منذ متى عَرفَ النصارى عقيدة الثالوث؟ ومن أين جاءت هذه العقيدة؟ وهل رافقت أيام المسيح الأولى؟ أم لم تُعرف بين النصارى إلا في مراحل متأخرة؟
أم أن ارتفاع المسيح الى السماء بحسب اعتقادنا، وقتله بحسب اعتقادهم فتح باباً لتغيير دعوته وعقيدته من التوحيد المطلق إلى التوحيد في الجوهر والتثليث في الاقانيم او الأشخاص؟
أسئلة تطرُق بالَ كلّ باحثٍ عن هذه العقيدة الغريبة، وقد كُتب حولها الكثير، ومن المناسب تكوين صورةٍ إجماليّة حول تاريخ هذه العقيدة في الديانة المسيحية بغضّ النظر عن مصدرها ومنشئها.
يعتقدُ معظمُ النصارى أن عقيدتهم بالثالوث هي عقيدة عيسى (عليه السلام) والكتاب المقدس والنصارى الأوائل، وأنّهم قد أخذوها نقيّة صافيةً من هذه المصادر، وبذلوا من أجلها الغالي والنفيس، لذا يتمسّك بها بعضُهم كما لو أنّها أعزّ ما يملك، وقد يبذل نفسه قرباناً في سبيل الحفاظ عليها.
لكنّ العودة إلى أعماق التاريخ تُبَيِّنُ أن هذه العقيدة ليست عقيدة عيسى (عليه السلام)، ولا عقيدة الكتاب المقدّس، إنما نشأت في مرحلة لاحقة، ونستعينُ لبيان ذلك بكلمات علماء النصارى أنفسهم.
يشير البابا بندكتوس السادس عشر (جوزيف راتزنغر) إلى أن بُنية قانون الإيمان المسيحي قد تطوّرت على مراحل خلال قرنين من الزمان، ليس منهما القرن الأول الذي عاش عيسى في الثلث الأول منه! فهذه العقيدة بصورتها الحالية قد تكوّنت بعد ذلك بفترة طويلة، حيث يقول: لقد تكوّنت بُنية قانون إيماننا بصورة إجمالية إبّان القرنين الثاني والثالث(1).
ولمّا كانت الأناجيل قد كُتبت بعد عيسى بعشرات السنين كما يقول النصارى، فإنّ العقيدة المسيحية قد تكوّنت بعد كتابة الأناجيل أيضاً وليس في أيامها نفسها، فيكون من الصعب جداً نسبة هذه العقيدة لعيسى (عليه السلام)، مع كثرة تصريحه في الكتاب المقدس بعبوديته لله تعالى وحاجته له.
ويشير بعض علماء النصارى إلى أن ذلك حصل في القرن الرابع حيث عُقِدَ المجمع المسكوني الأول، يقول توماس ف. تورانس: وصار واضحاً للكنيسة في القرن الرابع، أنه فقط عن طريق فهم الإنجيل على أساس عقيدة الثالوث القدّوس نستطيع أن ندرك تعليم إنجيل العهد الجديد عن المسيح والروح القدس، وأن ندرك جوهر الخلاص والصلاة والعبادة(2).
لماذا استغرق الأمر مئات السنين حتى صار واضحاً عند الكنيسة أنّه لا بد من الاعتقاد بالثالوث؟! لو كان الثالوث دعوةَ عيسى بل أصلَها ولُبَّها وأساسَها فهذا يعني وضوح هذه العقيدة منذ أيامه (عليه السلام)، فلماذا لم تصل الكنيسة إلى هذه القناعة في قرنها الأول؟
يُجيب على ذلك القس ابراهيم القمص عازر تاوضروس عندما يعترف أن عيسى لم يعلن أيّ صيغة ثالوثية! وإن ذهب إلى أنّه أعلن عن ألوهية الابن والروح القدس، وهي دعوى لم يقم عليها دليل، يقول القس: لم يعلن الرب يسوع أي صيغةٍ لاهوتيةٍ (قانونية) ثالوثية، ولكنه أعلن عن ألوهية الآب والابن والروح القدس في وضوحٍ وصراحة(3).
ويقول الدكتور القس عماد شحادة: كان ترتلياونس (من القرن الثاني للميلاد) هو أوّل من صاغ كلمة (ثالوث)(4).
ويقول: ظهرت عقيدة الثالوث رسمياً مع انعقاد المجامع الكنسية الأولى في بداية التاريخ المسيحي.. وأوّلها كان قانون الإيمان النيقاوي والذي تمّت صياغته عام 325م(5).
وما من خلافٍ عندهم أن تعبير (الثالوث) من ابتكار اللاهوتيين، لكن الذي يستوقف الباحث هو كون هذا التعبير ناتجاً عن (تطوّر في فهم الوحي)، فليس فيما فهمه النصارى الأوائل ما دلّ على الثالوث معنىً ولا لفظاً، إنما كان هذا في مرحلة متأخرة.
يقول الاب فاضل سيداروس: لم يقل يسوع إن الله (ثالوث)، فهذا التعبير من ابتكار اللاهوتيين وهو نتيجة تطوّر في فهم الوحي. أما يسوع فتحدّث عن الآب وعن الابن وعن الروح، أي عن (أقانيم) لا عن (عقيدة) في التوحيد أو التثليث(6).
إن دعوى ذكر عيسى للأقانيم مجازفةٌ، فعيسى ذَكَرَ الابن والروح لا كآلهة، إنّما ذَكَرَ نفسَهُ كإنسانٍ محتاجٍ لله تعالى، وههنا اقتَرَحَ الاب سيداروس عقيدةً أخذها عن آبائه وأسقطها على كلمات عيسى (عليه السلام)، ويُعلَمُ ذلك من اعترافه بأن العقيدة كانت تُبنى على (اقتراحات شخصية) لرفع مشكلةٍ أو التوفيق بين عقائد مختلفة، فيقول حول المسألة الخلافية الشهيرة بينهم وهي (انبثاق الروح):
إن قضيّة (انبثاق الروح) اللاهوتية طالما شغلت فكر اللاهوتيين.. وتستحوذ على العلاقة المسكونية حتى إنها تعكّر جوّها. وللخروج من هذا المأزق ولرسم إطار جديد نعرض اقتراحاً شخصياً يقوم على الجمع بين (بثق الروح) و(إيلاد الابن) فلا يُقبل دور الابن في بثق الروح إلا بقبول دور الروح في إيلاد الابن، وكلا الدورين يمنحهما الآب: فيمنح الابنَ أن يبثق معه الروح، ويمنح الروحَ أن يلد معه الابن لنبرّر افتراضنا هذا(7).
