بسم الله الرحمن الرحيم
وَالله إِنِّي أَظُنُّ أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ يَعْلَمُ مَا فِي النُّفُوسِ كَمَا تَقُولُ الرَّافِضَةُ!
هذه العبارةُ قالها رجلٌ دخل صباحاً على الجواد عليه السلام، وقد أصابه العَطَش، وكَرِهَ أن يطلب الماء، لخوفه من أن يكون مسموماً! وأن يكون الخليفة أو أعوانه قد دَسُّوه للإمام، فيشربه هو ويهلك!
لم يطلب الرجل الماء خوفاً من ذلك.. لكنَّ الإمام بادرَ إلى طلب الماء، فخاف الرَّجُل واغتمَّ.. فتبسَّمَ الإمامُ في وجهه.. وتناول الماء من الغلام، وشَرِبَه، ثم ناوله الرجل، فشرب..
من ثمَّ أطال الرجل الجلوس، وعطش مرة أخرى، ففعل الإمام كما فعل في الأولى.. وتبسَّم!
قال الرجل بعد خروجه..
وَالله إِنِّي أَظُنُّ أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ يَعْلَمُ مَا فِي النُّفُوسِ كَمَا تَقُولُ الرَّافِضَةُ! (الإرشاد ج2 ص22).
هذه قصَّةٌ من قصصٍ كثيرةٍ تُظهِرُ كرامة الإمام عند الله تعالى، وتظهر عقيدة الشيعة في إمامهم في زمن حضوره.. ومعرفة عموم الناس بهذه العقيدة.. لكثرة ما ظهر من أحداثٍ تدلُّ عليها..
فالروايات التي يُنقَلُ فيها إخبار الإمام بما في النفوس كثيرة.. سواء كانوا من أصحابه أو ممن يدخل عليه من المخالفين..
لكنَّنا نتوقف عند رواية عن الإمام الجواد عليه السلام، في أيام أبيه الرضا عليه السلام، حينما دخل أحد رجال الشيعة عليه، وسَأَلَه عن الإمام من بعده، فقال الرضا عليه السلام:
يَا ابْنَ نَافِعٍ، يَدْخُلُ عَلَيْكَ مِنْ هَذَا الْبَابِ مَنْ وَرِثَ مَا وَرِثْتُهُ مَنْ قَبْلِي، وَهُوَ حُجَّةُ الله تَعَالَى مِنْ بَعْدِي!
وإذا بالإمام الجواد عليه السلام يدخل.. ولما وقع بصره على الرجل خاطبه قائلاً:
يَا ابْنَ نَافِعٍ أَ لَا أُحَدِّثُكَ بِحَدِيثٍ؟
إِنَّا مَعَاشِرَ الْأَئِمَّةِ إِذَا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ يَسْمَعُ الصَّوْتَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْماً!
فَإِذَا أَتَى لَهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ رَفَعَ الله تَعَالَى لَهُ أَعْلَامَ الْأَرْضِ، فَقَرَّبَ لَهُ مَا بَعُدَ عَنْهُ، حَتَّى لَا يَعْزُبُ عَنْهُ حُلُولُ قَطْرَةِ غَيْثٍ نَافِعَةٍ وَلَا ضَارَّةٍ!
ثمَّ يقول الرضا عليه السلام للرجل: سَلِّمْ وَأَذْعِنْ لَهُ بِالطَّاعَةِ، فَرُوحُهُ رُوحِي، وَرُوحِي رُوحُ رَسُولِ الله! (مناقب آل أبي طالب عليهم السلام ج4 ص388).
يُشير هذا الحديث إلى أمرٍ في غاية الأهميَّة، وهو أن الإمام يرثُ الإمام الذي قبله.. وأنَّه كالنبي.. روحه روحه..
وإذا كانت الوراثةُ من الله تعالى لم يكُن للسنِّ مِن تأثيرٍ من ذلك..
لذا قال الرضا عن ابنه الجواد عليهما السلام وهو في الثالثة من عمره: هَذَا أَبُو جَعْفَرٍ قَدْ أَجْلَسْتُهُ مَجْلِسِي وَصَيَّرْتُهُ مَكَانِي!
إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ يَتَوَارَثُ أَصَاغِرُنَا أَكَابِرَنَا الْقُذَّةَ بِالْقُذَّةِ!
ولمّا استغرب الناس ذلك وقالوا له: هَذَا ابْنُ ثَلَاثِ سِنِينَ!
قال عليه السلام: مَا يَضُرُّ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ قَامَ عِيسَى بِالحُجَّةِ وَهُوَ ابْنُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ! (الخرائج والجرائح ج2 ص899).
فالوارثُ صغيراً كان أم كبيراً.. يكون باختيار الله تعالى، هو الذي يختار الأئمة كما اختار الأنبياء.
