الصفحة الرئيسية

الكتب والمؤلفات :

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

  • الكتب والمؤلفات PDF (9)
  • عرفان آل محمد (ع) (17)
  • الإلحاد في مهب الريح (12)
  • قبسات الهدى (14)
  • الثالوث والكتب السماوية (6)
  • الثالوث صليب العقل (8)
  • أنوار الإمامة (6)
  • الوديعة المقهورة (6)

المقالات والأبحاث :

إظهار / إخفاء الأقسام الفرعية

  • التوحيد والعدل (13)
  • سيد الأنبياء محمد ص (13)
  • الإمامة والأئمة (28)
  • الإمام عين الحياة (16)
  • أمير المؤمنين عليه السلام (24)
  • السيدة الزهراء عليها السلام (48)
  • سيد الشهداء عليه السلام (47)
  • الإمام المنتظر عليه السلام (9)
  • لماذا صرتُ شيعياً؟ (7)
  • العلم والعلماء (15)
  • الأسرة والمرأة (8)
  • مقالات اجتماعية (19)
  • مقالات عامة ومتنوعة (58)
  • الموت والقيامة (24)

إتصل بنا

أرشيف المواضيع

البحث :




جديد الموقع :


 شَهيدُ الهُدى.. الحُسَينُ بنُ عَليّ (عليه السلام)
 287. الإمام الجواد.. والشيعة في زمن الغيبة!
 286. هَل يُغلَبُ رُسُلُ الله وحِزبُه؟!
 285. هل أراد الله بنا (شرَّاً) فحَجَبَ عنَّا (النَّصر)؟!
 284. لن يُمحَقَ دينُ محمد (ص)!
 283. ما حُكمُ (الجِهَادِ) في أيامنا؟!
 282. الجواد.. إمامٌ يعلمُ ما في النفوس!
 281. ما من خالقٍ.. إلا الله!
 280. هل بينك وبين الله قرابة؟!
 279. المَهديُّ إمامٌ.. تبكيه العيون!

مواضيع متنوعة :


 231. ما أوحش.. الموت!
 102. يوم ثارَ يزيدٌ.. على الحسين !!
 22. حسين زماننا.. في عاشوراء!!
 مقدّمة
 284. لن يُمحَقَ دينُ محمد (ص)!
 25. التوبة.. في أيام الحسين!
 68. القُلُوبُ الْمُنْكَسِرَةِ !
 130. لِئامٌ.. في محضر الزَّهرَاء.. والحَورَاء !
 213. الكاظم.. إمامٌ ليس بينه وبين الله حجاب!
 مقال3: الملحدون والفانوس السحري!

إحصاءات :

  • الأقسام الرئيسية : 2
  • الأقسام الفرعية : 22
  • عدد المواضيع : 356
  • التصفحات : 694854
  • التاريخ :



















  • القسم الرئيسي : الكتب والمؤلفات .
        • القسم الفرعي : الوديعة المقهورة .
              • الموضوع : الفصل الثاني: ظلامَتها وقَهرُها .

الفصل الثاني: ظلامَتها وقَهرُها

 الفصل الثاني: ظلامَتها وقَهرُها

12. نارٌ.. في الدار.. تسفعُ وجه الزهراء!!

بسم الله الرحمن الرحيم

وَرَكَلَ البَابَ بِرِجْلِهِ، فَرَدَّهُ عَلَيَّ وَأَنَا حَامِلٌ، فَسَقَطْتُ لِوَجْهِي، وَالنَّارُ تُسْعَرُ، وَتَسْفَعُ وَجْهِي!(1).

هذه كلمات الزهراء (عليها السلام)، سيّدة النساء، تتحدّث عمّا فعله الثاني عندما اقتحم وحزبُه دارَها، وأسقطوا جنينها.

ينقل العلامة المجلسي الخبر في بحاره، فتَهيجُ لِهَوله قلوب الموالين، وتضطرب أركانهم.

النار تُسعَر، وتَسفَعُ وجه الزهراء! لا إله إلا الله..

نحاول الاستعانة بعلماء اللغة لنفهم المراد من اللفظ.

نعود للصاحب بن عباد (توفي 385هـ) فنراه يقول: سَفَعَتْه النّارُ والسَّمُوْمُ سَفْعاً: لَفَحَتْه(2).

النار تلفَحُ وجه الزهراء، أي تصيب وجهها: لَفَحَتْه النّارُ: أصابَتْ وَجْهَه(3).

ثم نعود بالزمن قليلاً إلى الوراء، لنرى ما يقول الخليل بن أحمد (توفي175هـ)، فإذا بالفراهيدي يضيف معنىً آخر:

النار تَسْفَع الشي‌ء إذا لفحته لفحاً يسيراً فغيّرت لون بشرته.. ولا تكون السُّفْعَة في اللون إلا سواداً مشترباً حمرة(4).

ويقول: لَفَحَتْه النار: أي أصابت وجهه وأعالي جسده فأحرقت(5).

ههنا يتوقف المؤمن ملياً..

هل لفحت النار وجه الزهراء (عليها السلام) حتى غيّرته؟!

أليس وجهها هو الذي كان يشعُّ ويزهرُ نوراً لأهل المدينة؟

أما روي عن الصادق (عليه السلام) قوله: كَانَ يَزْهَرُ نُورُ وَجْهِهَا صَلَاةَ الغَدَاةِ وَالنَّاسُ فِي فُرُشِهِمْ، فَيَدْخُلُ بَيَاضُ ذَلِكَ النُّورِ إِلَى حُجُرَاتِهِمْ بِالمَدِينَةِ، فَتَبْيَضُّ حِيطَانُهُم‏(6).

لقد كان أهل المدينة يعجبون من ذلك، فيأتون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويسألونه فيرسلهم إلى منزلها (عليها السلام): فَيَرَوْنَهَا قَاعِدَةً فِي مِحْرَابِهَا تُصَلِّي، وَالنُّورُ يَسْطَعُ مِنْ مِحْرَابِهَا مِنْ وَجْهِهَا.

وجهٌ كان النورُ يسطع منه لأهل المدينة، تسفعُهُ النار، وأهلُ المدينة لا حِسٌّ ولا خَبَرُ، بين محاصرٍ لدارِها، ومتخاذلٍ في داره، يسمع واعيتها ولا يجيبها.

أما أمير المؤمنين (عليه السلام)، فما كان حاله؟!

سلام الله عليك يا أمير المؤمنين، في هذه الأيام فَقَدتَ من كانت تزهر لك: فِي النَّهَارِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِالنُّور! فأيُّ فقدٍ هذا!

كانت تزهرُ لك بالنور، ويُزهرُ وجهها لك، فاستعرت النار في بابها وسَفَعَت وجهها!

ماذا حلّ بك يا أمير المؤمنين وأنت ترى ذلك المشهد؟!

أيُّ قلبٍ عظيم قلبك حتى تمكّن من تحمُّل هذه الفاجعة!

إنّ للنار مع عليٍّ قصصاً وروايات ومواقف:

الموقف الأول: أنها ما خُلِقَت لولا إنكار ولايته (عليه السلام)!

ففي الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لَوِ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى حُبِّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لمَّا خَلَقَ الله النَّار(7).

فكيف لا تكون النارُ مِطواعةً له؟! مستجيبةً لأمره؟!

الموقف الثاني: أنّ نور عليٍّ يطفئ لهبَ النار يوم القيامة!

لقد روي عن يوم الجزاء: فَيُقْبِلُ عَلِيٌّ (عليه السلام) وَمَعَهُ مَفَاتِيحُ الجَنَّةِ وَمَقَالِيدُ النَّارِ، حَتَّى يَقِفَ عَلَى شَفِيرِ جَهَنَّمَ، وَيَأْخُذَ زِمَامَهَا بِيَدِهِ، وَقَدْ عَلَا زَفِيرُهَا وَاشْتَدَّ حَرُّهَا وَكَثُرَ شَرَرُهَا. فَتُنَادِي جَهَنَّمُ: يَا عَلِيُّ! جُزْنِي قَدْ أَطْفَأَ نُورُكَ لَهَبِي!

فَيَقُولُ لَهَا عَلِيٌّ (عليه السلام): قِرِّي يَا جَهَنَّمُ، ذَرِي هَذَا وَلِيِّي، وَخُذِي هَذَا عَدُوِّي(8).‏

فواعجباً للنار كيف تقرُّ لعليٍّ (عليه السلام) يوم الجزاء، وتخضع له وتطيعه وهو قسيمها.. وواعجباً لنار الدار كيف اضطرمت واشتعلت وعَلَت حتى سفعت وجه الزهراء!

أما كان حرياً بك يا نار دار الزهراء أن تقتدي بنار جهنم؟! فينطفئ لَهَبُكِ لنور عليٍّ والزهراء.

إنّ لهذه الدنيا قانونها، وقد أبى الله أن تجري الأمور فيها إلا بأسبابها إلا لحكمةٍ، فاشتعلت النار في باب بيت الأمير والصدّيقة، فكان ما كان.

الموقف الثالث: أنّ لوجوه الكفار والمجرمين نصيباً من النار يوم القيامة!

لقد وصف القرآنُ الكريم المجرمين المُقَرَّنين في الأصفاد يوم القيامة فقال: ﴿وَتَغْشى‏ وُجُوهَهُمُ النَّارُ﴾(9)، ووصف الكافرين بأنهم ﴿لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ﴾ (10)، ووَصَفَ من خفّت موازينه وكان يكذِّبُ بآيات الله بأنّهم: ﴿تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فيها كالِحُونَ﴾(11).

ههنا نستعيد عبارة الزهراء (عليها السلام): فَسَقَطْتُ لِوَجْهِي، وَالنَّارُ تُسْعَرُ، وَتَسْفَعُ وَجْهِي! أي تلفح وجهي، ونقارنها مع قوله تعالى: ﴿تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ﴾.

فهل الجزاء في هذه الآية هو عقابٌ لهذا الفعل؟ لما فعلوه بالزهراء (عليها السلام)؟ أم هو عقابٌ عامٌ لكلّ مَن في النار؟

إنّ في الروايات الشريفة إشارات على أنّ أئمة الكفر وقادة الضلال، مستحلّي الحرمة من عليّ والزهراء، هم الأخسرون الذين تلفح وجوههم النار.

ولئن اشترك معهم أهلُ النار في بعض صور هذا العذاب أو سواه، فإنّ لهم عذاباً لا نظير له..

أتُضرَمُ النار بباب الزهراء وتسفَعُ وجهَهَا ثم لا تجازيهم نارُ جهنم؟

لقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله في أهل النار:

وَمِنْهُمْ (أَئِمَّةُ الكُفْرِ وَقَادَةُ الضَّلَالَةِ)، فَأُولَئِكَ لَا يُقِيمُ لَهُمْ وَزْناً، وَلَا يُعْبَأُ بِهِمْ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَهُمْ ﴿فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ﴾ وَ﴿تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ﴾(12).

وفي زيارته (عليه السلام) يوم الغدير:

فَلَعَنَ الله (مُسْتَحِلِّي الحُرْمَةِ مِنْكَ، وَذَائِدي الحَقِّ عَنْكَ)، وَأَشْهَدُ أَنَّهُمُ الأَخْسَرُونَ، الَّذِينَ ﴿تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ‏﴾(13).

وشرُّ هؤلاء الأئمة - أئمة الكفر وقادة الضلال - هم الذين أضرموا النار في بابها حتى سَفَعَت النار وجهها (عليها السلام).

وهذا شيءٌ يسيرٌ من عذابهم، فمن أحرق باب الزهراء لا يُكتفى بأن تلفح النار وجهه وإن كانت جزاءً له، بل يكون حاله: فِي جُبٍّ فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ فِي تَابُوتٍ مُقَفَّلٍ، عَلَى ذَلِكَ الجُبِّ صَخْرَةٌ، إِذَا أَرَادَ الله أَنْ يُسَعِّرَ نَارَ جَهَنَّمَ كَشَفَ تِلْكَ الصَّخْرَةَ عَنْ ذَلِكَ الجُبِّ، فَاسْتَعَاذَتْ جَهَنَّمُ مِنْ وَهَجِ ذَلِكَ الجُب‏(14).

هذا شيءٌ من حَكايا النار.. مع أعداء الزهراء..

لن يُحرَقَ بابها وتسفع النار وجهها دون جزاء.

إنّا لمحكمة العدل الإلهية منتظرون، وللحجة المنتظر في ذكرى شهادة أمّه الزهراء معزّون، فالخطبُ جليل، والفقدُ عظيم.

فإنّا لله وإنا إليه راجعون(15).

 

13. شياطينٌ.. على باب الزهراء!

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ المَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ‏ يَوْمَ القِيامَةِ﴾(16).

لقد روى يَعْقُوبُ الأَحْمَرُ فقال:

دَخَلْنَا عَلَى أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) نُعَزِّيهِ بِإِسْمَاعِيلَ، فَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ:

إِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ نَعَى إِلَى نَبِيِّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) نَفْسَهُ فَقَالَ: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ‏﴾، وَقَالَ: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ المَوْتِ﴾(17).

إنَّ التعزيةَ على الميّت سُنَّةٌ يلتزم بها جُلُّ بني البشر، وتحثُّ عليها الشرائع السماوية، فهذا يعقوب الأحمر أحد أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) يعزيه مع جمعٍ من المؤمنين بابنه اسماعيل.

وقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: مَنْ عَزَّى مُصَاباً كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أَجْرِ المُصَابِ شَيْئاً(18).

وقد كان رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يحثُّ في حياته على تعزية المُصاب، وهو العالم بأنّه سيأتي يومٌ يتوفّاه الله فيه إليه، وكان أن جاء ذلك اليوم، حين استأذن ملك الموت على سيدّ الكائنات وخير المخلوقات، ثم قبضه (صلى الله عليه وآله وسلم).

عن الباقر (عليه السلام): لمَّا قُبِضَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بَاتَ آلُ مُحَمَّدٍ (عليهم السلام) بِأَطْوَلِ لَيْلَةٍ، حَتَّى ظَنُّوا أَنْ لَا سَمَاءَ تُظِلُّهُمْ وَلَا أَرْضَ تُقِلُّهُمْ، لِأَنَّ رَسُولَ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وَتَرَ الأَقْرَبِينَ وَالأَبْعَدِينَ فِي الله(19).

لقد كانت ليلة فقد الرَّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أطولَ ليلةٍ على آل محمد، فالخطب جليلٌ عظيم.

لكن، هل توقع آل محمدٍ تعزيةً من الأمة تُخَفِّفُ عنهم حزنهم؟!

إنّهم العالمون بمآل الأمور، وقد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فكانت أطول ليلة عليهم.

لقد ورد في الحديث: كَفَاكَ مِنَ التَّعْزِيَةِ بِأَنْ يَرَاكَ صَاحِبُ المُصِيبَةِ(20).

ههنا قد يتساءل المؤمن ساخراً:

هل أرادت الأمّة أن تمتثل هذا الحديث، وتعزّي آل محمدٍ (عليهم السلام)، فجاءت إلى باب الدار بالحطب لتحرقه؟!

أوليس في رؤية صاحب المصيبة للمعزّي كفايةٌ؟! فها هي الأمة قد اجتمعت لتعزّي الزهراء (عليها السلام) بأبيها.. لكنَّها تعزيةٌ من نوعٍ خاص! تعزيةٌ بالحطب والنيران!

إنّ لكلّ حزنٍ حدّاً وأَمَداً، ثم يخفف الله عن صاحبه حدّه، ويقصِّرُ أمده، لكنّ حزنَ الزهراء من صنفٍ آخر، إنّه حُزنٌ لا يمكن لنا أن ندرك حقيقته وجوهره وأبعاده، كيف وقد ورد في الحديث أن حزنها (لا يعلمه إلا الله)!

فَهَل محلُّها من النبي كمحلّنا منه (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى يكون حزنها كحزننا؟ أم معرفتها بالنبي كمعرفتنا به؟! وهي بضعته وهَدِيَّةُ الله تعالى إليه.

لقد ورد في الحديث الشريف: إِنَّ الله تَعَالَى لمَّا قَبَضَ نَبِيَّهُ (صلى الله عليه وآله وسلم) دَخَلَ عَلَى فَاطِمَةَ (عليها السلام) مِنْ وَفَاتِهِ مِنَ الحُزْنِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا الله عَزَّ وَجَلَّ، فَأَرْسَلَ الله إِلَيْهَا مَلَكاً يُسَلِّي غَمَّهَا وَيُحَدِّثُهَا(21).

إنّه جبرئيل: كَانَ جَبْرَئِيلُ (عليه السلام) يَأْتِيهَا فَيُحْسِنُ عَزَاءَهَا عَلَى أَبِيهَا(22).

لا يعلمُ مقدارَ حزنها إلا الله عز وجلّ، فمهما تَخَيَّلنا وتَصَوّرنا لن نتمكن من معرفة ما انحصرت معرفته بالله تعالى، وهو الذي أرسل إليها عظيماً من الملائكة يُحسنُ عزاءها.

لكنّ الأمّة ما قَبِلَت بعزاء جبرائيل وحده، فأحبّت أن تشاركه في عزائها، فاجتمعت على باب دارها!

هذه الدار التي كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يستأذن قبل الدخول إليها، كما يروي عمران بن الحصين حين ينقل واقعة ذهابه مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى باب فاطمة:

فَقَامَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وَقُمْتُ مَعَهُ حَتَّى وَقَفَ عَلَى بَابِ فَاطِمَةَ فَقَالَ:

السَّلَامُ عَلَيْكِ يَا بُنَيَّةِ، أَ أَدْخُلُ؟ قَالَتِ: ادْخُلْ يا رَسُولَ الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

قَالَ: أَنَا وَمَنْ مَعِي‏؟(23).

يستأذن (صلى الله عليه وآله وسلم) لنفسه ولمن معه، فإذا لم يسمع جواباً، قَعَدَ جانباً بأبي هو وأمي!

كذلك ينقل ابن عباس فيقول: انْطَلَقْنَا مَعَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فَنَادَى عَلَى بَابِ فَاطِمَةَ ثَلَاثاً، فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، فَمَالَ إِلَى حَائِطٍ فَقَعَدَ فِيهِ وَقَعَدْتُ إِلَى جَانِبِهِ(24).

لقد فقدت الزهراء بِفَقدِ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أعظمٍ شخصٍ في الوجود، وأعزّهم على قلبها، من لا يدخل عليها بغير استئذان، وها هي الأمة تعزيها.

قال سليم: قلت يا سلمان * * * هل هجموا ولم يك استيذان‏

فقـال: اي وعزّة الجبّــار * * * وما على الزّهــراء من خمـار

قُلْتُ لِسَلْمَانَ: أَ دَخَلُوا عَلَى فَاطِمَةَ (عليها السلام) بِغَيْرِ إِذْنٍ؟

قَالَ: إِي وَالله، وَمَا عَلَيْهَا مِنْ خِمَارٍ(25).

هكذا تأتي أمة خاتم الأنبياء لتعزّي بضعته الطاهرة! يقف القوم على باب الزهراء الذي كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يأخذ بعضادتيه ويقول: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ(26).

فكيف كانت تَعزِيَتُهُم للزهراء؟

فَقَالَ عُمَرُ لِفَاطِمَةَ:

أَخْرِجِي مَنْ فِي البَيْتِ وَإِلَّا أَحْرَقْتُهُ وَمَنْ فِيهِ.. وَفِي البَيْتِ عَلِيٌّ وَالحَسَنُ وَالحُسَيْنُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ.

فَقَالَتْ فَاطِمَةُ: أَ فَتُحْرِقُ عَلَى ولدِي؟

فَقَالَ: إِي وَالله، أَوْ لَيَخْرُجُنَّ وَلَيُبَايِعُنَّ(27).

لقد اجتمعت الشياطين على باب الزهراء.. بعدما فُقد الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم).. وعلى رأسهما شيطانان طالما آذيا النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته.

يقول الصادق (عليه السلام): مَا بَعَثَ الله نَبِيّاً إِلَّا وَفِي أُمَّتِهِ شَيْطَانَانِ يُؤْذِيَانِهِ وَيُضِلَّانِ النَّاسَ بَعْدَه(28).‏

فكأنّما ما اكتفيا بأذيته في حياته، وإضلال الأمة من بعده، فأرادا تعزية الزهراء بأسلوبهما! ففعلا ما فعلا.

اللهم إنا ندعوك بما تُدعى به على باب المسجد الحرام: اللهم.. ادْرَأْ عَنِّي شَرَّ شَيَاطِينِ الإِنْسِ وَالجِنِّ، وَشَرَّ فَسَقَةِ العَرَبِ وَالعَجَمِ(29).‏

سلام الله عليك يا زهراء..

أنت من أهل بيتٍ ابتُلي الناس بهم وامتُحِنُوا..

مَن أحبّهم نجا..

ومَن عزّاهم شاركهم في ثوابهم.

ومن اتَّبَعَ شياطين الإنس الذين أحرقوا بابهم كان لجهنم حطباً.

كَفَاكَ مِنَ التَّعْزِيَةِ بِأَنْ يَرَاكَ صَاحِبُ المُصِيبَةِ..

وهذه أيامٌ يرى فيها الإمام الحجّة (عجل الله تعالى فرجه الشريف) من يشترك في عزاء أمّه الزهراء.. كما رأت هي من اشترك في عزاء أبيها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

فإنا لله وإنا إليه راجعون(30).

 

14. إذا سمّيتها فاطمة.. فلا تضربها!

بسم الله الرحمن الرحيم

وَأْدُ البَنَات‏: عادةٌ جاهلية نهى عنها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما نهى، فقد بُعث إلى قوم: قَطَّعُوا أَرْحَامَهُمْ، وَسَفَكُوا دِمَاءَهُمْ، وَدَفَنُوا فِي التُّرَابِ المَوْءُودَةَ بَيْنَهُمْ مِنْ أَوْلَادِهِمْ(31).

لم ترتفع كلُّ تَرَسُّبات الجاهلية بعد عشراتٍ من السنين، فقد تَوَقَّفَ وأدُ البنات، لكن بقي شيءٌ من الكراهية لإنجابهنّ، وقد دخل (السكونيُّ) يوماً على الإمام الصادق (عليه السلام) وهو (مَغْمُومٌ مَكْرُوبٌ)، فسأله الإمام عن غَمِّه، فقال: وُلِدَتْ لِي ابْنَةٌ!

فقال الإمام (عليه السلام): يَا سَكُونِيُّ، عَلَى الأَرْضِ ثِقْلُهَا، وَعَلَى الله رِزْقُهَا، تَعِيشُ فِي غَيْرِ أَجَلِكَ، وَتَأْكُلُ مِنْ غَيْرِ رِزْقِكَ(32).

كلماتٌ عظيمةٌ من إمامٍ عظيم، فلا أنت يا سكوني تحمِلُها ولا أنت ترزقها، فمَن يرزقك يرزقها، لن تأخذ من عمرك شيئاً ولا تشركُك فيما أعطاك الله، بل الرازق لك رازقٌ لها.

سَرَّى الإمام بكلامه عن السكوني فانكشف غمُّه، لكنه (عليه السلام) سأله عن اسمها.

فَقَالَ لِي: مَا سَمَّيْتَهَا؟

قُلْتُ: فَاطِمَةَ.

قَالَ: آهِ آهِ.

يتأوَّهُ الصادق لمّا سمع باسم فاطمة، وكيف لا يتأوّه وهو العالم بمكانتها عند الله ورسوله، وهو العالم بحقيقة ما جرى عليها، كيف لا يتأوّه على مَن ظُلِمَت ولم تتمكّن من بثّ شكواها إلى أحد؟!

لقد بلغنا من ظلامتها عن لسانها في رواية واحدة أنهم:

- فَجَمَعُوا الحَطَبَ الجَزْلَ عَلَى بَابِنَا.

- فَأَخَذَ عُمَرُ السَّوْطَ مِنْ يَدِ قُنْفُذٍ.. فَضَرَبَ بِهِ عَضُدِي‏.

- فَالتَوَى السَّوْطُ عَلَى عَضُدِي حَتَّى صَارَ كَالدُّمْلُج‏.

- وَرَكَلَ البَابَ بِرِجْلِهِ فَرَدَّهُ عَلَيَّ وَأَنَا حَامِل‏.

- فَسَقَطْتُ لِوَجْهِي وَالنَّارُ تُسْعَرُ وَتَسْفَعُ وَجْهِي‏.

- فَضَرَبَنِي بِيَدِهِ حَتَّى انْتَثَرَ قُرْطِي مِنْ أُذُنِي‏.

- وَجَاءَنِي المَخَاضُ فَأَسْقَطْتُ مُحَسِّناً قَتِيلًا بِغَيْرِ جُرْم‏(33).

كلُّ هذه المصائب العظيمة وردت في روايةٍ واحدةٍ عن لسانها! فلو جُمِعَ ما ورد في سائر الروايات لكان عجباً.

رغم كل هذا، روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: فَكَمْ مِنْ غَلِيلٍ مُعْتَلِجٍ بِصَدْرِهَا لَمْ تَجِدْ إِلَى بَثِّهِ سَبِيلًا!(34).

فما الذي جرى عليها فوق ذلك مما اعتلج بصدرها ولم تجد إلى بثه سبيلاً؟! ذاكَ ما يعلمه الله، والإمام، وها هو صادق آل محمد يتأوَّه على أمِّه الصديقة الشهيدة المظلومة، ثمَّ: وَضَعَ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم): حَقُّ الوَلَدِ عَلَى وَالِدِهِ.. إِذَا كَانَتْ أُنْثَى أَنْ يَسْتَفْرِهَ أُمَّهَا: إنَّ من معاني الاستفراه الإكرام، أي يكرمها، فيصير إكرامُ الأم من حقوق الولد على الوالد!

ما أعظم هذا المعنى! وهو حقٌّ مشتركٌ لو كان الولد ذكراً أو أنثى.

ومَن يؤدي حقَّهُ كأمير المؤمنين؟ ومن يُكرِمُ الأمّ أمام أبنائها كعليٍّ (عليه السلام)؟

لطالما رأى الحسن والحسين وزينب (عليهم السلام) أعظم إكرامٍ لأمهم من أبيهم، ثم رأوا ما يثير العجب: أجلافٌ على بابها! طغاةٌ يحرقون دارها! فآه آه مما جرى عليها، وعلى أولادها.

وللأنثى حقٌّ آخر على أبيها، يقول (عليه السلام): وَيَسْتَحْسِنَ اسْمَهَا: وهل من اسمٍ أحسن من (فاطمة) يسميها به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!

السكوني قد أسمى ابنته فاطمة فأدّى هذا الحق على أكمل وجه.

لكنَّ هذا الحق يستتبعُ أمراً آخر: إنّ تَسمِيَتَهَا ب(فاطمة) يوجب عليه حقاً جديداً، لخَصِيصةٍ في اسم (فاطمة)، أليس اسماً لسيدة النساء المظلومة المقهورة؟

يقول (عليه السلام) للسكوني: أَمَّا إِذَا سَمَّيْتَهَا فَاطِمَةَ فَلَا تَسُبَّهَا، وَلَا تَلْعَنْهَا، وَلَا تَضْرِبْهَا(35).

