بسم الله الرحمن الرحيم
يذهبُ الشيعة الكِرام إلى أنَّ علياً (عليه السلام) هو (نَفسُ محمدٍ) (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويستدلُّون على ذلك بآية المباهلة، وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ﴿وَأَنْفُسَنا﴾، ولم يكن من الأنفس حينها إلا هو وعليّ عليهما وآلهما السلام.
فصارَ عليٌّ في حقيقته وجَوهره وصِفاته وخِصَاله نفسَ محمدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم).
لكنَّهُم لمّا تأمَّلوا فيما جرى بعد وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعدم قيام أمير المؤمنين (عليه السلام) بالسيف لفقدان الناصر، مقابلَ تكليف النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بالدَّعوة ولو مُنفَرِداً، لزم عليهم أن يُبيِّنوا حقيقة الموقفين.
ثمَّ أوقفهم قولُ النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لعليٍّ عليه السلام كما يرويه سليم في كتابه: يَا أَخِي إِنَّكَ لَسْتَ كَمِثْلِي!
فتأمَّلوا في دلالة النصين، ليجيبوا على السؤال: هَل مِن فرقٍ بين النبيّ والإمام؟
أولاً: التقيَّة بين النبيِّ والإمام
لقد استدلَّ الشيعةُ على جواز التقيَّة بأدلَّةٍ قرآنية مباركة، ونصوصٍ شريفةٍ كثيرة، والمهمُّ هو اتِّفاق كلمتهم أعزَّهم الله على أنَّ التقيّة لا تصحُّ على الأنبياء فيما لا يُعرف إلا منهم، فلو اتَّقى الأنبياء وأخفوا شيئاً من معالم الدِّين لامتنع على الأمة أن تُحيط به عِلماً.
وكذا لو انحصرت معرفةُ أمرٍ من أمور الشريعة بالإمام المعصوم (عليه السلام)، فإنَّ التقية لا تسوغ له، إلا أن يُعرَفَ ذلك الأمر من طريقٍ آخر، ولو منه (عليه السلام) في وقت وظرفٍ آخر، أو من إمامٍ آخر.
ولكن لمّا كان النبيّ هو المبتدئ بالشرع، كان بيانُ جُلِّ الأحكام منحصراً به، فما ساغت التقيَّة بحقِّه غالباً.
وكان حكم الإمام كالنبي فيما انحصر بيانه به، مفارقاً له فيما كان معلوماً من جهةٍ أخرى، لأنَّ تكليف الإمام حينها إجراء الأحكام لا بيانها بعد بيان النبيّ لها.
وقد بَيَّن السيد المرتضى رحمه الله هذه المعاني ببيانٍ واضحٍ جليٍّ فقال رحمه الله:
إن الإمام لا يجوز أن يتَّقي فيما لا يُعلم إلا من جهته، ولا طريق إليه إلا من ناحية قوله، وإنما يجوز التقية عليه فيما قد بان بالحجج والبيِّنات، ونصبت عليه الدلالات.. ثم لا يتقي في شيءٍ إلا ويدل على خروجه منه مخرج التقية.. ثم إن التقية إنما تكون من العدوّ دون الولي، ومن المتّهم دون الموثوق به(1).
ثانياً: اختلاف الظَّرف بين النبيِّ والإمام
إذاً ليس الاختلاف بين النبي والإمام من جهة التقيَّة في أصلها، بل في حيثيَّتها وظَرفها، فإذا انحصرت معرفة الحق بالنبي أو الإمام حَرُمَت التقيَّة عليهما معاً، وإذا عُرِفَ الحقُّ من طريقٍ آخر، جازَت لهما معاً.
لكنَّ ظَرف النبي من حيث كونه مؤسساً، وظرف الإمام من حيث كونه مُكَمِّلاً، يجعل التقيَّة غير سائغة غالباً في حق النبيِّ، وإن ساغت في جملةٍ من الموارد في حقِّ الإمام، وقد أشار إلى هذا المعنى نبيُّنا (صلى الله عليه وآله وسلم)، حينما قال لعليٍّ (عليه السلام):
يَا أَخِي إِنَّكَ لَسْتَ كَمِثْلِي!
إِنَّ الله أَمَرَنِي أَنْ أَصْدَعَ بِالحَقِّ، وَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ يَعْصِمُنِي مِنَ النَّاسِ، وَأَمَرَنِي أَنْ أُجَاهِدَ وَلَوْ بِنَفْسِي، فَقَالَ: ﴿جَاهِدْ فِي سَبِيلِ الله لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ﴾.. وَقَدْ مَكَثْتُ بِمَكَّةَ مَا مَكَثْتُ لَمْ أُومَرْ بِقِتَالٍ، ثُمَّ أَمَرَنِي الله بِالقِتَالِ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ الدِّينُ إِلَّا بِي، وَلَا الشَّرَائِعُ وَلَا السُّنَنُ وَالأَحْكَامُ وَالحُدُودُ وَالحَلَالُ وَالحَرَامُ(2).
لقد بيَّن (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا النصِّ أنَّ الله تعالى لم يأمره في أوَّلِ أمره بالقتال، وفي هذا إشارةٌ إلى أن القتال ليس شرطاً في النبوّة ولا في الإمامة، بل إنَّ الدين لا يؤخذُ القتال فيه شرطاً دائماً، إنما يوكل ذلك إلى الظَّرف بحيث قد يجب عندما تتوقَّف إزالة الموانع أمام انتشار الدين على القتال.
