بسم الله الرحمن الرحيم
جَمَعَ رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بني عبد المطَّلب عنده قُبيلَ وفاته، وأوصاهم بالأئمة الإثني عشر، ثمَّ أقبل على فاطمة (عليها السلام)، وخاطَبَها قائلاً: إِنَّكِ أَوَّلُ مَنْ يَلْحَقُنِي مِنْ أَهْلِ بَيْتِي!
هيَ عندَ النّاس بُشرى بالموت! يمقتُها أبناء آدم ويفرُّون منها عُمرَهم! لكنَّ الزَّهراء ضَحِكَت، فهيَ عندَها بُشرى بلقاء الوالد الشفيق في دار السَّلام، بعيداً عن الطغاة اللئام.
ثمَّ قال لها (صلى الله عليه وآله وسلم): وَأَنْتِ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَسَتَرَيْنَ بَعْدِي ظُلْماً وَغَيْظاً، حَتَّى تُضْرَبِي، وَيُكْسَرَ ضِلْعٌ مِنْ أَضْلَاعِكِ!(1).
لَم يعُد غريباً أن تضحك الزَّهراء لمّا عرَفَت أنَّها أوَّلُ أهل بيته لحوقاً به، كيف وهو يُخبرُها بما سيجري عليها من ظُلمٍ وغَيظ.
إنَّ الغيظ هو: (غضبٌ كامنٌ للعاجز)، وقيل (هو أَشدُّ من الغضَب)، أو هو (كَرْبٌ يلحقُ الإنسانَ مِن غيره).
وقد أشارَ النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى جريمتين خطيرتين عظيمتين عند الله تعالى، ضَربُ فاطمة! وكَسرُ ضِلعِها! لكنَّهُ (صلى الله عليه وآله وسلم) ما أفصَحَ في هذا الحديث عن حقيقة الجريمتين تماماً، واكتفى بالإشارة مِن بعيد.
1. ضَربُ فاطمة
يقولُ قائلٌ:
ما قصَّةُ الشيعة مع ضَربِ فاطمة؟! لماذا يعظِّمون الأمر إلى هذا الحدِّ؟ إنَّها إن صَحَّت فهيَ ضربَةٌ لا تُغَيِّرُ في مَصير الأمة، فلماذا لا يزال الشيعةُ يعيشونها كلَّ عامٍ ويَبنون عليها عقيدتهم في البراءة؟!
فيُجيبُ الشيعيّ:
إنَّ فاطمة قُتِلَت من هذا الضَّرب! فتعالَ أيُّها العاقلُ لنرى أيَّ ضَربٍ أدّى إلى قتل هذه المرأة الرقيقة الطاهرة، سيدة نساء الجنة، وبضعة النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم).
لقد روى بعض المخالفين أنَّ: عمر ضرب بطن فاطمة يوم البيعة حتى ألقت المحسن من بطنها(2).
وروينا أنَّه (رَفَسَهَا بِرِجْلِه)(3)، وأنَّه ضَرَبَ (كَفَّيْهَا بِالسَّوْطِ فَأَلَّمهَا) حتى سمعَ لها (زَفِيراً وَبُكَاءً)(4).
وأنَّه أخذ السوط وضرب به ما بين المِرفق إلى الكتف (فَأَخَذَ عُمَرُ السَّوْطَ مِنْ يَدِ قُنْفُذٍ.. فَضَرَبَ بِهِ عَضُدِي)، وأنَّه (رَفَعَ السَّوْطَ فَضَرَبَ بِهِ ذِرَاعَهَا)(5).
وأنَّه ضَرَبها بيدهِ من خلف الخمار على وجهها (فَضَرَبَنِي بِيَدِهِ حَتَّى انْتَثَرَ قُرْطِي مِنْ أُذُنِي)(6)، وأنَّه ضَرَبَ جنبها بالسيف: (فَرَفَعَ السَّيْفَ وَهُوَ فِي غِمْدِهِ فَوَجَأَ بِهِ جَنْبَهَا)(7).
بل روي أنَّ عمر أدماها وألهَبَ متنها حتى ماتت على تلك الحالة! ففي كامل البهائي المترجم (للطبري) أن المقداد قال لعمر:
قد ضربتَ بنت رسول الله بالسيف -وهو مغمدٌ- على جنبها فأدمَيتَهُ، وألهَبتَ مَتنَيها بالسوط حتى ماتت على هذه الحالة(8).
ونقل عن عقيل قوله لهم: ضربتموها بالأمس وخرجت من الدنيا وظَهرُها بِدَمٍ (مُدمىً) وهي غير راضية عنكما(9).
هذا شيءٌ مِن ضَربِ أسوأ الأجلاف لها، وما اشتفى اللعين بذلك، فأمَرَ قنفذ أيضاً بضربها (فضربها قنفذ بالسّوط على ظهرها وجنبَيها إلى أن أنهكها وأثرّ في جسمها الشريف)(10).