فمن أسمى ابنته فاطمة صار منهياً عن ضربها!

فكيف بفاطمة التي تُسمى الفتيات باسمها؟!

ما حال ضاربها؟! ومُحَرِّق بابها، ومُسقِط جنينها؟

إنَّهم أعرابٌ أجلافٌ، هَمَجٌ رعاع، جفاةٌ قُساة، لا رحمة عندهم ولا لين، لا ذمّة لديهم ولا دين.

تنهى الشريعة عن ضرب أيّ فاطمةٍ في الوجود، حتى في مثل ضرب الأب، وهو ضربُ غالباً ما يكون رقيقاً للتأديب، فينهى الإمام (عليه السلام) السكونيَّ عن أن يضرب ابنته فاطمة.. لكنّ فاطمة ابنة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) تضرب، وأيُّ ضربٍ!

لقد استبدلت بعد العز مع الرسول وابن عمِّه ضرباً من القساة الجفاة.. فلا تُضرَبَنَّ بعد ذلك أيُّ فاطمة!

هي رسالةٌ لمن في قلبه مقدارُ ذرّةٍ من عَدلٍ وإنصاف: كلُّ (فاطمةٍ) مكرّمةٌ لاسمها، وفاطمة الصديقة الكبرى تُهان ويعتدى عليها! ثم توالي الأمّة هؤلاء المعتدين، وتجعلهم خلفاء لله في أرضه؟!

أما فيكم أيُّها المسلمون عِرقٌ ينبض؟ أما فيكم ذَرَّةٌ من شرفٍ وضمير؟!

سيبقى الخنوع رفيقاً للمسلمين، ما لم يبرؤوا وسائر الدنيا ممن ضرب فاطمة (عليه السلام) وقَتَلَها..

وإنا لله وإنا إليه راجعون(36).

 

15. لِمَ لَم تسامح الزهراء؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ الله يُحِبُّ المُحْسِنينَ﴾ (37).

في الآية المباركة خطابٌ إلهيٌّ من الله تعالى، يأمر فيه نبيَّه بالعفو والصَّفح، فهو مِن خَيرِ خِصال المحسنين، وقد أشرَكَ تعالى المؤمنين في أمثاله فقال: ﴿فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا﴾ (38)، وقال تعالى: ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى‏﴾(39).

تُثيرُ هذه الآيات سؤالاً في أيام الزهراء (عليه السلام):

لِمَ لَم تعفُ الزهراء وتصفَح وتُسامح ظالميها؟! أليست أقربَ الناس لأبيها (صلى الله عليه وآله وسلم)؟! هل مَن يعلم تعاليمه كما تعلم؟! ويلتزم بها كما تلتزم؟! فلماذا لم تسامح من ظَلَمَها أبداً حتى شهادتها؟! وهي التي روى البخاري أنّها: غضبت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فهجرت أبا بكر فلم تزل مهاجرته حتى توفيت(40).

وروى الحاكم وغيره بسندٍ صحيح قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لها: إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك(41).

فلماذا غضبت عليهما؟ وفي غضبها غضب الجبار، ولماذا ظلّت تدعو عليهما حتى ماتت؟ وقد قالت لهما: ولئن لقيتُ النبيّ لأشكونكما إليه..

وقالت للأول منهما: والله لأدعون الله عليك في كل صلاة أصليها(42).

فهل أن الأمر بالصفح والعفو لم يكن عاماً؟ أمس أن القوم ما كانوا مستحقين لذلك؟ وإذا كانت (عليها السلام) لا تفعل إلا ما هو راجحٌ، فكيف صار العفو عنهم مرجوحاً؟

نعود إلى كتاب الله تعالى، فنرى أنّها ما حادَت عنه يوماً وهي المعصومة المطهّرة، ويتضح من كتاب الله والسنة أمورٌ منها:

الأمر الأوّل: أن العفو ليس ممدوحاً دائماً

فإنَّ من الناس من يستحق العفو ومنهم من لا يستحقه، وقد قال تعالى: ﴿إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمينَ﴾(43)، وقد روي عن الباقر (عليه السلام) قوله: نزلت في التَّيميّ والعَدويّ والعشرة معهما(44).

لقد نزلت الآية المباركة في الأوّل والثاني، فما استحقّا عفوَ الزهراء (عليها السلام)، وما كان العفو بحقِّهما راجحاً.

الأمر الثاني: أن الله أولى بالعفو لو كان راجحاً

واللهُ تعالى ما عفى عنهم، فعُلِمَ بذلك عدم استحقاقهم للعفو، لأنّهم المصداق الأبرز لقوله تعالى ﴿إِنَّ الَّذينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَريقاً﴾(45).

وقد روي عن الصادق (عليه السلام) أنّها نزلت في الذين: ظَلَمُوا آلَ مُحَمَّدٍ حَقَّهُم(46).‏

وهؤلاء أئمة الظالمين لآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

الأمر الثالث: أن النبي والإمام أولى بالعفو لو كان راجحاً

وما عفى النبيُّ ولا الإمام عنهم، ففي الحديث عن الباقر (عليه السلام) في الأول والثاني:

فَوَ الله مَا مَاتَ مِنَّا مَيِّتٌ قَطُّ إِلَّا سَاخِطاً عَلَيْهِمَا، وَمَا مِنَّا اليَوْمَ إِلَّا سَاخِطاً عَلَيْهِمَا، يُوصِي بِذَلِكَ الكَبِيرُ مِنَّا الصَّغِيرَ، إِنَّهُمَا ظَلَمَانَا حَقَّنَا وَمَنَعَانَا فَيْئَنَا وَكَانَا أَوَّلَ مَنْ رَكِبَ أَعْنَاقَنَا، وَبَثَقَا عَلَيْنَا بَثْقاً فِي الإِسْلَامِ لَا يُسْكَرُ أَبَداً حَتَّى يَقُومَ قَائِمُنَا..

وَالله مَا أُسِّسَتْ مِنْ بَلِيَّةٍ وَلَا قَضِيَّةٍ تَجْرِي عَلَيْنَا أَهْلَ البَيْتِ إِلَّا هُمَا أَسَّسَا أَوَّلَهَا، فَعَلَيْهِمَا لَعْنَةُ الله وَالمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِين‏(47).

وقوله (عليه السلام) (مَا مَاتَ مِنَّا مَيِّتٌ قَطُّ إِلَّا سَاخِطاً عَلَيْهِمَا) يشمل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وسائر الأئمة المعصومين (عليهم السلام)، أفهل تُخَالِفُ الزهراءُ ربَّها وأباها رسول الله وبعلَها وأبناءها المعصومين (عليهم السلام)؟!

لقد استحقّا السخط من الله ورسوله والأئمة والمؤمنين بما أسّسا لكلِّ بلاء وقع على آل محمد (عليهم السلام).

الأمر الرابع: أنهما ما آمنا بالله طرفة عين

فهما لذلك لا يستحقان العفو، فقد: أَسْلَمَا طَمَعاً(48)، وصرّح الثاني منهما بأنه غير مؤمن بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين حَدَّثَ عن هجومه على دارها (عليها السلام) فقال:

فَسَمِعْتُ لَهَا زَفِيراً وَبُكَاءً، فَكِدْتُ أَنْ أَلِينَ وَأَنْقَلِبَ عَنِ البَابِ، فَذَكَرْتُ أَحْقَاد عَلِيٍّ، وَوُلُوعَهُ فِي دِمَاءِ صَنَادِيدِ العَرَبِ، وَكَيْدَ مُحَمَّدٍ وَسِحْرَهُ، فَرَكَلْتُ البَاب(49).‏

وعن الباقر (عليه السلام): وَإِنَّ الشَّيْخَيْنِ فَارَقَا الدُّنْيَا وَلَمْ يَتُوبَا، وَلَمْ يَتَذَكَّرَا مَا صَنَعَا بِأَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام)(50).

الأمر الخامس: أنّهما من الأئمة الدُّعاة إلى النار

ومَن كان كذلك لزمت البراءة منه، قال تعالى: ﴿وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ القِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ﴾(51).

وقد اجتمعت فيهما صفاتُ إمام الجور، فعن الباقر (عليه السلام) في صفات هؤلاء الأئمة:

1. يُقَدِّمُونَ أَمْرَهُمْ قَبْلَ أَمْرِ الله.

2. وَحُكْمَهُمْ قَبْلَ حُكْمِ الله.

3. وَيَأْخُذُونَ بِأَهْوَائِهِمْ خِلَافاً لِمَا فِي كِتَابِ الله‏(52).

وهم بغاةُ حكم الجاهلية، الذين قالت لهم (عليها السلام):

وَأَنْتُمُ الآنَ تَزْعُمُونَ أَنْ لَا إِرْثَ لَنَا، ﴿أَ فَحُكْمَ الجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾(53).

فإذا كان الله تعالى لم يعفُ عنهم، أفهل يكون هؤلاء محلّ عفو النبيّ والزهراء والأئمة المعصومين؟!

وإذا كانت المصيبة التي أوقعوها على الزهراء (عليها السلام) قد أورثت علياً (عليه السلام) كمَداً وهمّاً، حتى قال (عليه السلام): فَمَا أَقْبَحَ الخَضْرَاءَ وَالغَبْرَاءَ(54).

فهل للشيعي أن يُسامح في ذكرى الزهراء؟! وأن يعفو عمّن استحق غضب الله تعالى؟!

لهذا وغيره ما سامحت الزهراء.. وما سامح الشيعة يوماً.. وسيأتي أمرُ الله تعالى.. فإنا منتظرون..

والحمد لله رب العالمين(55).

 

16. فَصَعِقَ عليٌّ.. حَتَّى سَقَطَ عَلَى وَجْهه!!

بسم الله الرحمن الرحيم

لقد قَرَنَ الله تعالى بين (الإمامة) و(الصبر) فقال: ﴿وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لمَّا صَبَرُوا﴾(56).

وعن الباقر (عليه السلام): نَزَلَتْ فِي وُلْدِ فَاطِمَةَ (عليهم السلام)‏(57).

هم أحد عشر نوراً، وأبوهم عليٌّ: الإِمَامُ أَبُو الأَئِمَّةِ الزُّهْر(58).

ولما كانت الإمامةُ أعلى المراتب عند الله تعالى، لَزِمَ أن يكون الصبرُ في الآية متناسباً مع علوّ درجتها، وأن يكون صَبرُ كلّ صابرٍ دونَ صبر الإمام، فأيُّ صَبرٍ هذا الذي تَحَمَّلَهُ الأئمة (عليهم السلام) حتى جعلهم الله أئمةً؟! وكيف كان صبرهم؟

إنّ الصبرَ غالباً ما يكون على نزول البلاء، لكنّ هناك صبراً آخر عايَشَهُ أميرُ المؤمنين والأئمة (عليهم السلام) قبل نزول البلاء.

وبما أنّ الله تعالى جَعَلهم أئمةً يهدون بأمره، وبَشَّرَ بذلك نبيَّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنّه تعالى أعلمَهُمُ بما يجري عليهم مِن قَتلٍ وظُلمٍ وتَسَلُّطٍ للطواغيت، ولمّا سُئِلَ الإمامُ الباقرُ عمّا يقع عليهم، قال (عليه السلام):

يَا حُمْرَانُ، إِنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ كَانَ قَدَّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَقَضَاهُ وَأَمْضَاهُ وَحَتَمَهُ، ثُمَّ أَجْرَاهُ. فَبِتَقَدُّمِ عِلْمِ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَسُولِ الله قَامَ عَلِيٌّ وَالحَسَنُ وَالحُسَيْنُ، وَبِعِلْمٍ صَمَتَ مَنْ صَمَتَ مِنَّا(59).

لا يخفى على الإمام المعصوم إذاً شيءٌ مما يَجري عليه، فكلُّه في قضاء الله وقدره الممضى والمحتوم، الذي أجراه الله تعالى عليهم، وعِلمُهم سابقٌ لما يجري بتعليمٍ من الله تعالى.

لكن كيف وَصَلَ هذا العلم إلى الأئمة (عليهم السلام)؟

إنّ من أبواب علومهم (وصية) يتناقلونها، تتضمّن هذا العلم وسواه، وقد دلّت الأخبار على أحداثٍ عظيمة جرت أثناء إنزال الله تعالى هذه الوصية.

الحدث الأول: الاجتماع العظيم

لقد روي عن الإمام الكاظم (عليه السلام) أنَّه قال:

نَزَلَتِ الوَصِيَّةُ مِنْ عِنْدِ الله كِتَاباً مُسَجَّلًا، نَزَلَ بِهِ جَبْرَئِيلُ مَعَ أُمَنَاءِ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنَ المَلَائِكَةِ.

فَقَالَ جَبْرَئِيلُ: يَا مُحَمَّدُ، مُرْ بِإِخْرَاجِ مَنْ عِنْدَكَ إِلَّا وَصِيَّكَ، لِيَقْبِضَهَا مِنَّا وَتُشْهِدَنَا بِدَفْعِكَ إِيَّاهَا إِلَيْهِ ضَامِناً لَهَا، يَعْنِي عَلِيّاً (عليه السلام).

فَأَمَرَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بِإِخْرَاجِ مَنْ كَانَ فِي البَيْتِ مَا خَلَا عَلِيّاً (عليه السلام)، وَفَاطِمَةُ فِيمَا بَيْنَ السِّتْرِ وَالبَابِ(60).

لقد كان اجتماعاً عجيباً عظيماً، ضَمَّ خيرَ خلقِ الله محمدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم)، ووصيَّه أمير المؤمنين (عليه السلام)، وفاطمة بضعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) معهم فيما بين الستر والباب، وجبرائيل أمين الله على وحيه، مع جمعٍ من الملائكة (أمناء الله)، ومعهم (الوصيّة) كتاباً مسجّلاً من عند الله تعالى.

إنّهم صَفوَة الخليقة، يجتمعون لأجل دفع وصية الله تعالى للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ووصيّتهما لأمير المؤمنين (عليه السلام)، وفي الوصيّةِ عهدٌ من الله تعالى للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وشرطٌ عليه، بشهادة الله تعالى وكفى به شهيداً، وبشهادة الملائكة الأمناء.

الحدث الثاني: حال النبي (ص)!

يقول الإمام (عليه السلام): فَارْتَعَدَتْ مَفَاصِلُ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)!

خيرُ خلق الله هو أشَدُّهم خشيةً من الله تعالى، وقد ارتعدت مفاصله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل أن يستلم الوصية، بمجرّد أن سمع من جبرائيل أنّها (عَهدُ الله وشَرطه)، فأيُّ خشيةٍ هذه من الله تعالى؟ وأيُّ معرفةٍ له بالله عزّ وجل؟!

قال عز وجل: ﴿إِنَّما يَخْشَى الله مِنْ عِبادِهِ العُلَماءُ﴾(61)، وَمَن أعلَمُ مِن محمدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم) بالله، فمن يخشاه تعالى كرسوله المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)؟

ثم لمّا استلم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الوصية، ذَكَرَ العهد لأمير المؤمنين (عليه السلام)، وشَهِدَ أميرُ المؤمنين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالبلاغ والنصيحة والتصديق، وشهد لهما جبرائيل بذلك، وانتقلت الوصية إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقد ضَمِنَ (عليه السلام) لله تعالى وللنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الوفاء بها.

لقد كان في وصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمر الله تعالى: (مُوَالاةِ مَنْ وَالَى الله وَرَسُولَهُ) و(البَرَاءَةِ وَالعَدَاوَةِ لِمَنْ عَادَى الله وَرَسُولَهُ).

هي الوصيَّةُ التي أخبر بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) علياً (عليه السلام) بـ (انْتِهَاكِ حُرْمَتِه)!

يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): لَقَدْ سَمِعْتُ جَبْرَئِيلَ (عليه السلام) يَقُولُ لِلنَّبِيِّ:

يَا مُحَمَّدُ: عَرِّفْهُ أَنَّهُ يُنْتَهَكُ الحُرْمَةُ، وَهِيَ حُرْمَةُ الله وَحُرْمَةُ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وَعَلَى أَنْ تُخْضَبَ لِحْيَتُهُ مِنْ رَأْسِهِ بِدَمٍ عَبِيطٍ.

إنَّ جبرائيل (عليه السلام) يطلب من رسول الله أن يذكُرَ لعليٍّس ما يجري عليه، و(أَنَّهُ يُنْتَهَكُ الحُرْمَةُ).

الحدث الثالث: فَصَعِقَ عليٌّ!!

عليٌّ أول الأئمة الذين جعلهم الله أئمةً (لمّا صبروا)، ولقد عَلِمَ بانتهاك حرمته، وهي حرمة الله وحرمة رسوله، فحلّ به ما لا يكاد يُصَدَّق.

قَالَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): فَصَعِقْتُ حِينَ فَهِمْتُ الكَلِمَةَ مِنَ الأَمِينِ جَبْرَئِيلَ، حَتَّى سَقَطْتُ عَلَى وَجْهِي!

عليٌّ الذي عَجِزَ عن مجاراته كلُّ الرجال، وكان أوحدياً في كلّ بطولاته، عليٌّ مَن لا فتى سواه، يصعق لمّا (يسمع) بمضمون الوصية! ويُغشى عليه حتى يسقط على وجهه!

ما أمكن أن يسقط عليٌّ في ساحات الجهاد، لكن (سماعه) بانتهاك حرمته صعقه فغشي عليه! وقد أخبرتنا الزهراء عن هذا الانتهاك، فكان مما قالت أرواحنا لها الفداء: وَرَكَلَ البَابَ بِرِجْلِهِ، فَرَدَّهُ عَلَيَّ وَأَنَا حَامِلٌ، فَسَقَطْتُ لِوَجْهِي، وَالنَّارُ تُسْعَرُ، وَتَسْفَعُ وَجْهِي! فَضَرَبَنِي بِيَدِهِ حَتَّى انْتَثَرَ قُرْطِي مِنْ أُذُنِي‏، وَجَاءَنِي المَخَاضُ فَأَسْقَطْتُ مُحَسِّناً قَتِيلًا بِغَيْرِ جُرْم!!

لقد سقَطَ عليٌّ على وجهه، قبل أن تسقط الزهراء على وجهها، مُذ سَمِعَ بما يجري عليها!

ههنا صارَ عليٌّ مكلَّفاً بصَبرين إذاً:

1. الصبرُ على ما عَلِمَ من وقوع المصيبة.

2. والصبرُ على المصيبة بعد وقوعها.

والصبرُ لا يفارق عليَّاً، حتى لو غُشيَ عليه، فإنَّه يظلُّ الصابر الأكبر، يقول مبدياً قبوله الوصية وصبره على ما يجري:

نَعَمْ قَبِلْتُ وَرَضِيتُ، وَإِنِ انْتَهَكَتِ الحُرْمَةُ، وَعُطِّلَتِ السُّنَنُ، وَمُزِّقَ الكِتَابُ، وَهُدِّمَتِ الكَعْبَةُ، وَخُضِبَتْ لِحْيَتِي مِنْ رَأْسِي بِدَمٍ عَبِيطٍ (صَابِراً مُحْتَسِباً) أَبَداً حَتَّى أُقْدِمُ عَلَيْكَ.

نعم لقد صَبَرَ عليٌّ.. ولكن أيّ قلبٍ يمتلك عليٌّ؟! حتى تمكن من الصبر يوم الدار؟! لقد صعقه (خبر انتهاك حرمته) حرمة الله ورسوله، فما حالُ قَلبه لمّا رأى انتهاك الحُرمة أمام ناظريه!

لم يكن الصبرُ صبرَ عليّ وحدَه، فقد شَرِكتهُ الزهراء والحسنان في العِلم بما يجري، والصبر عليه، وقالوا مثل قوله!

ثُمَ‏ دَعَا رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فَاطِمَةَ وَالحَسَنَ وَالحُسَيْنَ، وَأَعْلَمَهُمْ مِثْلَ مَا أَعْلَمَ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، فَقَالُوا مِثْلَ قَوْلِهِ، فَخُتِمَتِ الوَصِيَّةُ بِخَوَاتِيمَ مِنْ ذَهَبٍ لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ، وَدُفِعَتْ إِلَى أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام)(62).

هكذا هم آل محمد (عليهم السلام)، أَصبَرُ مَن عليها، بِعِلمٍ قامَ من قام منهم، وبِعِلمٍ صَمَتَ من صَمَتَ منهم، وقلوبُهم مَهمومةٌ همّاً لا نظير له.

وأميرهم هو القائل: أَمَّا حُزْنِي فَسَرْمَدٌ، وَأَمَّا لَيْلِي فَمُسَهَّدٌ، وَهَمٌّ لَا يَبْرَحُ مِنْ قَلْبِي.. كَمَدٌ مُقَيِّحٌ وَهَمٌّ مُهَيِّجٌ(63).

هذا حُزنُ عليٍّ وهَمُّه، أمّا الزهراء: فَكَمْ مِنْ غَلِيلٍ مُعْتَلِجٍ بِصَدْرِهَا لَمْ تَجِدْ إِلَى بَثِّهِ سَبِيلًا!

أيعجَبُ العاقلُ إذاً لبكاء الشيعة قرناً بعد قرن؟! وقد أبكَت مصيبتهم ملائكة السماء! أيعجبُ العاقل من إحياء ذكرهم وقد انتُهكت حرمة الله وحرمة الرسول بهم (عليهم السلام)؟!

إنّها مصيبةٌ بعينِ الله، صَبَرَ عليها المطّهرون، فأنزل الله تعالى فيهم قرآناً يُتلى آناء الليل وأطراف النهار: ﴿وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لمَّا صَبَرُوا﴾(64).

عظم الله أجرَك يا خاَتم الهادين، يا صاحب الزمان، وأنت الصابر كجدك أمير المؤمنين، وجدّتك الزهراء.. وإنا لله وإنا إليه راجعون(65).

 

17. واستخفّت قريشُ.. بِعَليٍّ والزهراء!

بسم الله الرحمن الرحيم

خَطَبَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فَقَالَ: مَا لَنَا وَلِقُرَيْشٍ، شَيَّدَ الله بُنْيَانَهُمْ بِبُنْيَانِنَا.

لقد رفعَ الله قدرَ قريش بمحمدٍّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبآله الأطهار (عليهم السلام)، فكانوا سبباً في تشييد بنيانها وسيادتها الدنيا به (صلى الله عليه وآله وسلم).

وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟

لكن قريشاً ما جازت محمداً وآله بالإحسان، بل ما شكَرَت ربَّ محمدٍ حيث شيّد بنيانها به، بل (نقمت على الله تعالى) أن قدّم آل محمد فيهم!!

يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) عن قريش: وَأَعْلَى الله فَوْقَ رُءُوسِهِمْ رُءُوسَنَا، وَاخْتَارَنَا الله عَلَيْهِمْ، فَنَقَمُوا عَلَيْهِ أَنِ‏ اخْتَارَنَا عَلَيْهِمْ، وَسَخِطُوا مَا رَضِيَ الله، وَأَحَبُّوا مَا كَرِهَ الله!!

نَقَمَت قريشُ أولاً على الله تعالى! حيث اختار آل محمد ورفع قدرَهم وأعزّ شأنهم، أفلا تنقم على محمدٍ وآله ثانياً؟!

ما ظَهَرَ من آل محمدٍ لقريش إلا الفضل والرعاية، يقول (عليه السلام): فَلمَّا اخْتَارَنَا عَلَيْهِمْ شَرَّكْنَاهُمْ فِي حَرِيمِنَا، وَعَرَّفْنَاهُمُ الكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَعَلَّمْنَاهُمُ الفَرَائِضَ وَالسُّنَنَ، وَحَفَّظْنَاهُمُ الصِّدْقَ وَاللِّينَ، وَدَيَّنَّاهُمُ الدِّينَ وَالإِسْلَامَ.

فنقلهم الله بمحمّدٍ وعترته (عليهم السلام) من ذُلِّ الكفر والجهل والكذب، إلى عزّ الإسلام والعلم والصدق، ولكن ما نفعهم ذلك، فما قابلوا الإحسان بالإحسان.

يقول (عليه السلام): فَوَثَبُوا عَلَيْنَا، وَجَحَدُوا فَضْلَنَا، وَمَنَعُونَا حَقَّنَا.

ليس الروم هم الواثبون على آل محمد، ولا التُّرك هم الجاحدون فضلَهم، ولا الفُرس مَن منعهم حقّهم.

إنّها قريش، قامت بكلّ ذلك! مع ما لآل محمد من الفضل عليها!

وهذا عليٌّ كاظم الغيظ، الحليم الذي يعفو عمّن ظلمه، ما وَجَدَ لقريش محملاً ليعفو عنهم بعد فعلتهم هذه، فخاطب ربه عز وجل:

اللهمَّ فَإِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى قُرَيْشٍ، فَخُذْ لِي بِحَقِّي مِنْهَا.

فما أعظم تلك الظُلامة!

قريشُ صارت عَدوّةً لآل محمد، ومن كان لهم عدواً كان لله عدواً، والله المطالِبُ بحقِّهِ يوم الجزاء.

ماذا فعلت قريشُ معك يا أمير المؤمنين؟ يقول (عليه السلام): فَإِنَّ قُرَيْشاً صَغَّرَتْ قَدْرِي: ماذا يعني ذلك؟

لقد رفع الله قدرَ عليٍّ، لكن قريشاً صغّرت قدره! فصغّروا ما عظّم الله!

تروي فاطمة بنت أسد (عليها السلام) ما جرى بعد ولادتها لعلي (عليه السلام) في الكعبة فتقول: فَلمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَخْرُجَ وَوَلَدِي عَلَى يَدَيَّ هَتَفَ بِي هَاتِفٌ:

يَا فَاطِمَةُ، سَمِّيهِ عَلِيّاً، فَأَنَا العَلِيُّ الأَعْلَى، وَإِنِّي خَلَقْتُهُ مِنْ قُدْرَتِي، وَعِزِّ جَلَالِي، وَقِسْطِ عَدْلِي، وَاشْتَقَقْتُ اسْمَهُ مِنْ اسْمِي، وَأَدَّبْتُهُ بِأَدَبِي‏(66).

هذا قدرُ عليٍّ الذي صغّرته قريش، الله تعالى يشتق له اسماً من اسمه، ويخلقه من قدرته وعز جلاله، وقريشُ تصغِّرُ قدره، فأي عدوٍّ أعدى لله من هؤلاء؟!

هذا ما فَعَلَتهُ بعليٍّ (عليه السلام)، وما اكتفت بذلك، بل استحلّت محارمه، واستخفّت بعرضه وعشيرته! يقول (عليه السلام): وَاسْتَحَلَّتِ المَحَارِمَ مِنِّي، وَاسْتَخَفَّتْ بِعِرْضِي وَعَشِيرَتِي!

كم وكم قد استحلوا منك (المحارم) يا علي! ولئن صبرتَ على ذلك، فكيف صبرت على أشدّ ما استحلوه! انتهاكهم لحرمة الزهراء (عليها السلام)! وضربها وإحراق بابها وإسقاط جنينها؟!