وإذا كان الله عزَّ وجل هو الذي يُقَرِّبُ للإمام وهو في بطن أمِّه ما بَعُد عنه.. حينها لا عَجَب أن: لَا يَعْزُبُ عَنْهُ حُلُولُ قَطْرَةِ غَيْثٍ نَافِعَةٍ وَلَا ضَارَّةٍ!
ولقد كان زمن الإمام الجواد عليه السلام زمناً ظَهَرَت فيه بعض عقيدة الشيعة في إمامهم.. حتى شاعَ أنَّ الإمام يَعلَمُ ما في النفوس.. وأنه يعلم عدد قطر الماء، واشتهر هذا الأمر حتى عرفه مخالفوهم..
حتى أنَّ عمر بن الفرج الرخجيّ وهو من رجالات البلاط العباسي، وأدواتهم في الفساد والإفساد.. سأل الإمامَ الجواد عليه السلام يوماً فقال:
ان شيعتك تدّعي انّك تعلم كل ما في دجلة!
ليس هذا ممَّن يطلب الحق ليتَّبعه، فلقد رأى من كرامات الإمام الجواد ما يبهر العقول.. وظلَّ على بغضه للإمام عليه السلام.. لذا أجابه الإمام بما يسكته ويقطع به عذره.. فقال له:
يقدر الله عز وجل أن يفوّض علم ذلك الى بعوضةٍ من خلقه؟
قال: نعم، يقدر.
فقال: أنا أكرم على الله من بعوضته! (اثبات الوصية ص227).
أراد الرَّجل أن يُحرِجَ الإمام.. لكنَّه أسقط في يده، كَسِوَاه ممَّن تسابقوا لإفحام الإمام وطرح المسائل المعقَّدة والصعبة عليه.. وهو فتىً في مقتبل العمر.. فرجعوا خائبين منكسرين مذلولين..
نَعَم، الإمام أكرم على الله من البعوضة.. بل مِن الوجود بأسره!
والإمام في أصل الخلقة كالنبيِّ.. متقدِّمُ على كلّ الكائنات.. ومُفَوَّضٌ إليه أمرها منذ بدو خلقها!
ولقد كشف الإمام الجواد عليه السلام عن بعض ذلك حين قال:
إِنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يَزَلْ مُتَفَرِّداً بِوَحْدَانِيَّتِهِ، ثُمَّ خَلَقَ مُحَمَّداً وَعَلِيّاً وَفَاطِمَةَ، فَمَكَثُوا أَلْفَ دَهْرٍ، ثُمَّ خَلَقَ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ فَأَشْهَدَهُمْ خَلْقَهَا، وَأَجْرَى طَاعَتَهُمْ عَلَيْهَا، وَفَوَّضَ أُمُورَهَا إِلَيْهِمْ، فَهُمْ يُحِلُّونَ مَا يَشَاءُونَ وَيُحَرِّمُونَ مَا يَشَاءُونَ، وَلَنْ يَشَاءُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى (الكافي ج1 ص441).
فهؤلاء أهل بيت يتوارث أصاغرهم أكابرهم.. ولقد ورث الجواد عليه السلام كلّ ذلك مِن قَبلِ ولادته!
هؤلاء أهلُ بيتٍ أجرى الله طاعتهم على كلِّ خلقه.. وتنبأ الأنبياء بمعرفتهم.. وصاروا خلفاء الله في أرضه وسمائه.. وباب الله الذي منه يؤتى..
فلا عجب أن يعلم الإمام ما في النفوس بتعليمٍ من الله تعالى.. فقد فوَّضَ الله إليه ذلك..
ولا عجب أن يتكلَّمَ مع الشاة فتجيبه! ويأمر الثور فيكلِّمه!
لا عجب أن تستحيل أوراق الزيتون في يده دراهم! والتراب سبائك!
ولا عجب أن يضع يده على منبرٍ فيورق.. وعلى صخرةٍ فتبين فيها أصابعه!
لا عجب أن يمدَّ الحديد بغير نار.. وأن يطبع الحجارة بخاتمه!
فهذا بعض ما أعطى الله للإمام عليه السلام..
لكنَّ سائلاً قد يسأل فيقول..
إذا كان الله تعالى قد أعطى الإمام ذلك.. فكيف يستضعفُ الخلفاءُ الإمامَ.. ويزوون عنه السُّلطان.. ويقهرون شيعته؟!
لقد بيَّنَ السجاد عليه السلام وجه ذلك فقال:
إِنَّ المَرَاتِبَ الرَّفِيعَةَ لَا تُنَالُ إِلَّا بِالتَّسْلِيمِ لله جَلَّ ثَنَاؤُهُ، وَتَرْكِ الِاقْتِرَاحِ عَلَيْهِ، وَالرِّضَا بِمَا يُدَبِّرُهُمْ بِهِ!