وقد شركهم المغيرة حتى قال له الإمام الحسن (عليه السلام): وَأَنْتَ الَّذِي ضَرَبْتَ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حَتَّى أَدْمَيْتَهَا(11).
ليس في كلمةِ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه سوى إشارةٍ للضرب (حَتَّى تُضْرَبِي)، أما حقيقته فهو الضَّربُ المُدمي الذي يؤدي للموت.
حينها يُفهم حديثُ الإمام الصادق (عليه السلام): وَتُضْرَبُ وَهِيَ حَامِلٌ.. وَتَطْرَحُ مَا فِي بَطْنِهَا مِنَ الضَّرْبِ، وَتَمُوتُ مِنْ ذَلِكَ الضَّرْبِ(12).
لقد ضربوها ضرباً مُبرِحاً مُدمياً ظلَّت تئنُّ منه أيَّامَها حتى انتقلت إلى رَبِّها من أثره، فلم يكن أمراً عابراً، بل كان جريمةً عظيمةً بكل المعايير، وقعت على أعظم امرأةٍ في الوجود، تلك التي يغضَبُ الله لغضبها، فصارَ غضبُ الشيعة مترشِّحاً عن غضبها وغضبِ الجبار على قاتليها.
2. كَسرُ ضِلعِها
كَسرُ الضلع هو الظُّلامة الثانية في حديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد قال لها (صلى الله عليه وآله وسلم): وَيُكْسَرَ ضِلْعٌ مِنْ أَضْلَاعِكِ!
لكنَّه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يبيِّن كيفيَّة الكسر في هذا الحديث، وإن أشار في حديثٍ آخر إلى أن الكسر سيكون لضلعٍ في جنبها، فقال مرَّةً لما رآها وذكَرَ ما يجري عليها: كَأَنِّي بِهَا وَقَدْ دَخَلَ الذُّلُّ بَيْتَهَا.. وَكُسِرَ جَنْبُهَا، وَأَسْقَطَتْ جَنِينَهَا(13).
وفي حديثٍ آخر: فَالجَأَهَا قُنْفُذٌ لَعَنَهُ الله إِلَى عِضَادَةِ بَابِ بَيْتِهَا، وَدَفَعَهَا فَكَسَرَ ضِلْعَهَا مِنْ جَنْبِهَا(14).
لكنَّ عليَّاً (عليه السلام) كشَفَ في قُنوتِهِ ما هو أمَرُّ وأدهى، ففي مصباح الكفعمي: اللهمَّ.. العَنْ صَنَمَيْ قُرَيْشٍ.. بِعَدَدِ كُلِّ مُنْكَرٍ أَتَوْه.. وَجَنِينٍ أَسْقَطُوهُ، وَضِلْعٍ دَقُّوهُ!(15).
لقد كسروا ضِلعَ فاطمة، بل دقُّوه! أي بالغوا في تكسيره قِطَعاً قِطَعاً! حتى هشَّموه ورضُّوه في كلّ وجه! فلا حول ولا قوّة إلا بالله.
في كتاب العين: دَقَقْتُ الشيءَ دَقّاً، وكل شيء كسرته قطعة قطعة(16).
وفي المحيط: والدُّقَاقُ: فُتَاتُ كُلِّ شَيْءٍ(17).
وفي لسان العرب: والدَّقُّ: الكَسر والرَّضُّ في كل وجه، وقيل: هو أَن تضرب الشيءَ بالشيء حتى تَهْشِمَه(18).
فكَم ضربَةٍ تعرَّضَ لها ضِلع فاطمة الشريفة حتى صار ضِلعاً مَدقوقاً! ذاك ما يعلمُه الله وأولياؤه وأعداؤه الذين ارتكبوا الجرم الشنيع.
ذاكَ أمرٌ يعلمُه الإمام المعصوم، ويظهر أثرُهُ عليه، فقد روي أنّ رجلاً دخل على الإمام الصادق (عليه السلام) موجَعَ القَلبِ لأمرٍ رآه، ولمّا سأله الإمام عن ذلك قال:
رَأَيْتُ جِلْوَازاً يَضْرِبُ رَأْسَ امْرَأَةٍ وَيَسُوقُهَا إِلَى الحَبْسِ، وَهِيَ تُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتِهَا: المُسْتَغَاثُ بِالله وَرَسُولِهِ، وَلَا يُغِيثُهَا أَحَدٌ!
إمرأةٌ تُضرَبُ وتُساق إلى الحبس فيتوجَّع قلبُ هذا الرَّجل لأجلها، وهو لا يعرفُها، يسأله الإمام (عليه السلام) عن سبب فعلهم ذلك فيقول:
سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ: إِنَّهَا عَثَرَتْ فَقَالَتْ:
لَعَنَ الله ظَالِمِيكِ يَا فَاطِمَةُ، فَارْتَكَبَ مِنْهَا مَا ارْتَكَبَ!
سبحان الله.. امرأةٌ تلعنُ ظالمي فاطمة فتُضرَبُ وتُساق إلى الحبس مِن غير جُرمٍ، ثم تستغيث فلا تُغاث، والنّاس بين راضٍ بِضَربها، وعاجزٍ عن الدَّفع عنها.
