في ذكرى ولادتها.. عليها السلام
بسم الله الرحمن الرحيم
يُمَيِّزُ الكتابُ المقدَّس، كتابُ النصارى، بين الشَّمس والقمر والنجوم، فَلِكُلٍّ منها مَجدُه، حيث يقول -وقوله هذا حقٌّ-:
مَجْدُ الشَّمْسِ شَيْءٌ، وَمَجْدُ القَمَرِ آخَرُ، وَمَجْدُ النُّجُومِ آخَرُ. لأَنَّ نَجْماً يَمْتَازُ عَنْ نَجْمٍ فِي المَجْدِ(1).
والمسيحُ الذي يعتقد النصارى بألوهيّته، يعتقد المسلمون أنَّه مِن أعظم رسل الله تعالى، فهو كلمةُ الله، وروحُهُ، خَصَّهُ بِبَاهِرِ الكرامات، وأظهر على يديه خارقَ المعجزات.
ولأنّ نَجماً يمتازُ عن نجمٍ في المجد..
يتساءل المؤمنون عن النِّسبة بين المسيح كلمة الله، وبين البَضعة الطاهرة، أُمِّ النجوم الزاهرة، فاطمة (عليها السلام)، قبيل ذكرى ولادتها.
فما هو مجد المسيح؟ وما هو مجد الزهراء (عليها السلام)؟
ههنا سؤالٌ يكشف شيئاً من ذلك:
كيف كانت ولادة المسيح (عليه السلام) والزهراء (عليها السلام)؟
1. كيف وُلِدَ المسيح؟
يتحدَّثُ إنجيلُ متّى عن ولادة السيد المسيح (عليه السلام) في بيت لحم أيام هيرودس الملك، وقدوم المجوس من المشرق إلى أورشليم، وينقل قولهم في سبب قدومهم: إِنَّنَا رَأَيْنَا نَجْمَهُ فِي المَشْرِقِ، وَأَتَيْنَا لِنَسْجُدَ لَهُ(2).
رأى المجوسُ نجمَ عيسى إذاً، كان نَجماً في السماء لامعاً، كاشفاً عن حَدَثٍ عظيمٍ بحسب الإنجيل، هو ولادة المسيح (عليه السلام)، بل كان هذا النجمُ دليلاً لهم سائراً أمامهم بحسب إنجيل متى: وَإِذَا النَّجْمُ الَّذِي رَأَوْهُ فِي المَشْرِقِ يَتَقَدَّمُهُمْ حَتَّى جَاءَ وَوَقَفَ فَوْقُ، حَيْثُ كَانَ الصَّبِيُّ(3).
فَرِحَ المجوسُ بالنَّجم، نجم المسيح، فهو علامةٌ من علامات مَجدِ هذا الطفل: وَأَتَوْا إِلَى البَيْتِ، وَرَأَوْا الصَّبِيَّ مَعَ مَرْيَمَ أُمِّهِ. فَخَرُّوا وَسَجَدُوا لَهُ(4).
هذا ما تذكره الأناجيل المعتمدة من قبل الكنائس حول ولادة المسيح (عليه السلام)، لكن الأناجيل التي لم تُعتَمَد تذكُرُ مزيداً من التفصيل حول ذلك.
ففي الإنجيل المنسوب لـ(جيمس): ظَهَرَ نورٌ عظيمٌ، إلى حَدِّ أن عينيّ لم تتمكنا من تحمُّله، وبعد مُضِيِّ وقتٍ قصيرٍ انحسر النور، وما إن حدث ذلك حتى ظَهَرَ الطفل(5).
وفي إنجيل (يعقوب التمهيدي) أن الضياء كان: ضياءً حاداً بحيث أن العين لم تكن تستطيع تأمُّله، وحين تبدّد ذلك النور قليلاً رؤي الطفل(6).
فكان هذا النور غير النجم الذي شوهِدَ في السماء، وقد ظهر عند ولادة الطفل.
أما في (إنجيل أرونديل) فكان الأمرُ أكثر وضوحاً، حيث يذكر أن النور هو نورُ الطفل نفسه، فيقول: أَشَعَّ الطفلُ نفسُه وأضاءَ مثلَ الشمس بشكلٍ ساطع.. عندما وُلِدَ أعلنت أصواتُ عددٍ كبيرٍ من الكائنات المرئيّة بصوتٍ واحد: آمين(7).
لم يخلُ (كتاب مورمون) أيضاً من ذكر العجائب عند ولادته، فقد وصف تلك الليلة بقوله: ستظهر أضواءٌ عظيمةٌ في السماء، حتى أنّه في الليلة التي تسبقُ مجيئه لن يكون هناك ظلام، فيظنّ البشر كأنّه نهار.. إنّ الليل لن يكون مُظلماً، وهذه هي الليلة التي تسبق ميلاده.. ستكون علاماتٌ كثيرةٌ وعجائب في السماء(8).
اتّفقت الكتب المسيحية إذاً، بما فيها الكتاب المقدَّس على أن ولادة عيسى (عليه السلام) كانت أمراً مُعجِزاً في مظهرها، فَفَضلاً عن ولادته من غير أبٍ، كان نجمه ساطعاً في السماء، مُرشِداً ومشيراً إليه، وظهرت أنوارٌ عظيمة ليلة ولادته حتى كأنّ الليل صار نهاراً، وظهرَ نورٌ عظيمٌ من الطفل عند ولادته، ولم تتمكن العيون من تأمُّل هذا النور لشدَّة سطوعه.
