فصل8. كيف يكون الإمام وجه الله؟
وجه الله، يد الله، جنب الله، باب الله.. وسواها من الكلمات التي وردت في الكتاب الكريم والسنة الشريفة، حَمَلَها قومٌ على التجسيم، وآخرون استشهدوا بها لإثبات كلمات المتصوّفة كقول قائلهم: سبحاني! فتاه هؤلاء وهؤلاء..
ومن آيات الكتاب الكريم التي ذكرت وجه الله:
قوله تعالى: ﴿ولله المشْرِقُ والمغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله﴾(1).
وقوله تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾(2).
وقوله تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ * ويَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ والْإِكْرامِ﴾(3).
ويستقيم المعنى في بعض الآيات عند تفسير الوجه بما فسّرته به كتب اللغة وأنه مستقبل كل شيء(4)، أي الجهة التي يؤتى منها الشيء.
فيكون الأنبياء والأئمة وجه الله تعالى الذي منه يؤتى.. ويكون عدم هلاكهم يوم القيامة من حيث أن الله أمر بطاعتهم، أو بحيث لا يهلك من أتى الله مؤتمراً بما أمره من طاعتهم، أو أن كل شيء هالك إلا دين الله تعالى الذي أتوا به للناس..
ففي الحديث الشريف، قال الراوي: سُئِلَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى ﴿كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾.
فَقَالَ (عليه السلام): مَا يَقُولُونَ فِيهِ؟
قُلْتُ: يَقُولُونَ يَهْلِكُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا وَجْهَ الله.
فَقَالَ: سُبْحَانَ الله لَقَدْ قَالُوا قَوْلًا عَظِيماً، إِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ وَجْهَ الله الَّذِي يُؤْتَى مِنْهُ(5).
وفي حديث قريبٍ منه قال (عليه السلام): إِنَّمَا عَنَى كُلَّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ الَّذِي يُؤْتَى مِنْهُ، وَنَحْنُ وَجْهُهُ الَّذِي يُؤْتَى مِنْهُ(6) .
وعن الباقر (عليه السلام): ..كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا دِينَهُ، وَنَحْنُ الْوَجْهُ الَّذِي يُؤْتَى الله مِنْهُ(7).
وعن الإمام الرضا (عليه السلام): يَا أَبَا الصَّلْتِ مَنْ وَصَفَ الله بِوَجْهٍ كَالْوُجُوهِ فَقَدْ كَفَرَ، وَلَكِنَّ وَجْهَ الله أَنْبِيَاؤُهُ وَرُسُلُهُ وَحُجَجُهُ (عليهم السلام)، هُمُ الَّذِينَ بِهِمْ يُتَوَجَّهُ إِلَى الله وَإِلَى دِينِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَقَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ﴾ وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ ﴿كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾(8).
وعَنْ سَلامِ بْنِ المسْتَنِيرِ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ الله تَعَالَى ﴿كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ قَالَ: نَحْنُ والله وَجْهُهُ الَّذِي قَالَ.
وَ لَنْ يَهْلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ أَتَى الله بِمَا أَمَرَ بِهِ مِنْ طَاعَتِنَا وَمُوَالاتِنَا، ذَاكَ الْوَجْهُ الَّذِي ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾، لَيْسَ مِنَّا مَيِّتٌ يَمُوتُ إِلَّا خَلَفَهُ عَقِبُهُ مِنْهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ(9).
وسواها الكثير من الأحاديث، وقد نطقت بهذا المعنى كتب اللغة.. فقد ورد فيها:
الواو والجيم والهاء: أصلٌ واحد يدلُّ على مقابلةٍ لشيء. والوجه مستقبِلٌ لكلِّ شيء. يقال وَجْه الرّجلِ وغَيره. وربَّما عُبِّر عن الذات بالوَجْه(10).
الوَجْهُ: مستقبل كل شيء(11).
ووَجْهُ كُلِّ شيء: مُسْتَقْبَلُه، وفي التنزيل العزيز: ﴿فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَ وَجْهُ الله﴾(12)..
(الْوَجْهُ) مُسْتَقْبَلُ كُلِّ شيء ورُبَّمَا عُبِّر (بِالْوَجْهِ) عَنِ الذَّات(13).