اقتراحٌ شخصيّ وتفكيرٌ بشريٌّ يؤسّس لأهم عقيدة في المسيحية، وهي حقيقة الثالوث وطبيعة العلاقة بين أقانيمه، وليس الأب سيداروس وحده من يبيّن آلية الوصول للعقيدة هذه، فهذا عالم اللاهوت الهولندي د. هيرمان بافينك يشير إلى أن هذه العقيدة كانت نتيجة تفكيرٍ كنسيّ لا يمكن الحكم بعصمته، فيقول: من البديهيّ حقاً أن إقرارَي كلٍّ من نيقية وخلقيدونية لا يرقى إلى حد العصمة. فالمصطلحات التي تستخدمها الكنيسة لاهوتية في هذا الباب: كالشخص أو الأقنوم والطبيعة ووحدة الجوهر وما الى ذلك، ليست نقلاً من الكتاب المقدس، بل هي حصيلة التفكير الذي كان على المسيحية أن توليه تدريجياً لسرّ الخلاص هذا(8).
وينقل توماس تورانس: كان ق. أثناسيوس هو الذي قدّم عقيدة التداخل التّام المتبادل أو السُكنى الداخلية المتبادلة بين الآب والابن والروح القدس، والتي سُميت فيما بعد بعقيدة التواجد (الاحتواء) المتبادل بين الأقانيم(9).
إذاً ليس في الكتاب المقدس ذكرٌ للثالوث، وليس فيه تصريحٌ من عيسى (عليه السلام) بألوهيته باعترافهم، يقول القسّ منسَّى يوحنا: ويقول بعضهم : لماذا لم يقل المسيح صريحاً «أنا الله» ؟ بل قال «أنا ابن الله». فذلك لأنَّه لو قال «أنا الله» يَجمَعُ إلى أقنومه أقنومي الآب والرُّوح، وهُما معه أقنومان مُمتازان في اللاهوت، بل قال «أنا ابن الله» لتُعرَف نسبته الأزليّة إلى الأقنوم الأول، وقال «أنا والآب واحد» لنَعرِفَ مُساواته له(10).
وهذا اعترافٌ صريحٌ بأنّ عيسى لم يقل: (أنا الله) حتى وفق الأناجيل المتداولة، إنما أُسقِطَت هذه العقيدة على كلمات الإنجيل بعد اختراع الاقانيم الثلاثة.
هو استنتاجٌ من قوله (انا ابن الله) ومن قوله (أنا والآب واحد)، وقد بيّنا في كتابنا (الثالوث والكتب السماوية) عدم دلالة هذين اللفظين (بحسب الكتاب المقدس نفسه) على الألوهية، وإلا لزم ألوهيّة بني البشر قاطبة، فليراجع الكتاب المذكور.
هل تغيّرت عقيدة الثالوث؟
يقابِلُ كل ما تقدّم دعوى من بعض علماء النصارى بأن عقيدة التثليث ثابتةٌ لم تَطَلها يدُ التغيير من اليوم الأول، فيقول القمص سرجيوس: ان عقيدة التثليث وفهمها عند جميع المسيحيين في كل زمان ومكان وبالرغم من الاختلافات المذهبية هي هي لم تتغير، ولم يختلف المسيحيون فيها في زمن من الازمان(11).
فهل يصحُّ الإصغاء لمثل هذه الدعوى؟
من الواضح أن عقيدة الثالوث بصورتها الحالية لم تكن معروفة زمن السيد المسيح (عليه السلام)، ومن المعلوم أنه قد حصل خلافٌ كبير حولها بعد بدء انتشارها، وأنّها قد مرت في مراحل وأطوارٍ مختلفة حتى استقرت على ما هي عليه، ومن الشواهد على ذلك الاختلافات التي وقعت في المرحلة الأولى، والاختلافات التي ترسّخت بين الكنائس المختلفة مع مرور الأيام كما سيأتي.
ومما ذكروه في الاختلاف الحاصل بينهم منذ القرن الأول ما ذكره الدكتور القس عماد شحادة بقوله:
- علّم مارسيون في أواخر القرن الأول والغنوسيّون في أوائل ظهور تعاليمهم في القرن الأول أيضاً أن المسيح ظهر كأنّه إنسان.. وقد أدين هذا التعليم في مجمع نيقية عام 325م.
- أنكر الأبيونيون في القرن الثاني ألوهية المسيح، واعتبروا أن المسيح هو الابن الطبيعي ليوسف ومريم.. وقد أدين هذا التعليم في مجمع نيقية عام 325م.
- اعتقد آريوس بأنّه كانت للمسيح بدايةٌ، وبأنه كانت له طبيعة مشابهة وليست مطابقة لله، وتمت إدانة آريوس في مجمع نيقية عام 325م(12).
أما البصمة البشريّة في عقيدة الثالوث فتظهر جلياً من الاختلاف الواسع حولها وحول العلاقة بين الأقانيم، ويُبَيّن بعض هذه الاختلافات الشماس اسبيرو جبّور، ومما يذكره من الفرق والأقوال في ذلك:
الأبولينارية: أقنومٌ واحدٌ، شخصٌ واحدٌ، طبيعةٌ واحدةٌ إلهية، مشيئةٌ واحدة، فعلٌ واحد، جسد يسوع بلا روح، مريم أم الله.
الأوطيخية: تزيد عليها كفراً فتقول أنّ الطبيعتين قد امتزجتا.
اليعاقبة: أقنومٌ واحد من أقنومين، شخصٌ واحد، طبيعةٌ إلهية واحدة من طبيعتين، مشيئة واحدة فعل واحد، جسد يسوع ذو روح عاقل، يسوع إله كامل وإنسان كامل، مريم أم الله.
النساطرة: أقنومان، شخصان وشخص، اتحاد طبيعتان كاملتان، جسد يسوع ذو روح عاقل، يسوع إله كامل وإنسان كامل، مريم أم الإنسان يسوع.
الأرثوذكس وروما: أقنومٌ إلهيٌّ مركبٌ في طبيعتين كاملتين، مشيئتين، فِعلَين، جسد يسوع ذو روح عاقل، يسوع إلهٌ كامل وإنسانٌ كامل، الأقنوم الإلهي قَنَّم الطبيعة البشريّة لما ضمّها إليه، مريم أم الله.
أصحاب المشيئة الواحدة: يختلفون عنا بالقول أنّ ليسوع مشيئةٌ واحدةٌ وفعل واحد ولم يعودوا اليوم بموجودين إذ انضموا إلى روما. (يقصد الموارنة.. "الشبكة").
البروتستانت: فِرَقُهُم عديدة. يرفضون القول أنّ مريم هي أم الله إلى جانب قولهم أنّ يسوع أقنومٌ واحدٌ في طبيعتين. لذلك هم مزيجٌ منّا ومن النسطورية.