وَاسْتَخَفَّتْ بِعِرْضِي: تارةً يراد من (عِرْض الإنسان): نَفسُه.. وتارة أخرى: حَسَبُه(67)، أي: الشرف الثابت في الآباء(68)، وثالثةً يراد به: جانبه الذي يَصُونُه من نفسه وحسَبِه، ويُحامي عليه أن يُنتقَص ويثلب عليه(69).

وقد استخفّت قريشُ من عليٍّ بكلّ هذه المعاني! فطعنوا في شخصه، وفي آبائه، وفيمن يلوذ به ويحامي هو عنه: تلك هي الزهراء، حيث كان لها نصيبٌ من هذا الاستخفاف، وهي حرمةُ الله تعالى، وحرمة رسوله ووليه.

والهفي لها، مما جرى عليها، وقد روي في الحديث: الوَيْلُ لِمَنِ اسْتَخَفَّ بِحُرْمَةِ مُحَمَّدٍ، وَطُوبَى لِمَنْ عَظَّمَ حُرْمَتَه(70).‏

ما عظّمت قريش حرمة محمدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته، حتى قال (صلى الله عليه وآله وسلم): قَدْ صَبَرْتُ فِي نَفْسِي وَأَهْلِي وَعِرْضِي، وَلَا صَبْرَ لِي عَلَى ذِكْرِ إِلَهِي‏، فأمره الله عزّ وجل بالصبر ﴿فَاصْبِرْ عَلى‏ ما يَقُولُون﴾.

ولا عند وفاته، وقد قال عليٌّ (عليه السلام): وَاسْتَحَلَّتِ المَحَارِمَ مِنِّي، وَاسْتَخَفَّتْ بِعِرْضِي وَعَشِيرَتِي!

ولا تَغَيَّرَ نهجُها بعد مرور السنين، إلا مزيداً من الظلم والعتو، فكانت سبباً في إضلال غيرها، وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إِنَّ قُرَيْشاً قَدْ أَضَلَّتْ أَهْلَ دَهْرِهَا وَمَنْ يَأْتِي مِنْ بَعْدِهَا مِنَ القُرُونِ(71).

ثم ألَّبَت الأمةَ كلَّها عليهم، وكان من آثار ذلك ما تُظهِرُهُ كلمات الحوراء زينب (عليها السلام) مخاطبةً قَتَلَة أخيها الحسين (عليه السلام):

وَيْلَكُمْ، أَيَّ كَبِدٍ لِمُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم) فَرَثْتُمْ، وَأَيَّ عَهْدٍ نَكَثْتُمْ، وَأَيَّ كَرِيمَةٍ لَهُ أَبْرَزْتُمْ، وَأَيَّ حُرْمَةٍ لَهُ هَتَكْتُمْ، وَأَيَّ دَمٍ لَهُ سَفَكْتُمْ(72).

هؤلاء هم الأُوَل الذين تواليهم الأمة! أَفَهَل يُلام الشيعة على براءتهم ممن انتهك حرمة إمامهم واستخفّ بعرضه؟!

أمَا خاطبت الزهراء عامّتهم قائلة:

أَ أُهْضِمَ تُرَاث أَبِي وَأَنْتُمْ بِمَرْأًى مِنِّي وَمَسْمَعٍ.. وَأَنْتُمْ ذَوُو العَدَدِ وَالعُدَّةِ وَالأَدَاةِ وَالقُوَّةِ، وَعِنْدَكُمُ السِّلَاحُ وَالجُنَّةُ، تُوَافِيكُمُ الدَّعْوَةُ فَلَا تُجِيبُونَ، وَتَأْتِيكُمُ الصَّرْخَةُ فَلَا تُغِيثُونَ!

أما كانت حجة الله تامة برسول الله وأمير المؤمنين والزهراء؟!

بُؤْساً لِقَوْمٍ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ.. وبؤساً لأمّة ما تبرأت منهم.

وإنا لله وإنا إليه راجعون(73)..

 

18. آداب (اقتحام الأبواب)!! وافطمتاه..

بسم الله الرحمن الرحيم

قال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى‏ أَهْلِها﴾(74).

وقال تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُم﴾(75).

إنّ للناس في تعاملها مع البيوت والأبواب نهجين:

النهج الأول: نهج أهل الإيمان

وتُمَثِّلُه الآيات المتقدّمة، فقد أقرَّ الله تعالى حرمة البيوت، ومَنَعَ من دخولها بغير استئذان، فمن سلَّم وأُذِنَ له دخل، ومَن لم يؤذن له رجع، وقد خصّت الآية الثانية بالذكر بيوت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فَحُرمَةُ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أعظم من كلّ حرمةٍ في الوجود.

وكان مِن أَدَبِ المؤمن وقوفُه عند الأبواب وانتظاره أن تُفتح أو يؤذن له، بل كان من آداب الزيارة طَرقُ الأبواب، حتى صار طرقُها مقروناً بفتح أبواب السماء!

ففي الخبر عن الباقر والصادق (عليهما السلام): أَيُّمَا مُؤْمِنٍ خَرَجَ إِلَى أَخِيهِ يَزُورُهُ عَارِفاً بِحَقِّهِ، كَتَبَ الله لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ حَسَنَةً، وَمُحِيَتْ عَنْهُ سَيِّئَةٌ، وَرُفِعَتْ لَهُ دَرَجَةٌ، وَإِذَا طَرَقَ البَابَ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ(76).

هكذا تُحفظ الحُرُمات، ويرضى الرب العزيز، بِطَرقِ المؤمن بابَ أخيه المؤمن، والاستئذان قبل دخوله، فيفتح الله له أبواب السماء، وتنزل عليه رحمة الله من أوسع أبوابها.

النهج الثاني: نهج أهل الكفر والنفاق

وتمثِّلُه فئتان:

1. بنو إسرائيل.

2. قوم لوط.

الفئة الأولى: بنو إسرائيل

لقد روى أبو ذرٍ الغفاري رحمه الله، مَن لم تقلّ الغبراء أصدقَ لهجةً منه، حديثاً عن سيّد الكائنات (صلى الله عليه وآله وسلم) حين قال: إِنَّ مَثَلَ أَهْلِ بَيْتِي فِيكُمْ كَسَفِينَةِ نُوحٍ، وَكَمَثَلِ بَابِ حِطَّةٍ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ(77).

إنَّ أهلَ البيت.. كَمَثَلِ بَابِ حِطَّةٍ، فما قصة باب حطة؟

قال تعالى عن بني إسرائيل: ﴿وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا البابَ سُجَّداً﴾(78).

وروي عن الباقر (عليه السلام) قوله: كان بنو إسرائيل أخطئوا خطيئة، فأحب الله أن ينقذهم منها إن تابوا، فقال لهم: إذا انتهيتم إلى باب القرية فاسجدوا وَقُولُوا حِطَّةٌ تنحط عنكم خطاياكم، فأما المحسنون ففعلوا ما أمروا به، وأما الذين ظلموا فزعموا (حنطة) حمراء، فبدَّلوا، فأنزل الله تعالى عليهم رجزاً(79).

فأمرهم الله بالسجود أولاً، وبأن يقولوا (حِطَّة) ثانياً ليحطّ ذنوبهم، لكن بنو إسرائيل ما رضوا أن يتأدّبوا بآداب الله ويلتزموا بأمره، ويسجدوا أمام بابه ويمتثلوا أمره، فأنزل الله عليهم رجزاً، فكانوا نموذجاً لأهل الكفر والنفاق.

وقد ورد في الخبر عن الإمام العسكري (عليه السلام) قوله: مَثَّلَ الله تَعَالَى عَلَى البَابِ مِثَالَ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم) وَعَلِيٍّ (عليه السلام) وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْجُدُوا تَعْظِيماً لِذَلِكَ المِثَالِ(80).

فكان الأمرُ بالسجود لله تعالى تعظيماً لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وعليٍّ (عليه السلام).

ثم جعل الله آل محمد في هذه الأمة كَبَابِ حطّة في بني إسرائيل، فحَقَّ على من أراد أن يقف على أبوابهم أن يسجُدَ لله تعالى تعظيماً لهم.

ولمّا كانت هذه الأمة قد حَذَت حذو الأمم السابقة حذو النعل بالنعل، فإنّها ما خالفت بني إسرائيل في ذلك.

أما بنو إسرائيل، فإنهم: لَمْ يَسْجُدُوا كَمَا أُمِرُوا، وبدّلوا قولاً غير الذي قيل لهم.

وأمّا هذه الأمة، فما سجدت لله تعالى عندما وقفت على (باب حطّتها)، بل جمعت الحطب وأحرقت باب دارِ من كانوا أبوابها لله تعالى!

بابُ حطّة هذه الأمة، بِهِ تُغفر الذنوب وتُمحى السيئات، وأمامه ينبغي لله السجود.. به تنزل رحمة السماء إلى الأرض، ويستحق العباد الزيادة من ربهم.

لكنّ الأمة كبني إسرائيل، ما احترمت باب من كان باباً لعلم النبيّ، وما وقفت عند باب الزهراء رحمةِ الله في الأرض.

الفئة الثانية: قوم لوط

وقد كان لهم آدابهم الخاصة، إنهم أهل (اقتحام الأبواب)!

ففي الخبر عن الباقر (عليه السلام) أنّهم اجتمعوا على باب لوط (عليه السلام) فقال: لَوْ أَنّ‏ لِي أَهْلَ بَيْتٍ يَمْنَعُونِّي مِنْكُمْ..

وَتَدَافَعُوا عَلَى البَابِ وَكَسَرُوا بَابَ لُوطٍ وَطَرَحُوا لُوطاً!(81).

هي (ثقافة كسر الأبواب) مِن أخسِّ خلق الله وأحقرهم، انتقلت مِنهُم إلى هذه الأمة، حين أَبَى رموز السقيفة إلا أن يقلِّدوهم عندما وقفوا على باب الزهراء.. بل زادوا عنهم أضعافاً مضاعفة!

في أيام لوطٍ تَدَخّل جبرائيل بأمر الله تعالى فقال: ﴿إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ﴾ فَأَخَذَ كَفّاً مِنْ بَطْحَاءَ، فَضَرَبَ بِهَا وُجُوهَهُمْ وَقَالَ: شَاهَتِ الوُجُوهُ، فَعَمِيَ أَهْلُ المَدِينَةِ كُلُّهُمْ..

لكن جبرائيل لم يؤمر بأن يُعمي أبصار أمة خاتم الأنبياء، المبعوث رحمة للعالمين، وإن عَمِيَت بصيرتهم، فوقع منهم على عليٍّ والزهراء من الظُّلم ما لم يقع على أنبياء الله ورسله.

ولمّا سأل لوطٌ رُسُلَ ربه عن أمر الله قالوا: أَمَرَنَا أَنْ نَأْخُذَهُمْ بِالسَّحَرِ.

فأمهل الله تعالى قوم لوط حتى السحر قبل أن يأخذهم، لكنّه ادّخر للظالمين من هذه الأمة عذاباً مؤجلاً ليس فوقه عذاب، لأنَّ ظلمهم ليس فوقه ظلم.

ما سلكت أمَّةُ خير الأنبياء مع باب الزهراء نهج أهل الإيمان، بل اقتحمت بابها، وأضرمت فيه النيران.. حتى سَعَّرت النارُ وجه الزهراء!

فَقَالَتْ فَاطِمَةُ (عليها السلام): يَا عُمَرُ مَا لَنَا وَلَكَ؟

فَقَالَ: افْتَحِي البَابَ وَإِلَّا أَحْرَقْنَا عَلَيْكُمْ بَيْتَكُمْ!.. وَدَعَا عُمَرُ بِالنَّارِ فَأَضْرَمَهَا فِي البَابِ ثُمَّ دَفَعَهُ فَدَخَلَ.

إنَّ لقوم لوط ثقافة (كسر الأبواب)، ولأهل السقيفة ثقافة (حرق الأبواب) والبيوت!

فَاسْتَقْبَلَتْهُ فَاطِمَةُ (عليها السلام) وَصَاحَتْ: يَا أَبَتَاهْ يَا رَسُولَ الله.

فَرَفَعَ عُمَرُ السَّيْفَ وَهُوَ فِي غِمْدِهِ فَوَجَأَ بِهِ جَنْبَهَا، فَصَرَخَتْ: يَا أَبَتَاهْ.

فَرَفَعَ السَّوْطَ فَضَرَبَ بِهِ ذِرَاعَهَا، فَنَادَتْ: يَا رَسُولَ الله، لَبِئْسَ مَا خَلَّفَكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَر.

فَوَثَبَ عَلِيٌّ (عليه السلام) فَأَخَذَ بِتَلَابِيبِهِ ثُمَّ نَتَرَهُ فَصَرَعَهُ وَوَجَأَ أَنْفَهُ وَرَقَبَتَهُ، وَهَمَّ بِقَتْلِهِ، فَذَكَرَ قَوْلَ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وَمَا أَوْصَاهُ بِهِ، فَقَالَ: وَالَّذِي كَرَّمَ مُحَمَّداً بِالنُّبُوَّةِ يَا ابْنَ صُهَاكَ، لَوْ لا كِتابٌ مِنَ الله سَبَقَ، وَعَهْدٌ عَهِدَهُ إِلَيَّ رَسُولُ الله‏ (صلى الله عليه وآله وسلم) لَعَلِمْتَ أَنَّكَ لَا تَدْخُلُ بَيْتِي(82).

هو العهدُ المعهود، الذي غشي عليٌّ لما سمع به وصَبَرَ، ثمّ صَبَرَ لما رأى ما رأى.

لقد أمهل الله تعالى قومَ لوط حتى السحر، لكنَّ تلك الليلة كانت صعبةً على لوط، حتى طلب من ملائكة الله حاجته فكانت: تَأْخُذُونَهُمُ السَّاعَةَ!

فقالوا له: ﴿إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَ لَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيب‏﴾

ثم أخذهم الله أخذَ عزيزٍ مقتدر.

فمتى سيأتي السَّحَرُ لِلَيلِكِ يا زهراء؟! متى سيأتي صُبح الانتظار؟! متى خروج الآخذ بالثار؟!

اللهم عجِّل لوليك الفرج، وسهل له المخرج، واجعلنا معه من الآخذين بالثار.

وإنا لله وإنا إليه راجعون(83).

 

19. أربعون يوماً.. بَعدَ الرَّسول!

بسم الله الرحمن الرحيم

الثامنُ من ربيع الثاني، هو يومُ شهادة الزَّهراء (عليها السلام) على روايةٍ! فَيَومُ شهادَتِها مُختَلَفٌ فيه، كاختلاف الأمة حول آل محمد (عليهم السلام)!

وللأيام الأربعين خصوصيتها عند الزَّهراء (عليها السلام)، حيثُ كان بينَ زواجِها من عليٍّ (عليه السلام) في السماء وزواجها منه في الأرض (أَرْبَعِينَ يَوْماً) كما عن الباقر (عليه السلام)(84).

ولها خصوصيتها عند المؤمنين، فلا يمرُّ على العبد المؤمن أربعون يوماً دون بلاءٍ من الله تعالى! كما عن الصادق (عليه السلام):

مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَهُوَ يذكَّرُ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ يَوْماً بِبَلَاءٍ يُصِيبُهُ: إِمَّا فِي مَالِهِ، أَوْ فِي وَلَدِهِ، أَوْ فِي نَفْسِهِ، فَيُؤْجَرُ عَلَيْهِ، أَوْ هَمٍّ لَا يَدْرِي مِنْ أَيْنَ هُو!(85).

ولذا صارَ البلاءُ رفيقَ المؤمن منذ أيام آدم إلى ما شاء الله، فهذا آدم (عليه السلام): بَكَى عَلَى هَابِيلَ أَرْبَعِينَ يَوْماً وَلَيْلَة!(86).

لكنَّ ما جرى على الزَّهراء كان أعظَمَ من بلاء آدم وأشقَّ! وأصعبَ من بلاء المؤمنين وأشدّ! فما بلاءات المؤمنين مجتمعةً أمام هَولِ ما جرى عليها؟! سيَّما أيامها الأخيرة بعد شهادة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟! سواء كان آخرها يوم الأربعين، أو كانت الأربعين جزءً من هذا البلاء العظيم.

يُعرَفُ بَعضُ ما جرى عليها من لسان أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، في رواية عجيبةٍ يرويها ابن عباس، حين دخلَ الحسنُ (عليه السلام)، ثم الحسين (عليه السلام)، ثم الزهراء (عليها السلام)، ثم أمير المؤمنين (عليه السلام)، وفي كلِّ مرةٍ كان النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يبكي!

حتى قال له أصحابه: يَا رَسُولَ الله، مَا تَرَى وَاحِداً مِنْ هَؤُلَاءِ إِلَّا بَكَيْتَ!

أَ وَمَا فِيهِمْ مَنْ‏ تُسَرُّ بِرُؤْيَتِهِ؟!

سؤالٌ عجيبٌ من الصحابة! إنَّ هؤلاء الأربعة أعَزّ النّاس على رسول الله، وأقربهم إليه، فكيف لا يُسرُّ برؤيتهم؟!

لقد جَهِلَ هؤلاء الصحابة أو تجاهلوا سببَ بكاء النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتوهّموا أو تظاهروا بأنَّ بكاءه ينافي سروره بهم (عليهم السلام)!

فبادَرَ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى رفع هذه الشبهة بقوله: إِنِّي وَإِيَّاهُمْ لَأَكْرَمُ الخَلْقِ عَلَى الله عَزَّ وَجَلَّ، وَمَا عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ نَسَمَةٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْهُمْ!

ثم بيَّن فضائلهم واحداً واحداً، وأوضحَ سبب بكائه.

فالزّهراء: بَضْعَةٌ مِنِّي، وَهِيَ نُورُ عَيْنِي، وَهِيَ ثَمَرَةُ فُؤَادِي، وَهِيَ رُوحِيَ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيَّ!

مَن ذا الذي يُدركُ أبعاد كلمات الرَّسول الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)! النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول:

يا جابر، أوّل ما خلق اللّه نور نبيّك، اشتقّه من نوره‏.. يا جابر، فالعرش من نور نبيّك، والعلم من نور نبيّك، واللوح من نور نبيّك، والشمس والقمر والنجوم وضوء النهار وضوء الإبصار من نور نبيّك‏!(87).

ثم يقول عن الزَّهراء: نُورُ عَيْنِي! فهي (نورُ عينِ) الرَّسول، والرَّسول نورُ الله تعالى! فهي نورُ عين النّور!

أيُّ معنى هذا؟!

ليس لمَن خُلِقَ من فاضل طينتهم أن يُدرِكَ عظمة حقيقتهم، ومقدار رِفعة أنوارهم، وعلوّ درجتهم عند الله تعالى، إلا أن يُدرِكَ قطرةً من بحر فضلهم ومَجدهم وسؤددهم.

ثمَّ يَكشِفُ رسول الله ما يجري على (سيِّدةِ الإماء) فكان سبباً في بكائه، وما أعظمَ كلَّ واحدٍ من هذه البلايا، فكيف وقد اجتمعت كلُّها على هذه العظيمة الجليلة؟!

يقول (صلى الله عليه وآله وسلم): وَأَنِّي لمَّا رَأَيْتُهَا ذَكَرْتُ مَا يُصْنَعُ بِهَا بَعْدِي:

1. كَأَنِّي بِهَا وَقَدْ دَخَلَ الذُّلُّ بَيْتَهَا!

لقد سئل الإمام عن حديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): مَا بَيْنَ مِنْبَرِي وَبُيُوتِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّة، فقيل له: بُيُوتُ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وَبَيْتُ عَلِيٍّ مِنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ وَأَفْضَل‏(88).

إنَّ بيتَها روضةٌ من رياض الجنَّةِ وأفضل، وهو مهبطُ ملائكة الرحمان، رغم ذلك أدخلوا الذلَّ بيتَها!

إنَّ أمَّةً تُدخِلُ الذلَّ بيتَ مُحَمدٍ وعليٍّ وفاطمة (عليهم السلام) هي أمّة الخذلان والرذيلة!

إن أمَّةً لا تتألَّمُ لما جرى عليها فتنصُرها هي أمَّةٌ قاسية القلب، وقُساة القلوب أبعد الناس عن الرحمان عزَّ وجل.

2. وَانْتُهِكَتْ حُرْمَتُهَا.

3. وَغُصِبَتْ حَقَّهَا.

4. وَمُنِعَتْ‏ إِرْثَهَا.

5. وَكُسِرَ جَنْبُهَا وَكُسِرَتْ جَنْبَتُهَا.

6. وَأَسْقَطَتْ جَنِينَهَا وَهِيَ تُنَادِي: يَا مُحَمَّدَاهْ، فَلَا تُجَابُ، وَتَسْتَغِيثُ فَلَا تُغَاثُ!

هيَ الزهراء، حرمتها من حرمة الله، وحقُّها من حقّ الله، وكلُّ ما جرى عليها تَجاوُزٌ لحدود الله!

وهي تستغيثُ، لإتمام الحجة وإكمالها، فهي عالمةٌ بما جرى ويجري.

ولئن لم تجد من ينصُرها في أيامها، فقد حقَّ أن ينصرها الله تعالى ويغيثها، وهو الذي كتَبَ لذلك أجلاً، أوَّلُهُ عند ظهور المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، وآخره لا انقطاع له في يوم الحساب.

ثمَّ يذكر (صلى الله عليه وآله وسلم) عظيمَ مصائبها، وكلُّ واحدةٍ منها داهية عُظمى، فيقول (صلى الله عليه وآله وسلم): فَلَا تَزَالُ بَعْدِي:

7. مَحْزُونَةً مَكْرُوبَةً بَاكِيَةً.

8. تَتَذَكَّرُ انْقِطَاعَ الوَحْيِ عَنْ بَيْتِهَا مَرَّةً.

9. وَتَتَذَكَّرُ فِرَاقِي أُخْرَى.

10. وَتَسْتَوْحِشُ إِذَا جَنَّهَا اللَّيْلُ لِفَقْدِ صَوْتِيَ الَّذِي كَانَتْ تَسْتَمِعُ إِلَيْهِ إِذَا تَهَجَّدْتُ بِالقُرْآنِ.

11. ثُمَّ تَرَى نَفْسَهَا ذَلِيلَةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ فِي أَيَّامِ أَبِيهَا عَزِيزَةً، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُؤْنِسُهَا الله تَعَالَى ذِكْرُهُ بِالمَلَائِكَةِ..

12. ثُمَّ يَبْتَدِئُ بِهَا الوَجَعُ فَتَمْرَضُ، فَيَبْعَثُ الله عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهَا مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ تُمَرِّضُهَا وَتُؤْنِسُهَا فِي عِلَّتِهَا.

فَتَقُولُ عِنْدَ ذَلِكَ يَا رَبِّ: إِنِّي قَدْ سَئِمْتُ الحَيَاةَ! وَتَبَرَّمْتُ بِأَهْلِ الدُّنْيَا! فَالحِقْنِي بِأَبِي!

لا حول ولا قوّة إلا بالله..

ليست الزَّهراء من أهل السآمة والمَلَل، لكنَّ حياةً تجتمعُ فيها هذه المصائب على أمثالها لا تستحقُّ أن تُرتجى!

وأهلُ دنيا لا يؤمنون بالله رباً! ولا يطيعون لمحمدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم) أمراً! ولا يتركون لعليٍّ وفاطمة وآلهما حرمةً الا انتهكوها.. أحطُّ من أن تتمنى الزَّهراءُ (عليها السلام) البقاء بين ظهرانيهم!

وهذا عليٌّ (عليه السلام) يكرِّرُ القولَ نفسه بعد سنين، وهو الخائف ظُلمَ رعيته، فيقول لهم: اللهمَّ إِنِّي قَدْ سَئِمْتُ الحَيَاةَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ هَؤُلَاءِ القَوْمِ، وَتَبَرَّمْتُ الأَمَلَ، فَأَتِحْ لِي صَاحِبِي حَتَّى أَسْتَرِيحَ مِنْهُمْ وَيَسْتَرِيحُوا مِنِّي، وَلَنْ يُفْلِحُوا بَعْدِي‏!(89).

ما أفلحوا بعدَ الزّهراء (عليها السلام) كما لم يفلحوا بعد عليٍّ (عليه السلام)، ولن يفلحوا حتى يتمَّ الحجةُ الحجةَ، ثم يُعمِل السّيف في رقاب الظالمين المعاندين.

قالت (عليها السلام): فَالحِقْنِي بِأَبِي!

وقال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): فَيُلْحِقُهَا الله عَزَّ وَجَلَّ بِي، فَتَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَلْحَقُنِي مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، فَتَقْدَمُ عَلَيَّ مَحْزُونَةً مَكْرُوبَةً مَغْمُومَةً مَغْصُوبَةً مَقْتُولَةً!

فَأَقُولُ عِنْدَ ذَلِكَ: اللهمَّ العَنْ مَنْ ظَلَمَهَا، وَعَاقِبْ مَنْ غَصَبَهَا، وَذَلِّلْ مَنْ أَذَلَّهَا، وَخَلِّدْ فِي نَارِكَ مَنْ ضَرَبَ جَنْبَهَا حَتَّى القَتْ وَلَدَهَا.

فَتَقُولُ المَلَائِكَةُ عِنْدَ ذَلِكَ: آمِينَ(90).

وهكذا نقول.. ويقول المؤمنون: آمين رب العالمين..

عظَّمَ الله أجورنا بمصاب البَتول، ولعنَ الله ظالميها، وعجَّلَ في فَرَجِ الآخذ بثارها.

وإنا لله وإنا إليه راجعون(91).

 

20. الزهراء.. والعداوة في الله!

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بالله الغَرُورُ﴾(92).

لطالما أخلَفَ بنو آدم العهود والمواثيق والوعود، لكنَّ الله تعالى لا يخُلِفُ الميعاد، وقد وعدَ اللهُ الإنسانَ المؤمنَ بمغفرةٍ منه وجَنَّةٍ عرضها السماوات والأرض، وَتَوَعَّدَ الإنسانَ الكافرَ بالعذاب خالداً في نار جهنم.

بل وَعَدَ اللهُ المؤمنين بالاستخلاف في هذه الدُّنيا قبل يوم القيامة حين قال عزَّ وجل: ﴿وَعَدَ الله الَّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى‏ لَهُمْ﴾(93).

وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ﴾(94).

ومَن ينظُرِ فيما وَصَلَنَا من زَبور داوود (عليه السلام) من العهد القديم يجد ذلك بَيِّناً جلياً، ففيه: الَّذِينَ يَنْتَظِرُونَ الرَّبَّ هُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ، وفيه: أَمَّا الوُدَعَاءُ فَيَرِثُونَ الأَرْضَ، ومن كلماته: لأَنَّ المُبَارَكِينَ مِنْهُ يَرِثُونَ الأَرْضَ، وفيه: الصِّدِّيقُونَ يَرِثُونَ الأَرْضَ(95).

لذا يعتقدُ المؤمنُ أنَّ الله تعالى سوف يمكِّنه في هذه الأرض قبل يوم القيامة، عندما يظهرُ الإمام الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً.

ههنا يَطيب لبعض الناس أن يطرح سؤالاً فيقول:

ما دامَ مآل الأرض لكم أيها الشيعة كما تعتقدون، وقد وعدكم الله بها، وما دامت يدكم ستصيرُ العليا، فما بالكم قد سلكتم منهجاً عاديتُم به أقواماً وتبرَّأتم منهم؟ وقد أدى ذلك إلى المنافرة بينكم وبين أتباعهم.

