بسم الله الرحمن الرحيم
﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبيلاً﴾ (الفرقان44).
لقد أنعم الله تعالى على العباد بنعمة العقل، وهي واحدةٌ من أعظم النعم الإلهية، ثمَّ ذَمَّ الذين لا يعقلون، وشبَّههم بالأنعام، بل عدَّهم أضلَّ منها سبيلاً!
وقد ذكر الله تعالى مشتقات لفظ (العقل) ما يقرب من خمسين مرة في القرآن الكريم.
منها ما كان بلفظ (تعقلون) حيث ورد 24 مرة في القرآن الكريم، كقوله تعالى ﴿أفلا تعقلون..﴾ ﴿لعلكم تعقلون..﴾ وغيرها.
ومنها ما كان بلفظ (يعقلون) حيث ورد 22 مرة.
وكان ذكر هذه الآيات غالباً مقروناً بذكر القوم الذين يعقلون في مقام المدح، والذين لا يعقلون في مقام الذم، فإنَّهم قد استحقوا أن يجعل الله تعالى الرِّجس عليهم: ﴿وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذينَ لا يَعْقِلُونَ﴾ (يونس100).
ههنا أسئلة ومحاور ثلاثة ترتبط بالعقل:
1. ما هو العقل؟
2. ما وجه حجيَّته؟ ولماذا يصحّ الاستناد عليه؟
3. كيف يختلف العقلاء وكلهم مطمئنٌ راضٍ بما عنده؟!
1. ما هو العقل؟
إنَّ لفظ العقل يطُلق ويُراد منه معانٍ مختلفة..
منها الأداة المدرِكة التي أودعها الله في الإنسان، ويُحتمل أن يكون هو المراد من الحديث الشريف: لمَّا خَلَقَ الله العَقْلَ اسْتَنْطَقَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَقْبِلْ، فَأَقْبَلَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ.
ثُمَّ قَالَ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي: مَا خَلَقْتُ خَلْقاً هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْكَ، وَلَا أَكْمَلْتُكَ إِلَّا فِيمَنْ أُحِبُّ، أَمَا إِنِّي إِيَّاكَ آمُرُ وَإِيَّاكَ أَنْهَى، وَإِيَّاكَ أُعَاقِبُ وَإِيَّاكَ أُثِيبُ (الكافي ج1 ص10).
ومنها قوَّة الإدراك التي تحصل بسبب هذه الأداة، وكأنه هو المراد من الحديث الشريف: إِنَّمَا يُدَاقُّ الله العِبَادَ فِي الحِسَابِ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى قَدْرِ مَا آتَاهُمْ مِنَ العُقُولِ فِي الدُّنْيَا (الكافي ج1 ص11).
وقد يراد منها المدرَكات والمعلومات التي تحصل بإعمال القوَّة المدركة، وغيرها من المعاني.
ومهما كان.. فإننا نعتقد أنَّ العقل مقرونٌ بالدين.. كما ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام:
هَبَطَ جَبْرَئِيلُ عَلَى آدَمَ (ع) فَقَالَ: يَا آدَمُ، إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أُخَيِّرَكَ وَاحِدَةً مِنْ ثَلَاثٍ، فَاخْتَرْهَا وَدَعِ اثْنَتَيْنِ.
فَقَالَ لَهُ آدَمُ: يَا جَبْرَئِيلُ وَمَا الثَّلَاثُ؟
فَقَالَ: العَقْلُ وَالحَيَاءُ وَالدِّينُ.
فَقَالَ آدَمُ: إِنِّي قَدِ اخْتَرْتُ العَقْلَ.
فَقَالَ جَبْرَئِيلُ لِلْحَيَاءِ وَالدِّينِ: انْصَرِفَا وَدَعَاهُ.
فَقَالا: يَا جَبْرَئِيلُ، إِنَّا أُمِرْنَا أَنْ نَكُونَ مَعَ العَقْلِ حَيْثُ كَانَ.
قَالَ: فَشَأْنَكُمَا وَعَرَجَ (الكافي ج1 ص15).