هذا الجدول يوضح تماماً أن مفاهيمنا اللاهوتية عَبَرَت في ممرات ضيقة وخطرة جداً حتى وصلت في العام 680 (المجمع السادس) إلى النضج.. مئاتٌ من أدمغة أساطين الفكر العالميّ وأشباههم دخلوا الحلبة حتى خرجنا منها سالمين.
كان أقرب الناس إلينا أصحاب المشيئة الواحدة ثم اليعاقبة. الأوطيخية كفرٌ. تدنو منها نسبياً الأبولينارية. النسطورية شَطَطٌ كبير. التطوّر في الفهم واضحٌ لدى الأرثوذكس. اليعاقبة توقفوا عند كيرللس حرفياً، إدخالنا التفريق بين لفظتي أقنوم وطبيعة كان انقلاباً في تاريخ اللاهوت قضى على كل التباسٍ وشق الطريق واسعة نحو الفلسفة الشخصانية المسيحية في حقل الأنثروبولوجيا (علم الإنسان)(13) .
هذا نموذجٌ من الخلافات العقائدية النصرانية، ولسنا نستدل بمجرّد اختلافهم على كون هذه العقيدة بشريّة وليست سماويّة، فإن الاختلاف حاصلٌ في كل الأديان بين مذاهبها كالاختلاف بين الشيعة والسنة مع اعتقادنا أن عقيدة الشيعة إلهيّة، وإنما نستدلُّ بعدم احتواء الإنجيل على أيٍّ من هذه المفاهيم كما ذكر، وإنما اخترعتها عقول كبار المفكرين النصارى، وغاية ما بلغوه هو القول بأنها غير قابلة للإدراك! مع أنها من نتاج تفكيرهم الطويل والمعمق.
ويعتقدُ بعض المؤرخين وإن لم يكونوا من علماء اللاهوت النصارى أن الإيبونيين هم المسيحيون الأصلاء، وأنّهم اعتقدوا أن عيسى إنسانٌ عادي، يقول جيمس د.طابور ان: المسيحيين الأصلاء.. باتوا يُعرفون بعد ذلك باسم الإيبونيين.. (المساكين)، وقد عرفهم يوسيبيوس، مع أنّه عدّهم هراطقة.. وكان بين تهمه التي وجّهها إلى الإيبونيين أنهم جعلوا من يسوع (إنساناً واضحاً وعادياً) وقد وُلد بشكل طبيعي.. ورفض الإيبونيون رسائل الرسول بولص وعدوه مرتداً عن الإيمان الصحيح(14).
قوانين الإيمان
خلت أكثرُ قوانين الإيمان ما قبل نيقية (سنة 325م) من ذكر وحدة الجوهر بين الله تعالى وبين المسيح، وإن ذَكَرَت أنّه ابن الله، وأنه (ربُّنا)، إلا أن هذا لا يعني أكثر من (سيدنا) و(معلمنا) كما دلّ عليه الكتاب المقدس(15). كذلك ذكرت الإيمان بالروح القدس دون أن تعطيه صبغة إلهية.
ومن أقدم القوانين: قانون الإيمان للرسل، وفيه:
أؤمن بالله ضابط الكل (خالق السماء والأرض).
وبيسوع المسيح، ابنه الوحيد ربنا.
الذي (حُمِلَ) به بواسطة الروح القدس، وُلِدَ من العذراء مريم. تألّم في عهد بيلاطس البنطي، صُلِبَ ومات ودفن..
وأؤمن بالروح القدس، والكنيسة المقدّسة.. وغفران الخطايا، وقيامة الجسد(16).
فلم يكن في قانون الإيمان أيّ تصريح بأنه هو الله، ويظهر فيه التركيز على صفاته البشرية كالولادة والتألُّم والصلب والموت والدفن، ثم ليس فيه أيّ ذكرٍ لألوهيّة الروح القدس، فالإيمان به على حد الإيمان بالكنيسة وغفران الخطايا وقيامة الجسد، فهو إيمانٌ بوجود الروح القُدُس كما الإيمان بالقيامة.
وقد ذُكِرَ قانونُ الرُّسُل في مصادر عدّة بصِيَغٍ متشابهةٍ خلت كلها من ذكر ألوهيّة عيسى (عليه السلام)، ومن ذلك:
أومن بالله، الآب الكليّ القدرة، خالق السماء والأرض. وبيسوع المسيح، ابنه الوحيد ربنا، الذي كان الحَبَلُ به من الروح القدس، وُلِد من البتول مريم، تألم في عهد بنطيوس بيلاطس، وصُلِب، ومات، ودُفِنَ، انحدر إلى الجحيم.
في اليوم الثالث قام من الموتى، صعد إلى السماوات، وهو جالسٌ إلى يمين الآب الكلي القدرة، من حيثُ سيأتي ليقاضي الأحياء والأموات.
أؤمن بالروح القدس، بالكنيسة المقدسة الكاثوليكية، بشركة القديسين، بغفران الخطايا، بقيامة الجسد، بالحياة الأبدية(17).
هذا القانون وهو القانون المسيحي الأول لا يتضمن ذكراً للثالوث، ويذكر أن الآب هو الخالق وليس عيسى (عليه السلام) هو الخالق كما تذكر سائر القوانين المتأخرة، وأن يسوع المسيح هو (ربنا)، وللرَّبِّ معانٍ متعددة في الكتاب المقدس، ينسجم بعضها مع عبودية عيسى (عليه السلام) لله تعالى كما جعلَ اللهُ موسى رباً لفرعون، ولم يخرج بذلك موسى عن عبوديّة الله تعالى.
ولم يذكر القانونُ المساواة في الجوهر ولا الأزلية.
وكان الإيمانُ بالروح القدس على حدّ الإيمان بالكنيسة الجامعة من غير أن يُذكر أن في ذلك ثلاثة أقانيم أو ما شابه.
ولهذا القانون أهمية خاصة حيث أنّه: يُعدُّ بحق الملخّص الأمين لإيمان الرُّسل. إنه القانون القديم للتعميد في الكنيسة الروماني(18).
وقد ذكر الأرخن أ. حلمي القمص يعقوب أن القوانين القديمة (كقانون إيمان الرسل: في القرن الأول الميلادي): حملت نفس العقيدة في ألوهيّة المسيح(19) التي جاءت في القانون النيقاوي اللاحق.
لكن يُلاحَظ خلوّ القانون عن مثل هذه العقيدة كما تبيّن.
ويُلاحَظ أنه لم يثبت كون الرسل هم أصحاب هذا القانون فعلاً، يقول القس الدكتور عيسى دياب: نقل لنا التقليدُ المسيحي أن بيان الإيمان المعروف اليوم ب(قانون إيمان الرسل) هو من وضع الرسل أنفسهم. لكن البحث التاريخيّ يثبت أن هذه الرواية هي مجرّد أسطورة من نسيح التقوى انتشرت في القرن الرابع(20).
