في ذكرى وفاته عليه السلام
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ تكريمَ العُظَماء سُنَّةٌ (عندَ الصالحين) في كلِّ زمانٍ ومكان، لأنَّ لَهُم فضلاً على سائر النّاس، بما تميَّزوا وبذلوا، وأعطوا وضحوا، ونصحوا وأرشدوا وقدَّموا للبشرية، حتى صار مِعيارُ تطوُّرِ الأمم أو تخلُّفها هو تقديرُها لعظمائها وعباقرتها، فإنَّ معرفة قَدرِهم يفتحُ الباب أمامهم لبثِّ العلوم والمعارِف، والجهل بهِم يحرمُ الأمَّةَ من خبراتهم وإرشاداتهم.
ولَم تخصّ الأمم عظماءها دائماً بالتكريم والتجليل والتبجيل، بل مالَت عليهم ميلاً عظيماً حتى كأنّهم أسوأ أعدائها !
فهذا إبراهيم خليلُ الرحمن، أبو الأنبياء، يمثِّلُ أنموذجاً قلَّ نظيره على مرَّ التاريخ بأسره، يدعو قومه إلى عبادة الله الواحد الأحد:
(قالَ أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ * قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلينَ) (الأنبياء66-68).
أمَّةٌ الحمقى هذه أرادت بأعظم عظمائها سوءاً، فجَهِلَت قدرَه، وردَّت قولَه، وأرادت قتلَه، بِشَرِّ أنواع القتل: الإحراق بالنار ! فكانت برداً وسلاماً بأمر السماء..
لقد اختصرَ إبراهيمُ عليه السلام الأمَّة بشخصه ! فصارَ قومُهُ من الأخسرين عند الله، وصار هو أمَّةً بنفسه !
قال تعالى: (إِنَّ إِبْراهيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكينَ) (النحل120).
لقد عَظَّمَ الله تعالى قدرَ إبراهيم عليه السلام فجعلَه (أمّة).
وقد قيل بأن المراد من ذلك أنَّهُ كان متفرِّداً بالتوحيد بين قومه، أو أنه كان جامعاً للخير، أو أنّه كان إماماً، أو أنَّه لا نظير له..
لكن لا يبعُد أن يكون ذلك من باب (ذكر الواحد بمعنى الجمع تفخيماً لشأنه وإجلالاً لقدره) (تأويل الآيات الظاهرة ص621).
ومهما يكن، فإنَّ الله تعالى يُظهِرُ عظمة أوليائه في الدّنيا تارة، وفي الآخرة أخرى.
ومِن ذلك مَن توفي منهم في مثل هذا اليوم، ذاك جَدُّ النبيِّ صلى الله عليه وآله، وهو رَجلٌ عظيمٌ من رجالات بني هاشم، ووجهٌ شريفٌ من وجوههم، وعَلَمٌ من أعلامهم، وقامةٌ شامخةٌ من قاماتهم: عبد المطَّلب بن هاشم، شيبة الحمد.
إنَّ لعبد المطلب تجليلاً عجيباً عند الله تعالى يوم الحساب، حين يُحشَرُ النّاسُ أفواجاً أفواجاً، ويُحشَرُ عبد المطَّلب أمّةً وحده !
أما عموم الخلائق، فقال عنهم تعالى: (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) (النبأ18)، ويؤتى بالمؤمنين رُكباناً على النجائب: (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) (مريم85)، ثمَّ يُساقون إلى الجنّة جماعات جماعات (وَسيقَ الَّذينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً) (الزمر73).
لكنَّ لعبد المطلب منزلةٌ عظيمةٌ تظهر ذلك اليوم، ففي الخبر الصحيح عن أبي عبد الله عليه السلام:
يُحْشَرُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُمَّةً وَاحِدَةً ! عَلَيْهِ سِيمَاءُ الْأَنْبِيَاءِ، وَهَيْبَةُ الْمُلُوكِ !
وفي خبرٍ آخر:
يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُمَّةً وَحْدَهُ، عَلَيْهِ بَهَاءُ الْمُلُوكِ وَسِيمَاءُ الْأَنْبِيَاءِ (الكافي ج1 ص447).
فما هذه المنزلة ؟ وماذا فعل حتى بلغَ ما بَلَغ ؟!
أولاً: سيماء الأنبياء !
