بسم الله الرحمن الرحيم
﴿كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ المَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ﴾(1).
لقد روينا عن يَعْقُوبُ الأَحْمَرُ قوله: دَخَلْنَا عَلَى أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) نُعَزِّيهِ بِإِسْمَاعِيلَ، فَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ:
إِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ نَعَى إِلَى نَبِيِّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) نَفْسَهُ فَقَالَ: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾، وَقَالَ: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ المَوْتِ﴾(2).
التعزيةُ على الميّت سُنَّةٌ يلتزم بها جُلُّ بني البشر، وتحثُّ عليها الشرائع السماوية، فهذا يعقوب الأحمر أحد أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) يعزيه مع جمعٍ من المؤمنين بابنه اسماعيل.
وقد روينا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: مَنْ عَزَّى مُصَاباً كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أَجْرِ المُصَابِ شَيْئاً(3).
رسولُ الله في حياته إذاً يحثُّ على تعزية المُصاب، وهو العالم بأنّه سيأتي يومٌ يتوفّاه الله فيه إليه، وكان أن جاء ذلك اليوم، حين استأذن ملك الموت على سيدّ الكائنات وخير المخلوقات، ثم قبضه (صلى الله عليه وآله وسلم).
عن الباقر (عليه السلام): لمَّا قُبِضَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بَاتَ آلُ مُحَمَّدٍ (عليهم السلام) بِأَطْوَلِ لَيْلَةٍ، حَتَّى ظَنُّوا أَنْ لَا سَمَاءَ تُظِلُّهُمْ وَلَا أَرْضَ تُقِلُّهُمْ، لِأَنَّ رَسُولَ الله ص وَتَرَ الأَقْرَبِينَ وَالأَبْعَدِينَ فِي الله(4).
أطولُ ليلةٍ على آل محمد، هي ليلة فَقد الرسول، فالخطب جليلٌ عظيم.
لكن، هل توقع آل محمدٍ تعزيةً من الأمة تُخَفِّفُ عنهم حزنهم؟!
إنّهم العالمون بمآل الأمور، وقد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فكانت أطول ليلة عليهم.
لقد ورد في الحديث: كَفَاكَ مِنَ التَّعْزِيَةِ بِأَنْ يَرَاكَ صَاحِبُ المُصِيبَةِ(5).
فهل أرادت الأمّة أن تمتثل لمؤدّى هذا الحديث، وتعزّي آل محمدٍ (عليهم السلام)، فجاءت إلى باب الدار بالحطب لتحرقه؟!
أوليس في رؤية صاحب المصيبة للمعزّي كفايةٌ؟! فها هي الأمة قد اجتمعت لتعزّي الزهراء (عليها السلام) بأبيها.. بالحطب والنيران.
إنّ لكلّ حزنٍ حدّاً وأَمَداً، ثم يخفف الله عن صاحبه حدّه، ويقصِّرُ أمده، لكنّ حزنَ الزهراء من صنفٍ آخر، إنّه حُزنٌ لا يمكن لنا أن ندرك حقيقته وجوهره وأبعاده، كيف وقد ورد في الحديث أن حزنها (لا يعلمه إلا الله)!
فَهَل محلُّها من النبي كمحلّنا منه حتى يكون حزنها كحزننا؟ أم معرفتها بالنبي كمعرفتنا به؟! وهي بضعته وهدية الله تعالى إليه.
في الحديث الشريف: إِنَّ الله تَعَالَى لمَّا قَبَضَ نَبِيَّهُ (صلى الله عليه وآله وسلم) دَخَلَ عَلَى فَاطِمَةَ (عليها السلام) مِنْ وَفَاتِهِ مِنَ الحُزْنِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا الله عَزَّ وَجَلَّ، فَأَرْسَلَ الله إِلَيْهَا مَلَكاً يُسَلِّي غَمَّهَا وَيُحَدِّثُهَا(6).
إنّه جبرئيل: كَانَ جَبْرَئِيلُ (عليه السلام) يَأْتِيهَا فَيُحْسِنُ عَزَاءَهَا عَلَى أَبِيهَا(7).
حزنها لا يعلمُه إلا الله عز وجلّ، فمهما تَخَيَّلنا وتَصَوّرنا لن نتمكن من معرفة ما انحصرت معرفته بالله تعالى، فأرسل الله تعالى جبريل يُحسنُ عزاءها.
لكنّ الأمّة ما قَبِلَت بعزاء جبرائيل وحده، فأحبّت أن تشاركه في عزائها، فاجتمعت على باب دارها!