كذلك لم يكن للثالوث ذكرٌ فيما لحقه من قوانين الإيمان، ولا تصريحٌ بأن عيسى هو الله، مع الاقتصار على ذكر أنه (ربنا) وقد تقدم عدم دلالتها على مساواته لله.
كذلك كان قانون الإيمان الذي نطق به القديس إيريناوس سنة 170م(21).
ومن قوانين الايمان الأخرى قانون الإيمان الذي نطق به العلامة ترتليان سنة 200م وهو ينص على:
1. نؤمن بإله واحد، خالق العالم، الذي أوجد الكلّ من عدم.
2. وبالكلمة ابنه يسوع المسيح.
3. الذي نزل إلى العذراء من خلال روح الله الآب وقوته، وصار جسداً في أحشائها ووُلد منها(22).
وقانون الإيمان الذي نطق به القديس كيريانوس سنة 250 م وجاء فيه:
1. نؤمن بالله الآب. 2. وبابنه المسيح. 8. بالروح القدس. 9. أؤمن بغفران الخطايا(23).
فقد خلت كلّ هذه القوانين من أي ذكرٍ للثالوث، ولم يَصِف شيءٌ منها عيسى (عليه السلام) بأنه الله.
ولمّا واجهت الكنيسةُ خلافاتٍ بين الموحدين الذين لا يقولون أنّ عيسى هو الله، وبين القائلين بأنّه الله، حصل تَحوُّلٌ كبيرٌ لمصلحة القائلين بأنّه الله في مجمع نيقية سنة 325، يبين توماس تورانس ذلك بقوله:
كان الوضع المركزي ليسوع المسيح (الابن المتجسد) في إيمان الكنيسة يتطلب الإجابة بوضوح على السؤال عما إذا كان هو إلهاً ورباً أو أنه مجرّدُ مخلوقٍ متوسّطٍ بين الله والإنسان.. كان هذا هو السؤال الرئيسيّ الذي واجه آباء نيقية، وقد أجابوا عليه باعترافٍ قاطعٍ بألوهيّة المسيح كرَبٍّ ومخلص. ولكنَّ السؤال نفسه ظهر مرّة أخرى بعد نيقية بالنسبة للروح القدس: هل هو مسجودٌ له مع الآب والابن بكونه الله؟ وهل هو مثله مثل الابن واحد مع الآب (في ذات الجوهر) أم أنه قوة عقلانية مخلوقة؟(24).
نتيجة الاختلافات العقدية المتقدمة بين الكنيسة، وبعدما أعلن الملك قسطنطين بعد رؤيا رآها حول الصليب أن الدين المسيحي هو الدين الرسمي للدولة الرومانية: أمر بعقد المجمع المسكوني الأول في نيقيا سنة 325 تأكيداً لألوهية السيد المسيح(25).
وكان من آثار ذلك أن: اعترفت الكنيسة سنة 325 في مجمع نيقية المسكونيّ الأول، أن الابن واحٌد في الجوهر مع الآب، أي أنّه هو والآب إلهٌ واحد(26).
نصّ قانون الإيمان النيقيّ صريحاً على أن عيسى (عليه السلام) غير مخلوق، وعلى أنّه مساوٍ في جوهره لله (الذي يصفونه بأنه الآب) ففيه:
نؤمن بإلهٍ واحد، آبٍ ضابط الكل، خالق كل شيء.. وبربٍّ واحدٍ يسوع المسيح ابن الله الوحيد، المولود من الآب ومن جوهر الآب، إلٌه من إله، نورٌ من نور، إلهُ حقٍّ من إله حق، مولودٌ غير مخلوق، مساوٍ للآب في الجوهر(27).
وأعلن البراءة من كل من لم يقل بذلك: وكل من يقول أنّه كان وقتٌ لم يكن فيه ابن الله، او أنّه قبل ان يولد لم يكن، أو أنّه خُلِقَ من العدم، او أنّه من جوهرٍ يختلف عن جوهر الآب او طبيعته، او أنّه مخلوق، او أنّه عُرضَةٌ للتغيُّر والتبدُّل، فالكنيسة الرسولية الجامعة تبسل(28) كل من يقول هذه الاقوال(29) .
ثم عُرِفَ من بعد ذلك أصرح القوانين دلالة على أنه الله، وهو قانون نيقية القسطنطينية، ففيه بعد الإيمان بالإله الواحد الآب: وبربٍّ واحدٍ يسوع المسيح، ابن الله الوحيد، المولود من الآب قبل كل الدهور: هو الله الصادر عن الله، نورٌ مولودٌ من النور، إلهُ حقٍّ صادرٌ عن الله الحق، مولودٌ غير مخلوق، هو والآب جوهرٌ واحدٌ(30)..
وأضيف اليه أيضا الاعتقاد بربوبية الروح القدس وانبثاقه من الآب والابن: وبالروح القدس، الرب وواهب الحياة، إنه ينبثق من الآب والابن، مع الآب والابن، يُعبَدُ العبادةَ نفسها ويُمجَّدُ التمجيد نفسه(31)..
فالروح القدس قد: اعتُرِفَ به في المجمع المسكوني الثاني سنة 381، في القسطنطينية(32).
أما: القول ب (والابن) لم يكن موجوداً في القانون المعترف به سنة381 في القسطنطينية. ولكن جرياً مع تقليد لاتينيٍّ واسكندرانيٍّ قديمٍ اعترف به عقائدياً البابا القديس لاون سنة 447(33).
وصار لهذا القانون أهميّة خاصة عند النصارى حيث يقولون: قانون نيقية القسطنطينية يستمدُّ قوَّته من كونه صادراً عن المجمعين المسكونيين الأوَّلين (325و381) وهو لا يزال، إلى اليوم، مشتركاً بين جميع كنائس الشرق والغرب الكبرى(34).
صياغة الثالوث كما هو اليوم كان من إنتاج هذا المجمع عام 381 للميلاد إذاً، يقول القس بسام مدني: تكلم هذا المجمع بشكل خاص عن عقيدة الثالوث الأقدس.. وفي هذا المجمع صيغت عقيدة ألوهيّة الروح القدس.. ضمن قانون الإيمان(35).
لم يكن أوّل من صرّح بأن عيسى هو الله هو هذا القانون، وإن شكّل تحوُّلاً في انتشار هذه العقيدة، فقد سبقه إليه عدد من علماء النصارى، منهم ترتليان (145-220م) حيث يقول : لأن المسيح هو الله أيضاً، فهو إلهٌ من إلهٍ كما يضيء النور من النور(36) .