يكشفُ هذا الحديث أنَّ العقل المُثمِر الذي يستفيد منه صاحبه هو الذي يكون مقروناً بالدِّين والحياء، فليس يُعمِلُ عقلَه من لم يكن من أهل الحياء والدِّين..
فليس منهم من كان في أعلى المراتب الدنيوية وهو معرِضٌ عن ربِّه وخالقه.. وعن أمره ونهيه.. فيكون كالبهيمة المربوطة هَمُّها عَلَفُها.. تلهو عما يُراد بها..
لذا لم يكن غريباً أن يكون العقل هو: مَا عُبِدَ بِهِ الرَّحْمَنُ وَاكْتُسِبَ بِهِ الجِنَانُ.
وأن يتَّصف أعداء الله بالشيطنة، وإن ظَنَّهم الناسُ من أهل العقل أو الكمال..
بهذا يتَّضح أن العقل والدين متلازمان معاً..
وأنَّ العلم والعمل جناحان للنجاة..
فبعد العلم والمعرفة يأتي دور العمل.. ولا يُكتفى بالأول.. فهذا إبليس كان قادراً على تمييز الحق من الباطل، وكان عالماً بحقائق الأمور.. لكنَّه تكبَّرَ وما امتثل.. وقد قال لقمان لابنه: تَوَاضَعْ لِلْحَقِّ تَكُنْ أَعْقَلَ النَّاس..
فلم يكن إبليس من أهل التعقُّل وإن كان عالماً بوجود الله وعظمته، وبِرِفعَةِ من خلقه الله وأمره بالسجود له.
وقد ورد في الحديث:
مَا بَعَثَ الله أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ إِلَى عِبَادِهِ إِلَّا لِيَعْقِلُوا عَنِ الله!
فَأَحْسَنُهُمُ اسْتِجَابَةً أَحْسَنُهُمْ مَعْرِفَةً!
وَأَعْلَمُهُمْ بِأَمْرِ الله أَحْسَنُهُمْ عَقْلًا!
وَأَكْمَلُهُمْ عَقْلًا أَرْفَعُهُمْ دَرَجَةً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ (الكافي ج1 ص16).
2. حجية العقل
إنَّ العقل هو أساس المعارف البشرية.. دينيةً كانت أم دنيوية.. وهو الحجَّةُ التي يحتجُّ الله بها على العباد، إلى جانب الأنبياء.
ورد في الحديث الشريف:
إِنَّ لله عَلَى النَّاسِ حُجَّتَيْنِ:
1. حُجَّةً ظَاهِرَةً.
2. وَحُجَّةً بَاطِنَةً.
فَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَالرُّسُلُ وَالأَنْبِيَاءُ وَالأَئِمَّةُ (ع).
وَأَمَّا البَاطِنَةُ فَالعُقُول (الكافي ج1 ص16).
ههنا صار العقل قرين الأنبياء في الحجيَّة!
لكنَّ التقدُّم في أساس المعرفة كان للعقل، إذ كيف عرف المؤمنون صدق الأنبياء؟ وكيف ميَّزوا الصادق من الكاذب لولا العقل؟!
لقد كان طريق معرفة الأنبياء هو صدور المعجزة منهم، وتمييز ذلك إنما يكون بالعقل.
وعلائم الصدق والكذب إنما تُعرَفُ بالعقل، ولا يُصدَّقُ الأنبياء بغير ذلك..
بل كان العقل سبيلاً لمعرفة الله تعالى، فدلالة الآيات على الله تعالى إنما يكون بمعونة العقل..
فإذا كان العقل طريقاً لإثبات حجية الأنبياء.. أفلا يكون حجةً بنفسه؟!
لقد التزم العقلاء بحجيَّة العقل الذاتية.. بمعنى أنه لا يحتاجُ إلى ما يثبت حجيته بعد كونه باب المعرفة الأول.
