في ذكرى ارتحالها (عليها السلام)
بسم الله الرحمن الرحيم
قَتَلَ الطّغاةُ حُسَيناً، فَتَجَبَّروا وتكبَّروا، وهانَت عليهم كُلُّ معصية، وأصدَرَ ابنُ زيادٍ أمراً بقتل عليِّ بن الحسين عليهما السلام، لمّا بَرَّأ الإمامُ إلهَ السماوات من قتل أبيه الحسين (عليه السلام)!
استشاط اللّعينُ غَضَبَاً، انتصاراً لنفسه الدنيَّة، وأراد أن يُفجِعَ زينب (عليها السلام) بابن أخيها كما أفجعها به (عليه السلام).
استحضَرَت الحوراءُ (عليها السلام) موقف أمِّها الزَّهراء (عليها السلام)، حينما أراد القومُ قتلَ عليٍّ (عليه السلام)، ولَم يكُن له ناصرٌ ولا مُعين، وكان لا بدَّ مِن حفظه لحفظ الإمامة، حينما كادت تنشُر شعرَها، فتقلَّعت حيطان المسجد من أسفلها، وكاد الخسفُ أن يقع بالمدينة، فأخذت الرعدةُ القوم، وأفرجوا عن عليٍّ (عليه السلام) (ثُمَّ أَخَذَتْ بِيَدِهِ فَانْطَلَقَتْ بِهِ)(1).
والحوراء وريثة الزَّهراء: عالمةٌ غير معلَّمة، عارفةٌ بزمانها، وإمامه، وإمامها، تنظر فترى السجّاد عليه السلام دون معين.
لم تقدر الحوراء على الدَّفع عن سيِّد الشهداء أمام جحافل الكفر والنفاق، لكنَّها لم تعجَز عن الوقوف إلى جانب ابن أخيها.
فَتَعَلَّقَتْ بِهِ زَيْنَبُ عَمَّتُهُ، وَقَالَتْ: يَا ابْنَ زِيَادٍ، حَسْبُكَ مِنْ دِمَائِنَا!
وَاعْتَنَقَتْهُ، وَقَالَتْ: وَالله لَا أُفَارِقُهُ، فَإِنْ قَتَلْتَهُ فَاقْتُلْنِي مَعَهُ(2).
أيقَنَ ابنُ زيادٍ أنَّها تُريد أن تُقتَلَ فِعلاً لو قُتِلَ الإمام، وتَعَجَّبَ من موقفها وصلابته، فأعرَضَ عن قتله (عليه السلام)، وأعادَت الحوراءُ التاريخَ، فحفظت الإمامَ المعصوم (عليه السلام)، كما حفظت أمُّها أباها علياً (عليه السلام).
لقد كانت (عليها السلام) تفدِّي الحسين بنفسها، لكن لم يُقَدَّر أن تدفع عنه القتل، كانت تقول بعدما رأت الدماء تسيل من شيبته المباركة:
أَنَا الفِدَاءُ لِمَنْ شَيْبَتُهُ تَقْطُرُ بِالدِّمَا(3).
فأوكلَ الله تعالى لها حِفظَ السجّاد (عليه السلام)، الإمام بن الأمام.
لقد بلغَت بفعلها هذا مكانةً فُضِّلَت بها على كلِّ مَن سواها، فعنهم عليهم السلام: أَعْرَفُ النَّاسِ بِحُقُوقِ إِخْوَانِهِ، وَأَشَدُّهُمْ قَضَاءً لَهَا، أَعْظَمُهُمْ عِنْدَ الله شَأْناً(4). فلم يكن أحدٌ أعرف منها بحقِّ المعصوم، ولا أشدّهم قضاءً لحاجته في الدِّفاع عنه، فصارت أعظمَ شأناً عند الله تعالى من كلِّ أحدٍ بعد الأئمة (عليهم السلام).
وفي الحديث القدسيّ بعد تفضيل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) على مَن سواهم، قال تعالى: وَأَفْضَلُ النَّاسِ بَعْدَهُمْ مَنْ أَعَانَهُمْ عَلَى حَقِّهِمْ(5).
ولَم يكن في ذلك الزَّمن ولا سواهُ من أعانهم على حقِّهم كما فَعَلَت (عليها السلام)، بما لا يخفى على القاصي والداني، فصارت أفضلَ النّاس بعدهم، فسلامُ الله عليها من عظيمةٍ لا يُدركُ شأنها.
