بسم الله الرحمن الرحيم
تَصِفُ الزَّهراءُ البتولُ حال الأمَم قبلَ بعثة النبيِّ محمدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم) وصفاً لا مثيلً له فتقول (عليها السلام):
فَرَأَى الأُمَمَ فِرَقاً فِي أَدْيَانِهَا، عُكَّفاً عَلَى نِيرَانِهَا، عَابِدَةً لِأَوْثَانِهَا، مُنْكِرَةً لله مَعَ عِرْفَانِهَا، فَأَنَارَ اللهُ بِأَبِي مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم) ظُلَمَهَا، وَكَشَفَ عَنِ القُلُوبِ بُهَمَهَا(1).
لقد صارَ رسولُ الله إمامَ الهداية، وبابَ الخلاص من الغِواية، ونوراً أنار الله به السُّبُل، وكَشَفَ به الظُّلُمات، ثم أمَرَهُ تعالى أن يحكم بما أنزل عليه.
ولَقَد كان رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في قمَّة الكمال والعظمة، وغاية القُرب من الله تعالى، وشدَّة الحذّرِ من أصحاب الأهواء والضلال، رغم ذلك حذَّرَهُ الله تعالى من أن يفتِنَهُ أهلُ الأهواء! كيف ذلك؟
قال الله تعالى مخاطباً حبيبه صلى الله عليه وآله: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ الله وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ الله إِلَيْكَ﴾(2).
ولكن: هل يُمكن أن يتَّبعَ النبيُّ أهواءهم؟! هل يخفى على النبيِّ لزومُ الحذر من هؤلاء؟! هل يُمكنُ لهؤلاء أن يفتنوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو المعصوم المطهر عن الذنوب، والمبرَّأ عن العيوب؟!
لقد نَزَلَت الآية على قاعدة (إياكَ أعني واسمعي يا جارة)، لأنَّ النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يَحيدُ عن سبيل الله أبداً، فتكون الآيةُ في مقام بيان خطورة هذه الفئة، كي يحذَرَ منها المسلمون.
وما أعظَمَ خطَرَ هذه الفئة وهي تحاول (بجهلها وحماقتها) أن (تَفتِنَ) النبيَّ العظيم، وهو الذي ما تزلزلَ منذ بدء الدعوة حتى تلك اللحظة آناً ولو وضعوا الشمس في يمينه والقمر في شماله.
وإذا ما كان لليهود والنصارى ولمشركي العرب نَصيبٌ مِن هذه الآية، فإنَّ السَّهم الأوفى والحظَّ الأوفر والدور الأكبر كان لِمَن تَسنَّمَ منصب الخلافة ظلماً وعدواناً بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)!
ما أراد هؤلاء حكمَ الله تعالى، بل ما استساغوه يوماً، ولا دخلوا في دين الله إلا طَمَعاً، حتى إذا سَنَحَت لهم سانحةٌ أبرزوا ما في سويدائهم، واستحضروا حكمَ الجاهلية بِأُسِّهِ وأساسه، حينما سلبوا الزَّهراء إرثها، فقالت لهم صريحاً:
وَأَنْتُمُ الآنَ تَزْعُمُونَ أَنْ لَا إِرْثَ لَنَا ﴿أَ فَحُكْمَ الجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ أَ فَلَا تَعْلَمُونَ؟
لقد صارَ إرثُ الزهراء الفيصلَ بين الإيمان والنفاق، بين حكم الإسلام وحكم الجاهلية!
وقد كان للزهراء ع(عليها السلام) احتجاجٌ عظيم على هؤلاء، فإنَّ للرسول: (عَهْدٌ قَدَّمَهُ إِلَيْكُمْ وَبَقِيَّةٌ اسْتَخْلَفَهَا عَلَيْكُمْ).
لكنَّ بُغاة حُكم الجاهلية لم يرعوا لرسول الله حقاً، ولا حفظوا له عهداً، وقد انتَصَرَت (عليها السلام) لأمير المؤمنين (عليه السلام)، حين ذكَّرَتهم أنَّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقذفه في لهوات كُلِّ فَاغِرَةٍ فَغَرَت للمشركين، حتى يُخمِد لَهَبَها بسيفه.
لكن.. ألم يكن هذا ما نقموه على أبي الحسن (عليه السلام)؟!
فقد كان مُدافِعاً عن الإسلام حين كانوا يتربَّصون به وبالإسلام الدوائر! فما زادَهم كلامُها إلا طغياناً وظلماً.
ذاك حيثُ: ظَهَرَ فِيكُمْ حَسَكَةُ النِّفَاقِ، وَسَمَلَ جِلْبَابُ الدِّينِ.. وَأَطْلَعَ الشَّيْطَانُ رَأْسَهُ مِنْ مَغْرَزِهِ هَاتِفاً بِكُم فَالفَاكُمْ لِدَعْوَتِهِ مُسْتَجِيبِينَ.
هكذا يفهمُ المؤمنُ حقيقة ما جرى على الزَّهراء، إنَّه عنوان الرِّدَّة والإنقلاب على الأعقاب، إنَّه عنوان العَودِ إلى الجاهلية الجهلاء.