قَالَ: فَقَطَعَ الأَكْلَ، وَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى ابْتَلَّ مِنْدِيلُهُ وَلِحْيَتُهُ وَصَدْرُهُ بِالدُّمُوعِ، ثُمَّ قَالَ: يَا بَشَّارُ قُمْ بِنَا إِلَى مَسْجِدِ السَّهْلَةِ فَنَدْعُوَ الله عَزَّ وَجَلَّ وَنَسْأَلَهُ خَلَاصَ هَذِهِ المَرْأَةِ!(19).
ثم دعا الله تعالى لها ساجداً وما رفعَ رأسَه حتى قال للرجل: قُمْ فَقَدْ أُطْلِقَتِ المَرْأَةُ، وكان الأمر كذلك فعلاً.
لقد دلَّ الحديثُ على عظيم اهتمام الإمام (عليه السلام) بمَن يذكرُ فاطمة وظلامتها، فكَم يهتمُّ إمامُنا الحجَّةُ (عليه السلام) بذلك؟ وكم تُستثارُ غيرَتُهُ إذا تعرَّضَ مؤمنٌ للظلم في سبيل إحياء أمرها وبيان ظُلامتها؟
إنَّه أمرٌ يبعثُ في نفوس المؤمنين عزيمةً لا تُضاهى في سبيل الحفاظ على ذكرها، وتربية الأمم على حُبِّها وفضلها والبراءة من ظالميها، فمَن فَعَلَ ذلك كان في رعاية الإمام الحجة (عليه السلام)، وهو الشَّرَفُ الرَّفيع، والعِزُّ والمجد والسؤدد.
إنَّ ذِكرَ فاطمة (عليها السلام) وما جرى عليها أفجَعَ قلبَ الصادق (عليه السلام)، إمام الوجود، وأسالَ دموعَه، فَمِثلُهُ يَعرفُ فاطمةَ حقَّ معرفتها، ويعلمُ جيِّداً عَظيم ما جرى عليها، مِن ضَربٍ ورَفسٍ ولَكزٍ وكَسرٍ!
يَعلَمُ حالَ ضِلعِها المَدقوق.. وجنبها المكسور.
يعلَمُ مواضعَ السِّياط وأثرها حتى أنهكها الضَّربُ بها.
يعلَمُ ما فَعَلَت سياط الثاني وقنفذه بالزَّهراء.. وهو الذي أعلَمناَ بما يجازيهم ربُّهم يوم القيامة على ضربها وإسقاط مُحسنها، حيث: يُؤْتَيَانِ هُوَ وَصَاحِبُهُ فَيُضْرَبَانِ بِسِيَاطٍ مِنْ نَارٍ، لَوْ وَقَعَ سَوْطٌ مِنْهَا عَلَى البِحَارِ لَغَلَتْ مِنْ مَشْرِقِهَا إِلَى مَغْرِبِهَا، وَلَوْ وُضِعَتْ عَلَى جِبَالِ الدُّنْيَا لَذَابَتْ حَتَّى تَصِيرَ رَمَاداً فَيُضْرَبَانِ بِهَا(20).
هذا شيءٌ من جزاءِ مَن يظلم بضعة المختار، سيدة النساء، ويضربها ويكسر ضلعها ويؤلمها بالسياط، سياطٌ لا تُتَصَوَّرُ عظمةُ أثَرِها عليهم، جزاءً بما فَعلا.
ولئن جَهِلَ امرؤٌ عظيم جُرمِهم، فلينظُر إلى عظيم ما أعدَّ الله تعالى لهم، ليعرف كم أغضبوا العزيز المنتقم الجبار، وأيّ جنايةٍ وجُرمٍ لا يمكن تصوُّره قد ارتكبوه.
اللهم إنا نبرأ إليك منهم ومن أشياعهم وأتباعهم، وإنا لله وإنا إليه راجعون(21).
(1) كتاب سليم بن قيس ج2 ص907.
(2) الوافي بالوفيات ج ٦ ص ١١.
(3) الإختصاص ص185.
(4) بحار الأنوار ج30 ص294.
(5) كتاب سليم بن قيس ج2 ص864.
(6) بحار الأنوار ج30 ص349.
(7) كتاب سليم بن قيس ج2 ص864.
(8) كامل البهائي ج1 ص396.
(9) كامل البهائي ج1 ص397.
(10) نوادر الأخبار ص183.
(11) الإحتجاج ج1 ص278.
(12) كامل الزيارات ص332.
(13) الأمالي للصدوق ص114.
(14) كتاب سليم بن قيس ج2 ص588.
(15) المصباح ص553.
(16) كتاب العين ج5 ص18.
(17) المحيط ج5 ص197.
(18) لسان العرب ج10 ص100.
(19) المزار الكبير ص137.
(20) كامل الزيارات ص334
(21) السبت 4 جمادى الثانية 1443 هـ الموافق 8 - 1 - 2022 م.