لم لا تحكمنا المحبَّةُ والإلفة مع كلّ خلق الله؟ حتى تأتي الساعة الموعودة.

أليس هذا أكمل وأجدى وأكثر نفعاً لكم ولغيركم؟ لماذا أيُّها الشيعة تكثرون في هذه الأيام من ذكر مثالب مخالفيكم؟! أين روح التسامح؟

فلتنظروا إلى مَن غزا العالم بكلمات المحبَّة، تلك هي الكنيسة التي نسبت لعيسى (عليه السلام) قوله في الإنجيل: لا تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضاً(96).

وقوله: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ(97).

ههنا يتأمَّلُ المؤمن في كلام هؤلاء، فيقول:

هل غابَ عنهم يا ترى أنَّ الشيعة ما سَبَّبُوا النِّفرَةَ بحال من الأحوال؟! فليسوا أهلَ الظُّلم والاعتداء، لقد اعتدى الظالمون على أئمتهم وقادتهم وسادتهم، وهم أشرف خلق الله، فتبرأوا من الظالم.

أفهل تحكُمُ العقول بلزوم مودَّة المظلوم للظالم؟!

أفي شِرعة العقل أن يُمنَعَ المظلوم من بيان ظُلامته؟!

ولئن كان في بيان مناقب آل محمدٍ (عليهم السلام)، ومثالب أعدائهم ما يسبب شرخاً في الأمَّة، فلأنَّها أمَّةُ الجهل والحماقة! تلك التي تُقدِّمُ أعداء الله على أوليائه!

ثمَّ إن الاحتجاج بما نُقِلَ عن المسيح (عليه السلام) منقوضٌ بما احتواه الإنجيل من لَعنِ الظالمين والبراءة منهم، ولعن من يدَّعي مرتبةً ليست له، ففيه: نَلْعَنُ النَّاسَ الَّذِينَ قَدْ تَكَوَّنُوا عَلَى شِبْهِ الله(98)، وفيه: مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ النَّامُوسِ(99).

ثمَّ إن الإنجيل يثبتُ أن المسيح لا يتسامح مع من لا يستحقُّ التسامُح، وها هو يقول أنَّه: يَجِبُ أَنْ يَمْلِكَ حَتَّى يَضَعَ جَمِيعَ الأَعْدَاءِ تَحْتَ قَدَمَيْهِ(100).

فليس من مَنهجِ العقل التجاوزُ عن الظالم، ولا من سلوك عيسى فيما نُسِبَ إليه في الإنجيل، ولا هو منهج القرآن الكريم، وقد أمرَ بالعداوة!

نَعَم، العداوة واجبةٌ مع صنفٍ من الخلق، وهي لا تنافي السماحة والمحبة التي ينتهجها المؤمن، لأنَّ المحبة في غير محلِّها تأخذُ الإنسان إلى العمى والضلال!

ذاك قولُ الله تعالى: ﴿إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعيرِ﴾(101).

فالعلاقة بين المؤمن من جهة، وبين الشيطان وحزبه من جهةٍ أخرى، لا يمكن أن تكون خاضعةً لقوانين المودة والمحبَّة، فهو عَدوٌّ ينبغي معاداته، مع شدَّة خطره، وعظيم سَعيه لإضلال الخلق، وسِعَةِ حيلته، ودهائه ومكره، وقدرته الفائقة على التلوُّن والخداع والتلبيس.

فكيف نركنُ له وهو الداعي إلى نارٍ لا تَبيدُ ولا تَنفَد!

﴿أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُوني‏ وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمينَ بَدَلاً﴾(102).

فإن قالَ قائلٌ: لئن صدَّقنا أن إبليسَ يستحقُّ العداوة، لأنَّه يدعو إلى النار، فما بالُكم عاديتم فئاماً وفئاماً من الخلق؟!

قلنا: إنَّ الدّعوة إلى النار لا تنحصر بإبليس اللّعين، بل يشتركُ معه فيها أئمة الضلال، الذين وصفهم تعالى فقال: ﴿وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ القِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ﴾(103).

فصارَ ميزانُ العداوة هو الدَّعوة إلى النار، يشترك فيها إبليس مع أئمة النفاق هؤلاء، ومِن صفاتهم مخالفة حكم الله تعالى، وهو ما ظهَرَ جليّاً في أيام الزَّهراء، بضعة المصطفى، وقرينة المرتضى، المطهَّرة الزكية، وقد قالت (عليها السلام) لأوَّل هؤلاء الأئمة:

أَ أُغْلَبُ عَلَى إِرْثِي يَا ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ؟ أَ فِي كِتَابِ الله تَرِثُ أَبَاكَ وَلَا أَرِثُ أَبِي؟ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً فَرِيًّا. أَ فَعَلَى عَمْدٍ تَرَكْتُمْ كِتَابَ الله وَنَبَذْتُمُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ إِذْ يَقُولُ ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ﴾(104).

لقَد اعتمدَ هؤلاء الغَلَبَةَ سلاحاً في وجه الحق، فأوقعوا المسلمين في فتنةٍ عمَّت منذ ذلك اليوم إلى آخر الدَّهر، وقد أسلَسَت هذه الأمة لهم قيادها، وهي قادرةٌ على منعهم من جَورِهم، والذَّب عن آل الرسول، لكنَّها آثرت الإنتساب إلى حزب الشيطان، فبئساً لها ولما فعلت.

ما أفلح أئمة الجور في ظلمهم إلا لأن َّالأمة أسلست لهم قيادها، وفيها أهل قوَّةٍ وعدَّةٍ وعَدَد.. لكنَّه التخاذُل، وليس المؤمن اليومَ مِن أهله، فلا يصحُّ التنازل عن عداوة هؤلاء الظلمة، بهذه التبريرات الواهية.

إنَّ حزب الشيطان عدوٌّ للمؤمنين، وقد آثر أكثرُ المسلمين الاستجابة لدعوته، فصار منهم أئمة الكفر والنفاق وأتباعهم وأشياعهم، وقد ترأسوا معسكر الضلالة، وقد قال تعالى: ﴿إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾(105).

ولا زال الشيعةُ يتمثَّلون قول الإمام العظيم، عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)، حيث يقول في صحيفته المباركة: اللهم‏.. وَفِّقْنَا.. أَنْ نُسَالِمَ مَنْ عَادَانَا، حَاشَى مَنْ عُودِيَ فِيكَ وَلَكَ، فَإِنَّهُ العَدُوُّ الَّذِي لَا نُوَالِيهِ، وَالحِزْبُ الَّذِي لَا نُصَافِيهِ(106).

هي العداوةُ في الله، لا يمكن أن يدعو للتخلي عنها إلا الشيطانُ وحزبه، وقد عَرَفَ الشيعةُ ذلك، فوسموا كلَّ من دعاهم إلى موالاة أعداء الله بأنه عدوٌّ لله تعالى، فصار عدواً لا نواليه، ومنتسباً لحزبٍ لا نصافيه.

اللهم إنا نبرأ إليك منهم أبد الآبدين، ودهر الداهرين.

والحمد لله رب العالمين(107).

 

21. الزَّهراء.. وحُكمُ الجاهليَّة!

بسم الله الرحمن الرحيم

تَصِفُ الزَّهراءُ البتولُ حال الأمَم قبلَ بعثة النبيِّ محمدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم) وصفاً لا مثيلً له فتقول (عليها السلام):

فَرَأَى الأُمَمَ فِرَقاً فِي أَدْيَانِهَا، عُكَّفاً عَلَى نِيرَانِهَا، عَابِدَةً لِأَوْثَانِهَا، مُنْكِرَةً لله مَعَ عِرْفَانِهَا، فَأَنَارَ اللهُ بِأَبِي مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم) ظُلَمَهَا، وَكَشَفَ عَنِ القُلُوبِ بُهَمَهَا(108).

لقد صارَ رسولُ الله إمامَ الهداية، وبابَ الخلاص من الغِواية، ونوراً أنار الله به السُّبُل، وكَشَفَ به الظُّلُمات، ثم أمَرَهُ تعالى أن يحكم بما أنزل عليه.

ولَقَد كان رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في قمَّة الكمال والعظمة، وغاية القُرب من الله تعالى، وشدَّة الحذّرِ من أصحاب الأهواء والضلال، رغم ذلك حذَّرَهُ الله تعالى من أن يفتِنَهُ أهلُ الأهواء! كيف ذلك؟

قال الله تعالى مخاطباً حبيبه (صلى الله عليه وآله وسلم): ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ الله وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ الله إِلَيْكَ﴾(109).

ولكن: هل يُمكن أن يتَّبعَ النبيُّ أهواءهم؟! هل يخفى على النبيِّ لزومُ الحذر من هؤلاء؟! هل يُمكنُ لهؤلاء أن يفتنوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو المعصوم المطهر عن الذنوب، والمبرَّأ عن العيوب؟!

لقد نَزَلَت الآية على قاعدة (إِيَّاكِ أَعْنِي وَاسْمَعِي يَا جَارَة)(110)، لأنَّ النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يَحيدُ عن سبيل الله أبداً، فتكون الآيةُ في مقام بيان خطورة هذه الفئة، كي يحذَرَ منها المسلمون.

وما أعظَمَ خطَرَ هذه الفئة وهي تحاول (بجهلها وحماقتها) أن (تَفتِنَ) النبيَّ العظيم، وهو الذي ما تزلزلَ منذ بدء الدعوة حتى تلك اللحظة آناً ولو وضعوا الشمس في يمينه والقمر في شماله.

وإذا كان لليهود والنصارى ومشركي العرب نَصيبٌ مِن هذه الآية، فإنَّ السَّهم الأوفى والحظَّ الأوفر والدور الأكبر كان لِمَن تَسنَّمَ منصب الخلافة ظلماً وعدواناً بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

ما أراد هؤلاء حكمَ الله تعالى، بل ما استساغوه يوماً، ولا دخلوا في دين الله إلا طَمَعاً، حتى إذا سَنَحَت لهم سانحةٌ أبرزوا ما في سويدائهم، واستحضروا حكمَ الجاهلية بِأُسِّهِ وأساسه، حينما سلبوا الزَّهراء إرثها، فقالت لهم صريحاً:

وَأَنْتُمُ الآنَ تَزْعُمُونَ أَنْ لَا إِرْثَ لَنَا ﴿أَ فَحُكْمَ الجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ أَ فَلَا تَعْلَمُونَ؟(111).

لقد صارَ إرثُ الزهراء الفيصلَ بين الإيمان والنفاق، بين حكم الإسلام وحكم الجاهلية!

وقد كان للزهراء (عليها السلام) احتجاجٌ عظيم على هؤلاء، فإنَّ للرسول: (عَهْدٌ قَدَّمَهُ إِلَيْكُمْ وَبَقِيَّةٌ اسْتَخْلَفَهَا عَلَيْكُمْ) (112).

لكنَّ بُغاة حُكم الجاهلية لم يرعوا لرسول الله حقاً، ولا حفظوا له عهداً، وقد انتَصَرَت (عليها السلام) لأمير المؤمنين (عليه السلام)، حين ذكَّرَتهم أنَّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقذفه في لهوات كُلِّ فَاغِرَةٍ فَغَرَت للمشركين، حتى يُخمِد لَهَبَها بسيفه.

لكن.. ألم يكن هذا ما نقموه على أبي الحسن (عليه السلام)؟!

فقد كان مُدافِعاً عن الإسلام حين كانوا يتربَّصون به وبالإسلام الدوائر! فما زادَهم كلامُها إلا طغياناً وظلماً.

ذاك حيثُ: ظَهَرَ فِيكُمْ حَسَكَةُ النِّفَاقِ، وَسَمَلَ جِلْبَابُ الدِّينِ.. وَأَطْلَعَ الشَّيْطَانُ رَأْسَهُ مِنْ مَغْرَزِهِ هَاتِفاً بِكُم فَالفَاكُمْ لِدَعْوَتِهِ مُسْتَجِيبِينَ(113).

هكذا يفهمُ المؤمنُ حقيقة ما جرى على الزَّهراء، إنَّه عنوان الرِّدَّة والإنقلاب على الأعقاب، إنَّه عنوان العَودِ إلى الجاهلية الجهلاء.

فإن قالَ قائلٌ:

أنتم تزعمون أنَّ أمَّة الإسلام اليومَ تأملُ الرجوع إلى الجاهلية وتعمل عليه؟! وهذا يكذِّبُهُ الوجدان، فإنَّ المسلمين اليوم يرتجون ويأملون أن يعمَّ الإسلام العالم.

قلنا:

لا يرغبُ المسلمون اليوم بالعود إلى الجاهلية، فإنَّهم قد عادوا إليها مُذ ظُلِمَت بَضعةُ المصطفى بين ظهرانيهم، وأُحرِقَ بابُها، وضَرِبَت وعُصِرَت بين الحائط والباب، وأُسقِطَ جنينُها، واقتيدَ بعلُها، وسُلِبَت حقَّها، ثمَّ والت هذه الأمة ظالميها وأعدى أعدائها!

فأيُّ جاهليةٍ تفوقُ ذلك؟!

لقد جرى كلُّ هذا بمرأى وبمسمعٍ بل بأمرٍ وتدبيرٍ ومشاركةٍ ممّن يُقَدِّسُهم جُلُّ المسلمين اليوم، فهل من جاهليةٍ كهذه؟!

ما مِن خلاصٍ لأمّة الإسلام إلا بالعودِ إلى آل محمدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد قالت الزهراء يوماً: فَأَنَارَ اللهُ بِأَبِي مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم) ظُلَمَهَا!(114).

واليوم لا تستنيرُ الأمم إلا بالعودِ إلى الإمام الموعود من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فالحقُّ منهم وفيهم ومعهم، ولا خلاص للأمة إلا بموالاتهم ومعاداة أعدائهم.

ثمَّ إنا نعلمُ أن المخالف يتساءل فيقول:

ما الذي جرى في الهجوم على الدار حتى صار بهذا الجَلَلِ عندكم أيُّها الشيعة؟ هل انتهت جرائمُ الدُّنيا عند هذه الجريمة؟!

ألا ترون أن هناك ما يفوقها بشاعةً وفظاعةً وألماً وأذيةً؟! ألا يُقتَل في شرق الأرض وغربها كل يوم خلقٌ كثيرٌ ظلماً وعدواناً؟ فهل وَقَفَ بكم الزَّمَن أيها الشيعة؟! وما هذا الغلو الذي تعيشونه؟

لقد غفل هذا الجاهل أن الجرائم لا تتساوى، فلا يستوي قَتلُ الشريف معَ قتل الوضيع، وليس ظُلمُ المحسن كظلم المسيء، فكيف بِسَادة الإحسان والكرم، مَن جَرَت نِعمتهم على جميع الخلق؟!

ينبغي أن يُعرف قَدرُ هذه السيِّدة العظيمة التي اعتُدِيَ عليها، وسُلِبَ حَقُّها، وانتهكت حرمة دارها، وقُتِلَت ظُلماً وعدواناً.

إنَّ الله تعالى أنزل العذابَ على قوم صالحٍ لأذيتهم ناقةً حين قال: ﴿هذِهِ ناقَةُ الله لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ في‏ أَرْضِ الله وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَليم‏﴾(115).

فصارت الناقةُ (ناقةَ الله) تعالى لانتسابها إليه، وأنزلَ تعالى العذابَ على أمَّةٍ لأجلها: ﴿فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها﴾(116).

فما حالُ حبيبة حبيب الله، سيدة نساء العالمين، أعظم امرأة عرفَها الكون!

إنَّ تبسيط الأمر حماقةٌ كبيرة.

فكما أنَّ بيوتَ الأرض كثيرة، لكن لا حرمةَ لشيءٍ منها كحرمة بيوت الله تعالى! كذلك لا يستوي ظلمُ الزَّهراء مع ظلم من سواها.

وهل تدنيس بيت الله كتدنيس غيره من البيوت؟! إنَّ البيت وإن بُني من حَجرٍ، إلا أنه اكتسب قدسيته من انتسابه للخالق العظيم، فصارت الإساءة إليه أعظم من كل ما عداه. وهكذا اكتسبت الزهراء أسمى مقامٍ وأرفع منزلة عند الله تعالى، حتى اصطفاها من بين كل النساء.

فليس في الاهتمام بشأنها وإحياء أمرها وإقامة مآتمها شيءٌ من الغلو والمبالغة، بل كلُّه تقصيرٌ في تقصير.

ومهما أقامَ الشيعة لها المآتم لن يبلغوا شيئاً مما تستحقُّ أن يُقام لأجلها، وبها وبأبيها وبعلها وبنيها هدانا الله تعالى من الظُّلُمات، ورفَعَ عنا أحكام الجاهلية، حتى أعادها الأرجاس الأنجاس، أعداء الزهراء البتول، عليهم من الله ما يستحقون.

سلام الله عليك يا فاطمة، يا بضعة المختار، نسألك أن تكوني لنا شفيعة يوم القيامة، إذ واليناك في الدنيا والآخرة، وبرئنا من أعدائك إلى يوم الدين.

والحمد لله رب العالمين(117).

 

22. سُحقاً سُحقاً.. لِمَن ظَلَمَ الزَّهراء!

بسم الله الرحمن الرحيم

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما أنَّ النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول يوم القيامة: سُحْقًا سُحْقًا لِمَن بَدَّلَ بَعْدِي!(118).

هو دُعاءٌ من النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بإبعاد مَن بَدَّلَ بعدَه يوم القيامة.

وهذا حديثٌ مُرعِبٌ يرويه المسلمون في أصحِّ كُتُبِهم ويتَّفقون على صحّته، لكنهم لا يفقهونه ولا يعطونه نَصيبَه من الفهم والتدبُّر!

فما الذي جرى في ذلك الوقت حتى يُحال بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين أصحابه الذين يعرفهم ويعرفونه؟! أليس لهؤلاء حقُّ الصُّحبة مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فَلِمَ يُحجبون عن حوضه ويُحال بينهم وبينه؟!

هل يستحقُّ ما بدَّلوه بعد النبيّ هذا الموقف من ملائكة الرحمان حتى يمنعونهم من الوصول إلى حوض النبي؟ ثم أيُّ تبديلٍ هو هذا الذي بدَّلوه؟ وما معنى دعاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليهم؟

أولاً: ماذا بدَّل القوم؟

لقد عَرَفَ النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ما سيجري بعد وفاته، فأخرَجَ من المَدينة كلَّ من يطمع في الرئاسة والإمرة، لئلا ينازعوا علياً (عليه السلام) منصباً جعله الله تعالى له، ولكنَّه كان يعلَم أن الفتنَ مُقبِلَةٌ، لكنَّ أحداً ما كان يتصوَّر أن تَعظُمَ الفِتَنُ إلى حَدٍّ يصيرُ الموت مع السلامة منها خيراً من الحياة والابتلاء بها!

لقد خرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى البقيع آخذاً بيد عليٍّ (عليه السلام)، واتَّبعه جماعةٌ من الناس، فسَلَّمَ على أهل البقيع وقال: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ القُبُورِ، لِيَهْنِئْكُمْ مَا أَصْبَحْتُمْ فِيهِ مِمَّا فِيهِ النَّاسُ! أَقْبَلَتِ الفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ يَتْبَعُ أَوَّلَهَا آخِرُهَا!(119).

ما أخطَرَ هذه الكلمة! لقد صارَ الموتُ خيراً من الحياة لأنَّ فيه النجاة من الفتن، فِتَنٌ تتوالى لا يصمُدُ أمامَها أكابرُ المسلمين! فماذا فَعَلَ هؤلاء؟!

إنَّ لأمير المؤمنين (عليه السلام) عبارةٌ عَجيبةٌ فيما تَمَخَّضَ عن هذه الفِتَن، حين قال في نهجه الشريف: حَتَّى إِذَا قَبَضَ الله رَسُولَهُ (صلى الله عليه وآله وسلم) رَجَعَ قَوْمٌ عَلَى الأَعْقَابِ، وَغَالَتْهُمُ السُّبُلُ، وَاتَّكَلُوا عَلَى الوَلَائِجِ، وَوَصَلُوا غَيْرَ الرَّحِمِ، وَهَجَرُوا السَّبَبَ الَّذِي أُمِرُوا بِمَوَدَّتِهِ، وَنَقَلُوا البِنَاءَ عَنْ رَصِّ أَسَاسِهِ فَبَنَوْهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ!(120).

إنقلابٌ بكلِّ ما للكلمة من معنى، حينَ تُهدَمُ أسُسُ الإسلام ويُنقَلُ بناؤها إلى غير موضعه! وحين يُهجَرُ مَن أمرَ الله بمودَّتِهم! ويوصل سواهم، وحين ينقلبُ النّاسُ على أعقابهم، لا تبقى للدين باقية.

ما نَقَلَ هؤلاء حَجَراً مِن بناء الإسلام، ولا بدَّلوا حائطاً، بل: نَقَلُوا البِنَاءَ عَنْ رَصِّ أَسَاسِهِ!

فأُصيبَت الأمّة في مقاتلها، وتشوَّهَت عقيدةُ التوحيد والتنزيه واستُبدِلَت بالتجسيم، واستُعِيضَ عن العدل بالجور أو بالجبر، وزُحزِحَ معنى العِصمة، وانتُقِصَ قَدرُ النبيّ، ونُحِّيَ الوَصيُّ عن محلِّه، وصارت القيامَةُ تَرَفاً لا يستدعي الاستقامة.. فلا غروَ أن تُبدَّلَ أحكامُ الدِّين الحنيف تبديلاً.

وهو مِصداقُ العَود إلى الجاهلية، فقَد تناسى القومُ أنَّ (المرء يُحفَظُ في وُلدِه)، حتى عَدوا على دينِه فأماتوه! وعلى بضعته فهتكوا حرمَةَ بيتها! حتى قالت لهم: الئن مات رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمتّم دينه؟!(121).

الله أكبرُ أيُّ كلمةٍ من بضعةِ المصطفى.. إن المتآمرين على النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته قد تآمروا على دينه وأماتوه بعد وفاته، فهل دينُ المسلمين اليوم هو دينُ الرَّسول؟! أم دين الظُّلم والغدر وموالاة من عادى الله؟!

تصفُ الزهراء حالها وحال الأمة بعد وفاة أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) فتقول (عليها السلام): أضيع بعده الحريم! وهتكت الحرمة! وأذيلت المصونة!

وتلك نازلةٌ أعلن بها كتاب الله قبل موته، وانبأكم بها قبل وفاته، فقال: ﴿وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى‏ أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى‏ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ الله شَيْئاً﴾(122).

ينكسرُ القَلَمُ أمام هذه العبائر، لقد (أذيلت المصونة)! وهذا النبيُّ قبل ذلك يقول: كَأَنِّي بِهَا وَقَدْ دَخَلَ الذُّلُّ بَيْتَهَا! .. فَلَا تَزَالُ بَعْدِي مَحْزُونَةً مَكْرُوبَةً بَاكِيَةً.. ثُمَّ تَرَى نَفْسَهَا ذَلِيلَةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ فِي أَيَّامِ أَبِيهَا عَزِيزَةً!(123).

ساعَدَ الله قلبَك يا زهراء، أضيعَ حقك، وهتكت حرمتك، فإنّا لله وإنا إليه راجعون.

ثانياً: مَن هم المُبَدِّلون؟

هَل انقلَبَ (بَعضُ) المسلمين بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فغيَّروا دين الله على قِلَّتِهم؟! ونَقَلوُا البناء عن رصِّ أساسه؟! أيُعقلُ أن تتحكَّمَ قِلَّةٌ مُنقَلِبَةٌ بأمَّة الإسلام أجمع دون أن يُسَاهِمَ معها جموعُ المسلمين بالإنقلاب؟!

هذا البخاري أصحُّ كتابٍ عند المخالفين بعد كتاب الله يروي أنَّ رجلاً ينادي هؤلاء المنقلبين على أعقابهم يوم القيامة: هَلُمَّ!

ثم يروي عن النبي قوله:

قُلتُ: أيْنَ؟

قالَ: إلى النَّارِ والله.

قُلتُ: ما شَأْنُهُمْ؟

قالَ: إنَّهُمُ ارْتَدُّوا بَعْدَكَ علَى أدْبارِهِمُ القَهْقَرَى!

فلا أُراهُ يَخْلُصُ منهمْ إلَّا مِثْلُ هَمَلِ النَّعَمِ!(124).

لا ينجو من النّار من أصحاب النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا قلَّةٌ قليلة، فأكثرُ رجال الأمة صاروا من المنقلبين على الأعقاب، المبدِّلين لأمر الله!

لقد تألَّمَ النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته على ما يفعل هؤلاء بعترته من بعده، وبكى قبل وفاته، ثم قال لعليٍّ (عليه السلام): إِنَّمَا بُكَائِي وَغَمِّي وَحُزْنِي عَلَيْكَ وَعَلَى هَذِهِ أَنْ تُضَيَّعَ بَعْدِي فَقَدْ أَجْمَعَ القَوْمُ عَلَى ظُلْمِكُمْ(125).

هذا هو إجماعُ الأمَّة الذي يتغنى به المخالفون! إجماعٌ على ظلمٍ عليٍّ وفاطمة (عليهما السلام)! إجماعٌ أبكى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وأغمَّه وأحزنه عليهم.

وقد روي أنّه لمَّا حَضَرَتْ رَسُولَ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الوَفَاةُ بَكَى حَتَّى بَلَّتْ دُمُوعُهُ لِحْيَتَهُ، فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ الله، مَا يُبْكِيكَ؟

فَقَالَ: أَبْكِي لِذُرِّيَّتِي، وَمَا تَصْنَعُ بِهِمْ شِرَارُ أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي، كَأَنِّي بِفَاطِمَةَ ابْنَتِي وَقَدْ ظُلِمَتْ بَعْدِي وَهِيَ تُنَادِي"يَا أَبَتَاهْ، يَا أَبَتَاهْ" فَلَا يُعِينُهَا أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي!(126).

لقد اتَّفَقَت مصادرُ المسلمين إذاً على أن أكثر المسلمين قد بدَّلوا بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واشتركوا في ظلم عليٍّ والزّهراء، إما بأنفسهم، أو بتأييدهم للظالمين، أو بِصَمتِهِم وجفائهم لآل محمدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتَركِ مَعوُنتهم، فشَمَلَ الجميعَ دعاءُ النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم): سُحْقًا سُحْقًا لِمَن بَدَّلَ بَعْدِي!

ثالثاً: ما هو عذاب المُبَدِّلين؟

لقد دعا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على هؤلاء فقال: سُحْقًا سُحْقًا! وقد قال تعالى في كتابه: ﴿فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ﴾(127).

إنَّ لهؤلاء عقاباً عظيماً يوم الجزاء، حيثُ تسكنُ فئتان من النّاس في (الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ)، فمنهم المنافقون، ومنهم الظالمون لآل محمد!