زينب ناعية الحسين
ثمَّ صارَت ناعية الحسين (عليه السلام)، وهذه منزِلةٌ جليلةٌ عظيمةٌ يَخُصُّ الله تعالى بها أقرب خلقه إليه.
لقد صارت ناعيةً له (عليه السلام) من قبل شهادته، مُذ سمعته يقول: (يَا دَهْرُ أُفٍّ لَكَ مِنْ خَلِيلِ)، فتكلَّمَت بكلماتٍ عجيبة: وَا ثُكْلَاهْ! لَيْتَ المَوْتَ أَعْدَمَنِي الحَيَاةَ!
اليَوْمَ مَاتَتْ أُمِّي فَاطِمَةُ وَأَبِي عَلِيٌّ وَأَخِي الحَسَنُ(6).
كلمات مَن تَعرف حقيقة الإمام، فلا ترى للحياة معنىً دونه.
كلمات من ترى في أخيها أمَّها وأبيها! وفي فقدانه فقدانهم جميعاً.. لقد كانت تتعزى به بعد فقد الأحبة الأطهار، والآن يُفتقد أهل الكساء جميعاً بفَقد الحسين (عليه السلام)، وقد كان هذا الموقفُ قبل شهادته (عليه السلام)، أما بعدها، فقد خرجت النساءُ من الخيام إلى مصرع الحسين (عليه السلام)، وجعلت زينب تنعاه نعياً مُفجعاً، مخاطبةً جدَّها (صلى الله عليه وآله وسلم): يَا مُحَمَّدَاهْ، صَلَّى عَلَيْكَ مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ، هَذَا الحُسَيْنُ مُرَمَّلٌ بِالدِّمَاءِ، مُقَطَّعُ الأَعْضَاءِ.. هَذَا حُسَيْنٌ مَجْزُوزُ الرَّأْسِ مِنَ القَفَا(7).
ثمَّ أكمَلَت نَعيَها لمّا وصلت المدينة، فأخذت بعضادتي باب مسجد الرَّسول ونادت: يَا جَدَّاهْ، إِنِّي نَاعِيَةٌ اليْكَ أَخِيَ الحُسَيْنَ!(8).
الله أكبر ما أعظم هذا الموقف: زينبٌ على باب مسجد الرَّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولطالما أظهرَ الرَّسول مكانة الحسين في مسجده وفي كلِّ مكان حلَّ فيه، أمّا اليوم فيُنعى إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) الحسين (عليه السلام) مِن الحوراء زينب.
الناعيةُ: خيرُ أختٍ لخَيرِ أخ.. عظيمةٌ من عظيمات الدَّهر، يعجزُ الزمان أن يَجود بمثلها: قِمَّةٌ في الكمال.. عِلمٌ ومعرفةٌ وحِلمٌ وطهارةٌ وإخلاصٌ وعَظَمَةٌ ومَجدٌ وشَرَفٌ لا نَظير له.
المنعيّ: الحسينُ بن عليٍّ (عليه السلام)، خليفة الله في أرضه وسمائه، وحجته على عباده، يدُ الله الباسطة، وعينُه التي لا تنام.
المنعيّ إليه: رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أحبُّ الخلق إليه على الإطلاق، وأقربهم منه، وأرفعهم منزلة، وبابُ كلِّ خَيرٍ يرتجى للخلائق.
موقفٌ يُقَطِّع نياط قلوب المؤمنين، الذين لم يشهدوا الواقعة، ولم يكونوا من الحسين كما كانت منه زينب.. فما حالُ الحوراء (عليها السلام)؟!
يعجزُ الإنسانُ عن إدراك ما كانت تُعانيه من آلام، حتى كانت: لَا تَجِفُّ لَهَا عَبْرَةٌ، وَلَا تَفْتُرُ مِنَ البُكَاءِ وَالنَّحِيبِ.
وَكُلَّمَا نَظَرَتْ الى عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ تَجَدَّدَ حُزْنُهَا وَزَادَ وَجْدُهَا(9).
فإنا لله وإنا إليه راجعون.
زينب أنموذج الكمال
إنَّ للكمالِ علاماتٍ يُعرَفُ بها، منها ما ورد في الحديث:
إِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ قَدْراً الَّذِي لَا يَرَى الدُّنْيَا لِنَفْسِهِ خَطَراً(10).
ومنها ما ورد: إِنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ عِنْدَ الله مَنْ كَانَ العَمَلُ بِالحَقِّ أَحَبَّ إِلَيْهِ وَإِنْ نَقَصَهُ وَكَرَثَهُ، مِنَ البَاطِلِ وَإِنْ جَرَّ إِلَيْهِ فَائِدَةً وَزَادَه(11).