والبابا ديونيسيوس (الذي ولد سنة 190م) يقول: المسيح سرمديٌّ.. كلمة الله الابن الوحيد الذي لله الآب، المساوي لله باللاهوت، وهو المساوي لنا بالناسوت(37).
لكن هذا القانون وما تبعه من قوانين لم ترفع الاختلافات بين الكنائس والمذاهب المسيحية، يقول الدكتور القس عماد شحادة: تتّهمُ الكنيسة الارثوذوكسية الشرقية الكنيسةَ الغربية بتغيير قوانين إيمان المجامع الكنسية المسكونية بغير شرعية.. الكنيسة الارثوذوكسية بفروعها المتنوعة.. يشكّلون حالياً أكبر طائفة في الشرق الأوسط. وفي صدارة الخلاف العقائدي موضوع انبثاق الروح القدس، ففي مجمع توليدو عام 589م تمّت إضافة التعبير (والابن) عن انبثاق الروح القدس إلى قانون إيمان نيقية ليصبح (من الآب والابن)، وباتت هذه الإضافة الأساس للاعتراف بالانقسام بين الشرق والغرب(38).
ولما كان المجمعُ المذكورُ قد قال ان الروح القدس انبثق من (الآب والابن)، فقد: تم استنكار مجمع توليدو من قبل الكنائس الشرقية.. أُعلِنَ في كلّ المنشورات التابعة للكنيسة الشرقيّة أن تعبير (والابن) هو هرطقة(39).
وفي أيامنا كَثُرَت قوانين الإيمان المعاصرة التي كُتِبَت بلغةٍ حديثة وخضعت لاجتهادات الآباء والقساوسة وخاصّة الانجيليين منهم(40).
الآريوسية
لماذا عقد مجمع نيقية؟ وما هي الدوافع لذلك؟
إنّ تَتَبُّعَ هذه المسألة يشيرُ إلى قوّة النزعة التوحيدية عند شريحةٍ كبيرةٍ من النصارى في تلك الفترة، قبل أن تجتمع معظمُ الكنائس على تأليه المسيح في مجمع نيقية وما بعده من المجامع، ويقرّ علماء النصارى بانتشار العقيدة التوحيدية الآريوسية التي تنكر أزلية عيسى وكونه الله بشكل كبيرٍ جداً.
يقول الأب ميشال أبرص والأب أنطوان عرب: الآريوسية.. كانت قد انطلقت من الاسكندرية، لتعمّ وتتفشى في الكنيسة الشرقية بأكملها(41)..
ويكملان حول آريوس وأنّه: أنكر المساواة في الجوهر بين الأقانيم الثلاثة وخاصة بين الأقنوم الثاني محور اللاهوت آنذاك، لم يكن الروح القدس بعد قد دخل حيّز التفكير اللاهوتي جدياً، وبين الأقنوم الأول في الثالوث الأقدس، معتبراً أن الآب وحده إلهٌ بالمعنى الحقيقي للكلمة(42).
إذاً في تلك المرحلة كانت عقيدة إنكار ألوهيّة عيسى هي المنتشرة في الشرق، أما ألوهيّة الروح القدس فلم تكن قد دخلت حيز التفكير اللاهوتي جدّياً! فكيف تكون العقيدة المسيحية الأولى قائمة على الثالوث؟
ورد في كتاب تاريخ الموارنة بعد وصف آريوس بأنّه أبرز كهنة الإسكندرية: أنكر آريوس ألوهية السيد المسيح.. استطاع آريوس استمالة الأساقفة في الأسقفيات التالية: أساقفة صور، واللاذقية، ونيرونيا، وزوربا، وبيروت، وقيصرية فلسطين. وللحال عُقِدَ مجمعٌ آخر في انطاكية سنة 325 للوقوف بوجه آريوس وأتباعه(43). رفض الاسقفان الكبيران تيودورس أسقف اللاذقية وديودورس اسقف صقلية هذه المبادئ، وأصرّا على اعتناق البدعة الآريوسية، ووجدت هذه البدعة أرضاً خصبة لانتشارها.. فعمّت معظم أنحاء مصر وافريقيا، وظلّت قائمة حتى نهاية القرن الرابع(44).
وكانت هذه الدعوة خطيرة بنظر القديسين النصارى إلى درجة أن القدّيس يوحنا ذهبي الفم عبَّر عن أصحابها بالذئاب الذين يحيطون بالمؤمنين من كل جانب(45). وقال: نيران الهراطقة تهدد بلهيبها المحيط من كل جانب(46).
وقد ذكر المؤرخون الكثير من الشخصيات التي تسنّمت أعلى المناصب الكنسية في كنائسها وكانت تعتقد بالفكر الآريوسي.
لقد سبَّبَ اعتقاد آريوس بأن المسيح مخلوقٌ حالةً من الخوف عند النصارى كما يقول القس لبيب ميخائيل: في سنة 325 بعد الميلاد انتشرت ضلالةٌ رهيبةٌ تقول إن المسيح هو مخلوقٌ كسائر البشر خلقه الله من العدم، وكان صاحبُ هذه الضلالة هو (آريوس)، وبسبب هذه الضلالة المخيفة عُقِدَ مجمع نيقية الذي حضره 318 عضواً.. حتى أصدر المجمع قانون الإيمان النيقوي(47).
يقول عالم اللاهوت الهولندي د. هيرمان بافينك: ارتأى آريوس أن الآب وحده هو الإله الأزليُّ الحقيقيّ، ما دام هو المصدر الغير المنبثق بكلّ معنى الكلمة. أما بخصوص الابن أي الكلمة الذي صار في المسيح جسداً، فقد علّم آريوس بأنه لا يمكن أن يكون هو الله لأنّه منبثق، ولذلك زعم أن المسيح مخلوقٌ. وبينما ذهب إلى أنه صُنِعَ قبل سائر الخلائق، ارتأى أنه مع ذلك مخلوقٌ.. و.. أن الروح القدس مخلوقٌ، أو أنه صفةٌ من صفات الله أو سجيَّةٌ من سجاياه(48).
أما كلمات آريوس نفسها فقد نُقِلَت في جملةٍ من المصادر، منها قوله: إن الإبن قد وُجِدَ بإرادة الآب ومشورته قبل الأزمان والدهور، إلهاً كاملاً وابناً وحيداً لا يقبل تغيُّراً. ولكنه لم يكن موجوداً قبل أن يوجَدَ أو يُخلق.
وقد اضطُهِدنا لأننا قلنا: إن للابن بدءاً، أما الله فلا بدء له.
ويُرتَكَبُ بحقّنا أعمالٌ فظيعةٌ لأننا قلنا إن الابن خرج من العدم، هذا ما قلناه، لأنه ليس جزءاً من الله(49).
