيلةٌ في نفسها، لِتِرِتُّب لوازم فاسدة عليها منها التناقض كما تبيّن سابقاً، ما يكشفُ بنفسه عن عُقم المقدّمات وبطلانها.
أما الوجه في بطلان المقدّمات الأربعة:
فقد بطلت المقدّمة الأولى لأنّ الكلام والمحبّة من صفات الفعل كما تقدّم(36)، كالخلق والرزق تماماً، فقد يكلِّم الله موسى (عليه السلام) ولا يكلّم هارون، ويحبّ موسى (عليه السلام) ولا يحب فرعون.
ومن أوضح ما يدلُّ عليه هو استدلال الإمام الرضا (عليه السلام) بقوله: أَجْمَعَ المُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَا سِوَى الله فَانٍ، وَمَا سِوَى الله فِعْلُ الله، وَالتَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ وَالفُرْقَانُ فِعْلُ الله.. التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ.. كُلُّهَا مُحْدَثَةٌ مَرْبُوبَةٌ أَحْدَثَهَا مَنْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ هُدًى لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُنَّ لَمْ يَزَلْنَ مَعَهُ فَقَدْ أَظْهَرَ أَنَّ الله لَيْسَ بِأَوَّلِ قَدِيمٍ وَلَا وَاحِدٍ، وَأَنَّ الكَلَامَ لَمْ يَزَلْ مَعَهُ وَلَيْسَ لَهُ بَدْءٌ وَلَيْسَ بِإِلَهٍ(37).
والنصارى يشتركون معنا نحن المسلمين في القول بأنّ ما سوى الله فانٍ، فثبت بهذا أن كلام الله (كالكتب السماوية وغيرها) مُحدَثٌ، ولو كان أزلياً لانتفى التوحيد، لأنّ الكلام سيكون أزلياً مع الله تعالى، فيتعدّد القديم.
وسواءٌ قال بها بعض المسلمين وبعض النصارى أم لم يقولوا، فإنّ كون الكلام قديماً باطلٌ بلا شكّ وشبهة.
وقد روينا عن المعصومين (عليهم السلام) مناجاة الله تعالى لعبده عيسى بن مريم: يَا عِيسَى: كُنْتُ خَلَقْتُكَ بِكَلَامِي، وَلَدَتْكَ مَرْيَمُ بِأَمْرِي المرْسَلُ إِلَيْهَا، رُوحِي جَبْرَئِيلُ الْأَمِينُ مِنْ مَلَائِكَتِي، حَتَّى قُمْتَ عَلَى الْأَرْضِ حَيّاً تَمْشِي، وَكُلُّ ذَلِكَ فِي سَابِقِ عِلْمِي(38).
أمّا الحبّ، فقد دلّ الكتاب المقدّس أيضاً على أنّه من صفات الفعل، لأنّ الله تعالى قد يُحِبُّ وقد لا يحبّ، وهذه صفة أفعاله تعالى، بخلاف القدرة فلا يمكن أن يتّصف بالقدرة على شيء وبعدمها على شيء آخر.
ومن ذلك: الله لَمْ يَنْظُرْهُ أَحَدٌ قَطُّ. إِنْ أَحَبَّ بَعْضُنَا بَعْضاً، فَالله يَثْبُتُ فِينَا، وَمَحَبَّتُهُ قَدْ تَكَمَّلَتْ فِينَا(39).
فمَحَبَّةُ الله تكمل في عباده بعد أن يُحبّ أحدهم الآخر، وعليه لا يمكن أن تكون من صفات الذات، لأن الناس لم يكونوا في الأزل كي يحبّوا بعضهم البعض فتكمل فيهم.
والمَحَبّةُ تحتاج إلى ثَبَاتٍ، فقد تنتفي عند انتفاء أسبابها: إِنْ حَفِظْتُمْ وَصَايَايَ تَثْبُتُونَ فِي مَحَبَّتِي، كَمَا أَنِّي أَنَا قَدْ حَفِظْتُ وَصَايَا أَبِي وَأَثْبُتُ فِي مَحَبَّتِهِ(40).
وَأَمَّا مَنْ كَانَ لَهُ مَعِيشَةُ الْعَالَمِ، وَنَظَرَ أَخَاهُ مُحْتَاجاً، وَأَغْلَقَ أَحْشَاءَهُ عَنْهُ، فَكَيْفَ تَثْبُتُ مَحَبَّةُ الله فِيهِ؟(41).
فمن يحفظ الوصايا ويُعين أخاه تثبُت المحبّة فيه، ولذا لو انحرفَ مؤمنٌ عن الطريق القويم فارَقَتهُ محبّة الله تعالى، فكيف تكون أزليّة؟! ولو كانت المحبّة من صفات الذات وأحبّ الله المؤمن ثم أبغضه لِكُفرِه بعد إيمانه لَزِمَ التَغَيُّر في الذات الإلهية المقدسة، وقد جلّ الخالق عن ذلك.
وقد بطلت المقدّمة الثانية لأنّ صفة الفعل إما أن تكون خاضعة لمشيئة الله وإرادته، وإما أن لا تكون كذلك، والاعتقاد بأنّها مفعّلة بمعنى لزوم اتيان الله تعالى بها يلزم منه الاعتقاد بأنّ الله تعالى مجبورٌ لا مختار! وهذا باطلٌ بالاتفاق، فإذا كان تعالى مُختَاراً في أن يتكلّم أو يخلق أو يرزق متى شاء لم يكن لهذه المقدّمة معنى، لأنّ الفعل وعدمه خاضع لمشيئة الله واختياره.
وقد بطلت المقدّمة الثالثة لأنّ الله هو الأزليُّ وحده، وهذا الفعل كالخلق والرزق ليس أزلياً، فلا يلزم منه وجود طرفٍ قبل وجود الفعل نفسه، بل يوجد هذا الطرف بالفعل كالخلق، أو يكون هذا المخلوق محلاً للفعل كالرزق.
وقد بطلت المقدّمة الرابعة حيث ثبت أن ذات الله تعالى ليست محلاً للحوادث، ولا يطرأ على الباري عزّ وجلّ التغيُّر، فلا بدّ أن يكون من وقع عليه الفعل مخلوقاً منفعلاً، أما لو وقع الفعل على الله تعالى نفسه فيكون الخالق متأثراً متغيِّراً، وهذا باطل، فلا بدّ أن يكون الطرف الآخر هو الكائن المخلوق.
لذا لمّا أراد الله تعالى أن يخلق أوجد مخلوقاته لا من شيء، بإرادته ساعة شاء، دون أن تكون المخلوقات أزليّة، وكذا لما كلّم الله تعالى بعض عباده، كلّمهم بكلامٍ مُحدَثٍ دون أن يكون الكلام أزليّاً، ولما أحبّ الله تعالى من أطاع من خلقه لم يكن هذا الحُبُّ أزلياً بل كان فِعلاً حادثاً، وكان الله تعالى فيه مختاراً غير مجبور، وهو القاهر القدير، سبحانه جلّ شأنه.
2. الثالوث والعقل: صفات الله
بعدما تبيّن الفرق بين صفات الذات وصفات الفعل، وكون الأولى هي عين ذات الله تعالى، والثانية صفات أفعاله، نعرض نماذج متعددة من الاستدلال بصفاتِ الله تعالى كدليلٍ عقليٍّ على الثالوث، حيث استدلّ جمعٌ من علماء النصارى بها.
يرتكزُ هذا الاستدلال على كون صفات الله (فاعلة) لا (معطلة)، فإن كان الله مُحِبَّاً لا بدّ أن يكون هناك محبوب، وإن كان الله قادراً لا بد من أن يكون هناك من تظهر عنده قدرة الله، وهكذا سائر الصفات.
وليس إلا الثالوث، أي الأقانيم الثلاثة لله تعالى بحسب عقيدة النصارى، فيدل هذا الدليل على وجود هذه الأقانيم، إذ لو لم توجد يلزم أحد أمرين:
الأول: أن تكون صفات الله معطلة، وهذا باطل.
والثاني: أن يكون هناك أزليٌّ غير الله وغير الأقانيم لكي تكون الصفات فاعلة، وهذا يدلّ على أزلية الخلق وهذا باطل أيضاً.
فيثبت مطلوبهم. هذه هي خلاصة الدعوى، وأما نماذج قولهم بها والاستدلال عليها ومناقشتها ففيما يلي:
نموذج1: أبو رائطة التكريتي، 835م
يقرّ التكريتي بالتمييز بين صفات الذات كالحياة والعلم، وصفات الفعل كالخلق والرزق، ويبدأ بالحديث حول صفات الذات فيقول:
إن كان الله لم يزل حيّاً عالماً، فالحياة والعلم إذاً أزليّة، وإن كان الأمر على ما وصفنا فلا محالة من أن تكون هذه المنسوبة إليه، الحياة أعني والعلم، إما غيره كما ينسب الشريك إلى الشريك، وإما منه، ف(منه) أيضاً على وجهين:
1. إما فعلَ فعلٍ منه.. فقد نفينا عنه هذه الصفة..
2. وإما أن تكون من جوهره.
وإن كانت أيضاً من جوهره، فذلك على وجهين:
1. إما كاملةٌ من كامل.
2. وإما أبعاضٌ من كامل.
فأما الأبعاض فلا يجوز في صفة الله لأنه مُعلّى عن ذلك. فإذاً لا محالة أنها كاملةٌ من كامل(42).
فالتكريتيُّ هنا خَيَّرَ المسلمين بين خيارين: أن تكون هذه الصفات (غير الله) أو (من الله)، وبنى عليه بُنيانه، لكن تقدّم منّا أنّ القول الحقّ في ذلك أنّ هذه الصفات هي (عين ذاته) تعالى وليست (غيره) أو (منه) كي يلزم على كمالها أن تكون (كاملةً من كامل)، لأنّه ليس في الله تعالى تبعيضٌ ولا تجزئةٌ ولا تعدّدٌ ولا تركيب.
ثم ينتقل إلى محاولة إثبات الثالوث بالقول أنّ هذه الصفات التي اعتبرها (من الله) إما أن تكون متباينة فهذا نقضٌ لصفات الله، حيث يثبت التعدد في صفاته الأزلية، وكلٌّ منها تحدُّ الأخرى، فتثبت المحدوديّة في الله وهو باطل.
وإما أن تكون غير متباينة فيقول: كان هذا القول أيضاً مما يدعو إلى نقض قولهم بأنها كاملةٌ من كامل، لأن هذه صفة أبعاضٍ وأجزاءٍ لا صفة كامل(43).
فلم يبق عنده إلا أنها متّصلةٌ مفترقة، أي متباينةٌ غير متباينة!
ثم يفسّرها محاولاً رفع التناقض فيها باختلاف الوجه، فإنّ وجه الاتصال هو الجوهر، ووجهُ الافتراق والتبايُن هو الاشخاص فيقول أنه: اتصالٌ في الجوهر وتباينٌ في الأشخاص، أي في الأقانيم(44).
ثم يبيّن ذلك فيقول: وصفنا أنه متّفقٌ في الجوهر مفارقٌ في الأقانيم، وجوهره هو أقانيمه، وأقانيمه هم جوهره، بمنزلة أضواءٍ ثلاثةٍ في بيتٍ واحد، فلا يظنّنّ منّا أحدٌ أنّا عنينا سُرُجاً ثلاثة، بل عنينا أضواءها وإن كان الله تبارك عن كل قياس متعالياً. فالأضواء ثلاثةٌ وواحدٌ هو بعينها. أما ثلاثةٌ فلأن كل واحدٍ منها قائمٌ بعينه، ثابتٌ بذاته.. وأما واحدٌ فلاتفاقها جميعاً في الضواء(45).
ويلاحظ على كلامه:
أولاً: أن مشكلة التكريتي وسائر علماء النصارى هي قياسهم الله تعالى على أنفسهم، فجعلوا هذه الصفات (من الله)، أي صفاتٍ عارضةٍ على الله تعالى، وقد تقدّم منّا أن الله تعالى لا يوصف بمثل هذه الصفات، بل تكونُ صفاتُه عينُ ذاته، وهذا ما يهدم بنيانه من أساسه.
ثانياً: أن قوله أوقعه في الشرك بالله، لأنّ يؤول إلى تعدُّد الآلهة، فقوله أنّ هذه الصفات (من الله) أوصله للقول بأنها غير مباينةٍ لله في الجوهر، ومباينةٍ له في الأقانيم، وما مثّل له من أضواءٍ ثلاثة يُثبتُ تعدُّد الآلهةٍ صريحاً كما تتعدّد الأضواء، وهو الشرك بالله تعالى.
وحقيقةُ الأقانيم عندهم ليست إلا الأشخاص، أي المصاديق الخارجية، فهو يمثل لها بآدم وحواء وهابيل، فيقول عن الأخيرين أنهما: مضافان إلى آدم إضافةً جوهريةً وهما في الإنسانيّة واحد، ثلاثةٌ في الأقانيم، فجوهرُ اللاهوت ثلاثة أقانيم.. لأنّ مخالفة الجوهر الأقنوم الواحد كمخالفة شيء عام لبعض خواصه، لأنّه خالفه بكثرة ضمّه لا بالجوهر. فالإنسان العام أي الناس أجمعون لم يخالف موسى وهارون أي الأشخاص، إلا بضم الكثرة، وأما في الجوهر فواحدٌ لأنّ لموسى وحده، ولهارون وحده جميع ما للناس أجمعين، غير ضمّ الكثرة(46).
ولمّا لم يكن الجوهرُ مختلفاً والأقانيم متباينة، لم تكن صفة الآب صفة الابن، كما لم تكن صفة آدم صفة هابيل، وإن اشتركا في الانسانية.
رغم ذلك لا يرضون بأن يوصف هؤلاء الثلاثة بالآلهة الثلاثة كما يوصف آدم وهابيل وحواء أناساً ثلاثة، لأنه لا اختلاف بين الأقانيم الثلاثة في القوّة وفي المشيئة وفي الأفعال، أما في الناس فوجه القول بالتعدد عنده هو اختلافهم في أمورٍ كثيرة!
يقول: لو أن حال آدم وزوجته وابنه كانت متّفقة في جميع أمورها، لم يختلفوا في وجه من الوجوه، جاز القول فيهم إنهم إنسان واحد. لكن علّة تسميتهم أناساً ثلاثة الذي لحقهم من الاختلاف كما ذكرنا(47).
وعليه فهو يقول أنّ التعدُّد حاصلٌ حقيقةً في الآلهة كما هو حاصل في الناس، لكن يصح وصف الناس بأنهم أشخاص ثلاثةٌ وأكثر لاختلافهم في أكثر الصفات وان اشتركوا في الإنسانية!
أما الأقانيم الثلاثة فلا يصح وصفها بأنها آلهةٌ ثلاثة وإن كانت متباينة في الأقنومية، وذلك لوحدة جوهرها وعدم الاختلاف بينها في القوة والمشيئة والأفعال!
وهذا يعني أن حقيقة الأمر هي تعدُّد الآلهة وهو الكفر بالله تعالى، غاية الأمر لم يجز وصفها بأنها آلهة ثلاثة!