وقد أمر الله تعالى نبيَّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ذلك بالبلاغ والقتال ولو كان منفرداً، ولكن مع العصمة والضمانة من الله تعالى.
ولم يكن قتالُه (صلى الله عليه وآله وسلم) موقوفاً على وجود النّاصر، لأنَّ معرفة الدين كانت موقوفةً على قتاله في ظَرفٍ، وهو ما لا بدَّ منه.
ولكن، بعد أن انتشر الدين وعَمَّ، وعُرِفَت الشريعة وظَهَرَت أركانُها، وبلَّغَ النبيُّ أمرَ الولاية، ثم انتقلَ إلى ربِّه.. فما هو حال الإمام؟
هل يجبُ على الإمام القتالُ كما وجبَ على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما أُمِر؟
أم أن اختلاف الظرف يوجب سقوط القتال عن الإمام؟
لقد بيَّنَ النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) الفرق بين الأمرين، فقال لعليٍّ (عليه السلام):
وَإِنَّ النَّاسَ يَدَعُونَ بَعْدِي مَا أَمَرَهُمُ الله بِهِ، وَمَا أَمَرْتُهُمْ فِيكَ مِنْ وَلَايَتِكَ.. مُتَعَمِّدِينَ غَيْرَ جَاهِلِينَ.. فَإِنْ وَجَدْتَ أَعْوَاناً عَلَيْهِمْ فَجَاهِدْهُمْ، وَإِنْ لَمْ تَجِدْ أَعْوَاناً فَاكْفُفْ يَدَكَ وَاحْقُنْ دَمَكَ(3).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): إِنَّكَ يَا أَخِي لَسْتَ مِثْلِي، إِنِّي قَدْ أَقَمْتُ حُجَّتَكَ، وَأَظْهَرْتُ لهُمْ مَا أَنْزَلَ الله فِيكَ.. وَقُمْتُ بِأَمْرِكَ، فَإِنْ سَكَتَّ عَنْهُمْ لَمْ تَأْثَمْ.. وَالتَّقِيَّةُ مِنْ دِينِ الله وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا تَقِيَّةَ لَه(4).
لقد صارَ أمرُ الإمامة أوضح من الشَّمس في رابعة النَّهار، ولم يَعُد الإستدلالُ عليها وبيانُها لازماً على الإمام، لأنَّ النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أبانَها وجَلّاهَا، وأظهَرَها وحثَّ عليها، وأخذ البيعة لعليٍّ بها.
فليس على الوليِّ بعدَ ذلك أن يُقاتلَ الأمَّة إن خالفَت أمر النبيّ في ذلك، لأنَّ معرفة أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا تتوقف على قِتاله (عليه السلام)، بل يَعلَمُ ذلك كلُّ الأمة.
وإن لزم على الإمام البيان، اكتفى باللِّسان.
هكذا، لم يكن عليٌّ (عليه السلام) كمحمدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فالنبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أُمِرَ بتبليغ أمر الإمامة مهما حصل، ولم يكن له أن يتَّقي في ذلك لانحصار بيانها به (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولذا عَصَمَهُ الله تعالى من كَيد الكائدين كي يصدح بذلك: ﴿يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَالله يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾(5).
لقد روي عن الصادق (عليه السلام): وَالله مَا بَايَعَ عَلِيٌّ حَتَّى رَأَى الدُّخَانَ قَدْ دَخَلَ بَيْتَهُ(6).
إنَّها التقيَّة، نَعَم.. ومِثلُ عليٍّ يتَّقي، مع بطولته وبأسه، فالتقية (مِنْ دِينِ الله)، والبطولة إنما تكون بطاعة الله تعالى، لا بمخالفة أمره.
وقد ورد في الحديث: إِنَّهُ مَنْ كَانَتْ لَهُ تَقِيَّةٌ رَفَعَهُ الله(7).
لقد رفَعَ اللهُ أمرَ عليٍّ (عليه السلام) لمّا أطاعه وأطاعَ رسولَه، وسيأتي (عليه السلام) ربَّه عزَّ وجلَّ يوم القيامة مظلوماً لا ظالماً، فيكون الله تعالى هو المنتقمُ له.
عليٌّ إذاً.. نَفسُ محمدٍ.. في كلِّ كَمَالٍ ورِفعةٍ وشَرَف.
لكنَّ ظرفَ عليٍّ (عليه السلام) ليس كظرف الرَّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكلَّما تغيَّرَ الظرف تَبِعَهُ الحُكم، لذا كان ما كان من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وصدر ما صدر من عليٍّ (عليه السلام)، وكلاهما في ذروة المجد والشرف الأصيل، أئمة وسادة وقادة، أنوار الله في سمائه، وحججه وخلفاءه في أرضه.
ثبَّتَنا الله على ولايتهم في الدُّنيا، وحشرنا معهم في الآخرة، إنه سميع مجيب.
والحمد لله رب العالمين(8).
(1) الشافي ج4 ص107.
(2) كتاب سليم بن قيس ج2 ص767.
(3) كتاب سليم بن قيس ج2 ص767.
(4) كتاب سليم بن قيس ج2 ص768.
(5) المائدة67.
(6) تلخيص الشافي ج3 ص76.
(7) الكافي ج2 ص217.
(8) السبت 25 جمادى الثانية 1443 هـ الموافق 29 – 1 – 2022 م.