فجوهرُ الابن مختلفٌ عن جوهر الآب بحسب آريوس، وهو ليس أزليّاً.
وينقل القديس أثناسيوس الرسولي كلماتٍ من كتاب (ثالياً) لآريوس، ومنها قوله: لأنّ الله كان وحده، ولم يكن هناك الكلمة والحكمة بعد.. من ثم فعندما أراد الله أن يخلقنا فإنه عندئذ قام بصنع كائنٍ ما وسمّاه اللوغوس والحكمة والابن، كي يخلقنا بواسطته(50).
وقوله: أما المسيح فليس هو قوة الله الحقيقية.. بما أن الله عَرَفَ بِسَبقِ علمه بأن الكلمة سيكون صالحاً فقد منحه هذا المجد.. كإنسان.. الكلمة ليس إلهاً حقيقياً، وحتى ان كان يدعى إلهاً لكنه ليس إلهاً حقيقياً، وإنما هو الهٌ بمشاركة النعمة مثل جميع الآخرين، وهكذا فإنه يسمى إلهاً بالاسم فقط.. الكلمةُ أيضاً يعتبر غريباً عن جوهر الآب وذاتيّته ومختلفاً عنه، بل هو ينتمي إلى الأشياء المخلوقة والمصنوعة، وهو نفسه أحد هذه المخلوقات(51).
مثل هذه الكلمات التي صدرت من آريوس جعلت القدّيس أثناسيوس يقول عنه أنّه: مثل الحيّة التي قدمت المشورة للمرأة(52).
ويقول: ان المجمع المسكوني طرد أريوس.. من الكنيسة وحَرَمَهُ، اذ لم يحتمل المجمع كفره وجحوده، ومنذ ذلك الحين فقد اعتُبِرَ ضلال أريوس هرطقةً تفوق سائر الهرطقات، حيث لُقِّبَ بعدوّ المسيح، ومُمَهِّداً للمسيح الدجال(53).
لكن الآريوسية عادت وانتشرت بقوّة بعد الملك قسطنطين، يقول البروفسور ب.ك خريستو: ساءت الاحوال بعد وفاة قسطنطين الكبير لأنّ حاكم الشرق قسطنديوس فرض الآريوسية على المناطق التي كان يحكمها.. أما بعد وفاة أخيه قسطنس عام 350م فقد فرضها على جميع أنحاء الإمبراطورية(54).
وفي كتاب (تطوُّر الإنجيل): إن الامبراطور البيزنطي قسطنطيوس ابن الإمبراطور قسطنطين قد أعلن نفسه آريوسياً. ومع مجيء العام 360م حلّت الآريوسية محلّ المسيحية الرومانية. وعلى الرغم من شجب الآريوسية في مجمع القسطنطينية عام 381م استمرت هذه العقيدة بالانتشار وبكسب أنصار جدد، حتى إذا كان القرن الخامس، كانت كلُّ أسقفية في العالم المسيحي إما آريوسية أو شاغرة(55).
لم يكن آريوس أول النصارى المنكرين لأزلية عيسى وألوهيّته الكاملة ولا آخرهم: بل كان هناك آخرون أنكروا لاهوت السيد المسيح منهم ماركيان، وبولس الاموساطي.. وغيرهم(56).
واستمرّت الاختلافات بعد ذلك: قال نسطوريوس في القرن الخامس: لم يكن المسيح هو الله، بل كان إنساناً عادياً حلّ فيه الله، دون أن يتحد به(57).
وورد في كتاب تاريخ الموارنة: أعلن نسطور أن مريم العذراء أعطت المسيح بحكم الولادة (الطبيعة البشرية) ولم تعطه (الطبيعة الإلهية).. اعتبر نسطور أن المسيح هو انسانٌ يحمل ذاتاً إلهية، أي متوشح بالله، وبالتالي فطبيعته إنسانيّة وليست إلهيّة(58).
وفيه: ساعد استلام نسطور اسقفية القسطنطينية.. سنة 428.. على الترويج للبدعة الجديدة.. وانتشرت هذه العقيدة في مصر وروما نفسها(59).
وفيه: مات نسطور سنة 441 لكن النسطورية لم تمت بموته، لأنّ مروجيها كانوا يحتلون مراكز دينية رفيعة.. بينهم.. اسقف صور المعروف، ويعقوب البرادعي الذي ساهم بنشر هذه العقيدة في سوريا ولبنان بين السريان(60).
ثم انتشرت هذه العقيدة وعُرِفَ أتباعها بالمونوتوليين: قام البطريرك الاسكندري ديوسقورس والراهب القسطنطيني اوطيخوس باحياء النظرية المونوتولية وروّجا لها في انطاكية والقسطنطينية وكامل أرجاء سوريا والمملكة البيزنطية فتبعهما الكثيرون(61).. ولم يطل الأمر حتى ارتقى الكرسيّ الأنطاكيّ بطريركٌ يدعى ساويروس فنادى من جديد باعتناق النظرية المونوتولية.. ولم تلبث هذه البدعة أن عمّت الشرق بأسره.. وتحوّل المونوتوليون الى كنيسة انتسبت اليه (المطران يعقوب البرادعي) فدُعِيَ أتباعُهَا باليعاقبة(62).
المسيحيون في الشرق أيام الإسلام
المذهبُ اليعقوبيُّ هذا كان منتشراً بين القبائل العربية بحسب المؤرخين(63).
وقد وقع الخلاف في مذهب بعض القدّيسين الذين كان لهم دورٌ في الشرق أيام الإسلام، كالقدّيس يوحنا الدمشقي، حيث اختلفوا في أنّه يقول بالطبيعة الواحدة في المسيح أو الطبيعتين، قال الإكسرخوس جوزف نصر الله نصر الله: لو كان الدمشقي وأسرته على مذهب اليعاقبة (الطبيعة الواحدة في المسيح) لما ذهب هو وبعض أقربائه.. لينسك في دير القديس سابا القريب من القدس معقل الخلقيدونية (طبيعتان في المسيح: الإلهية والإنسانية)، في ما كانت الأديرة اليعقوبيّة منتشرة غربي بادية الشام(64).
وكلماتُ الدمشقيّ صريحةٌ في قوله بالطبيعتين حين يقول في كتابه: أما نحن فنعلّم أن المسيح طبيعته مركّبة.. ونعترف بوجود إلهٍ كاملٍ من اللاهوت والناسوت يقال له هو نفسه إنه من طبيعتين وفي طبيعتين(65).
وقال نصر الله: لقد تقاسمت بلادَ سوريا وفلسطين ثلاثةُ مذاهب دينية في القرنين السابع والثامن: الخلقيدونية (الملكية) والمونوفيزية (اليعقوبية) والمونوتيلية (المارونية)(66).