وهذا قولٌ عجيبٌ غريب، مخالفٌ للوجدان تماماً كما للتوحيد، فإن ما يُسَوِّغُ الوصفَ بالتعدُّد هو التعدُّد حقيقة لا الاختلاف في القوة والمشيئة والأفعال، ونحن نرى أن ما لا يتصف بالقوّة والمشيئة والأفعال أبداً يوصف بالتعدد عند تكثُّره خارجاً، حيث توصف الأحجار المتساوية النوع والحجم والخصائص بالتعدّد، كما أنّ الصناديق والأدوات والآلات التي تصنعها المصانع من غير أدنى اختلاف بينها تتمتّع بوحدة جوهرٍ وتوصَفُ بالتعدُّد حقيقةً وبالكثرة وجداناً، ولو كان عدم الاختلاف في القوة والمشيئة والأفعال مانعاً من الوصف بالتعدُّد لما ساغ وصفها بالكثرة.
لا يقال: إنّ القوّة والمشيئة والأفعال فيمن من شأنه توفُّرها فيه، وهذه جمادات لا يمكن اتّصافها بهذه الصفات.
لأنّا نقول: القاعدةُ نفسها تنطبق على ما يمكن اتصافه بتلك الصفات، فالأشخاص المتشابهون الذين يوصفون بالتعدُّد، لا يُسلَبُ عنهم هذا الوصف حتى لو أصيبوا بعجزٍ كاملٍ وغيبوبة، وفقدوا القوة والمشيئة والأفعال التي هي الملاك عنده في اثبات التعدد وعدمه.
وملائكة الرحمان الذين يتساوون في القوّة والأفعال لا يختلف أحدٌ من المؤمنين بكونهم متعدِّدين، فليس الملائكة المتساوون ملاكاً واحداً وان اتّحدت قوّتهم وأفعالهم ومشيئتهم بحيث لا يشاؤون إلا أن يشاء الله.
وكيفما كان، فالتكريتيُّ هنا أراد أن يثبت التثليث فأثبت الشرك بالله تعالى، وعَجِزَ عن محاكمة المسلمين فيما ذهبوا إليه.
بل اتّهمهم وسائر الأديان كلّها أنها تصف الله بوحدانية العدد، حين قال: كل من كان موحِّداً ما خلا النصارى لم يَعدُ أن يصفه واحداً فرداً معدوداً(48).
وهذه فِريةٌ منه علينا، فقد تقدّم أن وصف الله تعالى بوحدانية العدد من الممتنعات.
نموذج2: الاسقف بولس البوشي، القرن13م
نَهَجَ الاسقف البوشي منهج التكريتي في محاولة إثبات الثالوث بالدليل العقلي، ففيما عدّ التكريتي (الحياة والعلم) من صفات الذات، عدّ البوشي (الحياة والكلام) من صفات الذات، وجعل العلم هو النطق(49)، وأرجع سائر الصفات كلها إلى هاتين الصفتين.
فنفى أولاً أن تكون هاتان الصفتان صفتا فعلٍ بقوله: فإن قلتم، فما وصفتم به الله من أنّه حيٌّ متكلّم: (إنّما اشتُقّت له اشتقاقاً من أجل فعله، لمّا أحدث البريّة بالفعل)، يقال: هل يجوز أن يقال: (إن الله قد كان لا حياة له ولا علم، حتى صار إذاً الحياةُ والكلمة لديه موجودين)؟(50).. وهذا مُحالٌ من الكلام أن يقال: (إن الله كان طرفةَ عينٍ خلواً من حياةٍ وكلمة) لأنّه متكلم حيّ، لم يزل(51).
والتزم كما التكريتيّ بأن هذه الصفات: متباينةٌ متّصلةٌ جميعاً معاً!(52).
وللتخلُّص من إشكال التناقض، يذهب إلى أنها متّصلة في الجوهر، متباينةٌ في الأقانيم، ويسَلِّمُ أن القول متناقضٌ لو كان الاتصال والتباين من نفس الجهة(53)، ويقول في ذلك: إنما وصفناه باتصالٍ في الجوهر، وتبايُنٍ في الأقانيم(54)، وقال: إنما وصفنا أنّه متّفقٌ متّصلٌ في الجوهر، مميّزٌ مباينٌ في الأقانيم. وجوهرُه هو أقانيمُه، وأقانيمه هي جوهره، من حيث اللاهوت. بمنزلة لهيبِ نارٍ منتصب، وحرارةٍ متولّدةٍ منه، ونورٌ خارج منه، فالصفات ثلاثةٌ، والنار واحدة. وأحدها علة الاثنين، أعني لهيب النار المنتصب هو علّة الحرارة والنور، من حيثُ لا يتقدّم أحدها الاثنين(55).
ليخلص كما خلص التكريتي إلى أن هاتان الصفتان (كاملتان من كامل) فيقول: وهؤلاء الصفات الذاتيات (أعني الكلمة والروح) معه في القِدَم والأزليّة، وليس هما بعضاً، بل كاملان من كامل، لأنّ التبعيض والتجزئ لا يلائم المحتوي على الكل(56).
ويلاحظ على كلماته:
أولاً: عين ما ورد على التكريتي، حيث جعلا هذه الصفات (من الله) والتزما بأنها (كاملةٌ من كامل) فلزم وصف الله تعالى بصفاتٍ غير الذات، وإن اشتركت معها في الجوهر بحسب ما يقولون، إلا أنها صفاتٌ مباينةٌ في الأقنوم، وقد مثّل له صريحاً بما يلزم منه التعدد في الذات الإلهية، كالنار والحرارة والنور، فإنّ أحدها هو العلّة للبقية، كما أن الآب عندهم هو العلّة للابن والروح القدس، وعليه فَكَونُ الآب علّةً يعني احتياج الابن والروح له، وبهذا لا يكون كمالهما ككماله، بل يكون الابن والروح القدس فقيرين محتاجين.
وبما أنهم لم يلتزموا بافتقارهما واحتياجهما لأنّ هذا لا ينسجم مع القول بوحدة الجوهر، وذهبوا إلى أزليّة الثلاثة واتّصافهم بنفس صفات الله، فإنهم وقعوا في محذورين:
أولهما التناقض، حيث أن الأول علّة للأخيرين دون أن يكونا مفتقرين، والحال أن المعلولَ مُفتَقِرٌ إلى علّته.
وثانيهما هو الشرك، لالتزامهم بأزليّة ثلاثة أقانيم أي صفات أو أشخاص.
ثانياً: أن هذا الكلام وإن قال به جمعٌ من علماء النصارى، إلا أنّه مُتَوَقِّفٌ على تفسير الأقنوم بالصفة، والحالُ أن جمهرةً من علماء النصارى قد فسروه كما تقدم في الفصل السابق بالشخص وبعضهم بالتعيُّن، وبعضهم قال بأنه الصفات، وهذا الاستدلال (على فرض تماميته) لا ينسجم إلا مع المبنى الثالث، أما على مبنى جمهور علماء النصارى فهو غيرُ تامٍّ لأن الاقنوم عندهم هو الشخص وليس الصفة، وعليه فلا محلّ لهذا الاستدلال عند أكثر النصارى أنفسهم.
ثالثاً: أن العلم والكلام لهما معنيان مختلفان، وجَعلُهُمَا بمعنىً واحدٍ خطأٌ كبير، فإنّ العلم صفةٌ من صفات الذات، والكلامُ من صفات الفعل، فكيف يكون الاثنان صفةً واحدة؟
رابعاً: أنّه يلزم من هذا القول التكثُّر بما يفوق الثلاثة، لأن صفات الذات ليست محصورةً بالحياة والعلم، فالقدرةُ من صفات الذات، وقد يضاف إليها الغنى، فالله غنيٌّ، والسرمديّة أو الأبديّة، فالله باقٍ، وغيرها من الصفات، وإن أرجِعَت إلى كونه واجبَ الوجود، كان وجوب الوجود هو صفة الذات، وعلى هذا تتكثّر صفات الذات على كل تقديرٍ بما يزيد عن ثلاثة، وهو خلاف ما يذهب إليه النصارى من القول بالأقانيم الثلاثة.
وبهذا يتّضح بطلان ما ذهب إليه البوشي بقوله:
فإن قالوا: كما أثبتّم أن الله متكلمٌ حي، وأوجبتم للصفات أقانيم، وإذ هو سميعٌ عليمٌ بصير، ثم قويٌّ خالقٌ وما أشبه ذلك، فأوجبوا لكل صفةٍ أقنوماً. يقال لهم: إنما الكلمة والحياة صفاتٌ ذاتية، وهؤلاء فِعالٌ صادرة عنها(57).
لأن كون الله تعالى قادراً ليس فعلاً يرجع إلى الحياة أو العلم، وكذلك كونه واجب الوجود، وكونه غنياً باقياً وهكذا.
هذا وللبوشيّ استدلالٌ عقليٌّ على ألوهية عيسى (عليه السلام)، سوى استدلاله بالعقل على الثالوث، يتّضح بقوله: ثم والعقل يشهد بأن الخالق صنع ما يلائمه.. كذلك الإله عُرِفَ من خليقته.. مشى على البحر كأنّه على اليَبس، ليُعلَم أنّه (ثبّت الأرضَ على المياه). صنع طيناً وطلى بها عيني الأعمى المولود فأبصر، ليُعلَمَ أنّه (جَبَلَ الإنسان من تراب). أقام العازر بعدما نتن وصحّح الجسد.. ليُعلَم أنه مُسَلّطٌ على النفوس والأجسام، والباعث لها في اليوم الأخير(58).
وهذا الاستدلالُ العقليُّ غير تام، فهو يتوقف على أمور:
أوّلها: أن يكون المشيُ على الماء دالاً على أن الماشي عليه هو إلهٌ، والحالُ أنّ الدليل على خلاف ذلك تماماً، فإنّ الإله منزّهٌ عن المكان كما يقرّ النصارى، فمَن مشى على الماء دلّ ذلك على تجسُّدِهِ وتحيُّزه في مكانٍ فكان دليلاً تاماً على عدم كونه إلهاً.
ويلزم من قوله بأنّ من طار في الهواء صار إلهاً، فيشترك في الألوهيّة كلُّ طيور السماء كما اشترك عيسى (عليه السلام) فيها! فضلاً عن ملائكة الرحمان وما يتمتّعون به من خصالٍ خارقة.
ثانيها: أنّه يتوقف على أن يكون ما فعله عيسى من شفاء الأعمى والمريض منه نفسه، أي بقدرةٍ ذاتيةٍ، والحال أنّه يقرُّ بأنّ كلَّ ما عنده هو عطاءٌ من الله، ومن ذلك قوله مخاطباً الله تعالى: وَالآنَ عَلِمُوا أَنَّ كُلَّ مَا أَعْطَيْتَنِي هُوَ مِنْ عِنْدِكَ(59).
ثالثها: أنّه يتوقف على أن يكون الإله وحده قادراً على ذلك، وأن لا يكون بالإمكان أن يُقدِرَ الإله أحداً من عباده على فعل ذلك، وإلا كان الدليلُ أخصّ من المدعى، والحالُ أنه أقدَرَ الكثير من العباد على الشفاء (بحسب الإنجيل) ولم يقتصر ذلك على عيسى (عليه السلام) بل شمل جملة من أصحابه(60).
نموذج3: القس منسّى يوحنا
يذهب القسّ منسَّى يوحنا إلى أن توحيد المسلمين يعني تعطيل صفات الله، وللخروج من هذا الإشكال لا بدّ من القول بالثالوث كي تكون صفات الله أزليّة فاعلة، فيكون الله الآبُ فاعلاً لصفاته مع الأقنومين الآخرين لئلا تتعطل هذه الصفات، فيقول:
قد يُسأل: ما الفائدة من تعليم التَّثليث، ولماذا لا يُكتفى بالقول بوحدانية الإله؟ فنُجيب: إنَّ تعليم التَّثليث ضروري الاعتقاد به كالاعتقاد بوحدانية الله لأسباب كثيرة، منها: الإجابة على الاعتراضات الكثيرة التي يُعترض بها على الوحدانية المحضة مثل: كيف يكون الله هو الودود أو المحب، وبما أنَّه غير مُتغيِّر، فهو ودودٌ مُنذ الأزل، ويلزم من ذلك أن يكون مَودُود أو محبوب مُنذ الأزل قبل خلق العالم. فمن عساه يكون ذلك المحبوب الموجود مُنذ الأزل عند الله؟ قال أحد الأفاضل: «ففي عقيدة التَّثليث الجواب الصَّريح والوحيد لهذا السؤال: فنقول إنَّ أقنوم الآب الوَدُود وأقنوم الابن المَودُود. وما أحسن ما قال يسوع في هذا المعنى مخاطباً لأبيه: «أحببتني قبل إنشاء العالم». وعليه، لا يُمكن الاعتقاد بوجود صفة المحبة في الله مُنذ الأزل، ما لم نعتقد بتعدُّد الأقانيم مع وحدة الجوهر، وإلا كان مُتغَيِّراً، ابتدأ أن يُحبّ من الوقت الذي خلق له فيه، محبوباً من الملائكة والبشر، وهذا باطلٌ لأنَّه قال: «أنا الرب لا أتغيّر».
إنَّ معنى تعليم التَّثليث «أنَّ الله كاملٌ في نفسه ومُتضمِّنٌ في كيانه كلّ ما هو ضروريٌّ لكماله». أمَّا عقيدة الوحدانية المحضة فمعناها «أنَّ الله إلهٌ مُنعزلٌ عمَّن سواه وكائنٌ بمفرده منذ الأزل»، وإلا فنضطر إلى القول أنّ الكون أزليٌّ وكان مُشاركاً له. لأنَّه إذا كان الله ذا صفات، فينبغي أن تكون صفاته قائمةً لا مُعطَّلة. فإذا قُلنا بالوحدة المحضة، فما المعنى أنَّ الله مُحبٌّ وحكيمٌ وقوي، ومن يُحبّ، ومع من يكون حكيماً، وإلى من يظهر قوته؟ إنَّ الصِّفات الأدبيّة بأسمى معناها، لا تُوجد إلا بين شخصين عاقلين، فلذا وجب أن يكون في الله أقانيم (لا آلهة) (61).
ويلاحظ على استدلاله:
أولاً: أن الاعتراضات على ما أسماه (التوحيد المحض) مدفوعةٌ بما تقدّم من التمييز بين صفات الفعل وصفات الذات، فَكَونُ الله قادراً وعالماً وما الى ذلك من صفات الذات لا يحتاج إلى طرفٍ آخر، وكَونُ الله خالقاً ورازقاً من صفات الفعل، وفِعلُ الله حادثٌ خاضعٌ لمشيئته وإرادته، فهو إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، دون أن يلزم من فعله التغيُّر في الذات الإلهية.
ثانياً: أنّه يُنقَضُ عليه بصفات الخلق والرزق، فإنّه على مبناه لا بدَّ من أن يكون الله تعالى قد خلق خلقاً ورزقهم منذ الأزل، ورضي عنهم منذ الأزل، وخلق خلقاً وغضب عليهم وعاقبهم منذ الأزل أيضاً، لئلا تكون صفة الخلق والرزق والرضا والغضب غير أزليّة، أو أزليّة غير مفعلة. لأنه على القول بأنها غير أزلية ولا فاعلة (دون إرجاعها لصفات الفعل) يلزم التغيُّر في الله تعالى عند اتصافه بها أو عند تفعيلها بخلق الخلق.