وحتى لو تنزّلنا وسلّمنا أن المراد من (الوجه) هو (الذات) في بعض الآيات الشريفة كقوله تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾، فإنّه يدل على فناء الخلق وبقاء الله لا على التجسيم ولا على وحدة الوجود إذ لا دلالة في الآية على ذلك بوجه من الوجوه كما زعمه بعضهم(14).
أما الآيات المباركة: ﴿وما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ الله﴾(15).
وقوله تعالى: ﴿وما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُريدُونَ وَجْهَ الله فَأُولئِكَ هُمُ المضْعِفُونَ﴾(16).
وقوله تعالى: ﴿ولا تَطْرُدِ الَّذينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ والْعَشِيِّ يُريدُونَ وَجْهَهُ﴾(17).
وقوله تعالى: ﴿يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ والْعَشِيِّ يُريدُونَ وَجْهَه﴾(18).
ففيها وجه آخر ذكرته كتب اللغة: قوله ﴿وما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ الله﴾... المراد بِالْوَجْهِ هنا: الرضا. وإنما حسن الكناية به عن الرضا لأن الشخص إذا أراد شيئاً أقبل بوجهه عليه، وإذا كرهه أعرض بوجهه عنه، فكأن الفعل إذا أقبل عليه بالوجه حصل الرضا به فكان إطلاقه عليه من باب إطلاق السبب على المسبب (19)..
وهو في حقيقته يرجع إلى الوجه السابق من إرادة الجهة التي يطلب منها، ورضاه ليس في شيء سوى اتباع أوامره التي أتى بها الأنبياء والرسل والأئمة (عليهم السلام).
بمثل ما تقدّم ينقطع تشكيك المشككين بيقين العارفين من أن هذه العبارات لا تشبه القول بمعرفة الذات أو الفناء فيها أو الاندكاك من قريب أو بعيد. وبمثل هذا التقريب يفهم كونهم (باب الله) و(حجة الله) و(عين الله) و(ولاة أمر الله) و(يد الله) وأمثال ذلك.
عَنْ أَسْوَدَ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فَأَنْشَأَ يَقُولُ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْأَلَ:
نَحْنُ حُجَّةُ الله وَنَحْنُ بَابُ الله وَنَحْنُ لِسَانُ الله وَنَحْنُ وَجْهُ الله وَنَحْنُ عَيْنُ الله فِي خَلْقِهِ وَنَحْنُ وُلَاةُ أَمْرِ الله فِي عِبَادِهِ(20).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام): إِنَّ الله خَلَقَنَا فَأَحْسَنَ خَلْقَنَا، وَصَوَّرَنَا فَأَحْسَنَ صُوَرَنَا، وَجَعَلَنَا عَيْنَهُ فِي عِبَادِهِ، وَلِسَانَهُ النَّاطِقَ فِي خَلْقِهِ، وَيَدَهُ المبْسُوطَةَ عَلَى عِبَادِهِ بِالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَوَجْهَهُ الَّذِي يُؤْتَى مِنْهُ، وَبَابَهُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَخُزَّانَهُ فِي سَمَائِهِ وَأَرْضِهِ، بِنَا أَثْمَرَتِ الْأَشْجَارُ وَأَيْنَعَتِ الثِّمَارُ وَجَرَتِ الْأَنْهَارُ، وَبِنَا يَنْزِلُ غَيْثُ السَّمَاءِ وَيَنْبُتُ عُشْبُ الْأَرْضِ، وَبِعِبَادَتِنَا عُبِدَ الله، وَلَوْ لَا نَحْنُ مَا عُبِدَ الله(21).
(1) البقرة 115.
(2) القصص 88.
(3) الرحمن 26-27.
(4) كتاب العين ج4 ص66.
(5) الكافي ج1 ص143.
(6) بصائر الدرجات ج1 ص65.
(7) بصائر الدرجات ج1 ص66.
(8) الأمالي للصدوق ص460.
(9) بصائر الدرجات ج1 ص65.
(10) معجم مقائيس اللغة ج6 ص88.
(11) كتاب العين ج4 ص66.
(12) لسان العرب ج13 ص555.
(13) المصباح المنير ج2 ص649.
(14) السيد الآملي في المقدمات من كتاب نص النصوص ص423.
(15) البقرة 272.
(16) الروم 39.
(17) الأنعام 52.
(18) الكهف 28.
(19) مجمع البحرين ج6 ص365.
(20) بصائر الدرجات ج1 ص61.
(21) بصائر الدرجات ج1 ص61.