إنَّ تخصيص عبد المطلب عليه السلام يوم المحشر بهذه الخصلة أمرٌ يدعو للعجب، حيثُ ينفرد عن عموم الخَلق بأن يُحشَر وحده، فيما يُحشرُ سواه حَشراً جماعياً، وكأنَّ مقامَ عبد المطلب أرفع من أن يُقرَنَ به عموم الخَلق، ولو من أمَّته، فيصيرُ هو بنفسه أمَّةً، بحيثُ ينفرد عن الآخرين في تجليلٍ مَهيب لا نعرفُ حقيقته حتى نراه، فإنَّ موازين ذلك اليوم فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وهذا ما يناله المؤمن، الذي يُحشر مع سواه، أما ما يناله عبد المطلب وأمثاله فهو فوق ما يناله سائر المؤمنين بلا ريب.
فإنَّهُ يُحشَر على صفات الأنبياء، حتى كأنَّهُ واحدٌ منهم وإن لم يكن كذلك ! وما هذا إلا لاتصافه بصفاتهم، وقيامه بدورٍ كدورهم، فإنَّ تكريم الله تعالى لا لغو فيه ولا عبث، ولا يكون إلا عن استحقاق.
ثم عليه (هيبةُ الملوك) أو بَهاؤهم، يومَ الفزع الأكبر !
فمَن أنت يا عبد المطلب حيثُ تُحشرُ كالملوك والأنبياء في حضرة الملك الجبّار !
ثانياً: عبد المطلب حجة الله !
إنَّ الذي يفسِّر هذه المنزلة هو كون عبد المطلب حجَّةً لله تعالى في أرضه.
فقد روى الشيخ الصدوق أنَّ: عَبْدَ الْمُطَّلِبِ كَانَ حُجَّةً، وَأَبَا طَالِبٍ كَانَ وَصِيَّهُ (اعتقادات الإمامية ص110).
فكان عليه السلام يصدرُ عن أمر السَّماء وإن لم يكن نبياً، ولقد ظهر منه ما يظهر من الحجج العِظام، فها هو يُخاطب الفيل الذي جاؤوا به لهدم الكعبة فيقول له:
أَ تَدْرِي لِمَ جَاءُوا بِكَ ؟
فَقَالَ الْفِيلُ بِرَأْسِهِ: لَا
فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: جَاءُوا بِكَ لِتَهْدِمَ بَيْتَ رَبِّكَ، أَ فَتُرَاكَ فَاعِلَ ذَلِكَ ؟
فَقَالَ بِرَأْسِهِ: لَا
ولما أرادوا دخول الحرم بالفيل أبى وامتنع عليهم.
وكان عليه السلام عالماً بما سيجري على القوم بتعليمٍ من الله تعالى، وهو القائل: (لِلْبَيْتِ رَبٌّ هُوَ أَمْنَعُ لَهُ مِنَ الْخَلْقِ كُلِّهِم)، وكان منتظراً لعقاب السماء لهم، فطلب من بعض مَواليه أن ينظر له سواداً من قبل البحر، فلما ظَهَرَ السوادُ في الأفق، وهو طيرٌ كثيرٌ، قال عليه السلام: وَرَبِّ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مَا تُرِيدُ إِلَّا الْقَوْمَ (الكافي ج1 ص448).
هو الرجل الواثق بأنَّ للبيت رباً يحميه ثِقَةً لا تَرَدُدَ فيها، لأنَّهُ مؤمنٌ بالله حقَّ الإيمان، فكان الأمرُ كما قال، حينما فعلت الطيور الأبابيل فعلتها.
ثالثاً: عبد المطلب ومعرفة الله !
لقد أشارت بعض الروايات إلى أن وجه تعظيم عبد المطلب هذا هو أنّه (أَوَّلُ مَنْ قَالَ بِالْبَدَاءِ) (الكافي ج1 ص447).
فيما أشارت روايات أخرى أنّه (مَا تَنَبَّأَ نَبِيٌّ قَطُّ حَتَّى يُقِرَّ بِخَمْسَةٍ) منها البداء (الكافي ج1 ص234).
وفُسِّرَت الرواية الأولى بأنه أول من قال بالبداء من غير الأنبياء، أو أول من استعمل لفظ (البداء).
ولكن..
لماذا ينزَّل عليه السلام منزلة الأنبياء لقوله بالبداء ؟ وما السرُّ في ذلك ؟
لقد أرشدَ الأنبياءُ الخلقَ إلى عظيم قدرة الله تعالى، مقابلَ مَن ذهبَ إلى تحديدها كاليهود: ﴿قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ﴾، فإنَّهم: قالوا قد فرغ الله من الأمر، لا يحدث الله غير ما قد قدره في التقدير الأول، فرد الله عليهم فقال ﴿بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ﴾ أي يقدم ويؤخر ويزيد وينقص وله البداء والمشية (تفسير القمي ج1 ص171).