وهذا ما لا مهرب لهم منه إلا بالعودة لما ذكرناه من التمييز بين صفات الذات والفعل، لأنهم لا يقولون بأن الخليقة أزليّة.
ثالثاً: انّ قولنا: الله قويٌّ، يرجع إلى كون الله قادراً، وهي من صفات الذات، وصفة الذات لا تستدعي وجود من (يُظهِرُ الله صِفَتَهُ له).
وقولنا أنّه حكيمٌ: يعني أن فعله في غاية الحكمة والإتقان والكمال. فهي من صفات الفعل لا الذات، فلا يلزم وجودُ من يكون اللهُ حكيماً معه، بل يلزم منها أن يكون حكيماً على فرض وجود مخلوقٍ آخر يكون حكيماً معه.
رابعاً: ان قولنا: الله محبٌ ودودٌ، من صفات الفعل أيضاً كما تقدّم. وبهذا يتم الجواب على إشكاله.
يقول القس إيدن ويلسون توزر: كتب يوحنا الرسول بالوحي فقال "الله مَحَبَّةٌ". ولقد أخذ بعضهم هذه العبارة على انها تعريفٌ لطبيعة الله الجوهرية، وهذا خطأٌ جسيم، فقد كان يوحنا بقوله هذا يقرر حقيقةً ولا يعطي تعريفاً. فإذا ما ساوينا المحبة بالله وقعنا في خطأٍ فاحشٍ أنتج فلسفاتٍ دينيةٍ غير صحيحة وتمحّض عن فيضانٍ من الشعر الخياليّ الذي لا يتفق مع واقع الكتاب المقدس، بل هو ينتمي إلى جوٍّ غريبٍ تماماً عن جوّ المسيحية التاريخية. فلو أن الرسول أعلن أن المحبّة هي كيان الله لاضطررنا إلى الاستنتاج أن كيان الله هو كيان المحبة – فلو أن الله هو المحبّة حرفياً لكانت المحبة هي الله حرفياً كذلك، ولكان واجبنا المفروض علينا هو أن نعبد المحبة باعتباره الإله الوحيد. ولو أن المحبة مساويةٌ لله لكان الله مساوياً للمحبة وحسب، ولكان الله والمحبة متشابهين تماماً(62).
خامساً: أنه على قولهم: أن الآب هو المُحِبُّ والابن هو المحبوب، صار هناك فاعلٌ ومفعولٌ به، فكيف يكون من صدر منه الفعل ومن وقع عليه الفعل واحداً؟ هما اثنان فعلاً، وبهذا يبطل التوحيدُ حقيقةً، بثبوت اثنين أحدهما القادر والآخر المحتاج.
سادساً: أن الإشكال بكون عقيدة الوحدانية تعني أن الله كان لوحده منذ الأزل، ليس إشكالاً في الحقيقة، بل هو عينُ حقيقة التوحيد، حيث كان الله ولم يكن معه سواه، وإلاّ صار ما سواه شريكاً له في وجوب الوجود وفي القِدَم.
وهي التي عبّر عنها القس منسّى بأنها الوحدانيّة المحضة، وعبّر عنها عوض سمعان بأنها الوحدانية المجرّدة، وزعم أن القول بها يعني أن الله تعالى ليس ذاتاً ولا موجوداً حقيقة فقال: الوحدانية المجرّدة: هي الوحدانيّة التي لا تتصف بصفة، وإسنادها إلى الله معناه (كما يُستنتج من آراء القائلين بها) أن الله لا يتّصف بصفةٍ، أو بالحريّ ليس ذاتاً، أو موجوداً له كيانٌ حقيقي، لأنّ لكلِّ موجودٍ حقيقيٍّ صفةٌ، على أي نحوٍ من الأنحاء.
أما الوحدانية المطلقة: فهي الوحدانية التي لا حدّ لها، وإسنادها إلى الهٍ معناه (كما يستنتج من آراء القائلين بها) أنّه ذاتٌ يتصف بالصفات.. لكن هذه الصفات لم يكن لها مجال للظهور أو العمل إلا عند قيامه بالخلق(63).
وهو واضحٌ في عدم فهمهما لعقيدة التوحيد عند المسلمين، فإنّنا كما تقدم لا نقول بأن الله (لا يتصف بصفةٍ) بل نقول أنّه لا يتصف بصفةٍ عارضةٍ عليه، لئلا يلزم التعدُّد في الذات الإلهية، لأن الصفة إن كانت غيره وكانت قديمة معه تعدَّدَ القديم.
ولا نقول أنه (ليس موجوداً له كيانٌ حقيقي)، بل نقول إنه موجودٌ لكنّه ليس كسائر الموجودات، فهو (شيءٌ لا كالأشياء)، وكل الأشياء مخلوقاته، وهو المنزّه عن الاتصاف بصفاتها، وإلا كيف نعبد من ليس موجوداً حقيقة؟! فالله تعالى موجودٌ، وله صفاتٌ لكن لا على نحو صفة العارض على المعروض، بل على نحو صفة الذات كما تقدّم، وهذا يُخَلِّصُ النصارى لو التزموا به من كل إشكالٍ في الذات الإلهية ويُثبِتُ الوحدانية بأبهى صورها.
نموذج4: عوض سمعان
يُقرّ عوض سمعان أن صفات الله أزليّة، وأنّ الله لا تركيب فيه، وبما أن هذه الصفات أزليّة فلا بدّ أنها كانت فاعلةً لا معطّلة بحسب ما يقول، ولا بدّ أنّه كان يمارسها مع ذاته! وهذا ما يدلُّ على أنّ فيه أقانيم تحصل هذه الممارسة بينها، وهذه الممارسة بحسبه هي المحبّة! فيقول: بما أن صفات الله لم تكن عاطلةً أزلاً ثم صارت عاملةً عندما خلق، بل كانت عاملةً أزلاً قبل وجود أيّ كائن من الكائنات.. وبما أنه لا يُعقل أنّه كان يمارس صفاته في الأزل مع غيره، لأنه لا شريك له، ولا يُعقل أنه كان يمارسها مع جزء من ذاته لأنه لا تركيب فيه، إذاً لا شك أنه كان يمارسها بينه وبين ذاته نفسها(64).
ثم يقول: صفة المحبّة تدل على وجود روابط طيّبة بين اثنين على الأقل، أحدهما محبُّ والآخر محبوب، ولذلك فاتصاف الله بالمحبة أزلاً يدلّ على وجود علاقاتٍ خاصّة بينه وبين ذاته.. وطبعاً لا مجال لوجود علاقاتٍ لله بينه وبين ذاته إلا إذا كان متميّزاً بمميّزاتٍ خاصة يمكن أن تنشأ بسببها هذه العلاقات. لو فرضنا أن الله لم تكن له علاقةٌ بينه وبين ذاته أزلاً، وقلنا إنّ له علاقةً بالعالم لأنّه خالقه والمعتني به، لكانت النتيجة الحتمية لذلك أنه دَخَلَ في علاقةٍ لم يكن لها أساسٌ في ذاته أزلاً، فيكون قد تطوّر وتغيرّ! (65).
ويقول: بما أن الصفات كالسمع والبصر، والكلام والعلم، والإرادة والمحبة، لا يمكن أن تُمارَسَ إلا بين كائنين عاقلين على الأقل، أو بين كائنٍ عاقلٍ وذاته إن كان مركباً. وبما أن الله مع تفرُّده بالأزلية وعدم وجود تركيبٍ فيه، كان يمارس هذه الصفات أزلاً بينه وبين ذاته، فمن المؤكد أن تكون ذاته عينها مع وحدانية جوهرها، هي بنفسها جامعة.. بتعبيرٍ آخر تكون ذاته ليس تعيّناً واحداً، بل تعيّنات. وهذه التعينات هي ما عبرنا عنها.. (بالمميّزات) التي تتميز بها وحدانيّة الله.. من البديهيّ أن يكون كلُّ تعيّنٍ من هذه التعيّنات ليس جزءاً من ذات الله، بل أن يكون هو ذات الله.. لأن تعيُّن الله هو عين جوهره، ولذلك يكون كلُّ تعينٍ من هذه التعيُّنات هو الله الأزليّ الأبديّ(66).
ويُلاحظ على كلماته فضلاً عما لوحظ على كلمات المتقدمين عنه:
أولاً: أن الله تعالى خالقٌ، والمخلوقات ليست أزليةً، حيث كان الله ولم يكن هناك شيء من المخلوقات كما يتفق على ذلك المسلمون والنصارى، والله تعالى بخلقه الخلق لم يدخل في (علاقة لم يكن لها أساسٌ في ذاته)، لأن الخلق صفةٌ من صفات الفعل، وفعلُ الله تعالى لا يعني تغيُّراً في ذاته.
ولا خلاف في أن الله تعالى لم يتغيّر بخلقه الخلق.
والحبُّ كالخلق هنا، من صفات الفعل لا من صفات الذات، فمخلوقاتُ الله تعالى إما أن تكون محبوبةً له أو مبغوضة، دون أن يلزم من ذلك تَغَيُّرٌ في صفات الله، وقد أشرنا إلى معاني الحب في ما تقدم.
ثانياً: أنّ ما اعتَقَدَه (روابط طيّبة بين اثنين على الأقل) يُثبت التعدُّد في صفات الله الأزلية، فيثبت إما التركيب في الإله الواحد أو تعدُّد الآلهة، ولا يقولون بهما، فوقعوا في التناقض. وإن كان القول بالتعدُّد في الصفات ملازماً لتعدد الآلهة ولا يمكن أن ينفك عنه.
ثالثاً: أن سبب هذه الشبهة، وسبب القول بأن لله روابط وعلاقاتٍ أزليةٍ هو قياس الله تعالى على مخلوقاته، والعجزُ عن التمييز بين صفات الذات وصفات الفعل، ما أوصلَ لهذه الاختراعات البشرية العَقَديّة ونسبتها للذات الإلهية.
وما يؤكد ذلك هو ما يقوله سمعان نفسه من أن صفات الله تعالى لا تُطلَقُ عليه باعتبارٍ يختلف عن الصفات التي تطلَقُ علينا، بل إنّ المراد من هذه الصفات هو نفس المعاني التي نفهمها. وبالتالي عَدَّ من صفات الله المُحِبُّ والوَدود كما نفهم نحن المحبة والمودة! فصار ثبوتها عند الله تعالى يعني التغيُّر، لأنّ ثبوتها عند الإنسان يعني التغيّر.
والحال أن المحبّة والمودّة كما تقدّم من صفات الفعل لا الذات، ولا ينحلّ الإشكال بالذهاب إلى كون هذه الصفات قد كانت فاعلة منذ الأزل بين الله وأقانيمه ولا زالت فاعلة بنفس الطريقة فلم يحصل تغيُّرٌ، لأن هذه الصفات ثابتةٌ بحق مخلوقات الله تعالى أيضاً، بمعنى أن الله تعالى يحبُّ خلقَه، فلو كان قد لَزِمَ منها التغيُّر فقد حصل لمّا أحبّ الله مخلوقاته، وإن كان لم يحصل بسببها التغيُّر من جهة حبّه لأقانيمه.
بعبارة أخرى: إذا كانت المحبّة بين الأقانيم ثابتة منذ الأزل وللأبد، لئلا يلزم من تغيّرها تغيّر الله تعالى، فإنها ليست ثابتة بين الله تعالى ومخلوقاته، لأنّ الله تعالى خلق الخلق وأحبّهم بعدما خلقهم، فإن كانت محبّة الله تعالى كمحبّتنا ثبت التغيُّر في الذات الإلهية بعدما أحبّ الخلق، بل حال هذه الصفة كحال صفة الخلق تماماً، بحيث خلقَ الله تعالى الخلقَ فوُجدوا بعد أن لم يكونوا، فهل يلزم من وجودهم بعد العدم تغيُّرٌ في صفات الله تعالى؟
ولا يتخلص النصارى من إشكال التغيُّر في الذات الإلهية بما ذهبوا إليه، ولا مهرب لهم إلا بما قلناه.
ويتضح وجه الشُّبهَة في كلمات عوض سمعان حينما يقول: إن أطلقنا الصفات على الله باعتبارٍ يختلف عن ذاك الذي نطلقها به على غيره، وبمعنىً يختلف عن ذات المعنى الذي يُفهم منها، لأَصبَحَ الله غير مُدرَك لدينا. وبما أن غرضه من الإعلان عن ذاته هو أن ندركه على حقيقته، إذاً لا شك في أنّه قصد بالصفات (التي أعلن أنه متّصف بها) نفس المعاني التي نفهمها منها، لكن طبعاً بدرجة تتناسب معه(67).
وهذا يتعارض مع ما قاله سمعان من أن كُنهَ ماهيّة الله لا يمكن إدراك شيء عنها: أما كُنهُ ماهيّة الله، فلا قدرة لنا على فحصه أو إدراك شيءٍ عنه، بل ولا يصح لنا أن نتطاول لفحصه أو إدراكه.. فقدرتنا محدودةٌ والله منزّهٌ عن الحدود، وأنّى للمحدود أن يدرك كلّ شيء عن المنزّه عن الحدود؟!(68).
رابعاً: السبب الآخر في وقوعهم في هذه الشبهة هو عدم استيعاب كون الصفات الذاتية هي صفاتُ ذاتٍ دون تعدُّدٍ في الذات الإلهية المقدسة، فإنّ سمعان لم يتمكن من إدراك حقيقة كون صفات الله هي عين ذاته، فجعلها (غير ذاته) ولكنها (فاعلةٌ أو عاملةٌ بينه وبين ذاته)، فأثبت بهذا تعدُّد القدماء وإن كان أحدهم علة للآخر! وهو الشرك بالله تعالى، فقال: هل صفات الله هي ذاته، أم غير ذاته؟ ..
1. إن قلنا إنها ذاته، جعلنا الصفة موصوفاً والموصوف صفة، أو المعنى ذاتاً والذات معنى، وهذا باطل.
2. وإن قلنا إنها غير ذاته، افترضنا وجود أشياء منفصلة عن ذاته أو ملتصقة به، وكل ذلك باطل.
3. وواضح أن صفات الله هي غير ذاته، لكن لا يمكن أن تكون منفصلةً عن ذاته أو ملتصقةً بها، بل أن تكون عاملةً بينه وبين ذاته. وعملها بينه وبين ذاته لا يتأتى إلا إذا كانت وحدانيته جامعة مانعة(69).
وهو لمّا لم يدرك حقيقة القول الأول من كون الصفات هي عين الذات نفى ذلك، لأنّه تصور أن كون القدرة والحياة والعلم من صفات الذات يعني أن تكون القدرةُ موصوفةً بالعلم، والعلمُ موصوفاً بالقدرة، فيصير الموصوف صفةً والصفةُ موصوفاً، ولكننا لا نقول بذلك، بل نقول هو قادرٌ من حيث هو عالمٌ من حيث هو حيٌّ كما تقدّم، فليراجع مفصّلاً.