ومنها: أَفْضَلُ النَّاسِ أَعْقَلُ النَّاسِ، إِنَّ الله تَعَالَى قَسَمَ العَقْلَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ.. المَعْرِفَةُ بِالله تَعَالَى، وَحُسْنُ الطَّاعَةِ، وَحُسْنُ الصَّبْر(12).
وقد جمَعَت الحوراءُ كلَّ هذه الخِصال وسواها، فكانت أسطورةً في الصَّبرِ على ما أصابها، بعدما شَهِدَت من الفجائع يوم عاشوراء ما تنوءُ الجبال عن حمله.
وكانت عارفةً بإمام زمانها، ومعرفة إمام الزمان بابُ معرفة الله حقاً وصدقاً.
وكانت أطوَعَ الناس لله تعالى وللإمام (عليه السلام)، وأعمل الناس بالحقّ، ولم تر للدُّنيا قيمةً فقدَّمَت نفسَها في سبيل حفظ إمامها (عليه السلام).
ولقد كشفَت مواقفُها عن بَعضِ عظمتها، فمِن ذلك لمَّا أرادَ ابنُ زيادٍ إذلالها بقوله: الحَمْدُ لله الَّذِي فَضَحَكُمْ وَقَتَلَكُمْ وَأَكْذَبَ أُحْدُوثَتَكُمْ!
فنَسَبَ الأطهار إلى البدعة! وقَتلَهُم إلى الله تعالى! وقد هَلَكَت الأمّة بمثل عقيدة الجَبرِ هذه حيث تنسب قبائحها لله تعالى، وبإعراضها عن آل الرَّسول الأطهار. فما شَغَلَها مُصابُها ومَن معها عن تصويب العقيدة الحقَّة، فقالت:
الحَمْدُ لله الَّذِي أَكْرَمَنَا بِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وَطَهَّرَنَا مِنَ الرِّجْسِ تَطْهِيراً، وَإِنَّمَا يَفْتَضِحُ الفَاسِقُ، وَيَكْذِبُ الفَاجِرُ، وَهُوَ غَيْرُنَا وَالحَمْدُ لله.
فإنَّ إكرام الله تعالى لهم بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتطهيرهم من الرِّجس لا يتناسب مع قتل الله تعالى لهم، وإلا لم يكن حكيماً عادلاً.
لكنَّ اللعين ما ارعوى، فعاد وقال: كَيْفَ رَأَيْتِ فِعْلَ الله بِأَهْلِ بَيْتِكِ؟
ههنا يرى ابن زيادٍ نفسَه حاكماً، يأمر فيُطاعُ أمرُه، لكنَّ زينب المفجوعة لم تنكسر رغم الجراح والآلام، ولم يشغلها ما هي فيه عن أن تنقل ابن زيادٍ من محكمةٍ تكونُ يدُه العليا فيها بزعمه، إلى محكمة الله تعالى، حيث يَقفُ خصيماً لآل محمدٍ الأطهار، ويُظهرُ كُلٌّ حُجَّته، فقالت: كَتَبَ الله عَلَيْهِمُ القَتْلَ فَبَرَزُوا إِلَى مَضَاجِعِهِمْ، وَسَيَجْمَعُ الله بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ، فَتُحَاجُّونَ إِلَيْهِ وَتَخْتَصِمُونَ عِنْدَهُ(13).
أدركَ اللَّعين بعدما سمعَ هذا الجواب أن ليس ينفعه في تلك الساعة شيءٌ مما يتجبَّرُ به في هذه الدُّنيا، وأيقنَ بهوانه على الله تعالى، فاستشاط غضباً لما أسقط في يده. وأبانَت عليها السلام بكلماتها القصيرة هذه عن حقيقة الاعتقاد بالتوحيد والعدل، ونزَّهت ساحة الربِّ تعالى عن الظُّلم والعبث واللغو.
وأجلَت عن عقيدة النبوّة والإمامة، المقرونة بالطهارة والعصمة.
ثم ختَمَت بتثبيت المعاد.. حيثُ تُجزى كلُّ نفسٍ بما كسبت.
كلماتٌ قصيرةٌ من امرأةٍ مفجوعةٍ عَجِزَ عن جوابها الطاغية ابن زياد، وبانَ بها جلالةُ قَدرِهَا وعظيم شأنها عند ذوي الحجى.