حتى أنَّ الإمام الرضا عليه السلام قال لسليمان المروزي متكلِّمُ خراسان لمّا أنكر البداء: أَحْسَبُكَ ضَاهَيْتَ الْيَهُودَ فِي هَذَا الْبَابِ (التوحيد للصدوق ص444).
فكأنَّ القول بالبداء مِن علامات معرفة الله تعالى، والإقرار له بالقدرة، وهو يعني أنَّ لله أن يغيِّر ما قدَّرَهُ أولاً ثم يفعل ما يشاء، فمَن أثبَتَهُ أثبتَ لله سلطانه في ملكه بلا حدٍّ ولا كيف، ومَن نفاه نفى الكمال والسُّلطان عن الإله العظيم الجبّار.
رابعاً: عبد المطلب ومعرفة النبي ص !
لقد روي عن النبي (ص) قوله:
وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أُرِيَ إِبْرَاهِيمُ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَلَا اتَّخَذَهُ خَلِيلًا إِلَّا بِنُبُوَّتِي وَالْإِقْرَارِ لِعَلِيٍّ بَعْدِي (كتاب سليم ج2 ص859).
فإنَّ معرفة النبي (ص) والوصي (ع) هو بابُ القُرب من الله تعالى حتى للأنبياء، ولقد كان عبد المطلب عارفاً بنبوة النبي (ص) مقرَّاً بها مذ كان صلى الله عليه وآله طفلاً، فإنَّهُ كان يقول عنه (ص) وهو يجلس على فخذيه بفناء الكعبة: (إِنَّ الْمَلَكَ قَدْ أَتَاهُ) ! (الكافي ج1 ص448).
لم يكن عيسى عليه السلام أفضلَ من محمدٍ صلى الله عليه وآله، كي تنفرد الملائكة بالنُّزول عليه في المهد صبياً، بل كانت تتنزَّلُ على رسول الله صلى الله عليه وآله منذ بَدء أمره، فهو أعظمُ نبيٍّ من أنبياء الله تعالى، وقد حازَ من الخصال ما فاقَ الأنبياء جميعاً، وعبدُ المطلب يعرفُ ذلك ويؤمن به، ويتسامى في هذه المعرفة، بعد معرفة الله تعالى، فيصيرُ أمَّةً في رجل !
ليس سهلاً أن ينظر رجلٌ عظيمٌ كعبد المطَّلب إلى حفيده محمدٍ صلى الله عليه وآله ثمَّ يُعاملُه معاملة التابع لمتبوعه ! والمأموم لإمامه ! فإنَّ هذا يكشفُ عن عظيمِ تسليمٍ عنده لأمر الله تعالى، وانقيادٍ تامٍ له سبحانه وتعالى، ومعرفةٍ راسخةٍ وإقرارٍ بحكمة الله عزَّ وجل، حتى صدَرَ من النبي (ص) في حقِّه ما يحيِّرُ العقول.
فقد افتخرَ النبيِّ صلى الله عليه وآله بأنه من صلب عبد المطلب، مع أنَّه (ص) بنفسه فَخرُ الكائنات والخلائق جميعاً، وأفضل مَن وُجِدَ ويوجد، ولقد كان يقول:
أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبَ * * * أَنَا بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِب (الإرشاد ج1 ص143).
لقد عرفَ النبيُّ صلى الله عليه وآله قدر عبد المطلب حتى قال ما قال.
ونحن نحومُ حول بعض فضائله، فنستذكرُهُ في ذكرى وفاته، ونتبرَّك بالحديث عن شمائله، تَعظيماً لأمره، ولو لم نُدرك عظيم مكانته، عسى أن نساهم في إزالة الغُبار عن فضائل العُظماء، فيشفعون لنا عند الله تعالى يوم الفزع الأكبر، سيَّما مَن يُحشَر منهم وعليه هيبَةُ الملوك، ويكون صاحبَ شأنٍ وشفاعةٍ عظيمة..
ذاك عبد المطلب، الرَّجُلُ الذي نجهل وتجهل الأمة قدره.
إنّه (أمَّةٌ في رَجُل) !
والحمد لله رب العالمين
السبت 27 جمادى الأولى 1443 هـ
1 - 1 - 2022 م