قال تعالى: ﴿إِنَّ المُنافِقينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصيراً﴾(128)، وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): الوَيْلُ لِظَالِمِي أَهْلِ بَيْتِي، كَأَنِّي بِهِمْ غَداً مَعَ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّار(129).

إنَّ لهؤلاء عذاباً عجيباً، حيثُ يُسألون عن مَسِّ سَقَر فيقولون: قَدْ أَنْضَجَتْ قُلُوبَنَا وَأَكَلَتْ لُحُومَنَا وَحَطَمَتْ عِظَامَنَا، فَلَيْسَ لَنَا مُسْتَغِيثٌ وَلَا لَنَا مُعِينٌ!

.. ثُمَّ يَجْعَلُ كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فِي ثَلَاثِ تَوَابِيتَ مِنْ حَدِيدٍ مِنَ النَّارِ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ، فَلَا يَسْمَعُ لَهُمْ كَلَاماً أَبَداً إِلَّا أَنَّ لَهُمْ فِيها.. شَهِيقٌ كَشَهِيقِ البِغَالِ! وَزَفِيرٌ مِثْلُ نَهِيقِ الحَمِيرِ! وَعُوَاءٌ كَعُوَاءِ الكِلَابِ! صُم‏ بُكْمٌ عُمْيٌ فَلَيْسَ لَهُمْ فِيهَا كَلَامٌ إِلَّا أَنِين‏(130).

هذا حالُ بعض هؤلاء، أما أكابرهم، فالله العالم بحالهم، وهم الذين تستعيذُ جهنَّمُ من وَهجِ الجُبِّ الذي يُعَذَّبون فيه!

هذه خطورة موالاة أعداء الله في الدُّنيا والآخرة، أعاذنا الله من محبَّتهم في الدُّنيا، وأبعدنا عنهم في الآخرة، وحشرنا مع محمدٍ وآله إنه سميع مجيب.

والحمد لله رب العالمين(131).

 

23. عُمَر.. قاتِلُ الرَّسول.. والبَضعة!

بسم الله الرحمن الرحيم

يخالُ كثيرٌ من الخَلقِ أنَّ قتلَ الزَّهراء (عليها السلام) كان أمراً غَيرَ مُدَبَّرٍ! ويزعم من أُشرِبوا في قلوبهم العجل بأنَّ غِيرَةَ ابن الخطّاب على دين الله تعالى دفعته ليقتحم بابَ فاطمة! وهو باب الرسول، حفظاً للأمة عن التفرُّق والاختلاف!

فصارَ اقتحامُ دار الزَّهراء وقَتلها باباً لتوحيد أمَّة الإسلام!

قال الكاتب اللبناني عمر أبو النصر (المتوفى سنة 1960م) في كتابه (فاطمة بنت محمد):

خشي الفاروق الفتنة، ورأى في اختلاف العرب.. ما يحمل المسلمين جميعهم على الاتفاق.. فكان لذلك من أشد الناس رغبة في توحيد كلمة المسلمين.. وقد حاول فعلاً اقتحام بيت فاطمة، يحاول بذلك أن يحمل علياً على البيعة!! (132).

هل من آيةٍ أبلَغُ في وَصفِ هؤلاء من قول الله تعالى: ﴿فَإِنَّها لا تَعْمَى الأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتي‏ فِي الصُّدُورِ﴾(133).

هكذا تَصيرُ الرذيلةُ مَنقبةً! وتَصيرُ القبائحُ عِزَّاً وفَخراً ومَجداً! ويُبرَّرُ للقَتَلَةِ المجرمين أسوأ فِعالهم!

لقد غفلَ هؤلاء أنَّ المؤامرة لا تستهدفُ الزَّهراء وحدَها، إنَّها مؤامرةٌ على الإسلام بأكمله، يُمَثِّلُه رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبضعته الزهراء (عليها السلام)، وبَعلُها أميرُ المؤمنين (عليه السلام)، وابناها الحسن والحسين (عليهما السلام).

فإن قيل: ما حجَّتُكم على هذا أيُّها الشيعة؟!

قلنا: روى ابنُ سَعدٍ (230 هـ) في طبقاته الكبرى عن أنس بن مالك أنَّه قال: خرج عمر متقلد السيف، فلقيه رجل من بني زهرة، قال: أين تعمد يا عمر؟

فقال: أريد أن أقتل محمداً!

.. فانطلق عمر حتى أتى الدار.. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عمر فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل السيف فقال:

أما أنت منتهياً يا عمر؟(134).

يستغربُ المَرءُ كثيراً عندما يقرأ سيرة هذا الرَّجل، فإنَّه قَد حَمَلَ السَّيفَ مرَّةً عندما أراد قتل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل أن يُسلِم، ومرَّةً عندما اقتَحَمَ دارَ فاطمة (عليها السلام): فَرَفَعَ عُمَرُ السَّيْفَ وَهُوَ فِي غِمْدِهِ فَوَجَأَ بِهِ جَنْبَهَا(135).

ولكن، بين هذا الحَدَثِ وذاك، ما عُهِدَ عَنهُ أنَّهُ رَفَعَ سيفاً في سبيل نُصرَة الإسلام! ولا أظهَرَ شجاعَةً إلا في وجه الرَّسول وآله!

فلطالما عُرِفَ عنه الجُبنُ والخوفُ، وكان فرّاراً غير كرّار، أليس قد: رَجَعَ عُمَرُ يُجَبِّنُ أَصْحَابَهُ وَيُجَبِّنُونَهُ! قَدْ رَدَّ رَايَةَ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مُنْهَزِماً(136).

أما كان يتغنَّى بفراره يوم أحد: ففررتُ حتى صعدت الجبل(137).

فما الذي جرى حتى اكتَسَبَ قوَّةً يُريدُ بها قَتلَ النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أوَّلَ البعثة، وقتل ابنته بعد وفاته؟!

ولماذا حَطَّ الجُبنُ رحالَه عنده فيما سوى ذلك من حروب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!

لقد روي أنّ الأول والثاني: أَسْلَمَا طَمَعاً، وَذَلِكَ بِأَنَّهُمَا كَانَا يُجَالِسَانِ اليَهُودَ وَيَسْتَخْبِرَانِهِمْ عَمَّا كَانُوا يَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ وَفِي سَائِرِ الكُتُبِ المُتَقَدِّمَةِ النَّاطِقَةِ بِالمَلَاحِمِ.. فَكَانَتِ اليَهُودُ تَذْكُرُ أَنَّ مُحَمَّداً يُسَلَّطُ عَلَى العَرَبِ.. فَأَتَيَا مُحَمَّداً.. وَبَايَعَاهُ طَمَعاً فِي أَنْ يَنَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ جِهَتِهِ وَلَايَةَ بَلَدٍ إِذَا اسْتَقَامَتْ أُمُورُهُ(138).

أرادا قتلَ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بداية الأمر، فلما فشلا في ذلك، وأيقنا العجز عنه، آمنا طَمَعاً في أن ينالا شيئاً من حُطام الدّنيا بعدَه، ولما وجدا أن الأمر لا يؤول إليهما، اجتمعا مع الطلقاء والمنافقين، فقالوا:

إِنَّ مُحَمَّداً يُرِيدُ أَنْ يَجْعَلَ هَذَا الأَمْرَ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ كَسُنَّةِ كِسْرَى وَقَيْصَرَ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ، وَلَا وَالله مَا لَكُمْ فِي الحَيَاةِ مِنْ حَظٍّ إِنْ أَفْضَى هَذَا الأَمْر إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ(139).

حينها عادوا إلى سابق عهدهم، واسترجعوا مؤامرات بدء البعثة، وأحيوا كوامن النفوس ورغباتها بقتل نبيِّ الإسلام، وهم لم يؤمنوا به ولا بِرَبِّه طرفة عينٍ أبداً:

فَاجْتَمَعُوا فِي أَمْرِ رَسُولِ الله مِنَ القَتْلِ وَالِاغْتِيَالِ وَاسْتِقَاءِ السَّمِّ عَلَى غَيْرِ وَجْهٍ!

أفشلَ الله تعالى خطَّتهم في اغتياله، حتى أكملَ النبيُّ التبليغ، وأوصى في الغدير لأمير المؤمنين (عليه السلام)، وأخَذَ له العهود والمواثيق منهم ومن جميع الأمّة، فدسّوا له السمّ! واتفقوا على قتل ذريَّته من بعده!

لقد قال الثاني للأول بعدما رفض عليٌّ أن يبايعهم: وَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ لَنَا أَمْرٌ حَتَّى نَقْتُلَه!(140).

‏ما أرادوا قتلَه وَحدَهُ ليستقيم لهم الأمر، إنَّها أحقادٌ ومؤامراتٌ أرادوا بها استئصال هذا البيت الطاهر.

أما قال عمر للزهراء (عليها السلام): أَخْرِجِي مَنْ فِي البَيْتِ وَإِلَّا أَحْرَقْتُهُ وَمَنْ فِيه.. وَفِي البَيْتِ عَلِيٌّ وَالحَسَنُ وَالحُسَيْن‏.. فَقَالَتْ فَاطِمَةُ: أَ فَتُحْرِقُ عَلى ولدِي؟

فَقَالَ: إِي وَالله أَوْ لَيَخْرُجُنَّ وَلَيُبَايِعُن‏(141).

أما احتجَّت عليه الزهراء فقالت:

وَيْحَكَ يَا عُمَرُ، مَا هَذِهِ الجُرْأَةُ عَلَى الله وَرَسُولِهِ؟!

تُرِيدُ أَنْ تَقْطَعَ نَسْلَهُ مِنَ الدُّنْيَا وَتُفْنِيَهُ وَتُطْفِئَ نُورَ الله ﴿وَالله مُتِمُّ نُورِهِ﴾(142).

فما كان جوابه إلا أن قال:

كُفِّي يَا فَاطِمَةُ، فَلَيْسَ مُحَمَّدٌ حَاضِراً، وَلَا المَلَائِكَةُ آتِيَةً بِالأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالزَّجْرِ مِنْ عِنْدِ الله، وَمَا عَلِيٌّ إِلَّا كَأَحَدِ المُسْلِمِينَ، فَاخْتَارِي إِنْ شِئْتِ خُرُوجَهُ لِبَيْعَةِ أَبِي بَكْرٍ أَوْ إِحْرَاقَكُمْ جَمِيعاً!(143).

لقد صار مَحمدُ (صلى الله عليه وآله وسلم) شهيداً عند ربِّه، قتلوه سمَّاً، والآن أرادوا قَطعَ نَسلِه من المباركة الزكية، بإحراقها وإحراق بعلها وبَنيها!

أيُّ حِقدٍ وغِلٍّ هذا؟! لقد كان الطَّمَعُ مُحَرِّكاً ثم صار الحِقد والحسدُ طبعاً قبيحاً كريهاً اعتادت عليه النفوس الحقيرة.

إنَّه الحِقدُ والكُفرُ بالله ورسوله يُحرِّكُ القومَ لقتل الزَّهراء، وأتباعُهُم يرون في ذلك حِرصاً على الإسلام ودَرءاً للفتنة!

لقد قدَّمَ هؤلاء أمرَهم على أمر الله، أراد الله تعالى لهم الكرامة والعزَّة، وأرادوا لأنفسهم البهيمية والرذيلة!

قال لهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): انِّي قَدْ أَوْصَيْتُ وَصِيِّي وَلَمْ أَهْمِلْكُمْ إِهْمَالَ البَهَائِمِ!(144).

فاللهُ تعالى يُفَضِّلُ الإنسان على البهائم، ولا يرضى لهم أن يكونوا مثلَها بلا راعٍ ولا مُرشدٍ يدلُّهم على طريق الحقّ ويَحمِلُهُم عليه، لكن: ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبيلاً﴾(145).

كيف صاروا أضلَّ من الأنعام؟!

لقد صاروا كذلك بإعراضهم عن اختيار الله تعالى، وإصرارهم على اختيارهم، مع قبح سريرتهم، وظُلمَةِ نفوسهم، واسوداد قلوبهم.

كيف تُفلِحُ أمَّةٌ اتَّخذَت إماماً لنفسها مَن لم يسلَّ سيفاً إلا على رسولها وبضعته؟!

كيف تنجحُ أمَّةٌ لا تقرُّ بالفضل لأهله؟! تُقَدِّمُ من أخرَّ الله، وتؤخر من قدَّمَ الله؟! كيف سيوفق الله أمّةً تكافئ قاتلَ نبيِّها وبضعته؟!

لهذا صارَ أمرُ الأمَّة في سَفال، إلى أن تستقيم خلفَ إمامها المهديّ الموعود، عجَّلَ الله تعالى فرجه، وسهَّلَ مخرجه، وثبَّتنا على ولايته، والبراءة من أعدائه.

والحمد لله رب العالمين(146).

 

24. لعَنَ الله.. مَن روَّع فاطمة!

بسم الله الرحمن الرحيم

روى المؤرخون حادثةً غُيِّبَت عن أذهان عموم الناس، تخفيفاً مِن هَولِ الجريمة التي ارتُكِبَت بحقِّ الزَّهراء (عليها السلام).

لقد اختُلِفَ في أنَّ للنبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ابنةٌ أخرى سوى الزَّهراء (عليها السلام) تُسمى (زينب)، فمنهم من ذَكَرَ أنَّها ابنته (صلى الله عليه وآله وسلم)(147)، ومنهم مَن ذهبَ إلى أنَّها ربيبته(148).

ومهما يَكُن الأمر، فإنَّ حَدَثاً عَظيماً قد وقع على زينب، حينما أرادت الإلتحاق بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة المنوّرة، حيثُ أرسَلَ (صلى الله عليه وآله وسلم) مَن ينتظرُها ليَصحَبَهَا ويأتي بها إلىه.

لقد رَكِبَت هودَجَها وخَرَجَت تطلُبُ المدينة، فعرفت قريشُ بالأمر، وخرَجَ منها رجالٌ في طَلبها.

ينقل ابن هشام في السيرة النبوية أنّهم أدركوها في ذي طوى، فيقول:

فكان أول من سبق إليها هبَّار ابن الأسود.. فروَّعَها هبَّارُ بالرمح، وهي في هودجها، وكانت المرأة حاملاً - فيما يزعمون - فلما ريعت طرحت ذا بطنها(149).

أما الطبري وابن عساكر فقالا أنَّه:

عرض لها نفرٌ من قريش فيهم هبّار ينخسُ بها، وقَرَعَ ظهرَها بالرُّمح، وكانت حاملاً، فأسقطت(150).

لقد صار الترويعُ، والنَّخسُ وهو الغَرزُ، والقَرعُ بالرُّمح، سبباً لإسقاط زينب ما في أحشائها، وكان النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) حياً حينها.

ثمَّ نقل مؤرخو (العامة) أنَّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمرَ بمعاقبة هبَّار بأسلوبين:

الأسلوب الأول: هو الإحراق!

حيث أمرَ بأن يُحرَقَ هبّار ومن معه، فنقلوا قوله:

إن ظفرتم بهبار ابن الأسود، أو الرجل الآخر الذي سبق معه إلى زينب فحَرِّقوهما بالنار!(151).

وقوله: إن ظفرتم به فاجعلوه بين حزمتين من حطب، وحرّقوه بالنار!(152).

الأسلوب الثاني: هو القتل!

حيثُ قالوا أنَّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) عادَ ونهى عن إحراقه، لأنَّه (لا ينبغي لأحد أن يعذِّبَ بالنار إلا الله، فإن ظفرتم بهما فاقتلوهما)(153)، وفي خبرٍ آخر (إن ظفرتم به فاقطعوا يديه، ورجليه، ثم اقتلوه)(154).

وبغضِّ النَّظَر عن صحة هذا الكلام، فإنَّهُ ينبغي أن يقفَ المنصفُ وقفةً معَ (العامة) (وِفقَ مبانيهم ورواياتهم هذه)، فإذا كان ترويعُ زينب أو قَرعُها بالرّمح حتى أسقطت سبباً في استحقاق هبّار لهذا النَّوع من العقاب، فماذا يستحقُّ مَن رَوَّع الزَّهراء حتى أسقطت مُحسناً؟!

أيستحقُّ أن يُكرَّم ويصير خليفةً للمسلمين؟!

أم يستحقُّ أن يُقتلَ شَرَّ قتلةٍ كما استحقَّها هبّار؟!

إنَّ مِن معايير شِدَّة الجريمة وخطورتها أن يكونَ مَن وقَعَت عليه الجريمةُ أعظَم شأناً، والزَّهراء (عليها السلام) أعظمُ شأناً من كلِّ مَن عداها من النِّساء، فهي بضعة المصطفى وروحه التي بين جنبيه، وهي سيدة نساء أهل الجنة أجمعين، أفلا يستحقُّ ابنُ الخطاب عقاباً يوازي ما استحقَّهُ هبّار إن لم يزد عليه؟!

هذا لو ساوى فِعلُهُ فِعلَ هبّار، لكنَّه فاقَهُ بأشواط، وقد ثبتَ أنَّ هناك تناسُباً طردياً بين شِدَّة الجريمة وشِدَّة العقاب، فماذا يستحقُّ هذا الجاني يا ترى؟!

لا ريبَ أنَّ عمرَ بن الخطّاب قد رَوَّع فاطمة حتى أسقطت جنينها، ولكنَّه روَّعها بما يفوق الخيال!

إنَّ من ينظر إلى ما ورد في كتب الفريقين يذهلُ لما فعله الأجلاف بها (عليها السلام)، حيث روي فيما روي:

1. إنّ عمر ضرب بطن فاطمة يوم البيعة حتّى ألقت الجنين من بطنها!(155).

2. وإنّ عمر رفس فاطمة حتّى أسقطت بمحسن!(156).

3. وَضَغَطُوا سَيِّدَةَ النِّسَاءِ بِالبَابِ حَتَّى أَسْقَطَتْ مُحَسِّناً!(157).

4. وَدَعَا عُمَرُ بِالنَّارِ فَأَضْرَمَهَا فِي البَاب‏!(158).

5. فَرَفَعَ عُمَرُ السَّيْفَ وَهُوَ فِي غِمْدِهِ فَوَجَأَ بِهِ جَنْبَهَا! .. فَرَفَعَ السَّوْطَ فَضَرَبَ بِهِ ذِرَاعَهَا!(159).

وروي عن لسانه لعنه الله:

1. فَضَرَبْتُ كَفَّيْهَا بِالسَّوْطِ فَأَلَّمهَا!

2. فَرَكَلْتُ البَابَ وَقَدْ الصَقَتْ أَحْشَاءَهَا بِالبَابِ تَتْرُسُه‏!

3. فَصَفَقْتُ صَفْقَةً عَلَى خَدَّيْهَا مِنْ ظَاهِرِ الخِمَار!(160).

وعن لسانها (عليها السلام):

1. فَأَخَذَ عُمَرُ السَّوْطَ مِنْ قُنْفُذٍ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، فَضَرَبَ بِهِ عَضُدِي فَالتَوَى السَّوْطُ عَلَى يَدِي حَتَّى صَارَ كَالدُّمْلُجِ.

2. وَرَكَلَ البَابَ بِرِجْلِهِ، فَرَدَّهُ عَلَيَّ وَأَنَا حَامِلٌ، فَسَقَطْتُ لِوَجْهِي، وَالنَّارُ تُسْعَرُ، وَتَسْفَعُ وَجْهِي.

3. فَضَرَبَنِي بِيَدِهِ حَتَّى انْتَثَرَ قُرْطِي مِنْ أُذُنِي‏، وَجَاءَنِي المَخَاضُ فَأَسْقَطْتُ مُحَسِّناً قَتِيلًا بِغَيْرِ جُرْم (161).

وعن الله تعالى مخاطباً نبيه ليلة المعراج:

وَأَمَّا ابْنَتُكَ:

1. فَتُظْلَمُ وَتُحْرَمُ، وَيُؤْخَذُ حَقُّهَا غَصْباً الَّذِي تَجْعَلُهُ لَهَا.

2. وَتُضْرَبُ وَهِيَ حَامِلٌ.

3. وَيُدْخَلُ عَلَيْهَا وَعَلَى حَرِيمِهَا وَمَنْزِلِهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ.

4. ثُمَّ يَمَسُّهَا هَوَانٌ وَذُلٌّ، ثُمَّ لَا تَجِدُ مَانِعاً.

5. وَتَطْرَحُ مَا فِي بَطْنِهَا مِنَ الضَّرْبِ.

6. وَتَمُوتُ مِنْ ذَلِكَ الضَّرْبِ! (162).

والنتيجة أنَّهُم قتلوا جنينها، بل قتلوها سلام الله عليها، فماذا يستحقُّ هؤلاء الأرجاس الأنجاس؟!

إنَّ فِعلَهم هذا هو سنَّةٌ جاهليةٌ متأصِّلَةٌ فيهم، فالإساءة إلى النساء هو طَبعٌ تَطَبَّعَ عليه الأعراب، بعدَما تطبَّعوا على وأد البنات.

أليس عُمَر هو القائل: يا رسول الله اني وأدت في الجاهلية!(163).

أليس هو القائل:

ذهبت بابنةٍ لي لوأدها، فكنت أحفر لها الحفرة وتنفض التراب عن لحيتي وهي لا تدري ماذا أريد لها(164).

وهذا التاريخُ يكشفُ لنا بعضاً من قبائح هذه الشخصية، حيث ذكروا أنَّ أخت عمر بن الخطاب وصِهره قد أسلما قبله، فثارت ثائرته:

فوثب عمر على خِتنه فوطئه وطأ شديداً، فجاءت أخته فدفعته عن زوجها، فنفحها بيده نفحةً فدمي وجهها!(165).

وفي رواية الحاكم: فضرب وجهها فأدمى وجهها!(166).

لَم يكُن هذا الجِلفُ إلا أعرابياً لا يُراعي لأحدٍ حُرمَةً، ولا يشتملُ على شيءٍ من الإنسانية، فإنَّ مَن اتَّصَفَ بشيءٍ منها رَحِمَ النساء لِضَعفِهِنَّ، فكيف وقد أوصى بهنَّ رسول الإنسانية عَن ربِّ العالمين وَصيَّة مؤكدة مكرَّرة، ثم أوصى بابنته الزَّهراء مراراً حتى لم يُبقِ لمُعتَذِرٍ عُذراً.

لكنَّ مَرضى القلوب لا يزيدُهم وَعظُ السَّماء إلا رِجساً إلى رِجسهم، قال تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذينَ في‏ قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ﴾(167).

ولقد كان ابن الخطَّاب رِجساً بنفسه كما وصفته أخته! حيث روي أنَّه كان لدى صهره وأخته مَن يقرأ لهما شيئاً من القرآن بعدما أسلما، ولمّا ضربهما عمر أراد أن يحصل على الكتاب الذي عندَهم، فقالت أختُه كلمةً تَهُزُّ وجدان العاقل، حيث خاطبته بقولها: إنك رِجسٌ، ولا يمسّه إلا المطهرون!(168).

وهَل يعتدي على أهل بيت الطُّهر إلا الأرجاس الأنجاس؟!

إنَّ هذا وأمثاله لا يستحقون شَفَقَةً ولا رحمة، حتى مِن أطهر القلوب، فهذه الزَّهراء (عليها السلام) تقول له ولصاحبه: وَلَئِنْ لَقِيتُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لَأَشْكُوَنَّكُمَا إِلَيْه‏.

ثم تقول للأول: لَأَدْعُوَنَّ الله عَلَيْكَ فِي كُلِّ صَلَاةٍ أُصَلِّيهَا(169).

إنَّ الصلاة مِعراجُ المؤمن، وقُربانُ كلِّ تقيّ، وبابٌ من أبواب الرحمة الإلهية، ولكنَّ الزَّهراء (عليها السلام) تدعو عليهما فيها، لسوء ما ارتكبا بحقِّها وحقِّ أبيها وبعلِها وبنيها، وبحقِّ دين الله عزَّ وجل.

ولا يزالُ المؤمنون يدعون عليهما في صلواتهم، ويتوسَّلون إلى الله تعالى أن يزيدهما عذاباً فوق العذاب، فإنَّهما أسسا أساس الظُّلم والجور على آل محمدٍ، فحَمَلا في رقبتهما أوزاراً مع أوزارهما.

والحمد لله رب العالمين(170).

 

25. بابُ فاطمة.. حِجَاب الله!

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المُتَّقينَ﴾(171).

في آية المائدة هذه دلالةٌ جَليَّةٌ على أنَّ الله تعالى لا يتقبَّل كلَّ عَمَلٍ من أعمال عباده! فلا ينبغي أن يغترَّ المؤمنُ بعمله أو بعملِ أحدٍ من المسلمين ما لم يطمئن إلى قبول الله تعالى له.

ألم يُقَدِّم قابيلُ قرباناً كهابيل؟ فلماذا تقبَّلَ الله تعالى أحدهما دون الآخر؟ وما السرُّ في ذلك؟

ليس هناك بُخلٌ في ساحة الله تعالى، فالله تعالى جوادٌ كريمٌ، ابتدأ الناس بالإحسان ابتداءً، ولا يُعقَل أن لا يقبل عملاً عبثاً.

إنَّ مِنَ النّاس مَن يأتي بعَظيم الأعمال لغير وجه الله تعالى، فلا يتقي الله تعالى ولا يخشاه ولا يخافه، أو يمتثل لأمر الله فيما يناسب رأيه كإبليس اللعين، حين عبَدَ الله تعالى ثمَّ أعرَضَ لما أُمِرَ بالسجود لآدم، فما كان مصيره إلا إلى النار.

وقد تكرَّرَ الأمرُ مع الأوائل من المسلمين، حيث روي عن الإمام الكاظم (عليه السلام) أنَّ النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) دعا الأنصار حينما حضرته الوفاة، ونعى إليهم نفسه، وأثنى على مجاورتهم له ونُصرَتهم إياه، ومواساتهم له في الأموال، وبَذلهم مُهَجَ النفوس في سبيل الله، وهي أمورٌ يستحقون عليها عظيم الثواب عند الله تعالى، كما كان إبليسُ مستحقاً للثواب على عبادة الله قبل رفضه السجود لآدم.

ولكن.. لم يكتمل امتحان هؤلاء بنصرة النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال لهم:

وَقَدْ بَقِيَتْ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ تَمَامُ الأَمْرِ، وَخَاتِمَةُ العَمَلِ!(172).

إنَّ كلَّ ما فعله هؤلاء في سبيل الله تعالى موقوفٌ على خِتام أفعالهم، فَكَم من ساعٍ للخير خَتَمَ سعيَهُ بالانحراف عن أمر السماء، وكَم من عاملٍ أتلفَ في آخر أيامه ثمار عمله للدنيا والآخرة.

إنَّ كلَّ أعمال العباد موقوفةٌ على آخر مُفرَدةٍ، تلك التي أُكمِلَ بها الدين، قال لهم (صلى الله عليه وآله وسلم): مَنْ أَتَى بِوَاحِدَةٍ وَتَرَكَ الأُخْرَى كَانَ جَاحِداً لِلْأُولَى، وَلَا يَقْبَلُ الله مِنْهُ صَرْفاً وَلَا عَدْلًا!

لقد فَهِمَ هؤلاء أنَّ في تَركِ هذه المسألة رِدَّةٌ عن الإسلام، وهلاكٌ في الآخرة، فسألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبيّن لهم ذلك، فَقَالَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لَهُمْ: كِتَابُ الله، وَأَهْلُ بَيْتِي!