هذه الدار التي كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يستأذن قبل الدخول إليها، كما يروي عمران بن الحصين واقعة ذهابه مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى باب فاطمة:
فَقَامَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وَقُمْتُ مَعَهُ حَتَّى وَقَفَ عَلَى بَابِ فَاطِمَةَ فَقَالَ:
السَّلَامُ عَلَيْكِ يَا بُنَيَّةِ، أَ أَدْخُلُ؟ قَالَتِ: ادْخُلْ يا رَسُولَ الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
قَالَ: أَنَا وَمَنْ مَعِي؟(8).
يستأذن (صلى الله عليه وآله وسلم) لنفسه ولمن معه، فإذا لم يسمع جواباً، قَعَدَ جانباً بأبي هو وأمي!
ينقل ابن عباس فيقول: انْطَلَقْنَا مَعَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فَنَادَى عَلَى بَابِ فَاطِمَةَ ثَلَاثاً، فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، فَمَالَ إِلَى حَائِطٍ فَقَعَدَ فِيهِ وَقَعَدْتُ إِلَى جَانِبِهِ(9).
بفقدِهِ فقدت الزهراء أعظمٍ شخصٍ في الوجود، وأعزّهم على قلبها، من لا يدخل عليها بغير استئذان، وها هي الأمة تعزيها.
قال سليم: قلت يا سلمان * * * هل هجموا ولم يك استيذان
فقـال: اي وعزّة الجبّــار * * * وما على الزّهــراء من خمـار
قُلْتُ لِسَلْمَانَ: أَ دَخَلُوا عَلَى فَاطِمَةَ ع بِغَيْرِ إِذْنٍ؟
قَالَ: إِي وَالله، وَمَا عَلَيْهَا مِنْ خِمَارٍ(10).
هكذا تأتي أمة خاتم الأنبياء لتعزّي بضعته الطاهرة! يقف القوم على باب الزهراء الذي كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يأخذ بعضادتيه ويقول: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ(11).
فكيف كانت تعزيتهم للزهراء؟
فَقَالَ عُمَرُ لِفَاطِمَةَ: أَخْرِجِي مَنْ فِي البَيْتِ وَإِلَّا أَحْرَقْتُهُ وَمَنْ فِيهِ.. وَفِي البَيْتِ عَلِيٌّ وَالحَسَنُ وَالحُسَيْنُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ.
فَقَالَتْ فَاطِمَةُ: أَ فَتُحْرِقُ عَلَى ولدِي؟
فَقَالَ: إِي وَالله، أَوْ لَيَخْرُجُنَّ وَلَيُبَايِعُنَّ(12).
اجتمعت الشياطين على باب الزهراء.. بعدما فُقد الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكأنّما ما اكتفيا بأذيته في حياته، وإضلال الأمة من بعده، فأرادا تعزية الزهراء بأسلوبهما، ففعلا ما فعلا.
عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: مَا بَعَثَ الله نَبِيّاً إِلَّا وَفِي أُمَّتِهِ شَيْطَانَانِ يُؤْذِيَانِهِ وَيُضِلَّانِ النَّاسَ بَعْدَه(13).
اللهم إنا ندعوك بما تُدعى به على باب المسجد الحرام: اللهم.. ادْرَأْ عَنِّي شَرَّ شَيَاطِينِ الإِنْسِ وَالجِنِّ، وَشَرَّ فَسَقَةِ العَرَبِ وَالعَجَمِ.
سلام الله عليك يا زهراء.. أنت من أهل بيتٍ ابتلي الناس بهم.. من أحبّهم نجا.. ومن عزّاهم شاركهم في ثوابهم، ومن اتبع شياطين الإنس الذين أحرقوا بابهم كان لجهنم حطباً.
كَفَاكَ مِنَ التَّعْزِيَةِ بِأَنْ يَرَاكَ صَاحِبُ المُصِيبَةِ..
هي أيامٌ يرى فيها الإمام الحجّة (عجل الله تعالى فرجه الشريف) من يشترك في عزاء أمّه الزهراء.. كما رأت هي من اشترك في عزاء أبيها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). فإنا لله وإنا إليه راجعون(14).
(1) آل عمران185.
(2) الكافي ج3 ص256.
(3) الكافي ج3 ص205.
(4) الكافي ج1 ص445.
(5) من لا يحضره الفقيه ج1 ص174.
(6) الكافي ج1 ص240.
(7) الكافي ج1 ص241
(8) كشف اليقين ص456.
(9) مناقب آل أبي طالب عليهم السلام ج4 ص20.
(10) كتاب سليم بن قيس الهلالي ج2 ص587.
(11) تفسير فرات الكوفي ص339.
(12) الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف ج1 ص239.
(13) تفسير القمي ج1 ص214.
(14) الأربعاء 15 جمادى الأولى 1442 هـ الموافق 30 - 12 - 2020 م.