ولمّا جَهِلَ حقيقة القول الأول، وكان الثاني باطلاً، اخترع قولاً ثالثاً يُثبتُ فيه التعدّد في ذات الله وصفاته، وحاول كسائر النصارى التغطية عليها بالقول بوحدانية الجوهر وتعدّد الأقانيم، وهو التعدُّدُ المفضي للشرك بلا شك.
وكلام سمعان يذكرنا بمتكلّم خراسان عندما ناظر الإمامَ الرضا (عليه السلام) في الإرادة الإلهية، وهي من صفات الفعل، ولما كان هذا المتكلمُ قائلاً بأنّها من صفات الذات، مع ما يلزم ذلك من محاذير باطلة، حاججه فيها الإمام فتحيّر جواباً، وقال بعد ذلك: فَإِنَّمَا قَوْلِي إِنَّ الإِرَادَةَ لَيْسَتْ هُوَ وَلَا غَيْرَهُ!
قَالَ الرِّضَا (عليه السلام): يَا جَاهِلُ، إِذَا قُلْتَ لَيْسَتْ هُوَ فَقَدْ جَعَلْتَهَا غَيْرَهُ، وَإِذَا قُلْتَ لَيْسَتْ هِيَ غَيْرَهُ فَقَدْ جَعَلْتَهَا هُو(70).
فسمعان هنا جمع بين المتناقضين كالخراساني هذا، فإما أن تكون الصفات هو وإما أن تكون ليست هو، أما الجمع بينهما كما فعل فغير ممكن.
خامساً: يلزم من قوله لوازم أخرى فاسدة، منها أنّه على فرض التنزُّل والتسليم بوجود الآب والابن والروح القدس منذ الأزل، وكون هذه الصفات عاملةً من الأزل بينه تعالى وبين ذاته، أي بين الأقانيم الثلاثة، الذين هم ذاته، فمع وجود صفة المحبّة صار الأزليُّ أكثر من ثلاثة: الآب والابن والروح القدس، والمحبّة الصادرة من الآب، والمحبّة الواقعة على الابن، والمحبّة الواقعة على الروح القدس، فهذه ستة، فضلاً عن صفة المحبّة نفسها، فيصير الأزليّ سبعة.
وهكذا سائر الصفات إلى أن نصل إلى عدد كبيرٍ مما كان أزلياً.. وهم وإن كانوا لا يلتزمون به إلا أنه لا ينفك عن حقيقة كون هذه الصفات غير ذاته، وعاملة بينه وبين ذاته.
لا يقال: ان الصفات معنى وليست ذاتا(71)، فلا يتعدد القديم بذلك.
لأنّنا نقول: كون الصفات معنىً أمرٌ مختلفٌ فيه بين النصارى، كما تقدّم في تحديد معنى الأقنوم، وحتى عند القائل بأنها معنى، فإنّها تكشف عن فعلٍ، حيث وقع الحبُّ من المُحِبِّ على المحبوب، ولا شكّ بأنّهم لا يريدون من وجود العلاقة بين الأقانيم الثلاثة منذ الأزل إثبات شيءٍ خياليّ، بل شيءٌ له واقعية وحقيقة، وهذه الحقيقة هي الحبُّ الصادرُ من أحد الأقانيم، والواقع على سائر الأقانيم، وبهذا يثبت التكثًّر كما قلنا ولا يقف عند حد الثلاثة.
سادساً: يتّضح بما تقدّم بطلان ما نسبه سمعان إلى المسلمين بقوله: مما تقدم يتبين لنا أن الاعتقاد بأن وحدانية الله مجرّدة أو مطلقة يؤدي لاعتبار العالم أزلياً مع الله، أو اعتبار العالم والله شيئاً واحداً، أو يؤدي لحدوث تغيُّرٍ وتطوّرٍ في الله عند قيامه بخلق العالم. أما الاعتقاد بأن وحدانيّة الله جامعة مانعة فيدلّ على أن الله خلق العالم دون أن يتعرّض سبحانه للتغيّر أو التطور(72).
فإن الإشكال يقع عليهم لا علينا، حيث جعلنا هذه الصفات من صفات الفعل التي لا يلزم منها طروء التغيُّر على الله تعالى، ولا قِدَم العالم.
بينما يلزم على قولهم حدوثُ التغيُّر، لأن المحبّة إنما كانت أزلية عندهم بين الأقانيم لئلا يلزم التغيّر بأن يحبّ الله تعالى أحداً بعد أن لم يحبّه، والحال أن هذا لا يدفع الإشكال، لأن الله كان مُحِبّاً للابن والروح القدس منذ الأزل عندهم، فلزم من ذلك تعدُّد القديم، ثم أحبّ المخلوقات بعد أن خلقها، فلزم التغيُّر فيه تعالى، وهم لا يقولون بالتغيُّر، لكنّه لازم كلامهم دون كلامنا.
وأخيراً: أنّ في كلمات سمعان نفسه ما ينافي إمكان الاستدلال على الثالوث بالدليل العقلي المتقدّم، وهو الاعتراف بأن حقيقة التعيُّنات الإلهية أي الثالوث مما لا يمكن للعقل أن يتصوره.
يقول: إننا لا نقول إن كلاً من هذه التعينات يكون إلهاً، بل نقول إن كلاً منها يكون هو الله، أو اللاهوت معيّناً. لا شك أن هذه الحقيقة أسمى من أن تستطيع عقولنا تصوُّرها، ولكنها تتوافق معها كل التوافق.. نعم إن العقل لا يستطيع أن يتصور هذه الحقيقة(73).
كيف لا يستطيع العقل تصوّرها ثُمَّ يستدلّ عليها بالعقل؟
لا يقال: هكذا حال المسلمين حيث يستدلّون على وجود الله بالعقل وهم لا يدركون كنهَه.
لأننا نقول: فرقٌ واضح بين الأمرين، فإننا نستدلُّ والنصارى بالعقل على وجود الله، ونتّفق معهم على عدم إمكان اكتناهه. أما الثالوث فهو بنفسه غير قابلٍ لأن يتصورّه العقل فكيف يصير دليلاً عليه؟
يقول سمعان بعدما يذكر عقيدة المسلمين في امتناع معرفة الذات الالهية او البحث فيها: ونحن نتفق كل الاتفاق مع هؤلاء الأئمة والعلماء على تعذُّر البحث في ذات الله، بل وأيضاً على عدم جواز البحث فيها، ومن جانبنا لولا أن الكتاب المقدس قد نصّ على أن الله هو (الآب والابن والروح القدس) وأنّ الأدلة العقليّة والنقليّة قد أثبتت لنا صدق هذا النص وغيره من النصوص، لما خطر ببالنا مطلقاً أن يكون هذا هو كنه الله، أو حقيقة ذاته(74).
فإن كان البحث في ذات الله متعذراً، كيف تثبت الأدلة العقلية صدق هذا النص؟! وأن الثالوث هو كنهه؟
كان الأحرى به أن يعتمد على الدليل النقليّ فقط، لأن الدليل العقليّ ساقطٌ كما تقدم، وأما الدليل النقليّ فقد بيّنا عدم دلالته على ما يتوهمه النصارى من القول بالثالوث في كتاب (الثالوث والكتب السماوية).
نموذج5: عماد شحادة
يقول الدكتور القسّ عماد شحادة: إن عدم وجود علاقةٍ في الذات الإلهية يعني عدم نشاط صفاته. وبالتالي هو أقرَبُ إلى العدم منه إلى الوجود(75).
ويقول: بينما يعتقد البعض بوجوب وجود صفات الله بشكلٍ فعّال (أي ان الله كان يستخدم تلك الصفات وبمعزل عن الخليقة) يعتقد آخرون أن ذلك ليس شرطاً لازماً بحجة أنّ هذه الصفات ترتبط بالخليقة ليس إلا. وبحسب هذا المنهج فإن صفات الله هي صفاتٌ كامنةٌ وليست فاعلةً منذ الأزل، بل قد صارت فاعلة بعد الخلق(76).. يُصِرُّ أصحاب هذا الرأي على أن القدرة للقيام بهذه الأعمال هي أزليّة، لكن دون أن تكون الأعمال بنفسها أزلية.. لكن تتجلى بعض الصعوبات حيال حصر فعالية صفات الله لما بعد الخلق:
أولاً: إذا كانت صفات الله كامنةً (غير فاعلة) دون الخليقة، فهذا يعني أن تفعيل صفاته بعد الخلق قد أضفى على طبيعته تغيُّراً مُعيّناً. وهذا يتنافى مع طبيعة الله اللامتغيرة.
ثانياً: القول إن صفة العلم على سبيل المثال لم تتفعّل إلا بعد الخليقة يعني أن الله كان يجهل أمراً ما قبل الخليقة، وهذا مستحيلٌ ومنافٍ لطبيعة الله كليّ المعرفة والعلم(77).
والجواب على هذه الشبهات كلها قد اتضح مما تقدم، ونزيد عليه:
أولاً: بالجواب النقضي، فإنّهم رغم قولهم أنّ صفة المحبة والمودة فاعلة منذ الأزل لئلا يلزم التغيُّر عند الخلق، إلا أن التغيُّر على قولهم لا بدّ أن يحصل بعد خلق الخلق، لا من جهة كون الله غير مُحِبٍّ مطلقاً ثم تغيَّرَ فصار مُحبّاً، فإنّه مُحِبٌّ لأقانيمه عندهم منذ الأزل، بل من جهة عدم كونه مُحِبّاً لمخلوقاته قبل خلقهم، ثم صيرورته مُحبّاً لهم بعد خلقهم. فالتغيُّرُ حاصلٌ على تفسيرهم للمحبة ولو تجاه المخلوقات، ولا يندفع الإشكال بما ذهبوا إليه.
بل إن عملية الخلق نفسها بحسب تفسيرهم تستلزمُ لازماً فاسداً، وهو انتقال صفةٍ من صفات الله تعالى من حالةٍ (غير فاعلة) إلى حالةٍ (فاعلة)، فلمّا لم يكن الله تعالى خالقاً منذ الأزل، أي لم يكن قد خلق أحداً منذ الأزل، كانت صفته هذه عندهم (كامنةً) و(غير فاعلة)، ولمّا خلق الخلق تحوّلت إلى صفةٍ (فاعلة)، فيلزم منها التغيُّر، ولا يقولون به.. فما أجابوا به عن صفة الخلق أجبنا به عن (المحبة والمودة).
ثانياً: بالجواب الحليّ، أنّ كون هذه الصفات صفات فعل يعني عدم طروء تغيُّرٍ على الذات الإلهية المقدسة إن أحبّ بعض مخلوقاته، لأن حبّه ليس كحُبِّنَا وإلا لزم تشبيه الخالق بخلقه.
تماماً كما نتّفق والنصارى على عدم حصول تغيُّرٍ في الله تعالى عندما خلق الخلق، دون أن يكون الخلق أزلياً.
ثالثاً: أننا لا نقرّ بما ذهب إليه بعضهم من طروء العلم على الله تعالى، فإننا نعتقد أنّ الله تعالى عالمٌ بما كان وما يكون منذ الأزل، ونبرأ ممن لم يقل بذلك، كما دلّ عليه العقل، ورويناه عن أئمتنا المعصومين (عليهم السلام)، فعن الإمام الباقر (عليه السلام): كَانَ الله عَزَّ وَجَلَّ وَلَا شَيْءَ غَيْرُهُ، وَلَمْ يَزَلْ عَالِماً بِمَا يَكُونُ، فَعِلْمُهُ بِهِ قَبْلَ كَوْنِهِ كَعِلْمِهِ بِهِ بَعْدَ كَوْنِه(78). وعنهم (عليهم السلام): لَمْ يَزَلِ الله عَالِماً بِالْأَشْيَاءِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْأَشْيَاءَ كَعِلْمِهِ بِالْأَشْيَاءِ بَعْدَ مَا خَلَقَ الْأَشْيَاءَ(79).
وليست هذه الشبهة قديمة، فإنّ مِنَ الناس من كان يعتقد أن العلم من صفات الفعل التي لا يمكن أن تكون أزليّة، فأرسل بعض أصحاب الأئمة المعصومين إليهم (عليهم السلام) يسألهم عن هذا الاختلاف، فعن جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى الرَّجُلِ (عليه السلام) أَسْأَلُهُ أَنَّ مَوَالِيَكَ اخْتَلَفُوا فِي الْعِلْمِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يَزَلِ الله عَالِماً قَبْلَ فِعْلِ الْأَشْيَاءِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا نَقُولُ لَمْ يَزَلِ الله عَالِماً لِأَنَّ مَعْنَى يَعْلَمُ يَفْعَلُ، فَإِنْ أَثْبَتْنَا الْعِلْمَ فَقَدْ أَثْبَتْنَا فِي الْأَزَلِ مَعَهُ شَيْئاً.
فَإِنْ رَأَيْتَ جَعَلَنِيَ الله فِدَاكَ أَنْ تُعَلِّمَنِي مِنْ ذَلِكَ مَا أَقِفُ عَلَيْهِ وَلَا أَجُوزُهُ.
فَكَتَبَ (عليه السلام) بِخَطِّهِ: لَمْ يَزَلِ الله عَالِماً تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذِكْرُهُ(80).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): وَكُلُّ عَالِمٍ فَمِنْ بَعْدِ جَهْلٍ تَعَلَّمَ، وَالله لَمْ يَجْهَلْ وَلَمْ يَتَعَلَّمْ، أَحَاطَ بِالْأَشْيَاءِ عِلْماً قَبْلَ كَوْنِهَا فَلَمْ يَزْدَدَ بِكَوْنِهَا عِلْماً، عِلْمُهُ بِهَا قَبْلَ أَنْ يُكَوِّنَهَا كَعِلْمِهِ بَعْدَ تَكْوِينِهَا، لَمْ يُكَوِّنْهَا لِتَشْدِيدِ سُلْطَانٍ وَلَا خَوْفٍ مِنْ زَوَالٍ وَلَا نُقْصَانٍ، وَلَا اسْتِعَانَةٍ عَلَى ضِدٍّ مُنَاوٍ وَلَا نِدٍّ مُكَاثِرٍ وَلَا شَرِيكٍ مُكَابِرٍ، لَكِنْ خَلَائِقُ مَرْبُوبُونَ وَعِبَادٌ دَاخِرُون ..
عَلِمَ مَا خَلَقَ، وَخَلَقَ مَا عَلِمَ، لَا بِالتَّفْكِيرِ فِي عِلْمٍ حَادِثٍ أَصَابَ مَا خَلَقَ، وَلَا شُبْهَةٍ دَخَلَتْ عَلَيْهِ فِيمَا لَمْ يَخْلُقْ، لَكِنْ قَضَاءٌ مُبْرَمٌ وَعِلْمٌ مُحْكَمٌ وَأَمْرٌ مُتْقَنٌ(81).