إنَّ جحودَ آل محمدٍ جحودٌ للقرآن، ويلزم منه بطلان كلِّ الأعمال، لأنها لم تقترن بشرط القبول، وإنما يتقبل الله من المتقين!

ثمَّ قال لهم (صلى الله عليه وآله وسلم): احْفَظُونِي مَعَاشِرَ الأَنْصَارِ فِي أَهْلِ بَيْتِي!

حِفظُ آل محمدٍ هو حفظُ محمدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فمَن أساء إليهم كأنه أساء إليه، ومَن حَفِظَهم فقد حفِظَ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).

ليس لهذا صلةٌ بالقرابة فحسب، بل لأنَّهم أبواب الله تعالى، وقد قال (صلى الله عليه وآله وسلم):

الله الله فِي أَهْلِ بَيْتِي، مَصَابِيحِ الظُّلَمِ، وَمَعَادِنِ العِلْمِ، وَيَنَابِيعِ الحِكَمِ، وَمُسْتَقَرِّ المَلَائِكَةِ، مِنْهُمْ وَصِيِّي وَأَمِينِي وَوَارِثِي، وَهُوَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟!

هُمُ المِصباحُ لكلِّ ظُلمَةٍ، فلو أظلمت الدُّنيا بالفِتَنِ كان آل محمد مصابيحها، ولو اشتبهت الأمور على الأمم رفَعَ آلُ محمدٍ ظَلامَها بأنوار علومهم، فحقَّ أن يوصي بهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنهم طريقُ الله جلَّ جلاله.

ولكن.. لماذا توصي بهم يا رسول الله؟

هل تحتاجُ أمَّتُكَ إلى وصيةٍ لكي تحبَّهم وتحفَظَكَ بهم؟!

ألا يعرفُ الأنصار الذين بذلوا مُهَجَهُم دونك أن المرء يُحفظ في ولده؟!

ألم يسمعوا منك أعظم الأحاديث في مدحهم والثناء عليهم؟!

ألم يبايعوا وصيَّك في غديرٍ خُمٍّ عن قريب؟!

فما الذي يجري يا رسول الله؟!

يكمل (صلى الله عليه وآله وسلم) خطابه ليُشيرَ إلى بلاءٍ أعلَمَهُ الله بأنَّهُ نازلٌ على عترته الطاهرة، ورَمزُ هذا البلاء: بابُ ابنته فاطمة! الباب الذي طالما وقَفَ عليه النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) مستئذناً!

يقول لهم: مَعَاشِرَ الأَنْصَارِ أَلَا فَاسْمَعُوا وَمَنْ حَضَرَ: أَلَا إِنَّ فَاطِمَةَ:

1. بَابُهَا بَابِي.

2. وَبَيْتُهَا بَيْتِي.

فَمَنْ هَتَكَهُ فَقَدْ هَتَكَ حِجَابَ الله!

اللهُ أكبرُ أيُّ كلمةٍ هي هذه؟! أيُعقَلُ أن يُهتكَ بابُ فاطمة وبيتُها؟!

ثُمَّ ماذا يعني هَتكُ حجاب الله؟! وما هو حِجاب الله؟!

كان هذا الكلام عن الإمام الكاظم (عليه السلام)، لكنَّه لما وصل (عليه السلام) إلى هنا بكى طويلاً! وقطع بقيَّة كلامه!

آهٍ لقلبك الفجيع يا سيِّدي، كيف لا تبكي لأمِّك الزَّهراء؟!

بكى طويلاً ثم قال (عليه السلام):

هُتِكَ وَالله حِجَابُ الله! هُتِكَ وَالله حِجَابُ الله! هُتِكَ وَالله حِجَابُ الله!

يَا أُمَّهْ، صَلَوَاتُ الله عَلَيْهَا!(173).

يمتلئ المؤمن بالغُصَص لهَولِ الفاجعة، وتنهمرُ دموعه على ما جرى في الدّار، ولمّا يهدأ الأنين، وتنقطع الدُّموع التي مِن حقِّها أن لا تكفَّ يوماً، يعودُ المؤمن للسؤال: كيف صارَ هَتكُ بابِ فاطمة وبيتها هَتكاً لحجاب الله؟!

يتأمَّلُ المؤمن في زيارتها (عليها السلام)، فيجد فيها: وَسَلَلْتَ مِنْهَا أَنْوَارَ الأَئِمَّةِ، وَأَرْخَيْتَ دُونَهَا حِجَابَ النُّبُوَّة!(174).

اللهُ تعالى هو الذي أخرجَ منها أنوار الأئمة، فالفِعلُ فِعلُه، وهو الذي أرخى دونها حجاب النبوة، أي أنَّ النبوّة صارت للزهراء حِجاباً مُرسَلاً!

تُرخي المرأة دونَها حِجاباً فتَعظُم عند ربِّها، لكنَّ الزَّهراء فاقت ذلك، فالذي أرخى دونَها حِجاباً هو الله تعالى! وكان ذلك الحِجابُ حجابَ النبوّة! وحجاب النبوّة هو حجاب الله تعالى!

فقد ورد عن الباقر (عليه السلام):

بِنَا عُبِدَ الله، وَبِنَا عُرِفَ الله، وَبِنَا وَعَدَ الله، وَمُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وآله وسلم) حِجَابُ الله!(175).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): الإِمَامُ.. نُورُ الله، وَحِجَابُ الله!(176).

وسواء أريد بالحجاب:

الواسطة في الخَلق: لأنَّ الله خلق الخلق من أنوارهم.

أو في المعرفة: لأنَّ الله تعالى يُعرَف بهم.

أو في العطاء والرحمة: لأن الله تعالى ينزل النِّعَم والعطايا والرحمة بهم.

أو أنَّ حُرمَتَهُم مِن حرمة الله، وأنَّ التجاوُزَ عليها تجاوزٌ على حقِّ الله.

أو أنَّهم أبوابُ الله تعالى، والأدلاء عليه، أو غير ذلك من المعاني.

فإنَّ في هتكِ (حجاب الله) بهتك (بابها وبيتِها) معنىً لا يكادُ يُدرَك غَورُه!

فليس المُراد قطعاً من كون بابها باب النبيِّ هو ملكيَّة النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) للباب! بَل إنَّ التَجاوُزَ على بابِها، وهَتكَ حُرمَتِهِ، هُوَ تجاوُزٌ لحقِّ الإله العظيم الخالق المعبود، في أعظَم المخلوقات وأحبِّها إليه، محمدٍ وآله (عليهم السلام).

لقد صار هؤلاء حجابَ الله وبابَه وطريقَه حين فُضِّلوا على كلِّ الخلائق، وعَظُمَ أمرُهُم حتى صار عَصيّاً على الإدراك!

لقد اجتَمَعَت على الزَّهراء ألوانُ البلاء، وقد سألتها أمُّ سلمة عن حالها فقالت: أَصْبَحْتُ بَيْنَ كَمَدٍ وَكَرْبٍ: فُقِدَ النَّبِيُّ، وَظُلِمَ الوَصِيُّ، هُتِكَ وَالله حِجَابُهُ!(177).

كان الرَّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يحيطها برعايته، وصارَت مُحاطةً بالكَمَد والكَرب!

إنَّ الكَمَد هو (هَمٌّ وحُزنٌ لا يُستَطَاعُ إمضاؤه) (178)، أو (الحزن المكتوم) (179).

والكَرب هو (الغَمُّ الشَّديد) (180)، أو (الغَمُّ الذي يأخذ بالنفس) (181).

فما حالُ هذا القَلبِ الطاهر الوَجيع، يتألَّمُ تارةً على فَقدِ أعزّ الخلق وأحبِّهم، وأخرى على ظُلمِ الوَصي، ألماً يأخذُ بالأنفُس أو الأنفاس، ولا يُستطاعُ إمضاؤه وتجاوُزُه!

لقد ذَكَرَت الزَّهراء هنا ظلمَ الوصي ولم تذكر ما جرى عليها، قالت: (هُتِكَ وَالله حِجَابُهُ)، وكلُّ واحدٍ منهم حِجاب الله، فمُحمدٌ حجابُه، وعليٌّ حجابُه، وهَتكُ حجابِها هَتكٌ لحجابهم.

وحين كان الإمامُ الكاظم (عليه السلام) يبكي لِهَتك حجاب الله بالاعتداء على بيت فاطمة وبابها، كانت فاطمةُ تبكي لِهَتك حجاب الله بالاعتداء على عليٍّ ومكانته!

فإنَّها مَن يعرِف حقَّ عليٍّ ويتألَّمُ عليه حقّاً!

وهو مَن يعرِف قدرَها حتى يقول (هَذِهِ وَالله مُصِيبَةٌ لَا عَزَاءَ لَهَا)!(182).

ما أعظَمَكم يا آل بيت الرَّسول، وما أشدَّ عذاب ظالميكم، لقد ورد في الحديث: وَمَنْ هَتَكَ سِتْرَ مُؤْمِنٍ هَتَكَ الله سِتْرَهُ يَوْمَ القِيَامَة(183).

فكيف بمَن هتك حجاب النبوة! بل حجاب الله تعالى!

إنَّ ما فَعَلَهُ القومُ هو أشنَعُ فِعلٍ يتصوَّرُهُ عاقلٌ، فليس فيه تكذيبٌ للنبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فقط، بل فيه انتهاكٌ لحرمته، وهو أشدُّ ما يبغضه الله تعالى على الإطلاق، فعن إمامنا الحسن (عليه السلام) أنَّ أبغض الأشياء إليه تعالى: الشِّرْك بِكَ، وَالتَّكْذِيب بِرَسُولِك‏!(184).

آهٍ يا رسول الله، كذَّبوا أمرَك، وهتكوا بابَك وباب ابنتك، وقد أوصيتهم بحفظها مراراً!

ماذا جرى عليها يا رسول الله حتى هَمَلَت عيناك عليها قبل شهادتك؟!

مَن كان مُحتَضِراً يبكي عليه أحباؤه، لكنّك كنتَ تبكي عليها (مِثْلَ المَطَرِ)!

آهٍ لهول المصيبة، ذاك حيثُ هُتِكَ حِجابُ الله.

فإنّا لله وإنا إليه راجعون(185).

 

26. فاطمة.. رُكنُ عَليٍّ.. المهدود!

بسم الله الرحمن الرحيم

لقد روى الشيعة والسنة وصيةً غريبةً من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعليٍّ (عليه السلام)، حيث قال له قبل وفاته بأيامٍ ثلاثة:

سَلَامُ الله عَلَيْكَ يَا أَبَا الرَّيْحَانَتَيْنِ، أُوصِيكَ بِرَيْحَانَتَيَّ مِنَ الدُّنْيَا، فَعَنْ قَلِيلٍ يَنْهَدُّ رُكْنَاكَ، وَالله خَلِيفَتِي عَلَيْكَ.

فمَن هما رُكنا عليٍّ (عليه السلام)؟ ولماذا يوصي النبيُّ علياً بابنيه؟! وما الصلةُ بين الركنين والوصية بالريحانتين؟!

أولاً: محمدٌ وفاطمة ركنا عليّ!

يقول جابر: فَلمَّا قُبِضَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام): هَذَا أَحَدُ رُكْنَيَّ الَّذِي قَالَ لِي رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم). فَلمَّا مَاتَتْ فَاطِمَةُ (عليها السلام) قَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام): هَذَا الرُّكْنُ الثَّانِي الَّذِي قَالَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم)(186).

فما المراد بالركن هنا؟

لقد ذُكِرَ في كتب اللغة: رُكْنُ الشيء: جانِبُه الأقوى. وهو يأوِي إلى رُكْنٍ شديدٍ، أي عزّ ومنعَةٍ(187). ورُكْنُ الرجل: قومه وعدده الذين يعتزُّ بهم(188).

إنَّ لِعَلِيٍّ، وهو البطل المِغوار، الكرار غير الفرار، الفتى الذي يهتف باسمه جبرائيل في السَّماء، صاحب سيف ذي الفقار.. لِعَلِيٍّ رُكنان يستندُ إليهما، ويقوى بهما، ويعتزُّ بهما، هُما خَيرُ خلق الله تعالى، وسيِّدة نساء العالمين أجمعين.

لقد فقدَ أميرُ المؤمنين الركنَ الأول عند شهادة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لكنَّه كان يتعزّى بالثاني: بفاطمة الزَّهراء.

ولكن، ما ظلَّ له من يتعزّى به بعد وفاتها، فإنَّه لما سمع بشهادتها:

وَقَعَ عَلِيٌّ عَلَى وَجْهِهِ! يَقُولُ: بِمَنِ العَزَاءُ يَا بِنْتَ مُحَمَّدٍ؟

كُنْتُ بِكِ أَتَعَزَّى، فَفِيمَ العَزَاءُ مِنْ بَعْدِكِ(189).

لَم يكُن خبرُ شهادتها مفاجئاً، بل كان مُتوَقَّعاً، رغمَ ذلك وقع (عليه السلام) على وجهه لِهَول الخبر وعَظَمَتِهِ وشِدَّته.

لقد أخبرَتهُ الزهراء قبل ذلك أنَّها لاحقةٌ بأبيها، هيَ تُريدُ اللَّحاق به، بعدما سئمت الحياة بين ظهراني هذه الأمة المنكوسة.

لكِن.. مَن لِعليِّ بعدكِ يا زهراء؟! لقد قال لها قبيل وفاتها:

عَزَّ عَلَيَّ بِمُفَارَقَتِكِ وَبِفَقْدِكِ(190)، إِلَّا أَنَّهُ أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ.

وَالله، جَدَّدَ عَلَيَّ مُصِيبَةَ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وَقَدْ عَظُمَتْ وَفَاتُكِ وَفَقْدُكِ، فَإِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، مِنْ مُصِيبَةٍ مَا أَفْجَعَهَا وَآلَمَهَا وَأَمَضَّهَا وَأَحْزَنَهَا، هَذِهِ وَالله مُصِيبَةٌ لَا عَزَاءَ عَنْهَا، وَرَزِيَّةٌ لَا خَلَفَ لَهَا!(191).

آهٍ يا أمير المؤمنين، إلى مَن تَرجعُ بعد فاطمة؟!

سيِّدي.. لم نَفهَم كيف تكون الزَّهراء وأبوها ركناك، وجانبك الأقوى! وعزَّتك ومنعتك! وأنتَ صاحبُ السوابق، ومُبيد الكتائب، الشديد البأس، العظيم المِراس، ليثُ الموحّدين، وقاتل المشركين.

وأنَّى لنا أن نُدركَ العُلقة بينكم وقد كُنتم أنواراً قبل خلق الخلق! وقد أجرى الله تعالى طاعتكم على الخلائق أجمع.

ما الصلة العظمى بينك وبين مَن (عَلَى مَعْرِفَتِهَا دَارَتِ القُرُونُ الأُوَلُ) حتى صارَت رُكناً لك؟!

ذاك ما لا نطمحُ لمعرفته، لتسليمنا بالعجز عن إدراكه، لكنّنا نُدرك أنَّ لكم جميعاً عند الله منزلةً عظيمة، لا يسبقكم إليها سابقٌ ولا يلحق بكم لاحق، وأنَّكم أنوار الله جلَّ جلاله، وأنَّ بينكم علقةً إلهيَّةً نورانيةً ساميةً تفوقُ الوصف.

ثانياً: الوصيّة بالحسنين

لماذا أوصى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) علياً بالحسنين (عليهما السلام) بعد فَقد ركنيه: (أوصِيكَ بِرَيْحَانَتَيَّ مِنَ الدُّنْيَا، فَعَنْ قَلِيلٍ يَنْهَدُّ رُكْنَاكَ)، وما الصلةُ بين الأمرين؟!

إن النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يعلم مِقدار الألم الذي سيعانيه الحسنان بعد ارتحاله وبضعته، فهذا الحسن (عليه السلام) يقول بعد وفاتها (عليها السلام): يَا أُمَّاهْ، كَلِّمِينِي قَبْلَ أَنْ تُفَارِقَ رُوحِي بَدَنِي!

والحسين (عليه السلام) يقول: يَا أُمَّاهْ، أَنَا ابْنُكِ الحُسَيْنُ، كَلِّمِينِي قَبْلَ أَنْ يَنْصَدِعَ قَلْبِي فَأَمُوتَ!(192).

أيُّ نفوسٍ عظيمةٍ طاهرةٍ تمتلك هذه الأسرة، وأيٌّ قلوب رقيقةٍ تحويها أجسامُهم الشريفة، وأيُّ معرفةٍ بمنزلة بعضهم يملكونها.

إنَّ النبيَّ يعرفُ ما سيُعاني الحسنان بعد فَقد أمِّهما، لذلك أوصى بهما علياً (عليه السلام) بعد فقدها (عليها السلام).

وقد سبقَت هذه الوصية بالحسنين وصيَّةٌ أخرى بهما يقول فيها (صلى الله عليه وآله وسلم): وَأَمَّا الحَسَنُ وَالحُسَيْنُ فَهُمَا ابْنَايَ وَرَيْحَانَتَايَ، وَهُمَا سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الجَنَّةِ، فَلْيُكْرَمَا عَلَيْكَ كَسَمْعِكَ وَبَصَرِكَ!(193).

لقد أكرَمَهُما عليٌّ كما أوصاه الرَّسول، لكنَّ هذه الأمَّة المنكوسة المتعوسة مالَت عليهما ميلاً عَظيماً، كما فعلَت من قبلُ بأبيهما وأمِّهما.

فمِن أين يأتي عليٌّ بالصَّبر على ذلك؟!

ثالثاً: أيوصى عليٌّ بالإحسان.. لفاطمة؟!

يتعجَّبُ المرءُ عندما يسمع وصيَّة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأمير المؤمنين (عليه السلام) بالحسنين، لكنَّه يزداد تعجُّباً لمّا يسمع وصيَّتَه له (عليه السلام) بفاطمة (عليها السلام)!

لقد تكرَّرَ منه الإيصاءُ بها مراراً، فعند زواجهما قال لها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لَا تَعْصِي لَهُ أَمْراً.

وقال له (عليه السلام): ادْخُلْ بَيْتَك، وَالطُفْ بِزَوْجَتِك، وَارْفُقْ بِهَا، فَإِنَّ فَاطِمَةَ بَضْعَةٌ مِنِّي، يُؤْلِمُنِي مَا يُؤْلِمُهَا، وَيَسُرُّنِي مَا يَسُرُّهَا(194).

ثمَّ تكرَّر الأمرُ في أيامه (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن ذلك قوله له (عليه السلام): وَإِنَّهَا أَوَّلُ مَنْ يَلْحَقُنِي مِنْ أَهْلِ بَيْتِي فَأَحْسِنْ إِلَيْهَا بَعْدِي!(195).

وثالثةً قُبيل شهادته (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو على فراشه:

فَرَفَعَ رَأْسَهُ (صلى الله عليه وآله وسلم) إِلَيْهِمْ، وَيَدُهَا فِي يَدِهِ، فَوَضَعَهَا فِي يَدِ عَلِيٍّ وَقَالَ لَهُ:

يَا أَبَا الحَسَنِ، هَذِهِ وَدِيعَةُ الله، وَوَدِيعَةُ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ عِنْدَكَ، فَاحْفَظِ الله، وَاحْفَظْنِي فِيهَا، وَإِنَّكَ لَفَاعِلٌ يَا عَلِيُّ(196).

ههنا يزولُ العَجَب، فإيصاءُ النبيِّ علياً طريقٌ لتعرفَ الأمَّةُ قدرَها (عليها السلام)، وتمتنع عن ظُلمها.

إنَّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوصي كلَّ زوجٍ باللطف والرِّفق مع زوجته، لكنَّ لفاطمة خصوصيتها، فهي (بَضْعَةٌ مِنِّي)، وينبغي أن يكون اللطف والرِّفقُ بها خاصاً متناسباً مع تلك المكانة.

ثم يشير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى لزوم الإحسان إليها بعد وفاته: فَأَحْسِنْ إِلَيْهَا بَعْدِي! وهو العالمُ بنَوعِ إحسان الأمة إليها! حين اقتحمت دارَها! وأسقطت جنينها! وقادَت بعلَها!

أهكذا يكونُ الرِّفقُ ببضعة الرسول يا أمّة الإسلام؟ أهكذا يكون الإحسان إليها؟!

لقد رفع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) التَعَجُّبَ بقوله: وَاحْفَظْنِي فِيهَا، وَإِنَّكَ لَفَاعِلٌ يَا عَلِيُّ!

فليس المُخاطب حقاً هو عليّ (عليه السلام)، إنَّ المخاطبَ هو الأمّة المرتدة التي لم تحفظ (حقَّ الله فيها)!

هَذِهِ وَدِيعَةُ الله: وهذه كلمةٌ عجيبةٌ، فالله تعالى استودَعَ الزَّهراء عندَ عليٍّ (عليه السلام) فحَفِظَها، لكنَّ الأمَّة تدخَّلَّت وأصرَّت على تضييع الوديعة، ذاك يوم الهجوم على دارِها.

أمّا عليٌّ.. فهو القائل مع عظيم الغَصَّة: فَوَ الله مَا أَغْضَبْتُهَا! وَلَا أَكْرَهْتُهَا عَلَى أَمْرٍ! حَتَّى قَبَضَهَا الله عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ. وَلَا أَغْضَبَتْنِي، وَلَا عَصَتْ لِي أَمْراً.

وَلَقَدْ كُنْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهَا فَتَنْكَشِفُ عَنِّي الهُمُومُ وَالأَحْزَان(197).‏

هذا كانُ حالُ عليٍّ (عليه السلام) طيلة حياته مع وديعة الله ورسوله، إلى أن فَقَدَ ركنَه الأول، فظلَّ يتعزى بالزَّهراء (عليها السلام).

وبفقدها أبرَكَت الهمومُ لديه، وحَطَّت رحالها بين يديه، فحَمَلَ همَّاً لا يبرَحُ من قلبه، وهاجَت أحزانُه، وصارَ مترقِّباً لقاء الله تعالى.

لقد أوصته الزَّهراء بوصيّةٍ عجيبة، فقالت له (عليه السلام):

1. أَنْزِلْنِي قَبْرِي.

2. وَالحِدْنِي.

3. وَسَوِّ التُّرَابَ عَلَيَّ.

4. وَاجْلِسْ عِنْدَ رَأْسِي قُبَالَةَ وَجْهِي، فَأَكْثِرْ مِنْ تِلَاوَةِ القُرْآنِ وَالدُّعَاءِ.

فَإِنَّهَا سَاعَةٌ يَحْتَاجُ المَيِّتُ فِيهَا إِلَى أُنْسِ الأَحْيَاءِ(198).

آهٍ يا علي.. كيفَ أنزَلتَها القبر؟! بأيِّ حالٍ يا أبا الحسن؟ وكيف سَوَّيتَ عليها التُّراب؟ لقد كانت همومُك تنكشفُ بالنظر إليها في الدّنيا، وهي تأنسُ بكَ اليوم مِن تحت التُّراب!

أيُّ عُلقَةٍ عظيمة هذه؟ توصيك بأن تجلس عند قبرِها بعدَ موتها لتأنَسَ بكَ حياً، رغم أنَّها قد رأت أباها رسول الله وجبرئيل ومواكب أهل السماوات! رغم ذلك تأنسُ بك أنت يا علي.

ألست أنت يا علي القائل: أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لمَّا احْتُضِرَتْ نَظَرَتْ نَظَراً حَادّاً ثُمَّ قَالَتْ:

السَّلَامُ عَلَى جَبْرَئِيلَ، السَّلَامُ عَلَى رَسُولِ الله، اللهمَّ مَعَ رَسُولِكَ، اللهمَّ فِي رِضْوَانِكَ وَجِوَارِكَ، وَدَارِكَ دَارِ السَّلَامِ(199).

آه لفاطمة.. تعيشُ بين الأُنس بعليٍّ في دار الدُّنيا، وبين الشوق للحبيب المصطفى في دار السَّلام، وهي العزيزة في أيامه، فتطلبُ من الله تعالى أن يُسرِعَ بها إلى أبيها، وتظلُّ تأنسُ بعليٍّ قُربَ قَبرِها!

إنَّها فاطمة.. ركن عليٍّ.. المهدود!

فلعنَ الله مَن هدَّ ركنَه الأول بالسمّ، وركنه الثاني بالقتل.

وإنا لله وإنا إليه راجعون(200).

 

27. السلام على الضِّلع.. المَدقُوق!

بسم الله الرحمن الرحيم

جَمَعَ رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بني عبد المطَّلب عنده قُبيلَ وفاته، وأوصاهم بالأئمة الإثني عشر، ثمَّ أقبل على فاطمة (عليها السلام)، وخاطَبَها قائلاً: إِنَّكِ أَوَّلُ مَنْ يَلْحَقُنِي مِنْ أَهْلِ بَيْتِي!

هيَ عندَ النّاس بُشرى بالموت! يمقتُها أبناء آدم ويفرُّون منها عُمرَهم! لكنَّ الزَّهراء ضَحِكَت، فهيَ عندَها بُشرى بلقاء الوالد الشفيق في دار السَّلام، بعيداً عن الطغاة اللئام.

ثمَّ قال لها (صلى الله عليه وآله وسلم): وَأَنْتِ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَسَتَرَيْنَ بَعْدِي ظُلْماً وَغَيْظاً، حَتَّى تُضْرَبِي، وَيُكْسَرَ ضِلْعٌ مِنْ أَضْلَاعِكِ!(201).

لَم يعُد غريباً أن تضحك الزَّهراء لمّا عرَفَت أنَّها أوَّلُ أهل بيته لحوقاً به، كيف وهو يُخبرُها بما سيجري عليها من ظُلمٍ وغَيظ.

إنَّ الغيظ هو: (غضبٌ كامنٌ للعاجز)(202)، وقيل (هو أَشدُّ من الغضَب)(203)، أو هو (كَرْبٌ يلحقُ الإنسانَ مِن غيره)(204).

وقد أشارَ النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى جريمتين خطيرتين عظيمتين عند الله تعالى، ضَربُ فاطمة! وكَسرُ ضِلعِها! لكنَّهُ (صلى الله عليه وآله وسلم) ما أفصَحَ في هذا الحديث عن حقيقة الجريمتين تماماً، واكتفى بالإشارة مِن بعيد.

1. ضَربُ فاطمة

يقولُ قائلٌ:

ما قصَّةُ الشيعة مع ضَربِ فاطمة؟! لماذا يعظِّمون الأمر إلى هذا الحدِّ؟ إنَّها إن صَحَّت فهيَ ضربَةٌ لا تُغَيِّرُ في مَصير الأمة، فلماذا لا يزال الشيعةُ يعيشونها كلَّ عامٍ ويَبنون عليها عقيدتهم في البراءة؟!

فيُجيبُ الشيعيّ:

إنَّ فاطمة قُتِلَت من هذا الضَّرب! فتعالَ أيُّها العاقلُ لنرى أيَّ ضَربٍ أدّى إلى قتل هذه المرأة الرقيقة الطاهرة، سيدة نساء الجنة، وبضعة النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم).