لقد ورد في الحديث الشريف عن الصادق عليه السلام:
إِنَّ أَوَّلَ الأُمُورِ وَمَبْدَأَهَا وَقُوَّتَهَا وَعِمَارَتَهَا الَّتِي لَا يُنْتَفَعُ بِشَيْءٍ إِلَّا بِهِ العَقْلُ الَّذِي جَعَلَهُ الله زِينَةً لِخَلْقِهِ وَنُوراً لهُمْ..
هذه العبارة عجيبةٌ جداً.. وهي تشهد لنفسها بالصِّدق حتى لو كان من يسمعها ليس من أهل الإيمان..
فإنَّ العقل هو مبدأ الأمور والمعارف، وهو الذي يصبغ العلوم بالصدق والكذب، ويعطي كلَّ ذي حقٍّ حقه، وهو البناء الذي لا يستقيم شيء إلا به..
فَبِالعَقْلِ عَرَفَ العِبَادُ خَالِقَهُمْ، وَأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ، وَأَنَّهُ المُدَبِّرُ لهُمْ وَأَنَّهُمُ المُدَبَّرُونَ، وَأَنَّهُ البَاقِي وَهُمُ الفَانُونَ.. (الكافي ج1 ص29).
3. الطمأنينة الزائفة
إنَّ كلَّ ما تَقَدَّم يوصلنا إلى سؤالٍ في غاية الأهمية.. عن سرِّ الاختلاف بين العقلاء، مع اطمئنان كلِّ واحدٍ بما عنده!
فإذا كان الله تعالى قد أودع في جُلِّ الناس أداةً يقدرون بها على تمييز الحق من الباطل.. وجعل فيهم قوَّة الإدراك والفهم والمعرفة..
وإذا كان النَّاس قد اختلفوا فيما بينهم.. وكلٌّ يزعم الاستناد إلى أدلةٍ تورثه الطمأنينة..
فكيف يكون العقل حجَّة لله تعالى؟ مع اختلاف مُدركاته وثماره؟!
الجواب على ذلك:
إنَّ الإطمئنان قد يحصل عند بعض النَّاس من الرؤيا! فيرى أحدهم في منامه أنَّ الحق في طريقٍ، فيسير فيه دون دليل!
وقد يحصل الاطمئنان عند ضعاف النفوس من التنجيم مثلاً! أو من القوة الواهمة والخيال! أو من الاستقراء الناقص! أو من الأدلة الفاسدة المنقوضة! وغير ذلك..
ويجمع كلُّ ذلك أنَّه اطمئنان غير مستند إلى أدلةٍ قطعية..
في مقابل ذلك.. يكون اطمئنان أهل التعقل مبنياً على أدلةٍ عقليَّةٍ قطعيَّةٍ لا يمكن أن تختلف أو تتخلف، لا يعتريها شكٌّ، ولا تشوبها شائبة.
والأول اطمئنانٌ زائفٌ! ينشأ من مناشئ غير عقلائية، فيكون صاحبه مقصِّراً، من حيث اعتماده على ما لا يصح الاعتماد عليه عند العقلاء مع تجرُّدهم عن الأهواء.
نعم قد ترى من هؤلاء العقلاء من يقرُّ بأنَّ التنجيم والرؤيا وأضرابها مما لا يصح الاعتماد عليه مثلاً، لكنَّك تراه في ممارساته يعتمد على ذلك.. فهو مقصِّرٌ من حيث قبوله ما لا يقرُّ العقل بجواز الاعتماد عليه.
إذا تبين ذلك، فإننَّا نعتقدُ:
1. أنَّ الإسلام هو الدين الوحيد الذي تبتني الطمأنينة فيه على دليلٍ قطعيٍّ غير مدخولٍ ولا منقوض!
2. وأنَّ التشيُّع هو المذهب الوحيد الذي يمثِّلُ الإسلام في ذلك!
3. وأنَّ كلَّ مَن خالفَنا من أتباع الأديان والمذاهب قد أخطأ في دليله.. فصار اطمئنانه زائفاً، وإن زعم الاعتماد على أدلة العقل.. وكان من أصحاب التخصص والعلوم والمعارف المختلفة..