ونحن نتبرّأ ممن نفى علم الله تعالى بما كان وما يكون منذ الأزل: عَنْ مَنْصُورِ بْنِ حَازِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام): هَلْ يَكُونُ الْيَوْمَ شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ فِي عِلْمِ الله بِالْأَمْسِ؟
قَالَ: لَا، مَنْ قَالَ هَذَا فَأَخْزَاهُ الله.
قُلْتُ: أَ رَأَيْتَ مَا كَانَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَ لَيْسَ فِي عِلْمِ الله؟
قَالَ: بَلَى، قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الخلْقَ(82).
رابعاً: يظهر أن ما ذُكِرَ من تقسيم الصفات إلى (صفاتٍ جوهرية) و(صفاتٍ علاقية) هو تقسيمٌ باطل من جهات:
الجهة الأولى: أنّ الثانية تعني العلاقة المتبادلة كما فسرها بها شحادة(83)، وكلّما وقع الفعلُ من طَرَفٍ على الآخر انفعل الآخر، فإذا تحقّقت الصفة العلاقية في الله تعالى دلّ ذلك على انفعاله وتأثُّره تعالى، والله تعالى يفعلُ ولا ينفعل، ويؤثر ولا يتأثر..
الجهة الثانية: أن الصفات الجوهرية إن أريد بها صفات الذات، كالعلم والقدرة والحياة وما شابه، فهي صفاتٌ بسيطةٌ لا مركّبة، وهي عين الذات، ولا ينالها التغيُّر قبل الخلق ومع الخلق وبعده.
وأخيراً.. يعترف القس عماد شحادة نفسه بأن العقل ليس هو المصدر الذي أعلن عن هذه العقيدة، فليس دليلهم دليلاً عقلياً إذاً باعترافهم، يقول: العقل لم يكن هو المصدر الذي أعلن عن هذه العقيدة(84).
فإن قيل: العقلُ وإن لم يكن هو المصدر، إلا أنّه بعد إعلان الكتاب المقدس عن الثالوث يتنبّه الإنسانُ إلى الدليل العقلي عليه.
قلنا: بل إن الدليل العقليّ الذي تقدّم يبطلُ الثالوث كما تبيّن، وستأتي كلماتهم في عدم إدراك العقل للثالوث أبداً.
نماذج أخرى
بعد تمامية الجواب على هذه الشبهات بما تقدم، نعرض بعض ما يشبهها في كلمات سائر علماء النصارى، ليتبيّن أنّه ليس عندهم دليلٌ سوى ما تقدم.
فمن ذلك ما ذكره الشماس الإكليريكي د. سامح حلمي من كلماتٍ لا تختلف أبداً عما تقدم عنه، ننقل بعضها: ما الذي كان يفعله الله الواحد الأزلي قبل خلق السماء والأرض والملائكة والبشر؟ نعم في الأزلية إذ لم يكن أحدٌ سواه، ماذا كان يفعل؟ هل كان يتكلّم ويسمعُ ويحبّ؟ أم كان صامتاً وفي حالة سكون؟
- إن قلنا إنه لم يكن يتكلم ويسمع ويحب، إذن فقد طرأ تغيير على الله، لأنه قد تكلم إلى الآباء بالأنبياء، وهو اليوم (سامع الصلاة) إذ هو السميع المجيب، كما أنه يحبّ خليقته وصنعة يديه.
- نعم إن قلنا إن الله كان ساكناً لا يتكلم ولا يسمع ولا يحب ثم تكلم وسمع وأحب إذن فقد تغيّر، والله جل جلاله منزّه عن التغيير والتطور.
- وإن قلنا إنه كان يتكلم ويسمع ويحب في الأزل قبل خلق الملائكة أو البشر، فمع من كان يتكلم، وإلى من كان يستمع، ومن كان يحب؟؟(85)
ثم يقول: بناء على ذلك، فإن الله منذ الأزل وإلى الأبد هو كليمٌ وسميعٌ، محبٌّ ومحبوب، ناظرٌ ومنظور، دون أن يكون هناك شريكٌ معه.. هكذا نحن المسيحيين نؤمن بأنّ الله واحدٌ له شريك له ولكنّه مثلث الصفات أو الخاصيات الذاتية، فالله واحدٌ في جوهره، ولكن يوجد في هذا الجوهر الواحد ثلاث خاصيات ذاتية وهي: الوجود والعقل والحياة، وهذه الصفات الذاتية الثلاث أطلق عليها آباء الكنيسة الأوائل كلمة (أقانيم) (86).
وهذا كله قد تقدّم الجواب عليه، فالاحتمالات الثلاثة كلها ناشئة من جهل كيفية فهم صفات الله تعالى، وقياسها على صفات المخلوقين.
وقد نسب حلمي هذا الكلام إلى القديس اوغسطينوس (354- 430م)، حينما قال: القياس المستمد من طبيعة الله، وهو القياس الذي اخذه اوغسطينوس من طبيعة الله (الله محبة) إذ تكون المحبّة عاطلةً وغير ذات موضوع ما لم يكن هناك محبٌّ ومحبوبٌ وذاتيّة المحبة.. وهذه لم يجد لها أوغسطينوس حلاً إلا في الثالوث القائم في ذات الإله الواحد.. فمثلاً إذا كانت كافة الأديان تسلّم بأن من صفات الله النطق، إذ هو الناطق المتكلّم، فإنه ينبغي أن نسأل، ومع من كان يتكلم الله، أو ينطق قبل أن تكون هناك خليقةٌ من ملائكة أو بشر؟(87).
ويقول القس ابراهيم القمص عازر تاوضروس: عندما يصرِّح الوحي بأن (الله محبة) يقصد أن الله (محبّة) في ذاته، في داخله، في كيانه، بغض النظر عن الإنسان، وقبل أن يخلق الإنسان.. ويترتب على هذا حتميّة تواجد أكثر من أقنوم في جوهر الله، في داخله وكيانه، ففي الله أقانيم ثلاثة يتبادلون المحبة، فإذا كان هناك معنى للقول (الله يحب الله) (الله يتبادل الحب مع الله) فيجب أن يوجد في جوهر الله أكثر من طرف يدخلون في تبادل الحبّ هذا، وهذا ما قصده الرب يسوع عندما أوحى بطرفٍ أول (الآب) وطرفٍ آخر (الإبن) وطرف ثالثٍ اسمه (الروح القدس). وبين الآب والابن والروح القدس تبادل حبٍّ واتحادٌ في الجوهر: أنا والآب واحد(88).
ويقول الواعظ الدكتور زآريا استاورو: ثالثاً: نوع وحدانية الله: نعم نؤمن أن الله واحد. ولكن ما هو نوع هذه الوحدانية؟ هل هي وحدانية مجردة أو مطلقة؟ لو كان هكذا سيظل السؤال الذي حير الفلاسفة دون إجابة وهو: ماذا كان يقول أو يفعل الله الأزلي قبل خلق الكون والملائكة والبشر إذ لم يكن سواه؟ هل كان يتكلم ويسمع ويحبّ أم كان في حالة صمت مطبق – حاشا لله جل جلاله - دون إظهار أيٍّ من صفاته وطبيعته قبل خلق الملائكة والبشر، فمع من كان يتكلم أو يسمع أو يحبّ أو يمارس صفاته أو طبيعته؟ أعلن الكتاب المقدس الحل الأوحد لهذه المعضلة وهي أن وحدانية الله ليست مجرّدة مطلقة بل هي وحدانية جامعة مانعة. جامعة لكل ما يلزم لها ومانعة لكل ما عداها. وبناء على هذه الوحدانية الجامعة المانعة فالله منذ الأزل وإلى الأبد هو كليمٌ وسميعٌ ومحبٌّ ومحبوبٌ دون حاجةٍ إلى شيءٍ أو شخصٍ لإظهار طبيعته وصفاته(89).
يقول القمص إبراهيم لوقا: القرآن يدعو المسيح كلمة الله وروحاً منه، وهذا يدفعنا إلى أنْ نتساءل: أكان الله قبل أن يبدع هذا العالم ذا روحٍ وكلمة، أم لم يكن كذلك؟ فإن قيل هو روحٌ وكلمةٌ منذ الأزل، قلنا أهُمَا ذاتُ الله أم غيره؟ فإن قيل هما غيره، قلنا، إذاً فمع الله اثنان، ومن كان معه غيره فهو ليس واحداً. وهذا باطل. وإن قيل: إن الروح والكلمة مخلوقان وليسا موجودَيْن منذ الأزل، كان هذا مناقضاً للاعتقاد في الله تعالى من أنه الكائن الأزليّ الحيّ الناطق، لأننا لم نصفه بهذه الصفات إلا لأننا نعتقد فيه الحياة والنطق منذ الأزل، وليس من سبيلٍ للاستدلال على الحياة والنطق إلا بالروح والكلمة، لأن الروح جوهر الحيّ، والكلمة كنه الناطق. فلم يبق والحالة هذه إلا أن نقول إن الروح والكلمة هما ذات الله، لهما صفاته كلها.. وبما أن الإسلام لقَّب المسيح بأنه كلمة الله وروح منه، فليس أمامنا إلا الاعتراف بأن المسيح هو الله سبحانه وتعالى.. فهو إذاً إلهُ حقٍّ من إله حق، مولودٌ غير مخلوق(90).
ونحن نعتقد أن عيسى (عليه السلام) روحُ الله وكلمته، لكنّه مخلوقٌ وليس أزلياً، وهذا لا يتعارض مع الاعتقاد بأن الله تعالى كائنٌ من الأزل.
ولكن حل الإشكال الذي وقع فيه النصارى يتم من خلال التفرقة بين نوعين من الصفات الإلهية:
الأول: صفات الذات، فالله تعالى قادرٌ عالمٌ حيٌّ منذ الأزل، قبل أن يخلق شيئاً من مخلوقاته.
الثاني: صفات الفعل، فالله تعالى مختارٌ فيما يخلق، فيوجِدُ شيئاً بعد أن لم يكن، ولا ينافي هذا أزليته وأزلية صفاته الذاتية.
والقولُ بأن النطق صفة ذات، فلا بُدَّ من منطوقٍ أزلي هو الكلمة الأزلية، وكذا القول بأنّ الحياة صفةُ ذاتٍ فلا بد من روحٍ أزلية، لا يتم إلا مع القول بالتركيب أو التعدُّد، لكن النصارى يقولون بأزلية الكلمة والروح بلا تركيب ولا تعدُّدٍ في الآلهة، وهو ما لا يقبله العقل بتاتاً.
لماذا كانت الصفات ثلاثة؟
تقدّم في نقاش الأسقف البوشي في النموذج الثاني إشكالٌ مفاده أن الاستدلال بصفات الله على الثالوث يؤول الى القول بأقانيم تزيدُ عن ثلاثة، لأنّ صفات الذات ليست محصورةً بالحياة والعلم لكي تُكَوِّنا مع الله تعالى ثالوثاً، فالقدرةُ من صفات الذات، وقد يضاف إليها الغنى، فالله غنيٌّ، والسرمديّة، فالله باقٍ، وغيرها من الصفات، وإن أُرجِعَت إلى كونه واجب الوجود، كان وجوب الوجود من صفات الذات، فضلاً عن صفتي السميع والبصير، وهكذا تتكثّرُ صفات الذات على كلِّ تقديرٍ بما يزيد عن ثلاثة، وهو خلاف ما يذهب إليه النصارى من القول بالأقانيم الثلاثة.
وليس في أدلة النصارى ما يمنع من مثل هذه الزيادة أو يعارضها، فإذا دلّ عليها الدليل الذي يعتقدون بصحته، لزمهم الاعتقاد بها.
وبهذا تبطل عقيدة الثالوث تماماً استناداً إلى محاولتهم لإثباتها بالدليل العقلي.
ومن نماذج اعترافاتهم بإمكان زيادة الأقانيم عن ثلاثة ما ينقله القسّ شحادة عن أستاذ علم اللاهوت الكاهن ليونارد هودجسون: إنه لا مانع من أن يعلن الله عن نفسه في المستقبل بأربعة أقانيم أو خمسة أو أكثر من ذلك: لماذا يجب أن يكون هناك ثلاثة أقانيم، وثلاثةٌ فقط؟ قد أُجرِيَت عدّة محاولاتٍ لتوضيح هذا الأمر كضرورةٍ منطقية، ولكن لم تكن أيّةٌ منها حقاً مُقنِعَة.. لماذا لا نتشجّع ونرجو بأنّه في يومٍ معيّن سوف يكشف عن نفسه لنا في أربعة أقانيم أو خمسة أو أكثر؟(91).
وعلى ما أقمناه عليهم من حجةٍ نقول: لو تم استدلالكم بالدليل العقلي يلزَمُ أن تكون الأقانيم أكثر من ثلاثة، ولمّا كان هذا الأمر دون معارض، بطل قولكم بالثالوث وسقطت الديانة المسيحية.
ويقول عوض سمعان: أما عدد الأقانيم فطبعاً هو أوّل عددٍ كاملٍ جامع، لا يمكن لأقل منه أن تتوافر فيه خصائص الوحدانية الجامعة المانعة. وهذا العدد كما نعلم هو ثلاثة، ويتفق معنا الشيخ محيي الدين بن العربي على ذلك إلى حدٍّ كبير فقد قال: أول الأعداد الفردية هو الثلاثة لا الواحد، لأن الواحد ليس بعددٍ بل هو أصل الأعداد (فصوص الحكم ص130) (92).
وكلامه هذا مُجَرَّد استحسان، يبتني على لزوم كون الأقانيم مساويةً لأوّل عددٍ كاملٍ جامع، إذ يُقال: لِمَ لا تكون الأقانيم مساويةً لأكبر عددٍ كاملٍ جامع، أو أوسطها مثلاً؟ لا جواب عندهم.
يقول الدكتور القس عماد شحادة: أما عن ضرورة أن تكون التعدُّدية ثُلاثيّة على الأكثر، إنّ هذا يعتمد بالدرجة الأولى على إعلان الله عن ذاته. هنا لا يستطيع الإنسان أن يجزم بما لا يشدّد عليه الكتاب المقدس، فواقع الأمر أنه من الأصعب عند اللاهوتيين إثبات أن ذلك غير ضروري، أو غير ممكن(93).
من ثم يحاول ترجيح (نهائية العدد ثلاثة) بناءً على استحسانات مبنيّة على اعتقاده التام بنهائية التثليث ولا تستند على أي وجوهٍ منطقيةٍ مقبولة.
ولذا فإنّه ليس عند النصارى من جواب على القائل بالتربيع أو التخميس، كبرديصان الذي ينقل عنه ثاوذورس أبي قرّة قوله ذلك حين يقول: لقيت برديصان، فقال لي:.. أخبرك أن الآلهة خمسةٌ أزليّة. أربعةٌ منها غير عقليّة والخامس عاقلٌ.. يعني بالأربعة الغير عقلية النار والهواء والماء والتراب(94).
نعم ليس لبرديصان هذا حُجَّةٌ في كلامه، فليس النار والهواء والماء والتراب إلا مخلوقاتٍ تتصف بالحاجة والنقص، قاصرة عاجزة تناقِضُ صفاتها صفات الإله القدير العظيم، لكن لو استدلّ مُستِدلٌّ على أنّ الأقانيم أربعةُ بإضافة القدرة إلى الأقانيم الثلاثة كما كانت المحبّة واحدة منها، أو أنها خمسةٌ أو ستّةٌ بإضافة سائر صفات الله تعالى، لم يكن عند النصارى من جوابٍ يصحُّ السكوت عليه.