وقبله كان قد برز القدّيس صفرونيوس: أما القديس صفرونيوس فقد ساس بطريركية أورشليم منذ سنة 634، وهو أول من فضح هرطقة المشيئة الواحدة، وقد فاوض العرب لتسليم المدينة المقدسة سنة 638 وقضى نحبه في السنة عينها(67).. أما بدعة المشيئة الواحدة (المونوتيلية) فبعد ان انتشرت في البطريركية الأنطاكية.. تلقت ضربة حاسمة بحكم المجمع القسطنطيني عليها سنة 681.. ولما شعر مشايعو بدعة المشيئة الواحدة في المسيح أنهم مضطهدون من اليعاقبة والملكيين هاجروا إلى لبنان(68).
وفي بلدنا لبنان عُرِفَ أتباعُ الناسك مارون بالموارنة وهم الفئة الأكبر من النصارى حالياً فيه، ففي كتاب تاريخ الموارنة: عُرِفُوا بجماعة مارون، قبل تسميتهم بالموارنة على يد مؤسس الكنيسة المارونية في أواخر القرن السابع، القديس والبطريرك الأول يوحنا مارون(69).
وقد كان القديس مارون معاصراً لقدّيس شهيرٍ آخر هو يوحنا فم الذهب.. بل كانت تربطه به صداقة متينة، ويقال أنه كان له دور كبير في انتشار المسيحية في لبنان(70).
وفي تاريخ الموارنة: القديس مارون وأتباعه جماعة مارون كما عُرِفَ الموارنة في بداية عهدهم فكانوا قادة الفريق الآخر القائل بالطبيعتين في المسيح، البشرية والإلهية(71)..
وفيه: يوحنا مارون (685-707) وهو البطريرك المارونيّ الأول، مؤسس الطائفة المارونية وكنيستها المستمرة حتى اليوم(72).
وفيه: اليعاقبة مونوتوليون يعترفون بطبيعةٍ أو بمشيئةٍ واحدةٍ إلهيّة في السيّد المسيح، وينكرون الطبيعة الإنسانيّة وكل ما يتعلق بقداسة العذراء وأمومتها لألوهية المسيح. عكس الموارنة الذين يؤمنون بطبيعتي المسيح الإنسانية والإلهية، وبمريم العذراء أماً للإله وللانسان معاً(73).
وفيه: جوهر هذا الانقسام يعود الى الخلاف حول بعض الامور اللاهوتية، ولا سيما اعتبار الروح القدس ينبثق من الآب والابن حسب اعتقاد الكاثوليك، فيما يعتقد الارثوذكسيون الآخرون بأن الآب هو كل شيء، وقد ضحى بابنه في سبيل خلاص البشرية. كما نشأ بينهم خلاف حول ألوهية هذا الآب، إذ أن الكاثوليك يعتبرون الأقانيم الثلاثة (الآب والابن والروح القدس) متساوين في الجوهر، في حين يعتبر الارثوذكسيون أن الآب هو مصدر الألوهيّة. هذا فضلاً عن الخلاف حول مقام البابا الذي يعتبره الكاثوليك رأس الكنيسة المقدسة الرسولية، في حين لا يعتبره الآخرون إلا بمثابة بطريرك روما الموازي لبطريركهم(74).
وفيه: الاقباط في الاساس من القائلين بطبيعة المسيح الالهية الواحدة، على غرار كل الطوائف النسطورية.. يحمل بطريركهم المقيم في القاهرة لقب البابا او الانبا شنوده(75).
ولئن لاحَظَ المُتَتَّبِعُ لحال الفِرق اختلافاً في نسبتها إلى هذا المذهب أو ذاك بين المؤرخين النصارى، أو حتى في كلامٍ مؤرِّخٍ واحد، فإنّ ذلك قد يرجع إلى التبدُّل والتغيُّر الذي طال عقيدة الجماعات المسيحية مع تطوُّر الفكر المسيحي وتغيُّر النظرة الاعتقادية لجُملَةٍ من مفرداته مع مرور الأيام، وبحسب اختلاف الظروف والأحوال، ومن ذلك الاختلاف في نسبة بعض الفرق أو الآباء والقساوسة إلى القول بالمشيئة الواحدة أو المشيئتين، وبالطبيعة الواحدة أو الطبيعتين في المسيح.
وقفةٌ مع مجمع صور
كان جوُّ مجمع صور آريوسياً، حيث طغى حضور القساوسة المنكرين للتثليث فيه، وقيل أنّ الغرض منه نقضُ قرارات مجمع نيقية، وممن ذكر ذلك د. سهيل زكار بقوله: في سنة 334 جرى عقد مجمعٍ دينيٍّ جديدٍ في مدينة صور، وفيه تم نقضُ قرارات مجمع نيقية السالفة، وأصدر العفو عن آريوس، وتم حرمان أثناسيوس ونفيه(76).
وقد نُقِلَ عن اللاهوتي أدولف فون هارناك قوله أن المجتمعين في صور: أعدّوا العدّة لدفن قرارات مجمع نيقية(77).
وفي الموسوعة الميسّرة: عقد مجمع صور سنة (334) م ليُعلي من عقيدة آريوس، ويلغي قرارات مجمع نيقية، ويقرّر العفو عن آريوس وأتباعه، ولعن أثناسيوس ونفيه(78). وفي بعض المصادر الأخرى: مجمع صور الإقليمي.. قرّر وحدانية الله وأن المسيح رسوله(79)، وأنّ المجتمعين أرادوا العودة بالمسيحية مرة أخرى إلى عقيدة التوحيد(80).
لكنّ بعض القساوسة والباحثين يرون أن المجمع لم يتعرّض للجانب اللاهوتي، ولم يكن له أيّ موقفٍ من عقيدة آريوس، وإن كان الغرض منه إسقاط أثناسيوس ونهجه وهو القائل بأزليّة المسيح، فاقتصر على محاكمة أثناسيوس بتهمٍ سلوكيّة مفتراةٍ عليه ولا صلة لها بالعقيدة.
يقول القسّ حنا الخضري: إن المجمع (السنودس) لم يتعرّض البتة لبحث أيّ مشكلة لاهوتية في اجتماعه هذا، بل إن البحث فيه كان مركزاً على النظر في الاتهامات المقدّمة ضد أسقف الاسكندرية(81).
رغم ذلك اعترف أنّ: القرارات التي أصدرها مجمع صور بشلح الأسقف أثناسيوس ونفيه، ثم اعطاء يمين الشركة لآريوس وارجاعه الى منصبه كخادمٍ كانت تُعَدُّ نصراً عظيماً لآريوس وأتباعه(82).