لقد روى بعض المخالفين أنَّ: عمر ضرب بطن فاطمة يوم البيعة حتى ألقت المحسن من بطنها(205).

وروي أنَّه (رَفَسَهَا بِرِجْلِه‏)(206)، وأنَّه ضَرَبَ (كَفَّيْهَا بِالسَّوْطِ فَأَلَّمهَا) حتى سمعَ لها (زَفِيراً وَبُكَاءً)(207).

وأنَّه أخذ السوط وضرب به ما بين المِرفق إلى الكتف (فَأَخَذَ عُمَرُ السَّوْطَ مِنْ يَدِ قُنْفُذٍ.. فَضَرَبَ بِهِ عَضُدِي‏)، وأنَّه (رَفَعَ السَّوْطَ فَضَرَبَ بِهِ ذِرَاعَهَا)(208).

وأنَّه ضَرَبها بيدهِ من خلف الخمار على وجهها (فَضَرَبَنِي بِيَدِهِ حَتَّى انْتَثَرَ قُرْطِي مِنْ أُذُنِي‏)(209)، وأنَّه ضَرَبَ جنبها بالسيف: (فَرَفَعَ السَّيْفَ وَهُوَ فِي غِمْدِهِ فَوَجَأَ بِهِ جَنْبَهَا)(210).

بل روي أنَّ عمر أدماها وألهَبَ متنها حتى ماتت على تلك الحالة! ففي كامل البهائي المترجم (للطبري) أن المقداد قال لعمر:

قد ضربتَ بنت رسول الله بالسيف -وهو مغمدٌ- على جنبها فأدمَيتَهُ، وألهَبتَ مَتنَيها بالسوط حتى ماتت على هذه الحالة(211).

ونقل عن عقيل قوله لهم: ضربتموها بالأمس وخرجت من الدنيا وظَهرُها بِدَمٍ (مُدمىً) وهي غير راضية عنكما(212).

هذا شيءٌ مِن ضَربِ أسوأ الأجلاف لها، وما اشتفى اللعين بذلك، فأمَرَ قنفذ أيضاً بضربها (فضربها قنفذ بالسّوط على ظهرها وجنبَيها إلى أن أنهكها وأثرّ في جسمها الشريف‏)(213).

وقد شركهم المغيرة حتى قال له الإمام الحسن (عليه السلام): وَأَنْتَ الَّذِي ضَرَبْتَ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حَتَّى أَدْمَيْتَهَا(214).

ليس في كلمةِ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المتقدِّمة سوى إشارةٍ للضرب (حَتَّى تُضْرَبِي)، أما حقيقته فهو الضَّربُ المُدمي الذي يؤدي للموت.

حينها يُفهم حديثُ الإمام الصادق (عليه السلام): وَتُضْرَبُ وَهِيَ حَامِلٌ.. وَتَطْرَحُ مَا فِي بَطْنِهَا مِنَ الضَّرْبِ، وَتَمُوتُ مِنْ ذَلِكَ الضَّرْبِ(215).

لقد ضربوها ضرباً مُبرِحاً مُدمياً ظلَّت تئنُّ منه أيَّامَها حتى انتقلت إلى رَبِّها من أثره، فلم يكن أمراً عابراً، بل كان جريمةً عظيمةً بكل المعايير، وقعت على أعظم امرأةٍ في الوجود، تلك التي يغضَبُ الله لغضبها، فصارَ غضبُ الشيعة مترشِّحاً ومتفرِّعاً عن غضبها وغضبِ الجبار على قاتليها.

2. كَسرُ ضِلعِها

إنَّ كَسرَ الضلع هو الظُّلامة الثانية في حديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد قال لها (صلى الله عليه وآله وسلم): وَيُكْسَر ضِلْعٌ مِنْ أَضْلَاعِكِ!

لكنَّه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يبيِّن كيفيَّة الكسر في هذا الحديث، وإن أشار في حديثٍ آخر إلى أن الكسر سيكون لضلعٍ في جنبها، فقال مرَّةً لما رآها وذكَرَ ما يجري عليها: كَأَنِّي بِهَا وَقَدْ دَخَلَ الذُّلُّ بَيْتَهَا.. وَكُسِرَ جَنْبُهَا، وَأَسْقَطَتْ جَنِينَهَا(216).

وفي حديثٍ آخر: فَالجَأَهَا قُنْفُذٌ لَعَنَهُ الله إِلَى عِضَادَةِ بَابِ بَيْتِهَا، وَدَفَعَهَا فَكَسَرَ ضِلْعَهَا مِنْ جَنْبِهَا(217).

لكنَّ عليَّاً (عليه السلام) كشَفَ في قُنوتِهِ ما هو أمَرُّ وأدهى، ففي مصباح الكفعمي: اللهمَّ.. العَنْ صَنَمَيْ قُرَيْشٍ.. بِعَدَدِ كُلِّ مُنْكَرٍ أَتَوْه.. وَجَنِينٍ أَسْقَطُوهُ، وَضِلْعٍ دَقُّوهُ!(218).

لقد كسروا ضِلعَ فاطمة، بل دقُّوه! أي بالغوا في تكسيره قِطَعاً قِطَعاً! حتى هشَّموه ورضُّوه في كلّ وجه! فلا حول ولا قوّة إلا بالله.

في كتاب العين: دَقَقْتُ الشي‌ءَ دَقّاً، وكل شي‌ء كسرته قطعة قطعة(219).

وفي المحيط: والدُّقَاقُ: فُتَاتُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ(220).

وفي لسان العرب: والدَّقُّ: الكَسر والرَّضُّ في كل وجه، وقيل: هو أَن تضرب الشيءَ بالشيء حتى تَهْشِمَه(221).

فكَم ضربَةٍ تعرَّضَ لها ضِلع فاطمة الشريفة حتى صار ضِلعاً مَدقوقاً! ذاك ما يعلمُه الله وأولياؤه وأعداؤه الذين ارتكبوا الجرم الشنيع.

ذاكَ أمرٌ يعلمُه الإمام المعصوم، ويظهر أثرُهُ عليه، فقد روي أنّ رجلاً دخل على الإمام الصادق (عليه السلام) موجَعَ القَلبِ لأمرٍ رآه، ولمّا سأله الإمام عن ذلك قال:

رَأَيْتُ جِلْوَازاً يَضْرِبُ رَأْسَ امْرَأَةٍ وَيَسُوقُهَا إِلَى الحَبْسِ، وَهِيَ تُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتِهَا: المُسْتَغَاثُ بِالله وَرَسُولِهِ، وَلَا يُغِيثُهَا أَحَدٌ!

إمرأةٌ تُضرَبُ وتُساق إلى الحبس فيتوجَّع قلبُ هذا الرَّجل لأجلها، وهو لا يعرفُها، يسأله الإمام (عليه السلام) عن سبب فعلهم ذلك فيقول:

سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ: إِنَّهَا عَثَرَتْ فَقَالَتْ:

لَعَنَ الله ظَالِمِيكِ يَا فَاطِمَةُ، فَارْتَكَبَ مِنْهَا مَا ارْتَكَبَ! (أي الجلواز).

سبحان الله.. امرأةٌ تلعنُ ظالمي فاطمة فتُضرَب وتُساق إلى الحبس مِن غير جُرمٍ، ثم تستغيث فلا تُغاث، والنّاس بين راضٍ بِضَربها، وعاجزٍ عن الدَّفع عنها.

قَالَ: فَقَطَعَ الأَكْلَ، وَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى ابْتَلَّ مِنْدِيلُهُ وَلِحْيَتُهُ وَصَدْرُهُ بِالدُّمُوعِ، ثُمَّ قَالَ: يَا بَشَّارُ قُمْ بِنَا إِلَى مَسْجِدِ السَّهْلَةِ فَنَدْعُوَ الله عَزَّ وَجَلَّ وَنَسْأَلَهُ خَلَاصَ هَذِهِ المَرْأَةِ!(222).

ثم دعا الله تعالى لها ساجداً وما رفعَ رأسَه حتى قال للرجل: قُمْ فَقَدْ أُطْلِقَتِ المَرْأَةُ، وكان الأمر كذلك فعلاً.

لقد دلَّ الحديثُ على عظيم اهتمام الإمام (عليه السلام) بمَن يذكرُ فاطمة وظلامتها، فكَم يهتمُّ إمامُنا الحجَّةُ (عليه السلام) بذلك؟ وكم تُستثارُ غيرَتُهُ إذا تعرَّضَ مؤمنٌ للظلم في سبيل إحياء أمرها وبيان ظُلامتها؟

إنَّه أمرٌ يبعثُ في نفوس المؤمنين عزيمةً لا تُضاهى في سبيل الحفاظ على ذكرها، وتربية الأمم على حُبِّها وفضلها والبراءة من ظالميها، فمَن فَعَلَ ذلك كان في رعاية الإمام الحجة (عليه السلام)، وهو الشَّرَفُ الرَّفيع، والعِزُّ والمجد والسؤدد.

إنَّ ذِكرَ فاطمة (عليها السلام) وما جرى عليها قد أفجَعَ قلبَ الصادق (عليه السلام)، إمام الوجود، وأسالَ دموعَه، فَمِثلُهُ يَعرفُ فاطمةَ حقَّ معرفتها، ويعلمُ جيِّداً عَظيم ما جرى عليها، مِن ضَربٍ ورَفسٍ ولَكزٍ وكَسرٍ!

يَعلَمُ حالَ ضِلعِها المَدقوق.. وجنبها المكسور.

يعلَمُ مواضعَ السِّياط وأثرها حتى أنهكها الضَّربُ بها.

يعلَمُ ما فَعَلَت سياط الثاني وقنفذه بالزَّهراء.. وهو الذي أعلَمناَ بما يجازيهم ربُّهم يوم القيامة على ضربها وإسقاط مُحسنها، حيث: يُؤْتَيَانِ هُوَ وَصَاحِبُهُ فَيُضْرَبَانِ بِسِيَاطٍ مِنْ نَارٍ، لَوْ وَقَعَ سَوْطٌ مِنْهَا عَلَى البِحَارِ لَغَلَتْ مِنْ مَشْرِقِهَا إِلَى مَغْرِبِهَا، وَلَوْ وُضِعَتْ عَلَى جِبَالِ الدُّنْيَا لَذَابَتْ حَتَّى تَصِيرَ رَمَاداً فَيُضْرَبَانِ بِهَا(223).

هذا شيءٌ من جزاءِ مَن يظلم بضعة المختار، سيدة النساء، ويضربها ويكسر ضلعها ويؤلمها بالسياط، سياطٌ لا تُتَصَوَّرُ عظمةُ أثَرِها عليهم، جزاءً بما فَعلا.

ولئن جَهِلَ امرؤٌ عظيم جُرمِهم، فلينظُر إلى عظيم ما أعدَّ الله تعالى لهم، ليعرف كم أغضبوا العزيز المنتقم الجبار، وأيّ جنايةٍ وجُرمٍ لا يمكن تصوُّره قد ارتكبوه.

اللهم إنا نبرأ إليك منهم ومن أشياعهم وأتباعهم.

وإنا لله وإنا إليه راجعون(224).

 

28. عَليٌّ.. وَقَبرُ فاطمة..

بسم الله الرحمن الرحيم

لَا شَفِيعَ لِلْمَرْأَةِ أَنْجَحُ عِنْدَ رَبِّهَا مِنْ رِضَا زَوْجِهَا(225).

للزَّوجِ حَقٌّ عظيمٌ على الزَّوجة، بلَغَ بحسب باقرِ العلوم حدَّاً: صار رِضاهُ عنها سبيلاً لرضا الله تعالى، في الدُّنيا والآخرة.

لَم تؤمَر المرأة بالسُّجود لزوجها، لأنَّ أحداً لم يؤمر بالسجود لغير الله تعالى، ولكن ظَلَّ رضا الزّوج طريقاً يُمَهِّدُ أمام المرأة الدُّخول إلى جنان الرحمان.

يكمل الباقر (عليه السلام) فيقول: وَلمَّا مَاتَتْ فَاطِمَةُ (عليها السلام) قَامَ عَلَيْهَا أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) وَقَالَ: اللهمَّ إِنِّي رَاضٍ عَنِ ابْنَةِ نَبِيِّكَ!

عليٌّ زوجُها راضٍ عنها، وعليٌّ إمامها راضٍ عنها.

أمّا رضاهُ عنها كزوجها، فهي التي قالت له: وَلَا خَالَفْتُكَ مُنْذُ عَاشَرْتَنِي(226)‏، فكيف لا يرضى أميرُ المؤمنين عن الطاهرة الكاملة المعصومة سيدة نساء أهل الجنة.

وأمّا رضاهُ عنها كإمامها، فهي التي حالت بينه وبين القوم لمّا أرادوا أخذَه، فتعرَّضَت للضَّرب دِفاعاً عن إمامها: حَالَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ فَاطِمَةُ (عليها السلام) عِنْدَ بَابِ البَيْتِ، فَضَرَبَهَا قُنْفُذٌ المَلْعُونُ بِالسَّوْطِ(227).

قال (عليه السلام) هذه الكلمة (اللهمَّ إِنِّي رَاضٍ عَنِ ابْنَةِ نَبِيِّكَ)، ثمَّ أتبَعها بكلماتٍ تُقَطِّعُ القلوب:

1. اللهمَّ إِنَّهَا قَدْ أُوحِشَتْ فَآنِسْهَا.

2. اللهمَّ إِنَّهَا قَدْ هُجِرَتْ فَصِلْهَا.

3. اللهمَّ إِنَّهَا قَدْ ظُلِمَتْ فَاحْكُمْ لَهَا، وَأَنْتَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ(228).

وَحشَةٌ وهُجرانٌ وظُلمٌ، هو ما لاقته الزَّهراء من الأمّة المنقلبة على أعقابها، وعَليٌّ إلى جانبها، ولكن.. ما أمكَنَهُ أن يَرُدَّ القوم عَنها.

هيَ مُتَألِّمَةٌ لفراق أبيها، والقومُ يمنعونها حتى من البكاء عليه!

هي مظلومةٌ مقهورةٌ، وعليٌّ لا يَسَعُه الدَّفع عنها، وإرجاع حقِّها إليها.

عَليٌّ ذو القلب المكلوم، يوكِلُ أمرَها إلى الله تعالى، فهو الذي سيحكم لها، وهكذا يفعلُ كلُّ مُحِبٍّ لها عندما يزورها بقوله:

اللهمَّ إِنَّها خَرَجَتْ مِنْ دُنْيَاهَا مَظْلُومَةً مَغْشُومَةً، قَدْ مُلِئَتْ دَاءً وَحَسْرَةً وَكَمَداً وَغُصَّةً، تَشْكُو إِلَيْكَ وَإِلَى أَبِيهَا مَا فُعِلَ بِهَا، اللهمَّ انْتَقِمْ لَهَا وَخُذْ لَهَا بِحَقِّهَا(229).

الزَّهراء مغشومةٌ: أي مقهورةٌ مظلومةٌ مغلوبة(230).. الزَّهراء مملوءةٌ داءً وهمَّاً وحُزناً لا يمكن إمضاؤه.. الزَّهراء مغمومةٌ قد مُلئت غُصَّةً مما جرى عليها من القوم.. فلا حول ولا قوّة إلا بالله، والمشتكى إلى الله.

أُوحِشَت الزَّهراء وظُلِمَت وهي فوق التُّراب، فأراد عليٌ (عليه السلام) أن تُراعى تحتَ التُّراب!

لئن أبى أكثرُ الناس إلا كفوراً بولاية عليٍّ ومودَّة الزّهراء (عليهما السلام)، وقد قَسَت قلوبهم فصارت كالحجارة أو أشدّ قسوَة، فإنَّ الجمادات تعرِفُ قدرَ الأعاظم، لقد جَلَسَ عليٌّ على شفير قبرها (عليها السلام) وقال:

يَا أَرْضُ اسْتَوْدَعْتُكِ وَدِيعَتِي! هَذِهِ بِنْتُ رَسُولِ الله.

وكان الأعجبُ من كلامه أن سمعَ نداءً من الأرض:

يَا عَلِيُّ أَنَا أَرْفَقُ بِهَا مِنْكَ، فَارْجِعْ وَلَا تَهْتَمَّ!

أيُّ معنى عَجيبٍ هذا؟ النّاسُ يظلمونها ويقهرونها وهي حيَّةٌ، ثمَّ تصيرُ (عليها السلام) وديعةَ عَليٍّ عند الأرض، فتكون الأرضُ أرفقَ بها!

ههنا اطمأنَّ (عليه السلام) على الزَّهراء: فَرَجَعَ، وَانْسَدَّ القَبْرُ، وَاسْتَوَى بِالأَرْضِ، فَلَمْ يُعْلَمْ أَيْنَ كَانَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ(231).

ولكن.. كيف يرجعُ عَليٌّ ويَدَعُ الزَّهراء وحدَها؟!

كيف لا يهتمُّ بعدما أوسدَها التُّراب؟!

إنَّ من هوان الدّنيا على الله تعالى أن لا يتمكَّنَ عليٌّ من المقام عند قبر فاطمة (عليها السلام)، وهو القائل: وَلَوْ لَا غَلَبَةُ المُسْتَوْلِينَ، لَجَعَلْتُ المُقَامَ وَاللَّبْثَ لِزَاماً مَعْكُوفاً، وَلَأَعْوَلْتُ إِعْوَالَ الثَّكْلَى عَلَى جَلِيلِ الرَّزِيَّةِ(232).

عَليٌّ يُريدُ أن يلبث عند قبر فاطمة، ويتّخذه مقراً ومُستَقرّاً ومُعتَكفاً!

يُريدُ أن يحبسَ نفسه للبكاء والعويل على فاطمة (عليها السلام).

لكنَّ هناك ما يمنعه، إنَّهُ لا يريدُ أن يعرف الأجلاف المتسلِّطون بقوّة السلاح موضع قبر فاطمة (عليها السلام)، فصارَ حُزنُه مضاعَفاً: حُزنٌ على ما جرى عليها، وآخرُ على فَقدِها، وثالثٌ لعدم اللُّبث عند لَحدها.

لقد أوصته أن لا يُعرفَ قبرُها، فكيف له أن يلبث قُربَها دائماً! مع أنَّها تأنس به حيَّةً وميِّتة.. وقد أوصته أن يجلس عند رأسها بعد أن يسوي التراب عليها لتأنس به!

وأنّى له أن يلازمَ قبرَها ويَبكيها جهاراً نهاراً وقد عُفِّيَ موضعُه، والتبس الأمر على القوم لمّا أعدَّ أربعين قبراً جُدداً.

ذاك حيثُ: ضَجَّ النَّاسُ وَلَامَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً، وَقَالُوا: لَمْ يُخَلِّفْ نَبِيُّكُمْ فِيكُمْ إِلَّا بِنْتاً وَاحِدَةً، تَمُوتُ وَتُدْفَنُ وَلَمْ تَحْضُرُوا وَفَاتَهَا وَلَا دَفْنَهَا وَلَا الصَّلَاةَ عَلَيْهَا! بَلْ وَلَمْ تَعْرِفُوا قَبْرَهَا!

فَقَالَ وُلَاةُ الأَمْرِ مِنْهُمْ: هَاتُوا مِنْ نِسَاءِ المُسْلِمِينَ مَنْ يَنْبُشُ هَذِهِ القُبُورَ حَتَّى نَجِدَهَا فَنُصَلِّيَ عَلَيْهَا وَنَزُورَ قَبْرَهَا(233).

ما رضيَت الزَّهراء عنهم في حياتها حتى ترضى عنهم في مماتها.

ما احتملت أن يدخلا عليها حيَّةً حتى أعرضت بوجهها عنهما، ثم خَصَمَتهُمَا وتوفيَّت غاضبةً عليهما، أفَتَرضَى ويرضى عليٌّ أن يقفا عند قبرِها؟!

أيرضى عليٌّ أن ينبشا قبرَها وَيُخرِجَاها ويطمِسَا معالمَ الظُّلامة؟!

لن ترضى الزَّهراء بأقل من ظلامةٍ باقية على مرَّ الدُّهور، ولن يرضى عليٌّ بأقلَّ من أن ينفذ وصيَّةَ فاطمة، ويمنعهم من نبش قبرها.

فَخَرَجَ مُغْضَباً قَدِ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وَدَرَّتْ أَوْدَاجُهُ، وَعَلَيْهِ قَبَاؤُهُ الأَصْفَرُ الَّذِي كَانَ يَلْبَسُهُ فِي كُلِّ كَرِيهَةٍ، وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى سَيْفِهِ ذِي الفَقَارِ، حَتَّى وَرَدَ البَقِيعَ، فَسَارَ إِلَى النَّاسِ مَنْ أَنْذَرَهُمْ، وَقَالَ:

هَذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي‏ طَالِبٍ قَدْ أَقْبَلَ كَمَا تَرَوْنَهُ، يُقْسِمُ بِالله لَئِنْ حُوِّلَ مِنْ هَذِهِ القُبُورِ حَجَرٌ لَيَضَعَنَّ السَّيْفَ فِي رِقَابِ الآمِرِينَ.

الناس تعرفُ بأسَ حيدَر، فليست صولاته وجولاته بالشيء الذي يُنسى، وها هو اليوم يعودُ بالتاريخ إلى أيام الشدائد، ويَظهَرُ ذلك عليه جَلياً، فيسبقُهُ خَبَرُه إلى البقيع إنذاراً مُدَويَّاً.

لكنَّ القومَ ظنوا أنَّ ما قَيَّدَ علياً عن المطالبة بحقِّه فيما سَبَق سيكون سيَّالاً:

فَتَلَقَّاهُ عُمَرُ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَقَالَ لَهُ: مَا لَكَ يَا أَبَا الحَسَنِ، وَالله لَنَنْبِشَنَّ قَبْرَهَا وَلَنُصَلِّيَنَّ عَلَيْهَا.

فَضَرَبَ عَلِيٌّ (عليه السلام) بِيَدِهِ إِلَى جَوَامِعِ ثَوْبِهِ فَهَزَّهُ ثُمَّ ضَرَبَ بِهِ الأَرْضَ، وَقَالَ لَهُ:

يَا ابْنَ السَّوْدَاءِ:

أَمَّا حَقِّي: فَقَدْ تَرَكْتُهُ مَخَافَةَ أَنْ يَرْتَدَّ النَّاسُ عَنْ دِينِهِمْ.

وَأَمَّا قَبْرُ فَاطِمَةَ: فَوَ الَّذِي نَفْسُ عَلِيٍّ بِيَدِهِ، لَئِنْ رُمْتَ وَأَصْحَابُكَ شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ لَأَسْقِيَنَّ الأَرْضَ مِنْ دِمَائِكُمْ، فَإِنْ شِئْتَ فَاعْرِضْ يَا عُمَرُ(234).

رأى القومُ بأسَ حيدر المعهود، وعلموا أنَّ الموردَ ليس من الموارد التي يمكن لعليٍّ أن يسكت عنها، فانكفؤوا ورجعوا خاسئين، قد امتلؤوا رُعباً.

قال (عليه السلام) مخاطباً مَن اشتهر بالفرار والإنكسار:

لَئِنْ سَلَلْتُ سَيْفِي لَا غَمَدْتُهُ دُونَ إِزْهَاقِ نَفْسِكَ، فَرُمْ ذَلِكَ! فَانْكَسَرَ عُمَرُ وَسَكَتَ(235).

هكذا أنفذَ عليٌّ (عليه السلام) وصيَّة حبيبة المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)، لتظلَّ الظلامةُ حيَّةً إلى ظهور المنتقم الآخذ بالثار.

اللهم عجِّل فرجه، وسهِّل مخرجه، واجعلنا من أعوانه، المنتقمين معه لفاطمة (عليها السلام).

ولا حول ولا قوة إلا بالله(236).

 

29. وَجَحَدوا الرَّسول.. بقتل البتول!

بسم الله الرحمن الرحيم

إِنَّ لِإِبْلِيسَ..لَعُوقاً.. وَلَعُوقُهُ الكَذِبُ!(237).

حديثٌ يرويه الشيخُ الصدوق رحمه الله عن الإمام الباقر (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

قد يلعَقُ الإنسانُ أصابِعَه بعد الطّعام مُلتَذّاً، لكنَّ لذَّة إبليس وهمّه في محلٍّ آخر: في الكذب، يتبعُهُ في ذلك جنودُه من شياطين الجنِّ والإنس، بل قد يسبقُهُ منهم سابق!

ومِن ذلك ما جرى بعدَ شهادة الزَّهراء (عليها السلام): فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يُعَزِّيَان عَلِيّاً (عليه السلام) وَيَقُولَانِ لَهُ: يَا أَبَا الحَسَنِ، لَا تَسْبِقْنَا بِالصَّلَاةِ عَلَى ابْنَةِ رَسُولِ الله!(238).

ههنا يظهَرُ لَعوقُ إبليس جليَّاً!

القومُ يُعزُّون عليَّاً في فاطمة! وهل قَتَلَهَا غيرُهم؟!

القومُ يريدون الصلاة على ابنة رسول الله! والمشاركة في دَفنها! وهَل شاركوا مِن قبلُ في دَفنِ أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!

لقد ثبت عن المعصوم (عليه السلام) قوله: إِنَّ مِمَّا أَعَانَ الله بِهِ عَلَى الكَذَّابِينَ النِّسْيَانَ(239).

فينسى الكذّاب حتى لا يعرف كيف يخفي كذبته، ولا ينطلي لَعوُقُهُ على المؤمن، والمؤمن لا ينسى مثل هذه الحوادث، فيرجع بالتاريخ أياماً قليلةً إلى الوراء، ويتأمَّل فيما رواه (سَيِّد الحُفّاظ) و(عديم النظير)(240) من المحدِّثين عند العامة، ابن ابي شيبة الكوفي (المتوفى سنة 235 هـ) حين قال:

حدثنا ابن نمير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن أبا بكر وعمر لم يشهدا دفن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، كانا في الأنصار فَدُفِنَ قبل أن يرجعا!(241).

ماذا كان يفعل هؤلاء (في الأنصار) حتى انشغلا عن دفن النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)؟! إنَّهم على سابق عهدهم وطريقتهم، لطالما كانوا يتربَّصون الدوائر بآل محمد، واليوم هم كالأمس.

في خطبة الزهراء (عليها السلام) حينما وصفت حالَ أمير المؤمنين (عليه السلام) مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أيام الشدَّة قالت لهم: وَأَنْتُمْ فِي رَفَاهِيَةٍ مِنَ العَيْشِ، وَادِعُونَ فَاكِهُونَ آمِنُونَ، تَتَرَبَّصُونَ بِنَا الدَّوَائِرَ(242).

هكذا كانوا.. وهكذا هُمُ اليوم، ينهَمِكُون في التدبير والخديعة والمكيدة، والنبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يدفن بعد.

حتى تلك المرأة التي كذبوا وقالوا أنَّ الرَّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) توفي في حجرها، نقل عنها أئمة المؤرخين والمحدِّثين فقالوا:

عن عائشة قالت: ما عَلِمنَا بدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا صوت المساحي من آخر الليل(243).