ومَن أراد أن يستدلّ كما استدلوا على الثالوث بذكر الرقم ثلاثة في الكتاب المقدس، كان لَهُ أن يستدل على مذهب برديصان بذكر أمورٍ أربعةٍ أو خمسة في الكتاب المقدس كما أشرنا في محلّه.
ولماذا لا يكون الحق هو الأقانيم الأربعة كما كان عدد الأناجيل أربعة؟ وقد ذكروا الحكمة في كونها أربعة: لتتلاءم مع الرياح الأربع ومع زوايا الأرض الأربع، إذ يشير العدد أربعة إلى الشموليّة(95).
3. إنكار النصارى لدلالة العقل على الثالوث
بعدما عرضنا للفرق بين صفات الذات وصفات الفعل، بما يُدرَء به أي إشكالٍ حول صفات الله تعالى، ويجتمع مع عدم حصول التغيُّر والتبدُّل في الله تعالى، وعدم التركيب والتعدد.
وبعدما أجبنا على ما توهمه بعض النصارى دليلاً عقلياً على الثالوث وأظهرنا بطلانه، نعرض ههنا جملة من كلمات علماء النصارى من المتقدمين والمتأخرين تؤكد أن الثالوث لا يُدرَكُ بالعقل وأنه لا برهان عليه، وأنه لا يُطلَبُ فهمه ولا يُتَوَقع ذلك، وأنّه ليس ضرورةً عقليةً بل يفوق العقل، وأنه لا بُدَّ من إعلانٍ إلهيٍّ لإثباته، ما يؤكد عدم اعتقاد معظم النصارى بما يُتَوَهَّمُ كونه دليلاً عقلياً على الثالوث.
أولاً: أن الثالوث لا يُدرَكُ بالعقل ولا برهان عليه
اثبات الثالوث بالعقل إجحافٌ! القديس توما الأكويني
يقول القديس توما الأكويني: يمتنع الوصول بالعقل الطبيعيّ الى معرفة ثالوث الأقانيم الالهية.. إنما يمكن أن يُعرَفَ بالعقل الطبيعي في حق الله ما يرجع إلى وحدانية الذات، لا ما يرجع إلى تمايُزِ الأقانيم، ومَن تَمَحَّلَ اثبات ثالوث الأقانيم بالعقل الطبيعي فانه يُجحِفُ بالإيمان(96).
إذاً لا إمكان لمعرفة الثالوث بالعقل بحسب القديس توما الأكويني، بل يُرشد العقل إلى وحدانية الذات فقط، وهو توحيد المسلمين لا توحيد النصارى.
لا يُعرف بدون الوحي، ولا يدركه العقل: التعليم المسيحي
في كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية الذي أمر بنشره البابا يوحنا بولس الثاني بحكم سلطته الرسولية: الثالوث سرُّ إيمانٍ بالمعنى الدقيق، أحدُ الأسرار الخفية في الله، والتي لا يمكن أن تُعرف إذا لم يُوحَ بها من فوق(97).
وهذا تصريحٌ بعدم إدراك الثالوث ما لم يوحَ به، فليس للعقل أن يدركه ما لم يؤمن به عبر الوحي، وهذا ينافي الاستدلال المتقدّم من بعض النصارى على الثالوث بالعقل.
وفيه أيضاً: الثالوث.. سرٌّ لا يستطيع أن يُدركه العقل البشريُّ المجرد(98). فهو لا يُعرف إذا لم يوحَ به، ولا يُدرَكُ حتى لو أوحي به، فكيف يُستدلُّ عليه بالعقل؟
الثالوث سرٌّ لا برهان عليه! الراهب باسيليوس
يقول الراهب باسيليوس المقاري: لا بد أن نعرف حقيقةً هامّةً وهي أنّ معرفة الثالوث الأقدس وصلت إلينا نحن البشر من خلال إعلان المسيح لنا عن الآب أبيه الصالح كما ورد في الإنجيل، وعن الروح القدس.. فبدون استعلان المسيح لنا الآب والروح القدس، وضِمناً شخصه المبارك أنّه الابن، ما كان يمكن أن نعرف شيئاً عن الثالوث. نقول هذا.. حتى لا يظنّ أحدٌ أننا نحاول أن نقنع القارئ بوجود الثالوث أو نبرهن على وجوده كما يبرهن الرياضيون على نظرية هندسية. فالثالوث هو إعلان إلهي أولاً وقبل كلّ شيء، وما علينا إلا أن نؤمن بالمسيح - له المجد - وبإعلاناته لنا عن الآب وبعطيّته الثمينة وهي الروح القدس، فندخُل في شركة الثالوث(99).
فكلّ ما أتعب علماء النصارى أنفسهم به للاستدلال به على الثالوث بالعقل قد تبّخر أمام كلمات الراهب باسيليوس!
ويقول الراهب نفسه: الثالوث سِرٌّ Mystery، وباعترافنا بالطبيعة السرِّية Mystical لهذا الاستعلان الإلهي، فإن الكنيسة ترى فيها استعلاناً عظيماً يرفع - بما لا يقاس- من إيماننا المسيحي فوق كل اعتقادات أخرى(100).
ويقول: أما جوهر الله الذي تعلنه الأقانيم الثلاثة فنحن لا نعرفه ولا يمكننا أن نعرفه تماماً كما نعرف الطبيعة البشرية. فهو يعلو ليس فقط على قدرات تعبيرنا بلغاتنا البشرية، بل يعلو حتى على قدرتنا على استيعاب أعماق هذا الجوهر. لذلك فنحن مهما تكلّمنا عن سرّ الثالوث الأقدس فنحن نتكلّم عن سِرٍّ غير مُدرَك، وعن الحقّ الذي لا يُستقصى، المختص بالجوهر الإلهي، ولذلك فلا يمكن أن نقبل عقيدة الثالوث إلا بالإيمان(101).
عقيدة الثالوث لا دليل عقلي عليها! بل لا تُقبَلُ إلا بالإيمان! وهذا الإيمان مناقضٌ للعقل كما تقدّم، رغم ذلك فهو مقبول!
ولهذا الراهب تصريحٌ في غاية الوضوح يفيد أن البراهين العقلية لا تقودهم إلى الإيمان، حيث يقول: الإيمان يقودنا بالضرورة إلى اختبار الشركة مع الله، بخلاف الاعتقاد العقلي والنظري.. فالبراهين العقلية لا تقودنا إلى الإيمان الذي يؤدي بنا إلى الحب الإلهي، فالشركة مع الله. بل ولا يمكن أن تكون بديلاً عن الإيمان. أما المجادلات الغبيّة فهي تقضي على الإيمان(102).
وهذا شاهدٌ على عدم وجود دليلٍ عقليٍّ على الثالوث، بل حتى مع إرشاد النقولات من الكتاب المقدّس لا يمكن للعقل أن يتقبّل هذه الفكرة، إنما عليه أن يُسَلّم بها تسليماً مطلقاً ولو لم تكن قابلةً للفهم. والبحث عنها يُعدُّ جدلاً غبياً يقضي عن الإيمان، لذا على المسيحيّ أن يُسَلِّمَ بهذه العقيدة كما هي دون أن يقوم عليها برهانٌ عقلي!
لا يمكن معرفة الثالوث بالعقل: بندلي
يقول كوستي بندلي عن عقيدتهم في التوحيد والتثليث: هكذا قال عن نفسه بمعنىً لا أعرفه عقلياً، ولا يمكن أن أعرفه عقلياً. ولكن هكذا كشف هو نفسه. وأنا أستطيع بالاتصال الروحي، بالصلاة، بخِبرة القدّيسين وخِبرة الجماعة أن أذوق كيف هو ثلاثة، كيف هو واحد(103).
ويقول: لا مبرّر للسؤال: كيف أن الثلاثة واحدٌ والواحدُ ثلاثة. لأنّه ليس همّي أن أُفهمك هذا، ولا يمكنك أن تفهم هذا. وأكثر من ذلك، لا يمكنك أن تفهم حتى كيف أن الله واحد(104).
ويقول: لا يفتخرنّ أحدٌ علينا بأنّ عنده ديانة عقلية. وهل فَهمُ أن الله واحدٌ هو موقفٌ عقليّ؟ كلُّ وجود الله في الاساس ليس عقلياً. العقلُ البشريُّ لا يفرض عليك الوجود الإلهي. ويرتاح العقل البشري كلياً إن بوجود الله أو بعدم وجوده. إذ يمكن لهذا العقل أن يصعد إلى القمر وأن يصنع مختبراتٍ وصواريخ سواء كان الله بالنسبة إليه موجوداً أو غير موجود(105).
أقول: ههنا مغالطات عدة منها:
أولاً: لا ريب أن فهم وحدانية الله مَوقِفٌ عقليّ، والاستدلال عليه كذلك، وديانتنا نحن المسلمين ديانةٌ عقلية، فبالعقل عرفنا الله تعالى، وبالعقل عرفنا عدم الإحاطة بكُنهِه، وبالعقل عرفنا عدم إمكان الاعتقاد بالمتناقضات في توحيده.
ثانياً: إذا كان العقل لا يفرض عليك الوجود الإلهي بمعنى أنّه لا يدرك وجود الله، فكيف نعرف الله؟
إن قيل: بالأنبياء والرسل.
قلنا: فكيف نعرف صدقهم؟
لقد عرفنا صدق الأنبياء والرسل بالعقل لمّا أتوا بالمعجزات، والعقل بنفسه يدل بقاعدة السبب والمسبب على جود خالقٍ قادرٍ عليمٍ حكيم.
ثالثاً: إن العجزَ عن إثبات الثالوث بالعقل أطاح بأسس التفكير المنطقيّ عند بندلي، حيث أنكر دلالة العقل حتى على توحيد الله تعالى، وبهذا وافَقَ الملحدين في إنكارهم للأدلة العقلية، وإن أقرّوا بالعجز عن نفي وجود الله، فالمُلحِدُ لا يتمكن من نفي وجوده عزّ وجل، غاية الأمر أنّه قد يزعم عدم دلالة العقل على وجوده تعالى، فإذا وافقه مُوَحِّدٌ على رأيه عملاً بالكلام المتقدِّم لم تبقَ حُجّةٌ للمؤمن بالله تعالى على المُلحد، وصار المُلحِدُ مصيباً في اعتقاده، ولا يمكن التخلُّص من هذا الإشكال إلا بالرجوع لحكم العقلِ القطعيِّ الدالِّ على وجود الله تعالى، وعلى توحيده عزّ وجل.
الثالوث ليس ضرورةً عقلية!! الاب سيداروس
يقول الاب فاضل سيداروس: أتى يسوع فأعلن للإنسان أنّ الله آب وابن وروح. وهذا هو سرّ الله الذي ما كان الإنسان بوسعه إطلاقاً أن يكتشفه وحده. هذه هي حقيقة الله التي ليست بضرورةٍ عقليَّة - فلا يحتِّمُ العقل أن يكون الله واحداً او اثنين أو ثلاثة أو أكثر - لأن الله متسامٍ كلّ التسامي ومتعالٍ كلّ التعالي ومتجاوِزٌ عقلَ الإنسان كلّ التجاوز(106).
أقول: إذا كان العقلُ الإنساني لا يُحتِّم كون الله واحداً، وليس بوسعه وحده اكتشاف وجود الله تعالى واتّصافه بصفات الكمال، فبأيّ شيء نؤمن أولاً بإعلان الله ونحن لا نؤمن به ولا بحقيقته؟
إن أصل الإيمان قائمٌ عندنا على العقل، فإن وضعنا العقل جانباً بانتظار أن يصلنا الإعلان الإلهي فبماذا نميّز صحة ما قد يُزعم أنه إعلان إلهي؟ وكيف نميّز دعاوى الأنبياء الصادقة من الكاذبة؟
إن قيل: بالعقل.
قلنا: كيف للعقل أن يُميّز صحة كلام هذا النبي أو ذاك حول الله تعالى وهو أمرٌ لا يمكن أن يكون له موقف حوله؟
إن قيل: بثبوت المعجزة.
قلنا: بالعقل يُستدلُّ على صحة الدعوى من الأنبياء عند صدور الإعجاز منهم، فإذا كان الإنسان قد أسقط دور العقل في مرحلة متقدمة حيث نفى دوره، فكيف له أن يحتجّ على المنكر للمعجزة بالعقل الآن؟
يقول الاب سيداروس: فمن ادّعى مثلاً أن الله واحدٌ ضرورةً وحتماً إنّما يحصر الله ويحدُّه في إطار العقل البشري. وأما مسيرتنا فتنطلق مما قاله يسوع على الله، فيتقبل الإنسان مُعطى الوحي ويحاولُ فهمَه بعقله. فإعمالُ العقل هو على معطى الوحي، لا على فكرةٍ عن الله يضعها الإنسان أو يشترطها العقل(107).
وههنا مغالطة واضحة: فإن المسلمين القائلين بوجود الضرورة العقلية الدالة على وحدانية الله تعالى لا يحصرونه تعالى في إطار العقل البشري، كيف وهو يتّصف بالكمال المطلق، وهو الخالق لهذا العقل المُدرِك، فإنّ العقل بنفسه يُدركُ أن له حدّاً يمنعه من الإحاطة بالذات الإلهية التي لا حدّ لها، وهو ما يتّفق عليه المسلمون والنصارى.
أما إعمال العقل على مُعطى الوحي فينبغي أن يختصّ بغير المستقلات العقلية، وفيما لا يكون للعقل طريقٌ قطعيٌّ له غير الوحي، كتفاصيل الشرائع وما إلى ذلك، فلا يمكنُ مثلاً قبول مُعطى الوحي لو قال بامكان اجتماع النقيضين، كوجود الشيء وعدمه فعلاً، فإنّ مُخالفة ما يُظنُّ أنّه وحيٌ لِحُكمِ العقلي القطعيّ هذا يكشفُ عن خللٍ في صحة الوحي أو في فهمه.
يقول القس ابراهيم القمص عازر تاوضروس: إن الله أكبرُ من كلّ ما يعرفه الإنسان عنه ومن كل ما يُعبّر عنه، الله أكبر من كل المقاييس البشرية، أكبرُ من كل الضرورات العقلية، أكبر من كل التصورات والتخيلات(108).
نعم هو كذلك، لكن لا بمعنى أنّ وجوده يتعارض مع الضرورات العقلية، أو أن الضرورات العقلية لا يمكنها اكتشاف وجوده أو اكتشاف توحيده أو اتصافه بالكمال، فإن لازم ذلك إمكان الجمع بين النقيضين في ذات الله تعالى، ولا يمكن القول به.
الثالوث يفوق الإدراك العقلي: الاب شبيدلك
يقول الاب توماش شبيدلك اليسوعي: يردّ المسيحيون مدافعين عن إيمانهم بهذه العقيدة موضحين أن وحدة الله الأزليّة السرمديّة تكمن في الأشخاص الثلاثة، أي الثالوث القدّوس الذي هو علامةٌ حقيقيةٌ قويةٌ تدل على وحدة الله. واضعين بعين الاعتبار أن هذا السرّ يفوق الإدراك العقليّ والمعرفة البشريّة المخلوقة(109).