فإن قالَ قائلٌ:
أنتم تزعمون أنَّ أمَّة الإسلام اليومَ تأملُ الرجوع إلى الجاهلية وتعمل عليه؟! وهذا يكذِّبُهُ الوجدان، فإنَّ المسلمين اليوم يرتجون ويأملون أن يعمَّ الإسلام العالم.
قلنا:
لا يرغبُ المسلمون اليوم بالعود إلى الجاهلية، فإنَّهم قد عادوا إليها مُذ ظُلِمَت بَضعةُ المصطفى بين ظهرانيهم، وأُحرِقَ بابُها، وضَرِبَت وعُصِرَت بين الحائط والباب، وأُسقِطَ جنينُها، واقتيدَ بعلُها، وسُلِبَت حقَّها، ثمَّ والت هذه الأمة ظالميها وأعدى أعدائها!
فأيُّ جاهليةٍ تفوقُ ذلك؟!
لقد جرى كلُّ هذا بمرأى وبمسمعٍ بل بأمرٍ وتدبيرٍ ومشاركةٍ ممّن يُقَدِّسُهم جُلُّ المسلمين اليوم، فهل من جاهليةٍ كهذه؟!
ما مِن خلاصٍ لأمّة الإسلام إلا بالعودِ إلى آل محمدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد قالت الزهراء يوماً: فَأَنَارَ اللهُ بِأَبِي مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم) ظُلَمَهَا!
واليوم لا تستنيرُ الأمم إلا بالعودِ إلى الإمام الموعود من آل (صلى الله عليه وآله وسلم)، فالحقُّ منهم وفيهم ومعهم، ولا خلاص للأمة إلا بموالاتهم ومعاداة أعدائهم.
ثمَّ إنا نعلمُ أن المخالف يتساءل فيقول:
ما الذي جرى في الهجوم على الدار حتى صار بهذا الجَلَلِ عندكم أيُّها الشيعة؟ هل انتهت جرائمُ الدُّنيا عند هذه الجريمة؟!
ألا ترون أن هناك ما يفوقها بشاعةً وفظاعةً وألماً وأذيةً؟! ألا يُقتَل في شرق الأرض وغربها كل يوم خلقٌ كثيرٌ ظلماً وعدواناً؟ فهل وَقَفَ بكم الزَّمَن أيها الشيعة؟! وما هذا الغلو الذي تعيشونه؟
لقد غفل هذا الجاهل أن الجرائم لا تتساوى، فلا يستوي قَتلُ الشريف معَ قتل الوضيع، وليس ظُلمُ المحسن كظلم المسيء، فكيف بِسَادة الإحسان والكرم، مَن جَرَت نِعمتهم على جميع الخلق؟!
ينبغي أن يُعرف قَدرُ هذه السيِّدة العظيمة التي اعتُدِيَ عليها، وسُلِبَ حَقُّها، وانتهكت حرمة دارها، وقُتِلَت ظُلماً وعدواناً.
إنَّ الله تعالى أنزل العذابَ على قومٍ صالحٍ لأذيتهم ناقةً حين قال: ﴿هذِهِ ناقَةُ الله لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ في أَرْضِ الله وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَليم﴾(3).
فصارت الناقةُ (ناقةَ الله) تعالى لانتسابها إليه، وأنزلَ العذابَ على أمَّةٍ لأجلها: ﴿فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها﴾(4).
فما حالُ حبيبة حبيب الله، سيدة نساء العالمين، أعظم امرأة عرفَها الكون!
إنَّ تبسيط الأمر حماقةٌ كبيرة.
فكما أنَّ بيوتَ الأرض كثيرة، لكن لا حرمةَ لشيءٍ منها كحرمة بيوت الله تعالى! كذلك لا يستوي ظلمُ الزَّهراء مع ظلم من سواها.
وهل تدنيس بيت الله كتدنيس غيره من البيوت؟! إنَّ البيت وإن بُني من حَجرٍ، إلا أنه اكتسب قدسيته من انتسابه للخالق العظيم، فصارت الإساءة إليه أعظم من كل ما عداه. وهكذا اكتسبت الزهراء أسمى مقامٍ وأرفع منزلة عند الله تعالى، حتى اصطفاها من بين كل النساء.
فليس في الاهتمام بشأنها وإحياء أمرها وإقامة مآتمها شيءٌ من الغلو والمبالغة، بل كلُّه تقصيرٌ في تقصير.
ومهما أقامَ الشيعة لها المآتم لن يبلغوا شيئاً مما تستحقُّ أن يُقام لأجلها، وبها وبأبيها وبعلها وبنيها هدانا الله تعالى من الظُّلُمات، ورفَعَ عنا أحكام الجاهلية، حتى أعادها الأرجاس الأنجاس، أعداء الزهراء البتول، عليهم من الله ما يستحقون.
سلام الله عليك يا فاطمة، يا بضعة المختار، نسألك أن تكوني لنا شفيعة يوم القيامة، إذ واليناك في الدنيا والآخرة، وبرئنا من أعدائك إلى يوم الدين.
والحمد لله رب العالمين(5).
(1) الإحتجاج ج1 ص99.
(2) المائدة49.
(3) الأعراف73.
(4) الشمس14.
(5) الثلاثاء 16 جمادى الأولى 1443 هـ الموافق 21 - 12 - 2021 م.