هو مجدٌ عظيم إذاً يعتقد النصارى أن الله تعالى خصَّ به عيسى (عليه السلام)، فهل مِن مَجدٍ أعظم من هذا؟!
2. كيف وُلِدَت الزهراء؟
لقد روينا عن الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) أنّ السيدة خديجة (عليها السلام) لما تزوّج بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هجرتها نسوة مكّة: فَلمَّا حَمَلَتْ بِفَاطِمَةَ، كَانَتْ فَاطِمَةُ (عليها السلام) تُحَدِّثُهَا مِنْ بَطْنِهَا وَتُصَبِّرُهَا(9).
أولى العلامات، أنَّ عيسى حدّث الناس في المهد صبيّاً، فكان ذلك معجزةً باهرة، والزهراء (عليها السلام) حدّثت أمّها حتى قبل ولادتها! وهي في بطنها.
ولمّا حانت ساعة ولادتها، أرسلَ الله تعالى إلى خديجة أربعةً من كُمَّلِ نساء البشريّة، واحدةٌ منهن: مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، أمّ عيسى (عليه السلام)! والأخريات: سارة، وآسية، وكلثوم أخت موسى (عليه السلام).
فإذا خصَّ الله تعالى مريم (عليها السلام) بأن جعل من صلبها عيسى دون أبٍ، فقد خصّ خديجة (عليها السلام) بأن جعل مريم (عليها السلام) وتلك السيدات العظيمات بمنزلة القابلات.
يقول الصادق (عليه السلام): فَجَلَسَتْ وَاحِدَةٌ عَنْ يَمِينِهَا، وَأُخْرَى عَنْ يَسَارِهَا، وَالثَّالِثَةُ بَيْنَ يَدَيْهَا، وَالرَّابِعَةُ مِنْ خَلْفِهَا.
أحاطها الله تعالى بكلّ هذه الرعاية إكراماً لها وللمولودة المطهّرة: فَوَضَعَتْ فَاطِمَةَ طَاهِرَةً مُطَهَّرَةً.
ههنا حانت ساعة المقارنة بين مجد عيسى (عليه السلام) ومجد الزهراء (عليها السلام) في ولادتهما، يقول الإمام الصادق (عليه السلام):
فَلمَّا سَقَطَتْ إِلَى الأَرْضِ، أَشْرَقَ مِنْهَا النُّورُ حَتَّى دَخَلَ بُيُوتَاتِ مَكَّةَ: الكتابُ المقدَّسُ يذكر نجماً في السماء قبل ولادة عيسى (عليه السلام)، وسائر الكتب تذكر نوراً ساطعاً عند ولادته، لكن الكنائس ما اعترفت بكلّ تلك الكتب.
أما الزهراء، فإنّ النور الذي أشرق منها دخل بيوتات مكة، ثمّ عَمّ الأرض قاطبةً من شرقها لغربها!
يقول (عليه السلام): وَلَمْ يَبْقَ فِي شَرْقِ الأَرْضِ وَلَا غَرْبِهَا مَوْضِعٌ إِلَّا أَشْرَقَ فِيهِ ذَلِكَ النُّورُ.
فإذا كانت كلمة النصارى قد اتّفقت على ظهور نَجمٍ لعيسى (عليه السلام)، واختلفوا في النور وحدوده، وهو المبعوث للعالمين، فإنّ نور الزهراء (عليها السلام) قد أشرق على البشرية قاطبة!
لكنّ المزيَة لا تقتصر على ذلك.
فإنّ نور الزهراء هذا ما كان مسبوقاً على الإطلاق، ليس عند الإنس والجنّ فحسب، بل عند ملائكة السماء! على عظمتهم واطّلاعهم.
يقول (عليه السلام): وَحَدَثَ فِي السَّمَاءِ نُورٌ زَاهِرٌ لَمْ تَرَهُ المَلَائِكَةُ قَبْلَ ذَلِكَ(10).
لم ترَ الملائكة هذا النور عند ولادة نوحٍ ولا إبراهيم ولا عيسى ولا موسى عليهم السلام جميعاً.
ههنا نعود للكتاب المقدّس حين يقول: لأَنَّ نَجْماً يَمْتَازُ عَنْ نَجْمٍ فِي المَجْدِ.
فأيُّ مجدٍ هذا الذي حازَته الزهراء حتى امتازَ نجمُها عن نجم عيسى (عليه السلام)؟! أيُعقل أن تكون سيِّدةُ النساء أفضلَ من كلمة الله وروحه؟ وسائر الأنبياء العِظام؟!
وإذا فُضِّلَت عليه وعليهم.. فما السرُّ في ذلك؟!
هذا ما نعرضه في البحث القادم إن شاء الله. والحمد لله رب العالمين(11).
(1) كورنثوس الأولى15: 41.
(2) متى2: 2.
(3) متى2: 9.
(4) متى9: 11.
(5) الأناجيل النصوص الكاملة ص589.
(6) الأناجيل المنحولة ص45.
(7) الأناجيل النصوص الكاملة ص593.
(8) سفر حيلامان14: 3-6.
(9) الأمالي للصدوق ص593.
(10) الأمالي للصدوق ص595.
(11) في 18 جمادى الثاني 1442 هـ، الموافق 1 - 2 - 2021 م.