إِنَّ أَوْلِيَاءَ الله صَبَرُوا عَلَى الْمِحَنِ وَالمَكَارِهِ صَبْراً لَمْ يُسَاوِهِمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ، فَجَازَاهُمُ الله عَزَّ وَجَلَّ عَنْ ذَلِكَ بِأَنْ أَوْجَبَ لهُمْ نُجْحَ جَمِيعِ طَلِبَاتِهِمْ، لَكِنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يُرِيدُونَ مِنْهُ إِلَّا مَا يُرِيدُهُ لهُمْ (الأمالي ص455).
وهذا المعنى في غاية الرَّوعة.. فإنَّ الأنبياء والأولياء قد سَلَّموا لله أمرَهم، ورضوا بما اختار لهم، وصبروا على ما نزل بهم..
فقُتِلَ منهم من قُتِل.. وظُلِمَ مَن ظُلِم.. وما أرادوا إلا ما أراد الله..
وإذا أراد الله أن تجري الأمور بأسبابها جَرَت وهم راضون مُسَلِّمون.. لا يقترحون على الله غير ما أراد..
وهذه مرتبة لا يقدرُ عليها كلُّ أحد.. هي مختصةٌ بأصحاب الدرجات الرفيعة.. كالأنبياء والأولياء..
وليس أرفع ممَّن خلقهم الله أنواراً في بدو الخلق.. ثم أجرى طاعتهم على الخلائق!
بهذا يُفهم أيضاً موقف سائر الأئمة..
ومنهم سيد الشهداء عليه السلام..
ينقل الإمام الجواد عليه السلام عن أبيه السجاد عليه السلام قوله:
لَمَّا اشْتَدَّ الْأَمْرُ بِالْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (ع) نَظَرَ إِلَيْهِ مَنْ كَانَ مَعَهُ، فَإِذَا هُوَ بِخِلَافِهِمْ، لِأَنَّهُمْ كُلَّمَا اشْتَدَّ الْأَمْرُ تَغَيَّرَتْ أَلْوَانُهُمْ، وَارْتَعَدَتْ فَرَائِصُهُمْ، وَوَجَبَتْ (خفقت) قُلُوبُهُمْ.
وَكَانَ الحُسَيْنُ (ع) وَبَعْضُ مَنْ مَعَهُ مِنْ خَصَائِصِهِ تُشْرِقُ أَلْوَانُهُمْ، وَتَهْدَأُ جَوَارِحُهُمْ، وَتَسْكُنُ نُفُوسُهُمْ!
ولمَّا تعجب بعضهم من عدم مبالاته بالموت، قال عليه السلام:
صَبْراً بَنِي الْكِرَامِ، فَمَا المَوْتُ إِلَّا قَنْطَرَةٌ تَعْبُرُ بِكُمْ عَنِ الْبُؤْسِ وَالضَّرَّاءِ إِلَى الْجِنَانِ الْوَاسِعَةِ وَالنَّعِيمِ الدَّائِمَةِ، فَأَيُّكُمْ يَكْرَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ سِجْنٍ إِلَى قَصْرٍ! (معاني الأخبار ص288).
هكذا يرى الحسين الموت عليه السلام.. وهكذا يراه حفيده الجواد عليه السلام..
قنطرةٌ للقاء الله تعالى، يفرحون بها.. ويُرضون رَبَّهم تعالى..
لكنَّنا نحزن على ما أصابهم.. كما حزن الرسول صلى الله عليه وآله..
فَهُم سادة الوجود بأسره.. وأرباب العلم والتُّقى.. ورمزُ الجود والعطاء.. ومظهر الرحمة والمودة..
هم أولياء النِّعَم.. فكيف لا يحزن المؤمن لكلِّ ظلمٍ وقع عليهم.. ثمَّ لقتلهم.. بالسيف تارةً.. وبالسُّمّ أخرى..
لقد أودع الله في قلوب المؤمنين محبةً للأطهار.. حينما خلق تلك القلوب مما خلق منه أبدان الأئمة.. مِن أعلى علّيين..
فصارت تهوي إليهم.. وتجزع وتحترق لهم..
وصارت الدموع تجري رحمة لهم.. فتُمزَجُ بماء الحياة.. حتى تَعذُب وتطيب.. لِطيب من ذُرِفَت عليهم..
جعلنا الله من الباكين عليهم.. والمحترقة قلوبهم لأجلهم..
وثبتنا على ولايتهم.
والحمد لله رب العالمين..
في ذكرى شهادة الجواد عليه السلام
الجمعة 29 ذو القعدة 1445 هـ، الموافق 7 – 6 – 2024 م