وهو فضلاً عن نفيه لإمكان إدراك الله تعالى بالعقل، يؤكد أن هذه الوحدة تكمن في (الأشخاص الثلاثة) فيُثبِتُ قول من ذهب إلى أن الأقانيم هم الأشخاص، وهو يعني تعدد الآلهة، مع تشديدهم على نفيه، وليس إلا التعارض!
الثالوث يتجاوز الإدراك العقلي: القس مينا
يقول القس موسى وهبه مينا: ان عقيدة التثليث في الإيمان المسيحي تعتبر في أغلب الأحيان من الاسرار الغامضة التي تتجاوز الإدراك العقلي(110).
الثالوث لا يفهم بالعقل: القس تاوضروس
يقول القس ابراهيم القمص عازر تاوضروس: يجب أن نعلم أن الثالوث ليس نظريةً عن الله نفهمها بالعقل، فالله أبعد وأعلى من عقولنا ومنطقنا الإنساني.. فلا يستطيع أحد أن يقول أن يسوع رب إلا بالروح القدس(111).
في الصفحة 11 قال هذا القسّ أنّه لا يمكن أن تعبد من تجهل، لذا كان الثالوث، لكي نعرف الله، وفي الصفحة 12 قال أنّ الثالوث ليس نظريةً نفهمها بالعقل! وعليه، فلم يختلف الحال عند النصارى بعد قولهم بالثالوث، إذ أنهم ما زالوا لا يعرفون الله تعالى مع قولهم بالثالوث.
رغم ذلك يقول القس: وفي الوقت نفسه فإننا مطالبون بإيمانٍ عقليٍّ، يقول: يجب أن يكون فهمنا لعقائدنا وإيماننا ليس من منطلق الجدل الفلسفي أو الحساب العددي، ولكن من خلال الإيمان العقلي والتأمل القلبي والسلوك الحياتي!(112).
ثانياً: لا نسعى لفهم الثالوث ولا يمكننا شرحه
لا نسعى لنفهم! القديس اوغسطينوس
يقول القديس اوغسطينوس: نحن لا نسعى لفهم ما نؤمن به، ولكننا نؤمن لكي يمكننا أن نفهم(113).
لا نملك أن نشرح الثالوث! الاب صفرونيوس
يقول الاب صفرونيوس: نحن لا نملك أن نشرح الثالوث للآخرين شرحاً عقلياًً وفلسفياً؛ لأننا لا نملك أن نبرر حقيقة الذات الإلهية؛ لأن الله هو مبرّر وجودنا. أمَّا نحن، فلا نملك أن نبرر خالقنا(114).
الثالوث غير مفهوم: القديس يوحنا الدمشقي
يقول القديس يوحنا الدمشقي: ما لا يُستطاع فهمه ولا النطق به: أمّا أي شيء هي الذات الإلهية، أو كيف هي في الثلاثة.. فهذا كلّه نجهلُه ونعجز عن الكلام فيه. إذاً لا يمكن النطق ولا التفكير عن الله خارجاً عمّا صوّره الله نفسه لنا أو قاله وأوضحه في المقولات الإلهية في العهدين القديم والجديد(115).
فالثالوث غير مفهوم، فكيف يستدل عليه بالعقل؟!
لا نطلب الفهم: القس توزر
يقول القس إيدن ويلسون توزر: وعندما نتأمل في سر الثالوث الإلهي المهوب فإننا نضع أيدينا على أفواهنا، إننا نقف أمام العلّيقة المشتعلة ولا نطلب الفهم والمعرفة بل نطلب أن نعبدك كما يليق، أيها الإله الواحد المثلث الأقانيم آمين(116).
لا يُتوقع فهم الثالوث: القس شحادة
يقول الدكتور القس عماد شحادة: إن الله لا يلوم الإنسان لعدم فهمه عقيدة الثالوث، بل إنه لا يتوقع منه ذلك. ولكن تقع المسؤولية على الإنسان في التهيوء القلبي لسماع أي إعلان جديد من الله. فعليه أن يكون قلبه منفتحا لما يقوله الله عن ذاته(117).
فإذا كان الله لا يتوقع من الإنسان أن يفهم الثالوث، وكان الثالوث متناقضاً مع العقل البشري، فههنا مشكلتان:
الأولى: أنّه لا حكمة في تكليف الإنسان بالاعتقاد بما لا يفهمه.
الثانية: أن التكليف بالاعتقاد بما يناقض العقل البشري مستحيل عقلاً على الحكيم.
الثالوث سرّ الأسرار: الاب سيداروس
ويقول الاب فاضل سيداروس: إن الله الثالوث الأحد سرُّ الأسرار المسيحية، فهو أصلها وغايتها وهو محورها واتِّجاهها.. العقل لا يستطيع أن يدخل في أعماق هذا السرّ ويسبر أغواره إلا إذا اقترن بالاختبار(118).
ويقول: إن المفهوم الشعبيّ للسر هو: (ما لا يفهمه الإنسان) لما في السر من معنى اللغز والغموض والخفاء.. وأمّا السرّ Mystere في المفهوم المسيحي فهو - بحسب قول أوغسطينس- ما لا ينتهي الإنسان من فهمه. فكلّما غمر فيه الإنسان اكتشف أبعاداً وأعماقاً ومعاني لا حدّ لها، لأن السرّ لا متناه(119).
يوافقه القس ابراهيم القمص عازر تاوضروس بقوله: السرّ هو حقيقةٌ إيمانيةٌ يستطيع الإنسان أن يفهمها على وجهٍ أفضل يوماً بعد يوم دون أن يصل إلى نهايتها، فالسرُّ ليس حائطاً أصطَدِمُ به، بل هو محيطٌ أتعمّق فيه وأزداد تبحُّراً فيه.. فالمفهوم الشعبي للسرّ يختلف عن المفهوم المسيحي للسرّ ولا يجب أن نخلط بين الاثنين. المفهوم الشعبي للسرّ هو ما لا يفهمه الانسان.. أما السرّ في المفهوم المسيحي فهو بحسب القديس أغسطينوس: (ما لا ينتهي الإنسان من فهمه)(120).
وهذا يعني أن هناك ما هو قابلٌ للفهم فيه، وإن كان غير متناهٍ، لكنّا نرى أن الثالوث فعلاً غير قابل للفهم أبداً، إذ كيف يكون الواحد ثلاثاً لا باختلاف اللحاظ؟ ولذا صرّح اوغسطينوس بأننا لا نسعى للفهم، وصرّح القس توزر بأنا لا نطلب الفهم، كما تقدمت كلماتهم.
السرُّ ليس نفياً للعقل: البابا بندكتوس السادس عشر
يقول البابا بندكتوس السادس عشر: عندما يفضي اللاهوت إلى مختلف أنواع الحماقات ويُقصَدُ من خلال لجوئه إلى فكرة السرّ، ليس إلى تبرير تلك البلاهات فحسب، بل أيضاً إلى تقديسها إذا أمكن، يكون قد برهن على جهله لفكرة السرّ الحقيقية. الحقيقة أن السرّ ليس نفياً للعقل، بل هو شيء يتيح للإيمان أن يكون عقلاً من نوع ما(121).
إنّ ما وقع فيه النصارى هو عين ما نبّه إليه الكاردينال، لأن الإيمان بما هو في نفسه متناقضٌ لا يعني تحويل غير المعقول إلى نوع من المعقول، بحجّة أنه أمرٌ فوق إدراكنا!
كان الأنسب أن يلتزموا بما التزم به بعض المنحرفين عن جادة الإسلام من المتصوّفة الذين أسقطوا حجية العقل مقابل الشريعة، حيث اعتقدوا أن الشريعة قد تأتي بما يناقضه العقل ثم علينا الالتزام بذلك.. فإن هؤلاء المتصوفة لم يناقضوا أنفسهم كما فعل النصارى حيث قالوا أنّ العقل حجة ولكنّ التناقض الذي يدل عليه يرتفع بمجرد الارتقاء الى مبحث التوحيد الإلهيّ!
على أن البابا نفسه أُعجِبَ كثيراً بقول من يعتقد أن الإيمان يقوم على سلسلة من التناقضات!! فقد نقل قولاً عدّه رائعاً للاهوتي الفرنسيّ سان سيران (1581 - 1643)، حينما قال:
لقد قال الجانسيني سان سيران قولاً رائعاً هو أنّ الإيمان يقوم على سلسلة من التناقضات، التي يعود للنعمة وحدها الفضلُ في الحفاظ على تآلفها معاً(122).
هو اعترافٌ إذاً بقبول المتناقضات! ولكن هذا القبول عائدٌ للنعمة!
الإيمان يسبق الفهم: أوغسطين
الإيمان يسبق الفهم(123): عبارة تُعَدُّ من المبادئ الأساسية لأحد أشهر آباء الكنيسة في العصور القديمة: أوغسطين (الذي ولد سنة 354م)، ولا شكّ أنها تسري كما ذكر غيره في مسألة الثالوث، فإنّ عليك أن تؤمن قبل أن تفهم، ثم قد تفهم شيئاً لاحقاً وقد لا تفهم! ما أخطر هذه العقيدة، وما أسهلها من طريقة لاستعباد عقول الناس!
ثالثاً: أنّهُ لا بُدّ من إعلانٍ إلهي
بعدما تقدّم أن الثالوث لا يُدرَكُ بالعقل، وأنّه لا برهان عليه، وأنّه لا يُفهَم ولا يُشرح، نعرض هنا جملةً أخرى من كلمات علماء النصارى التي تؤكّد أنّه لا بُدَّ من إعلانٍ إلهيٍّ للدلالة على الثالوث، وبدون هذا الإعلان لا يمكن المصير إلى القول بالتثليث، فكيف يكون دليلُ الثالوث عقلياً كما تقدّم؟!
معرفة الآب تحتاج لإعلان: الاب صفرونيوس
معرفةُ وجود الله مما يدركه العقل، وإن شكّك بذلك بعض علماء النصارى كما تقدّم، ومعرفة كونه الخالق مما يُدرَك بالعقل أيضاً، ومعرفة ما زاد عن ذلك من اتّصافه بالأبوّة والبنوّة، وتثليث الأقانيم، مما لا يمكن للعقل أن يدركه، بل مما نزعم حكم العقل بامتناعه.
وقد اعترف بعض كبار علماء النصارى بأنّ معرفة كونه خالقاً لا تحتاج لإعلانٍ منه، لكنّ معرفة أبوّته أو تثليثه مما يحتاج إلى إعلانٍ ونَصٍّ إلهيّ.
يقول الاب صفرونيوس: وجَعَلَنا نعرف الآب فيه ليس كخالقٍ، بل كآب؛ لأنّ معرفَتَنا بالله كخالق لا تحتاجُ إلى إعلان، ولكنّ معرفتنا بأبوّة الله احتاجت إلى مجيء ابن الله المتجسد(124).
وهذا اعترافٌ واضحٌ بأن العقل وحده كافٍ في معرفة الإله الخالق القادر، ولكنه غير قادر على معرفته كأب له ابن، وبالتالي لا مجال لأن يُستدلَّ على الثالوث بالعقل.
ونحن نوافقهم على ذلك ونزيد: أن العقل يمنعُ من مثل هذا الاعتقاد حتى لو جاء (إعلانٌ) به، فإنّه على فرض مجيء مثل هذا الإعلان، يلزم حينها تأويله، كما أوّلوا الإعلان عن أن موسى (عليه السلام) إله فرعون، وغيرها من التأويلات في الكتاب المقدس.
الثالوث يُعرف بالكشف الإلهي: القس تاوضروس
يقول القس ابراهيم القمص عازر تاوضروس: ليس الإيمان بالثالوث عقيدةً نظريةً أو فلسفيةً أو عقليةً مُجَرّدة، بل هو عقيدةٌ قائمةٌ على الكشف الإلهيّ.. فهو اعلانٌ ليس فيه اجتهاد.. فإيماننا المسيحيّ عن الثالوث ليس نتاج أفكارٍ إنسانية..ولكن هو إعلانٌ من الله عن نفسه(125).
ويقول: إيماننا المسيحيّ عن الله ليس نتاج أفكارٍ إنسانية، أو محاولاتٍ بشرية.. ولكن هو إعلان الله عن نفسه، مصدره الله وحده، ولا علاقة له بالفكر الإنساني والتصوّرات البشرية.. فحقيقة الله في المسيحية حقيقةٌ إلهيّةٌ تتجاوز كل التصورات الإنسانية.. بهذا تتميّز المسيحية عن سائر الديانات في نظرتها إلى الله، فإلهُ المسيحية لم يخترعه المسيحيون، ولكنّه هو من أعلن عن نفسه، لأنّ الله لا يُمكن أن يُفهَم إلا من خلاله هو ذاته(126).
التثليث لا يُفهَم من غير الكتاب المقدس: القسّ يوحنا
للقسّ منسَّى يوحنا تصريحٌ خطير، يشير فيه إلى أن سرّ التثليث لا بدّ من أن يكون غير مفهومٍ للبشر! ولا يُفهَم من غير الكتاب المقدّس، فيقول:
نعود فنُكرِّر القولَ أنَّ سِرّ التَّثليث عقيدةٌ كتابيةٌ لا تُفهم من غير الكتاب المُقدَّس، وأنَّه من الضَّروري أن لا يفهمها البشر، لأنَّنا لو قدِرنا أن نفهم الله لأصبحنا في مصاف الآلهة، كما أنَّه لو استطاع الحيوانُ غير العاقل أن يُدرِك لأصبح عاقلاً كالإنسان. فإذا كان الحيوان لا يقوى على أن يُدرك الإنسان مع أنَّ الاثنين محدودان، ومع أنَّ الفرق بينهما هو غير الفرق بين الإنسان وربّه، فبين هذين هُوَّة ليس لها قرار، وبين ذينك صلةٌ قريبةٌ وتقاربٌ كليٌّ في سلسلة الخلق. فكيف يقوى الإنسانُ الضَّعيف أن يفهم الإله الخالق؟(127).
لا يقال: إنّه نظيرُ ما يقوله المسلمون من عدم معرفة الذات الإلهية.
لأننا نقول: إنّ الله موجودٌ وهذا مُدرَكٌ ومفهوم، أما حقيقة ذات الله تعالى فلا نستدلّ عليها بالعقل ولا نقول أنّ حقيقتها مُدرَكة، ولا نزعمُ فيها ما يخالف العقل، بخلاف ما يذهب إليه النصارى من قولهم أن الله موجودٌ بوحدانيةٍ مع ثالوثٍ بطريقةٍ غير مفهومةٍ ولا مدرَكة! فالمُدرَك نفسه (وهو وجوده ضمن الثالوث) غير مُدرَكٍ. فلزم اجتماع النقيضين.