ولتأكيد ذلك نقف وقفةً سريعةً مع بعض عقائد المخالفين لنا في الدين والمذهب، لنتبيَّن جلياً كيف يخالفُ هؤلاء أحكام العقل.. ومنهم:
أولاً: الملحد..
وهو إمَّا جاحدٌ لوجود الله، أو لا أدريٌّ جاهل..
والثاني جاهلٌ لا يدَّعي العلم، والأول جاحدٌ لما لا يعلم، فإنَّه يقرُّ بأن ليس عنده دليلٌ على نفي وجود الله تعالى. ثمَّ يعتقد بأنَّ هذا الكون الرحب الفسيح العظيم قد وُجِدَ دون موجدٍ..
فيكون بذلك قد أنكر قانون السببيَّة! ولم يعتقد أنَّ لكل مُسبَّبٍ سَبَبَاً! وخالف أوضح أحكام العقل التي لا نرتضي مخالفتها في أصغر موجودٍ.. وقد ارتضى مخالفتها في وجود الكون بأسره!
ثانياً: النصراني..
حيثُ يلتزمُ بأنَّ الله تعالى واحدٌ حال كونه ثلاثة! فيجمع بين الوحدانية والتعدُّد.. وهو جمعٌ بين المتناقضات..
وليس يصحُّ التخلُّص من ذلك بوحدة الجوهر وتعدُّد الأقانيم، لأنَّ الأقنوم مهما فَسَّرتَه سيؤول إلى التعدُّد في الشخص أو التَّعَيُّن أو الصفات الأزلية المتباينة.. ومآله إلى الشِّرك وتعدُّد القديم، حال القول بالوحدانية! فلا مهرب من التناقض.
ثالثاً: المخالف في المذهب..
وهو غالباً يقع في ما وقع فيه النصراني من حيث تعدُّد صفات الله الأزلي! مع كونه واحداً.. أو يعتقد أنَّ الحكيم قد قَدَّمَ المفضول على الفاضل! والحال أن العقل يرفض ذلك أبداً..
رابعاً: الصوفيّ..
وهو الذي يقول أنَّ التوحيد المدرَك بالدليل العقلي لا عبرة به! بل العبرة بالكشف والشهود!
والحال أنَّ العقل هو الذي عرَّفنا وجود الله تعالى، وصدق الأنبياء.. فكيف لا يكون التوحيد المدرَك به مقبولاً؟! ويلزم من قوله إسقاط أحكام العقل!
وسيأتي البحث مع هذه الفرق مفصلاً إن شاء الله.
يجمع هذه الأقسام الأربعة وأمثالها ما قاله الإمام الصادق عليه السلام:
إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَخْتَبِرَ عَقْلَ الرَّجُلِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَحَدِّثْهُ فِي خِلَالِ حَدِيثِكَ بِمَا لَا يَكُونُ:
1. فَإِنْ أَنْكَرَهُ فَهُوَ عَاقِلٌ.
2. وَإِنْ صَدَّقَهُ فَهُوَ أَحْمَقُ! (الإختصاص ص245).
وقد صدَّقَ أصحاب الأديان والمذاهب هؤلاء سادتهم بعدما التزموا بعقيدة لا يمكن المصير إليها، لمخالفتها لأحكام العقل القطعية.
فيما اعتقدنا أنَّ الدين ينسجم مع العقل دائماً وأبداً.. وأنَّ العقل يوصلنا إلى الأنبياء وهم حجة الله.
فإذا عجز العقل عن معرفة أوامر الله ونواهيه، أدرك أنَّ ذلك يؤخذ عن الأنبياء والأولياء دون سواهم..
بهذا.. كان اطمئنان المؤمن الشيعي مغايراً لكلِّ اطمئنان.. فمعه وحده حجة العقل التي لا شك فيها ولا ارتياب.
والحمد لله رب العالمين
يوم الثلاثاء 22 ربيع الثاني 1445 هـ
الموافق 7 - 10 - 2023 م