يُعرفُ دَفنُ الرَّسول عندهم بأصوات المجارف أثناء إهالة التُّراب! لا بالمشاركة في تشييعه ودفنه! وهو صاحب رسالة السماء العظيمة ورسول الإسلام وخير الخلق أجمعين!

أسوأ محضر!

إنَّ حَكايا التاريخ ليسَت قِصَصَاً تُروى من الشيعة لأطفالهم، إنَّها مواقفُ تَختَزِنُ عظيمَ المعاني، وتستبطنُ آلاماً مِن أسوأ قومٍ، حضروا أسوأ محضَر!

نقل الشيخ المفيد في أماليه عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ:

لمَّا بَايَعَ النَّاسُ أَبَا بَكْرٍ خَرَجَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم) فَوَقَفَتْ عَلَى بَابِهَا وَقَالَتْ: مَا رَأَيْتُ كَاليَوْمِ قَطُّ، حَضَرُوا أَسْوَأَ مَحْضَرٍ! تَرَكُوا نَبِيَّهُمْ (صلى الله عليه وآله وسلم) جِنَازَةً بَيْنَ أَظْهُرِنَا! وَاسْتَبَدُّوا بِالأَمْرِ دُونَنَا!(244).

ونَقَلَ في إرشاده فقال: وَلَمْ يَحْضُرْ دَفْنَ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أَكْثَرُ النَّاسِ، لِمَا جَرَى بَيْنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ مِنَ التَّشَاجُرِ فِي أَمْرِ الخِلَافَةِ، وَفَاتَ أَكْثَرَهُمُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ لِذَلِكَ. وَأَصْبَحَتْ فَاطِمَةُ (عليها السلام) تُنَادِي: وَا سَوْءَ صَبَاحَاهْ!

فَسَمِعَهَا أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ لَهَا: إِنَّ صَبَاحَكِ لَصَبَاحُ سَوْءٍ!(245).

أيُّ كلمةٍ عظيمةٍ ينطقُ بها لسان الزَّهراء (عليها السلام)! وأيُّ لَفظٍ قبيحٍ يتقيَّحُه ابن ابي قحافة!

نَظَرَت الزَّهراء، فإذا بقومِ أبيها قد تركوه (صلى الله عليه وآله وسلم) جنازةً، واجتمعوا على سَلب عترته وأقرب الناس إليه حقَّهم! وتشاجروا على ما ليس لهم! وضيَّعوا الرَّسول بعد انقلابهم على أعقابهم! فرأت (عليها السلام) في ذلك (أَسْوَأَ مَحْضَرٍ) في صباحٍ سوء (وَا سَوْءَ صَبَاحَاهْ!).

هي المُحقَّةُ في ذلك، فإنَّ أهلَ الأرض قد سَلَبُوا إرثَ السَّماء، وانتهكوا حرمة رسول الله وآل الله (عليهم السلام)!

لكنَّ مَن عُجِنَت بناتُ أفكاره بِرِيقِ الأفاعي، وخُلِطَت كلماتُه بقَيئها، لن يكون له جوابٌ سوى قوله لها: إِنَّ صَبَاحَكِ لَصَبَاحُ سَوْءٍ!

يُقال للبتول الطاهرة هذا القول بعدَ التجاوُزِ عن حقِّها! فواعجباً للأرض التي تسمعُ هذه الكلمات كيف لا تنشقُّ وتبتلع هؤلاء! إنَّها إرادة الربِّ في الإملاء لهم، ليزدادوا إثماً.

لقد غابوا عن دَفنِ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثمَّ ظلموا الزَّهراء (عليها السلام) حقَّها، وأرادوا أن يغسلوا العارَين معاً بالصلاة عليها والمشاركة في دَفنها!

لقد روي في كامل البهائي المترجم (للطبري) أنّهما قالا:

لا بدَّ من إخبارنا لحضور جنازتها، والصلاة عليها، فلم يجبهما أمير المؤمنين (عليه السلام).. قال سلمان: اذهبوا إلى بيوتكم فقد أخَّرنا تجهيز الزهراء.

فقال عمر: أُقسمُ بالله ما أرادوا بالتأخير إلا دفنها سِرَّاً، فلا نحضر جنازتها(246).

لقد شعَرَ الثاني بل جَزَمَ أنَّ آل الرَّسول يريدون تفويت الفرصة عليهم، بما يظنونه غسلاً للعار الذي لا يُغسَل.

ولمَّا طلعَ الصباح، وتبيَّن أن فاطمة قد دُفِنَت ليلاً:

التَفَتَ عُمَرُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّهُمْ سَيَفْعَلُونَ؟! ..

وَالله‏ لَا تَتْرُكُونَ يَا بَنِي هَاشِمٍ حَسَدَكُمُ القَدِيمَ لَنَا أَبَداً!!(247).

يعلَمُ هؤلاء موجبات مواقف الآل الكرام، ويُدركون أكثر مِن غَيرِهم عَظيمَ الأسباب التي تدعو آل محمد لهذا الموقف، فالمرء أعلم بنفسه، ومن ذلك أنَّهم يحسدون بني هاشم أصحاب الشرف الرفيع. فإنَّ وَضَاعَة هؤلاء جعلتهم ينسبون الحسد للمحسود! وهذا هو حالُ الأراذل حيث ينسبون النقص لأهل الكمال.

ولقد أغفل هؤلاء أموراً وأغمضوا عنها، حيثُ ظَنّوها تغيب عن كلِّ الأمة، ومنها:

1. أنهم أضمروا الشرَّ لرسول الله!

لقد روى ابن ابي الحديد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: اللهم إني أستعديك على قريش، فإنهم أضمروا لرسولك (صلى الله عليه وآله وسلم) ضروباً من الشرِّ والغَدر، فعجزوا عنها، وحِلتُ بينهم وبينها، فكانت الوجبة بي، والدائرةُ عَليَّ!(248).

لقد آن الأوان عند القوم ليأخذوا بثأرهم بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وما عجزوا عنه عندما كان محمدٌ وعليٌّ معاً، أرادوا أخذه من الوصيِّ منفرداً، فلقد انهدَّ ركنه الأول بفقد الرَّسول، وها هي المُضمَرات تَظهَرُ عَصفاً في آل الرَّسول، وظُلمَاً وقَهراً واضطهاداً وأخذاً بالثار!

2. أنهم طلبوا المُلك باسم الرسالة!

لقد أشار الإمام زين العابدين (عليه السلام) إلى أنَّ القوم ما آمنوا بالله حقاً، بل اتخذوا الإيمان طريقاً لبلوغ ما عَدُّوه (مُلكاً لا ينبغي أن يبقى في آل الرَّسول)، وأنَّ بقاءهم على ظاهر الديانة إنما كان لأجل بلوغ تلك الغاية، ولو كان لهم طريقٌ لبلوغها مع عدم الإبقاء على ظاهر الإسلام لما ظلوا عليه!

قال (عليه السلام): وَالله لَوْ تَمَكَّنَ القَوْمُ أَنْ طَلَبُوا المُلْكَ بِغَيْرِ التَّعَلُّقِ بِاسْمِ رِسَالَتِهِ كَانُوا قَدْ عَدَلُوا عَنْ نُبُوَّتِهِ(249).

وقد سئل أمير المؤمنين (عليه السلام):

يا أمير المؤمنين، أ رأيت لو كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ترك ولداً ذكراً قد بلغ الحلم، وآنس منه الرشد، أ كانت العرب تسلم إليه أمرها؟

قال: لا بل كانت تقتله إن لم يفعل ما فعلت!

إن العرب كَرِهَت أمر محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وحسدته.. وأجمعت مُذ كان حياً على صرف الأمر عن أهل بيته بعد موته.

ولو لا أن قريشاً جعلت اسمه ذريعةً إلى الرئاسة، وسلماً إلى العزِّ والإمرة، لما عبدت الله بعد موته يوماً واحداً!(250).

3. أنهم أرادوا استذلال رسول الله!

لقد خاطب الإمام الحسن (عليه السلام) المغيرة فقال: وَأَنْتَ الَّذِي ضَرَبْتَ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حَتَّى أَدْمَيْتَهَا، وَألقَتْ مَا فِي بَطْنِهَا:

1. اسْتِذْلَالًا مِنْكَ لِرَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

2. وَمُخَالَفَةً مِنْكَ لِأَمْرِهِ.

3. وَانْتِهَاكاً لِحُرْمَتِهِ(251).

هكذا كان القوم، يُضمِرون الشرَّ لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته، ويطلبون المُلك باسمه بعد وفاته، ويسعون إلى استذلاله بضرب ابنته فاطمة، وقد أمَرَ (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ربِّه عزَّ وجلّ بمودَّتها، وحذَّرَ من التعرُّض لها!

إنَّهم أهلُ الجحود والإنقلاب على الأعقاب، إنَّهم سِفْلَةُ الأعراب! وقَد جَحَدوا الرَّسول وكذَّبوا به وبرسالته، بانتهاك حُرمته، وقتل بضعته.

لقد ورد عن المعصومين (عليهم السلام):

فَحُشِرَ سِفْلَةُ الأَعْرَابِ، وَبَقَايَا الأَحْزَابِ، إِلَى دَارِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، وَمَهْبِطِ الوَحْيِ وَالمَلَائِكَةِ، وَمُسْتَقَرِّ سُلْطَانِ الوَلَايَةِ، وَمَعْدِنِ الوَصِيَّةِ وَالخِلَافَةِ وَالإِمَامَةِ، حَتَّى نَقَضُوا عَهْدَ المُصْطَفَى، فِي أَخِيهِ عَلَمِ الهُدَى، وَالمُبَيِّنِ طَرِيقَ النَّجَاةِ مِنْ طُرُقِ الرَّدَى(252).

اجتمع الأنذال والأراذلُ والغوغاء والدُّونُ والسُّقاط (من الأعراب)! الأشدّ كُفراً ونفاقاً! وبقايا الأحزاب المحاربين لله ورسوله، لينقضوا عهد المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد قال تعالى: ﴿وَالَّذينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ الله مِنْ بَعْدِ ميثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ الله بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولئِكَ لهُمُ اللَّعْنَةُ وَلهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾(253).

وعنهم (عليهم السلام): وَجَرَحُوا كَبِدَ خَيْرِ الوَرَى، فِي ظُلْمِ ابْنَتِهِ، وَاضْطِهَادِ حَبِيبَتِهِ، وَاهْتِضَامِ عَزِيزَتِهِ، وَبَضْعَةِ لَحمِهِ، وَفِلْذَةِ كَبِدِهِ.

وَخَذَلُوا بَعْلَهَا، وَصَغَّرُوا قَدْرَهُ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُ، وَقَطَعُوا رَحِمَهُ، وَأَنْكَرُوا أُخُوَّتَهُ، وَهَجَرُوا مَوَدَّتَهُ، وَنَقَضُوا طَاعَتَهُ، وَجَحَدُوا وَلَايَتَهُ، وَأَطْمَعُوا العَبِيدَ فِي خِلَافَتِهِ(254).

لا يُرتجى سوى ذلك من هؤلاء الأنجاس الأرجاس، سِفلَة الأعراب، بتأسيسهم أساس الظُّلم والجور على آل محمدٍ، ونقضهم عهده (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأذيتهم بضعته ووصيَّه.

ولَقَد حُشِرَ أحفادُ هؤلاء على رأيهم عاماً بعدَ عام، حينَ تولُّوهم واتَّبعوهم، وأوجدوا لهم العذر في أخبث فِعالهم!

ومِن ذلك ما ذهب إليه جمهورُهم، كما ينقل واحدٌ من جهابذتهم، ذاك ابن ابي الحديد المعتزلي حين يقول:

والصحيح عندي أنها ماتت وهي واجدةٌ على أبي بكر وعمر، وأنها أوصت ألا يصليا عليها! وذلك عند أصحابنا من الأمور المغفورة لهما!

.. فلا يجوز العدولُ عن حُسنِ الاعتقاد فيهما بما جرى(255).

إنَّ كلَّ ما فعلاه بالزَّهراء صغائر عند القوم!

لا يلزم بعدها التبرؤ منهما! ولا يجب تَركُ موالاتهما!

فكيفَ ستنهضُ هذه الأمَّةُ المنكوسةُ وهي توالي أعداء الله وأعداء رسوله؟! وترى نقضَ العهود عهداً معهوداً! وسَلبَ الخلافة اجتهاداً مقبولاً! وقتلَ البَتول أمراً مَغفوراً!

إنَّها أمَّةُ الجُحود، لا يزال أمرُها في سفال، كسفلة الأعراب، فَمَن زَرَع عداوة الله حَصَدَ ما بَذَر.

والحمد لله رب العالمين(256).

 


(1) بحار الأنوار ج‏30 ص349.

(2) المحيط في اللغة ج‌1 ص370.

(3) المحيط في اللغة ج‌3 ص106.

(4) كتاب العين ج‌1 ص341.

(5) كتاب العين ج‌3 ص234.

(6) علل الشرائع ج‏1 ص180..

(7) بشارة المصطفى لشيعة المرتضى ج‏2 ص75.

(8) تفسير القمي ج‏2 ص326.

(9) إبراهيم50.

(10) الأنبياء39.

(11) المؤمنون104.

(12) الإحتجاج ج‏1 ص244.

(13) المزار ص73.

(14) الإحتجاج ج‏1 ص86.

(15) الثلاثاء 14 جمادى الأولى 1442 هـ الموافق 29 - 12 - 2020 م.

(16) آل عمران185.

(17) الكافي ج3 ص256.

(18) الكافي ج‏3 ص205.

(19) الكافي ج‏1 ص445.

(20) من لا يحضره الفقيه ج‏1 ص174.

(21) الكافي ج‏1 ص240.

(22) الكافي ج‏1 ص241

(23) كشف اليقين ص456.

(24) مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) ج‏4 ص20.

(25) كتاب سليم بن قيس الهلالي ج‏2 ص587.

(26) تفسير فرات الكوفي ص339.

(27) الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف ج‏1 ص239.

(28) تفسير القمي ج‏1 ص214.

(29) الكافي ج4 ص402.

(30) الأربعاء 15 جمادى الأولى 1442 هـ الموافق 30 - 12 - 2020 م.

(31) الكافي ج‏1 ص61.

(32) الكافي ج‏6 ص48.

(33) بحار الأنوار ج‏30 ص348.

(34) الكافي ج‏1 ص459.

(35) الكافي ج‏6 ص49.

(36) الجمعة 17 جمادى الأولى 1442 هـ الموافق 1 - 1 - 2021 م.

(37) المائدة13.

(38) البقرة109.

(39) البقرة237.

(40) صحيح البخاري ج4 ص42.

(41) المستدرك ج3 ص153.

(42) الامامة والسياسة ج1 ص31.

(43) التوبة66.

(44) تفسير العياشي ج‏2 ص95.

(45) النساء168.

(46) تفسير القمي ج‏1 ص159.

(47) الكافي ج‏8 ص245.

(48) كمال الدين ج2 ص463.

(49) بحار الأنوار ج‏30 ص294.

(50) الكافي ج‏8 ص246.

(51) القصص41.

(52) تفسير القمي ج‏2 ص171.

(53) الاحتجاج ج1 ص102.

(54) الكافي ج‏1 ص459.

(55) السبت 25 جمادى الأولى 1442 هـ الموافق 9 - 1 - 2021 م.

(56) السجدة24.

(57) تفسير فرات الكوفي ص329.

(58) كفاية الأثر ص88.

(59) الكافي ج1 ص281.

(60) الكافي ج1 ص281.

(61) فاطر28.

(62) الكافي ج1 ص281.

(63) الكافي ج1 ص459.

(64) السجدة24.

(65) الخميس 30 جمادى الأولى 1442 هـ الموافق 13 - 1 - 2021 م.

(66) الأمالي للطوسي ص707.

(67) معجم مقائيس اللغة ج‌4 ص273.

(68) كتاب العين ج‌3 ص148.

(69) الفائق في غريب الحديث ج‌2 ص348.

(70) بحار الأنوار ج‏23 ص268.

(71) العدد القوية ص199.

(72) الإحتجاج2 ص304.

(73) الجمعة 1 جمادى الأولى 1442 هـ الموافق 15 - 1 - 2021 م.

(74) النحل80.

(75) الأحزاب53.

(76) الكافي ج2 ص184.

(77) الأمالي للطوسي ص633.

(78) الأعراف161.

(79) قصص الأنبياء (عليهم السلام) للراوندي ص174.

(80) التفسير المنسوب للإمام الحسن العسكري (عليه السلام) ص260.

(81) الكافي ج5 ص546.

(82) كتاب سليم بن قيس ج2 ص585.

(83) السبت 2 جمادى الثاني 1442 هـ الموافق 16 - 1 - 2021 م.

(84) دلائل الإمامة ص93.

(85) مشكاة الأنوار ص293.

(86) تفسير القمي ج‏1 ص166.

(87) غرر الأخبار ص195-197.

(88) الكافي ج4 ص556.

(89) الإرشاد ج1 ص277.

(90) الأمالي للصدوق ص112-114.

(91) ليلة الثامن من ربيع الثاني 1443 هـ الموافق 13 - 11 - 2021 م.

(92) فاطر5.

(93) النور55.

(94) الأنبياء105.

(95) المزامير37: 9و11و22و29.

(96) متى5: 39.

(97) متى5: 44.

(98) يعقوب3: 9.

(99) غلاطية3: 10.

(100) كورنثوس الأولى15: 25.

(101) فاطر6.

(102) الكهف50.

(103) القصص41.

(104) الاحتجاج ج1 ص102.

(105) إبراهيم8.

(106) الصحيفة السجادية الدعاء44.

(107) الإثنين 15 جمادى الأولى 1443 هـ الموافق 20 – 12 – 2021 م.

(108) الإحتجاج ج1 ص99.

(109) المائدة49.

(110) الكافي ج2 ص631.

(111) الإحتجاج على أهل اللجاج للطبرسي ج‏1 ص102.

(112) علل الشرائع ج‏1 ص248.

(113) الإحتجاج على أهل اللجاج للطبرسي ج‏1 ص101.

(114) الإحتجاج على أهل اللجاج للطبرسي ج‏1 ص99.

(115) الأعراف73.

(116) الشمس14.

(117) الثلاثاء 16 جمادى الأولى 1443 هـ الموافق 21 - 12 - 2021 م.

(118) صحيح البخاري ج8 ص87 وصحيح مسلم ج7 ص66.

(119) الإرشاد ج‏1 ص181.

(120) نهج البلاغة ص209.

(121) السقيفة وفدك ص99.

(122) السقيفة وفدك ص99.

(123) الأمالي للصدوق ص114.

(124) صحيح البخاري حديث 6587.

(125) طرف من الأنباء والمناقب ص190.

(126) الأمالي للطوسي ص188.

(127) الملك11.

(128) النساء145.

(129) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج‏2 ص47.

(130) الإختصاص ص364.

(131) الأربعاء 17 جمادى الاولى 1443 هـ الموافق 22 - 12 - 2021 م.

(132) كتاب (فاطمة بنت محمد) ص118.

(133) الحج46.

(134) الطبقات الكبرى ج3 ص267، ونقله الحاكم في مستدركه ج4 ص٥٩ وغيرهما.

(135) كتاب سليم بن قيس ج2 ص585.

(136) الخصال ج2 ص555.

(137) جامع البيان ج4 ص193.

(138) كمال الدين ج2 ص463.

(139) إرشاد القلوب ج‏2 ص330.

(140) كتاب سليم بن قيس ج2 ص863.

(141) الطرائف ج1 ص239.

(142) الهداية الكبرى ص407.

(143) بحار الأنوار ج53 ص18.

(144) طرف من الأنباء والمناقب ص147.

(145) الفرقان44.

(146) الأربعاء 24 جمادى الأولى 1443 هـ الموافق 29 - 12 - 2021 م.

(147) الكافي ج1 ص439.

(148) مناقب آل أبي طالب ج1 ص162.

(149) السيرة النبوية ج٢ ص٢١٥.

(150) المنتخب من ذيل المذيل ص39، وتاريخ مدينة دمشق - المستدركات ج٣ ص٣٥٦.

(151) السيرة النبوية ج٢ ص٢١٧.

(152) تاريخ مدينة دمشق - المستدركات ج٣ ص٣٥٦.

(153) السيرة النبوية لابن هشام ج2 ص217، وروى البخاري في صحيحه ج4 ص164 ما يقرب من ذلك دون أن ينقل الواقعة أو يذكر اسماً.

(154) المنتخب من ذيل المذيل ص39.

(155) نقله القاضي عبد الجبار عن النَّظّام في (المنية والأمل) ص161، والشهرستاني في الملل والنحل ج1 ص57.

(156) نقله الذهبي عن محمد بن حماد الحافظ عمَّن قرأه عند الحافظ والمحدث (ابن ابي دارم) في سير أعلام النبلاء ج15 ص578.

(157) اثبات الوصية للمسعودي ص146.

(158) كتاب سليم بن قيس ج2 ص585.

(159) كتاب سليم بن قيس ج2 ص585.

(160) بحار الأنوار ج30 ص293-294.

(161) بحار الأنوار ج30 ص349 عن إرشاد القلوب.

(162) كامل الزيارات ص332.

(163) المجموع للنووي ج١٩ ص١٨٧.

(164) أضواء البيان ج٨ ص٤٣٧.

(165) الطبقات الكبرى لابن سعد ج٣ ص٢٦٨.

(166) المستدرك ج٤ ص٥٩.

(167) التوبة125.

(168) الطبقات الكبرى ج٣ ص٢٦٨.

(169) البحار ج28 ص358.

(170) الخميس 25 جمادى الأولى 1443 هـ الموافق 30 - 12 - 2021 م.

(171) المائدة27.

(172) طرف من الأنباء والمناقب ص143.

(173) طرف من الأنباء والمناقب ص146، وعنه بحار الأنوار ج22 ص477، والنَّصُ منه.

(174) إقبال الأعمال ج‏2 ص625.

(175) بصائر الدرجات ج‏1 ص64.

(176) المشارق ص177.

(177) بحار الأنوار ج‏43 ص156.

(178) كتاب العين ج5 ص334.

(179) الصحاح ج2 ص531.

(180) معجم مقاييس اللغة ج5 ص174.

(181) كتاب العين ج5 ص360.

(182) بحار الأنوار ج‏43 ص191.

(183) المؤمن ص69.

(184) مهج الدعوات ص144.

(185) الخميس 2 جمادى الثانية 1443 هـ الموافق 6 - 1 - 2022 م.

(186) الأمالي للصدوق ص135، والفائق للزمخشري ج1 ص162.

(187) الصحاح ج5 ص2126.

(188) العين ج‌5 ص354‌.

(189) كشف الغمة ج‏1 ص501.

(190) في البحار عنه وردت بلفظ: قَدْ عَزَّ عَلَيَّ مُفَارَقَتُكِ وَتَفَقُّدُك‏.

(191) روضة الواعظين ج‏1 ص151.

(192) كشف الغمة ج‏1 ص500.

(193) الأمالي للصدوق ص487.

(194) كشف الغمة ج‏1 ص363.

(195) الأمالي للصدوق ص487.

(196) طرف من الأنباء والمناقب ص168.

(197) كشف الغمة ج‏1 ص363.

(198) بحار الأنوار ج‏79 ص27.

(199) بحار الأنوار ج‏43 ص200.

(200) الجمعة 3 جمادى الثانية 1443 هـ الموافق 7 – 1 – 2022 م.

(201) كتاب سليم بن قيس ج‏2 ص907.

(202) الصحاح ج3 ص1176.

(203) لسان العرب ج7 ص450.

(204) معجم مقاييس اللغة ج4 ص405.

(205) الوافي بالوفيات ج ٦ ص ١١.

(206) الإختصاص ص185.

(207) بحار الأنوار ج‏30 ص294.

(208) كتاب سليم بن قيس ج‏2 ص864.

(209) بحار الأنوار ج‏30 ص349.

(210) كتاب سليم بن قيس ج‏2 ص864.

(211) كامل البهائي ج1 ص396.

(212) كامل البهائي ج1 ص397.

(213) نوادر الأخبار ص183.

(214) الإحتجاج ج‏1 ص278.

(215) كامل الزيارات ص332.

(216) الأمالي للصدوق ص114.

(217) كتاب سليم بن قيس ج‏2 ص588.

(218) المصباح ص553.

(219) كتاب العين ج‌5 ص18‌.

(220) المحيط ج‌5 ص197‌.

(221) لسان العرب ج‌10 ص100‌.

(222) المزار الكبير ص137.

(223) كامل الزيارات ص334

(224) السبت 4 جمادى الثانية 1443 هـ الموافق 8 - 1 - 2022 م.

(225) الخصال ج‏2 ص588.

(226) روضة الواعظين ج1 ص151.

(227) كتاب سليم بن قيس ج‏2 ص586.

(228) الخصال ج‏2 ص588.

(229) المزار الكبير ص79.

(230) ففي معجم مقاييس اللغة ج4 ص425: غشم: ‌الغين والشين والميم: أصلٌ واحدٌ يدلُّ على قَهْر وغَلَبة وظُلْم. من ذلك الغَشْم، وهو الظُّلم.

(231) بحار الأنوار ج‏43 ص215.

(232) الكافي ج‏1 ص459.

(233) دلائل الإمامة ص136.

(234) دلائل الإمامة ص137.

(235) كتاب سليم بن قيس ج‏2 ص871.

(236) الإثنين 27 جمادى الثانية 1443 هـ الموافق 31 – 1 – 2022 م.

(237) معاني الأخبار ص139.

(238) كتاب سليم بن قيس ج‏2 ص870.

(239) الكافي ج2 ص341.

(240) لقبه هو: سَيِّد الحُفّاظ، ووصفه الذهبي بأنَّه (عديم النظير) في تذكرة الحفاظ ج2 ص432.

(241) المصنف ج8 ص572.

(242) الاحتجاج ج1 ص101.

(243) المصنف ج3 ص227.

(244) الأمالي للمفيد ص950.

(245) الإرشاد ج‏1 ص189.

(246) كامل البهائي ج1 ص396.

(247) كتاب سليم بن قيس ج‏2 ص871.

(248) شرح النهج ج‏20 ص298.

(249) كشف المحجة لثمرة المهجة ص126.

(250) شرح النهج ج‏20 ص299.

(251) الإحتجاج ج‏1 ص278.

(252) المزار الكبير لابن المشهدي ص297.

(253) الرعد25.

(254) المزار الكبير لابن المشهدي ص297.

(255) شرح النهج ج‏6 ص50.

(256) الأحد 4 رجب 1443 هـ الموافق 6 – 2 – 2022 م.

بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

  طباعة  | |  أخبر صديقك  | |  إضافة تعليق  | |  التاريخ : 2022/12/24  | |  القرّاء : 1442



للإنضمام إلى قناة العلم والإيمان (أنقر على الرمز الخاص) ->
| تلغرام | واتساب | يوتيوب | فيسبوك | انستغرام |


كتابة تعليق لموضوع : الفصل الثاني: ظلامَتها وقَهرُها
الإسم * :
الدولة * :
بريدك الالكتروني * :
عنوان التعليق * :
نص التعليق * :
 

تصميم، برمجة وإستضافة :
الأنوار الخمسة @ Anwar5.Net