وأياً يكن الذي جرى في مجمع صور، فإنّ أغلبية الحاضرين كانت تُنكِرُ القول بالثالوث وتُنكِرُ أزليّة عيسى (عليه السلام) وكونه الله.
(1) مدخل الى الايمان المسيحي ص48.
(2) الإيمان بالثالوث ص7.
(3) مدخل الي حقيقة الثالوث ص102.
(4) الآب والإبن والروح القدس ص82.
(5) الآب والإبن والروح القدس ص83.
(6) سر الثالوث الاحد ص23 هامش1.
(7) سر الثالوث الاحد ص79.
(8) بين العقل والإيمان ج3 ص26.
(9) الإيمان بالثالوث ص13.
(10) شمس البِر ص175.
(11) ردّ القمص سرجيوس على الشيخ العدوي ص67.
(12) الآب والإبن والروح القدس ص249.
(13) سر التدبير الإلهي التجسد ص63-64.
(14) سلالة يسوع: أسرة يسوع الحاكمة ص364.
(15) وقد بيّنا ذلك في كتاب: الثالوث والكتب السماوية.
(16) لاهوت المسيح عند آباء ما قبل نيقية ص50.
(17) التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية ص50 فقرة184.
(18) التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية ص ص54 فقرة194.
(19) أسئلة حول ألوهية المسيح: الكتاب الثالث ج1 ص285.
(20) مدخل الى الكنائس الانجيلية ص146.
(21) أسئلة حول ألوهية المسيح: الكتاب الثالث ج1 ص285.
(22) أسئلة حول ألوهية المسيح: الكتاب الثالث ج1 ص286.
(23) أسئلة حول ألوهية المسيح: الكتاب الثالث ج1 ص286.
(24) الإيمان بالثالوث ص5.
(25) تاريخ الموارنة ومسيحيي الشرق عبر العصور ج1 ص58.
(26) التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية ص64.
(27) مجموعة الشرع الكنسي ص43، وتاريخ الفكر المسيحي عند آباء الكنيسة ص445 مع اختلاف يسير بينهما.
(28) المراد منها: تحريمه، ومن معاني البسل في كتب اللغة: الْبَسْلُ: المحرم الذي لا تتأول حرمته (كتاب العين ج7 ص264)، الْإِبْسَالُ: التحريم (مجمع البحرين ج5 ص321).
(29) مجموعة الشرع الكنسي ص43.
(30) التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية ص50 فقرة184.
(31) التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية ص50 فقرة184.
(32) التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية ص65.
(33) التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية ص65 فقرة247.
(34) التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية ص54 فقرة195.
(35) المسيح في الكنيسة في التاريخ ص68.
(36) أسئلة حول ألوهية المسيح: الكتاب الثالث ج1 ص291.
(37) أسئلة حول ألوهية المسيح: الكتاب الثالث ج1 ص291.
(38) كتاب الآب والإبن والروح القدس ص321.
(39) كتاب الآب والإبن والروح القدس ص323و326.
(40) لمزيد من التفصيل يراجع كتاب: مدخل الى الكنائس الانجيلية ص150 وما بعدها.
(41) المجمع المسكوني الأول: نيقية الأول ص50.
(42) المجمع المسكوني الأول: نيقية الأول ص50.
(43) تاريخ الموارنة ومسيحيي الشرق عبر العصور ج1 ص123.
(44) تاريخ الموارنة ومسيحيي الشرق عبر العصور ج1 ص124.
(45) مساوٍ للآب في الجوهر ص93.
(46) مساوٍ للآب في الجوهر ص94.
(47) في حقائق الكتاب الكبرى ص14.
(48) بين العقل والإيمان ج2 ص57.
(49) كتاب: في ان الله لا يمكن ادراكه ص22.
(50) الشهادة لألوهية المسيح ص17.
(51) الشهادة لألوهية المسيح ص18.
(52) الشهادة لألوهية المسيح ص19.
(53) الشهادة لألوهية المسيح ص20.
(54) الشهادة لألوهية المسيح، ملحق لخريستو أستاذ الآباء بجامعة تسالونيكي باليونان ص126.
(55) من مقدمة أحمد ايبش لكتاب (تطور الإنجيل ص37).
(56) لاهوت المسيح عند آباء ما قبل نيقية ص8.
(57) نقله عوض سمعان في كتابه: الله في المسيحية ص407.
(58) تاريخ الموارنة ومسيحيي الشرق عبر العصور ج1 ص124.
(59) تاريخ الموارنة ومسيحيي الشرق عبر العصور ج1 ص125.
(60) تاريخ الموارنة ومسيحيي الشرق عبر العصور ج1 ص126.
(61) تاريخ الموارنة ومسيحيي الشرق عبر العصور ج2 ص47.
(62) تاريخ الموارنة ومسيحيي الشرق عبر العصور ج2 ص48.
(63) مقدمة كتاب منصور بن سرجون للإكسرخوس جوزف نصر الله ص36.
(64) مقدمة كتاب منصور بن سرجون للإكسرخوس جوزف نصر الله ص37.
(65) المئة مقالة ص155.
(66) مقدمة كتاب منصور بن سرجون للإكسرخوس جوزف نصر الله ص70.
(67) مقدمة كتاب منصور بن سرجون للإكسرخوس جوزف نصر الله ص71.
(68) مقدمة كتاب منصور بن سرجون للإكسرخوس جوزف نصر الله ص72.
(69) تاريخ الموارنة ومسيحيي الشرق عبر العصور ج1 ص56.
(70) تاريخ الموارنة ومسيحيي الشرق عبر العصور ج1 ص60.
(71) تاريخ الموارنة ومسيحيي الشرق عبر العصور ج1 ص122.
(72) تاريخ الموارنة ومسيحيي الشرق عبر العصور ج1 ص144.
(73) تاريخ الموارنة ومسيحيي الشرق عبر العصور ج1 ص251-252.
(74) تاريخ الموارنة ومسيحيي الشرق عبر العصور ج1 ص252.
(75) تاريخ الموارنة ومسيحيي الشرق عبر العصور ج5 ص277.
(76) الأناجيل النصوص الكاملة ص90.
(77) نقل ذلك عنه في كتاب: طائفة الموحدين من المسيحيين عبر القرون ص24.
(78) الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة: الباب الثالث، الفصل الخامس، المبحث الأول.
(79) مقارنة الأديان المسيحية، للدكتور أحمد الشلبي ص169.
(80) المسيحية بين التوحيد والتثليث للدكتور عبد المنعم فؤاد ص164.
(81) تاريخ الفكر المسيحي ج3 ص647، ويذهب الى هذا ايضاً جون لوريمر في: تاريخ الكنيسة ج3 ص59-60.
(82) تاريخ الفكر المسيحي ج3 ص649.