ثم زادَ يَزيدُ بنُ معاوية عمّا فعله ابن زياد، حينما صار يضربُ ثنايا الحسين (عليه السلام).. وهو يقول (لعبت هاشم بالملك فلا * * خبرٌ جاء ولا وحي نزل).. فلا حول ولا قوَّة إلا بالله.
ما لبِثَت (عليها السلام) أن رَدَّت الكَرَّة، وثَنَّت المقولة، مُذَكِّرَةً بآيات القرآن الكريم، وقالت له: أَ ظَنَنْتَ يَا يَزِيدُ حِينَ أَخَذْتَ عَلَيْنَا أَقْطَارَ الأَرْضِ.. أَنَّ بِنَا مِنَ الله هَوَاناً وَعَلَيْكَ مِنْهُ كَرَامَةً.. فَمَهْلًا مَهْلًا، لَا تَطِشْ جَهْلًا!
أَ نَسِيتَ قَوْلَ الله عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَلا يَحْسَبَنَّ ا لَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ﴾(14).
فجعلت الصِّراعَ بين الإيمان والكُفر جَليّاً، وتَمثَّلَت القرآن الكريم، حين تَوَعَّدَ يزيد وأمثاله بالعذاب المُهين.
يُريدُ يزيد أن يُهين آل محمدٍ بإهانة الرأس الشريف للحسين (عليه السلام)، لكنَّ نصيبه سيكون عذاباً مُهيناً.
ستأتي ساعةٌ لا ينفع فيها النَّدم، أخبرت عنها (عليها السلام) بقولها له:
وَلَتَوَدُّ يَمِينُكَ كَمَا زَعَمْتَ شَلَّتْ بِكَ عَنْ مِرْفَقِهَا وَجُذَّتْ! وَأَحْبَبْتَ أُمَّكَ لَمْ تَحْمِلْكَ، وَإِيَّاكَ لَمْ تَلِدْ. أَوْ حِينَ تَصِيرُ الى سَخَطِ الله وَمُخَاصِمُكَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم)(15).
يَدٌ تتجرأ على سيدِ الشُّهداء (عليه السلام) حقيقٌ أن تُجَّذ قبل جنايتها.
ولكن.. لأنَّ الدُّنيا دار امتحانٍ، خُلِّيَ بين يزيد وبين ما يريد، لكنَّ شدَّة الجزاء وصعوبة العذاب ستجعله شديد النَّدم، يودُّ لو أنَّ أحداً قَطَعَ له يدَه قبل أن يحرِّكها تجاه الرأس الشريف.
سيأتي يومُ الخصومة، يوم ينتصر الله تعالى للمظلوم من الظالم، وسيكون الخصمُ رسولُه المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)، وسيظهر لمن الفَلَجُ في ذلك اليوم.
مواقفُ من زينب (عليها السلام)، رمز الكمال والعظمة والجلال، تُحاكي مواقفَ الأسرة الشريفة التي تنتمي إليها.
إنَّها سيِّدَةٌ شريفةٌ جليلةٌ احتَمَلَت أعظم المصائب، فما هانت ولا ضَعُفَت ولا استكانت، ولا شَغَلَها المُصابُ عن أن تحمل أعظم الأعباء، وتقوم بأهمِّ الأدوار، فَتَفَوَّقَت عن كُلِّ مَن عَداها، وبَلَغَت من العلا أرفعه، ومن الشرف أعظمه، فسلام الله عليها يوم ولدت ويوم توفيت ويوم تُبعث حية.
السلام على الحوراء زينب في ذكرى ارتحالها.. اللهم ارزقنا في الدّنيا زيارتها، وفي الآخرة شفاعتها وجوارَها.
السلام عليكِ أيتها العظيمة، يا وريثة الزَّهراء، من جِوار سَميَّتها المعصومة.. وإنا لله وإنا إليه راجعون(16).
(1) الكافي ج8 ص238.
(2) الإرشاد ج2 ص117.
(3) مناقب آل أبي طالب عليهم السلام ج4 ص113.
(4) تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) ص325.
(5) تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) ص43.
(6) الإرشاد ج2 ص93.
(7) اللهوف ص133.
(8) بحار الأنوار ج45 ص198.
(9) بحار الأنوار ج45 ص198.
(10) الكافي ج1 ص19.
(11) نهج البلاغة ص182.
(12) كنز الفوائد ج1 ص56.
(13) الإرشاد ج2 ص115.
(14) الإحتجاج ج2 ص308.
(15) الإحتجاج ج2 ص309.
(16) الخميس 15 رجب 1443 هـ الموافق 17 – 2 – 2022 م.