عقيدة الثالوث أتت من الإعلان الإلهي: شحادة
يقول الدكتور القس عماد شحادة: تعتبر عقيدة الثالوث استنتاجاً لاهوتياً مبنياً على ما أعلنه الكتاب المقدس بقوّةٍ عن الله، ولم يختلق العقل هذه العقيدة، وإنما أتت من خلال الإعلان الإلهي(128).
نحتاج لقبول اعلان الله عن ذاته: عمّاري
يقول الدكتور رأفت عمّاري: يجب أولاً أن يتخلى القارئ عن فكرته العاديّة عن الله، ويأتي للإعلان الالهيّ عن ذاته.. لذا نحتاج أن نقبل اعلان الله عن ذاته كما أعلنه في كلمته، أي في الكتاب المقدس(129).
4. وقفة مع معرفة الله
ذهب بعضُ علماء النصارى إلى أنّ عبادة الله تعالى دون الاعتقاد بالثالوث هي عبادةٌ دون معرفة! بل لا يمكن أن نُحِبَّ الله ونعبده ونحن نجهله طالما جهلنا الثالوث!
يقول القس ابراهيم القمص عازر تاوضروس: فالثالوث هو طبيعة الله التي كشفها لنا من محبّته حتى نعرفه فنعبده، فلا يمكن أن تُحبّ وتعبد من تجهله(130).
فمن لم يعرف الثالوث لم يعرف الله ولم يتمكن من أن يحبّه ويعبده، وَمِن قبلِهِ أشار الاب صفرونيوس إلى أن الثالوث هو الذي أعلن عن نفسه فصار الإلهُ غيرَ مجهول، قال: ما هي منفعة الجدل حول طبيعة الله، إذا كان التعليم عن طبيعة الله لا ينتهي بالسجود؟ لأننا نحن المسيحيين الأرثوذكسيين نعبد الله الواحد الذي لا آخر معه ولا شريك له في جوهره، ونسجد للآب في ابنه الوحيد ربنا يسوع المسيح بنعمة الروح القدس.. نحن نسجد لمن أعلن عن ذاته في جوهرٍ واحدٍ ولاهوتٍ واحدٍ وربوبيةٍ واحدة، وهكذا نحن لا نسجد لإلهٍ مجهول(131).
ويذهب بعض علماء النصارى إلى أن الديانة النصرانية قد فتحت الباب أمام معرفة الله في ما يسمونه (علاقاته الداخلية) أي العلاقة بين الآب والابن والروح القدس، وأنّ هذه المعرفة أدخلت الناس في (علاقة شخصيّة حميميّة مع الله!!).
يقول توماس ف. تورانس: إن أيّ طلب لمعرفة الله (الداخلية) كان يُرفَضُ بفزعٍ شديد.. ولم يكن يوجد في التعاليم اليهودية معرفةٌ لله في علاقاته الداخلية، بل فقط في علاقاته الخارجية(132).. قبل أن يصير كلمةُ الله جسداً في ملئ الزمان فإنّ المؤمنين لم يدخلوا في علاقة شخصية حميمية مع الله، مثل التي حدثت حينما عرفوه مباشرة كما هو في ذاته (كآب وابن وروح قدس).. لذا فنحن الآن يمكننا الدخول في شركةٍ شخصيةٍ مع الله دون أن تمنعنا إمكانيّاتنا المحدودة كبشرٍ ودون أن يعوقنا ابتعاد طبيعتنا عن الله(133).
رغم ذلك فإنّه لا يزعمُ معرفة جوهر الله، بل يوضح أنه يقصد معرفةً محدودة في علاقة الله الداخلية (بتعبيره): وأن نعرف الله بهذه الطريقة لا يعني أننا نستطيع أن نعرف ما هو جوهر الله.. عند هذه النقطة الجوهريّة تختلف المسيحية عن اليهودية لأنها تعني وبصورة مدهشة تماماً أننا نستطيع بقدرٍ ما أن ندرك الله في علاقاته الداخلية(134).
لذا يشير المطران يوحنا زيزيولاس إلى أن: الفرق الدقيق بين إيمان المسيحيين وغيرهم ليس في موضوع وجود الله، وإنما في طبيعة جوهر الله وكيانه(135).
ويظهر الجواب على هذه الدعاوى في كلام رأس الكنيسة، وأحد كبار رموز المسيحية المعاصرين، البابا بندكتوس السادس عشر حين يؤكد لزوم عدم ادّعاء فهم حقيقة الله تعالى، والحذر من دعوى الإحاطة بالله تعالى، فيقول: إذا كان تاريخ الجهود الإنسانية والمسيحية الكبيرة الهادفة إلى إدراك الله يبرهن على شيء، فهو يبرهن أول ما يبرهن على ما يأتي: كلُّ محاولةٍ (نتوخى بها التَمَكُّن) من الإحاطة بالله بفكرنا البشري مُحال. إننا لا نستطيع الكلام عليه تعالى بصورةٍ مناسبةٍ إلا إذا أقلعنا عن ادّعاء فهمه، إلا إذا احترمنا كيانه الذي يتجاوزُ الفهم. لذا ينبغي ألا يُنظَرَ إلى عقيدة الثالوث على أنها تفسيرٌ يتّضح به سرّ الله.. ليست عقيدة الثالوث تعريفاً يُعَيِّن موقع قضيةٍ ما من مدارك العقل البشري: أي ليست عمليةَ فهمٍ تُمَكِّنُ العقل البشريّ من الإحاطة بقضيّة معيّنة(136).
فإذا كانت معرفة كنه الله تعالى غير ممكنة، وكان الثالوث غير مفهومٍ ولا مُدرَك، فبم يمتاز النصرانيُّ حينها ليصير عابداً لإلهٍ يعرفه؟ بينما يزعم أن المسلم يعبد إلهاً لا يعرفه؟!
لقد روينا عن الإمام الرضا (عليه السلام) قوله: وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا الْبَابِ حَتَّى تَاهُوا وَتَحَيَّرُوا وَطَلَبُوا الخلَاصَ مِنَ الظُّلْمَةِ بِالظُّلْمَةِ فِي وَصْفِهِمُ الله بِصِفَةِ أَنْفُسِهِمْ، فَازْدَادُوا مِنَ الْحَقِّ بُعْداً.
وَلَوْ وَصَفُوا الله عَزَّ وَجَلَّ بِصِفَاتِهِ، وَوَصَفُوا المخْلُوقِينَ بِصِفَاتِهِمْ، لَقَالُوا بِالْفَهْمِ وَالْيَقِينِ وَلَمَا اخْتَلَفُوا(137).
لقد وصفوا الله بالأبوّة! وهي صفات المخلوقين، وإن تكن أبوّتهم جسدية.
ووصفوا عيسى (عليه السلام) المخلوق بالأزليّة وهي من صفات الخالق.
فتاهوا وتحيّروا وغاصوا في ظلماتٍ بعضها أظلم من بعض.
(1) تسالونيكي الأولى1: 9.
(2) العبرانيين9: 14.
(3) التكوين48: 3.
(4) متى3: 9، ولوقا3: 8.
(5) لوقا1: 49.
(6) كورنثوس الثانية12: 2.
(7) التكوين1: 1.
(8) التكوين5: 1.
(9) أخبار الأيام الأول25: 5.
(10) التكوين38: 7..
(11) الكافي ج1 ص139.
(12) فالله تعالى قد قدّر ما يخلق منذ الأزل، ومن معاني الخلق خلق التقدير كما ورد في عيسى (عليه السلام) في القرآن الكريم، وقد تعرّضنا لذلك مفصلاً في كتاب (الثالوث والكتب السماوية) الفصل الرابع باب (ألوهية عيسى في القرآن الكريم).
(13) التوحيد للصدوق ص38.
(14) نهج البلاغة ص39.
(15) عرفان آل محمد (عليهم السلام) ص62 وما بعدها.
(16) الكافي ج1 ص107.
(17) الكافي ج1 ص83.
(18) تاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط ص34-35.
(19) المئة مقالة في الايمان الارثوذكسي ص80.
(20) تاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط ص148.
(21) الكافي ج1 ص108.
(22) الكافي ج1 ص121.
(23) القائل هو القس الدكتور لبيب ميخائيل في كتاب: لا إله إلا الله ص57-58.
(24) كما عن الإمام الصادق (عليه السلام) في الكافي ج1 ص107.
(25) التوحيد للصدوق ص73.
(26) الكافي ج1 ص139.
(27) التوحيد (للصدوق) ص431.
(28) التوحيد (للصدوق) ص433.
(29) التوحيد (للصدوق) ص434.
(30) الإحتجاج على أهل اللجاج (للطبرسي) ج2 ص407.
(31) الأمالي (للطوسي) ص220.
(32) الأمالي (للطوسي) ص220.
(33) كتاب: لا إله إلا الله ص ص57-58.
(34) كتاب: لا إله إلا الله ص ص57-58.
(35) منطق الثالوث ص9.
(36) تعرّضنا لإثبات كون الكلام من صفات الفعل في الكتاب المقدّس والقرآن الكريم في كتابنا (الثالوث والكتب السماوية: فصل3: باب الثالوث في القرآن الكريم)، فليراجع.
(37) الإحتجاج على أهل اللجاج (للطبرسي) ج2 ص405-406.
(38) تحف العقول ص498، والكافي ج8 ص137 باختلافٍ يسير.
(39) يوحنا الأولى4: 12.
(40) يوحنا 10:15.
(41) يوحنا الأولى3: 17.
(42) أبو رائطة التكريتي ورسالته في الثالوث المقدس ص74-75.
(43) أبو رائطة التكريتي ورسالته في الثالوث المقدس ص75.
(44) أبو رائطة التكريتي ورسالته في الثالوث المقدس ص77.
(45) أبو رائطة التكريتي ورسالته في الثالوث المقدس ص77.
(46) أبو رائطة التكريتي ورسالته في الثالوث المقدس ص79.
(47) أبو رائطة التكريتي ورسالته في الثالوث المقدس ص83.
(48) أبو رائطة التكريتي ورسالته في الثالوث المقدس ص88.
(49) مقالة في التثليث والتجسد وصحة المسيحية ص149.
(50) مقالة في التثليث والتجسد وصحة المسيحية ص144.
(51) مقالة في التثليث والتجسد وصحة المسيحية ص145.
(52) مقالة في التثليث والتجسد وصحة المسيحية ص154.
(53) مقالة في التثليث والتجسد وصحة المسيحية ص155.
(54) مقالة في التثليث والتجسد وصحة المسيحية ص156.
(55) مقالة في التثليث والتجسد وصحة المسيحية ص157.
(56) مقالة في التثليث والتجسد وصحة المسيحية ص173.
(57) مقالة في التثليث والتجسد وصحة المسيحية ص172.
(58) مقالة في التثليث والتجسد وصحة المسيحية ص254.
(59) يوحنا17: 7.
(60) يراجع كتابنا: الثالوث والكتب السماوية فصل4: باب ألوهية عيسى في الإنجيل، عنوان (شفاء المرضى وإحياء الموتى).
(61) شمس البِر ص112 و113.
(62) معرفة القدوس ص84.
(63) الله في المسيحية ص127.
(64) الله في المسيحية ص53.
(65) الله في المسيحية ص54.
(66) الله في المسيحية ص113.
(67) الله في المسيحية ص64.
(68) الله في المسيحية ص99.
(69) الله في المسيحية ص64.
(70) التوحيد (للصدوق)، ص: 453.
(71) كما يقول سمعان نفسه: إذ أن الصفات هي مجرد معانٍ (الله في المسيحية ص144).
(72) الله في المسيحية ص79.
(73) الله في المسيحية ص114.
(74) الله في المسيحية ص258.
(75) الآب والإبن والروح القدس ص36.
(76) الآب والإبن والروح القدس ص93.
(77) الآب والإبن والروح القدس ص94.
(78) الكافي ج1 ص107.
(79) الكافي ج1 ص107.
(80) الكافي ج1 ص108.
(81) الكافي ج1 ص135.
(82) الكافي ج1 ص148.
(83) الآب والإبن والروح القدس ص21.
(84) الآب والإبن والروح القدس ص77.
(85) إيماننا المسيحي صادق وأكيد ص44.
(86) إيماننا المسيحي صادق وأكيد ص45.
(87) إيماننا المسيحي صادق وأكيد ص55.
(88) مدخل الي حقيقة الثالوث ص40.
(89) أساسيات مسيحية ص20-21.
(90) المسيحية في الإسلام ص34.
(91) الآب والإبن والروح القدس ص100.
(92) الله في المسيحية ص118.
(93) الآب والإبن والروح القدس ص100.
(94) ميمرٌ في وجود الخالق والدين القويم ص209.
(95) كما نقلها وليم ماكدونالد عن أيريناوس في مقدمته لإنجيل متى.
(96) الخلاصة اللاهوتية ج1 ص399.
(97) كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية ص63 فقرة237.
(98) كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية ص63 فقرة237.
(99) إيماننا المسيحي ج1 ص22.
(100) إيماننا المسيحي ج1 ص27.
(101) إيماننا المسيحي ج1 ص44.
(102) إيماننا المسيحي ج1 ص286.
(103) مدخل الي العقيدة المسيحية ص207.
(104) مدخل الي العقيدة المسيحية ص208.
(105) مدخل الي العقيدة المسيحية ص208.
(106) سر الثالوث الاحد ص16.
(107) سر الثالوث الاحد ص17.
(108) مدخل الي حقيقة الثالوث ص34.
(109) نحن في الثالوث ص15.
(110) بالحقيقة نؤمن بإله واحد ج1 ص7.
(111) مدخل الي حقيقة الثالوث ص12.
(112) مدخل الي حقيقة الثالوث ص13.
(113) الإيمان بالثالوث لتوماس ف. تورانس ص27.
(114) الثالوث القدوس توحيد وشركة وحياة ج1 ص50.
(115) المئة مقالة في الايمان الارثوذكسي ص56.
(116) في معرفة القدوس ص17.
(117) الآب والإبن والروح القدس ص34.
(118) سر الثالوث الاحد ص7.
(119) سر الثالوث الاحد ص15.
(120) مدخل الي حقيقة الثالوث ص19-20.
(121) البابا بندكتوس السادس عشر: جوزيف راتزنغر، في مدخل الى الايمان المسيحي ص44.
(122) البابا بندكتوس السادس عشر: جوزيف راتزنغر، في مدخل الى الايمان المسيحي ص122.
(123) نقلها القس بسام المدني في كتابه: المسيح في الكنيسة في التاريخ ص90.
(124) الثالوث القدوس توحيد وشركة وحياة ج1 ص26.
(125) مدخل الي حقيقة الثالوث ص17.
(126) مدخل الي حقيقة الثالوث ص91.
(127) شمس البِر ص121.
(128) الآب والإبن والروح القدس ص76.
(129) أقنوم الحق الفريد ص5.
(130) مدخل إلى حقيقة الثالوث ص11.
(131) الثالوث القدوس توحيد وشركة وحياة ج1 ص15.
(132) الإيمان بالثالوث ص93.
(133) الإيمان بالثالوث ص94.
(134) الإيمان بالثالوث ص95.
(135) الوجود شركة ص14.
(136) مدخل الى الايمان المسيحي ص121.
(137) التوحيد (للصدوق) ص439.