بسم الله الرحمن الرحيم
إِنَّ مَعْرِفَةَ الله عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُعْرَفَ بِالوَحْدَانِيَّةِ، وَالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالعِزَّةِ، وَالعِلْمِ وَالقُدْرَةِ وَالعُلُوِّ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ النَّافِعُ الضَّارُّ القَاهِرُ لِكُلِّ شَيْءٍ، الَّذِي لا تُدْرِكُهُ الأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ.
هذه كلماتٌ في معرفة الله تعالى، للإمام السجاد عليه السلام (الكافي ج5 ص36)، تذكرُ بعضَ صفات الله تعالى عندنا..
لكنَّها تفتح نوافذ وأبواباً من الأسئلة..
فلماذا يلزم أن يكون الله واحداً؟ وكيف هي هذه الوحدانية؟
وكيف نثبت قدرته؟
ثمَّ ما الذي نعرفه عن الله تعالى؟ وبأي شيء نصفه؟!
نحن نعتقد بوحدانية الله تعالى لأدلةٍ كثيرةً منها:
الدليل الأول: ﴿لَوْ كانَ فيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتا﴾
فلو كان هناك إلهٌ أو آلهةٌ مع الله تعالى، لكان مقتضى الألوهية هو تَفَرُّدُ كلِّ واحدٍ بالسماء والأرض، ولتدافعا، فدفع القويُّ الضعيف إن كان أحدهما أقوى.. ولو يكن الأضعفُ إلهاً.. أو استمرَّ القتال بينهما إن كانا قويين.. فيفسد ما في الأرض وما في السماء.. ولما لم يحصل ذلك، ورأينا غاية الاتساق والإبداع والانتظام فيهما، أدركنا أن لا إله إلا الله.
الدليل الثاني: ﴿لَوْ كَانَ لِرَبِّكَ شَرِيكٌ لَأَتَتْكَ رُسُلُهُ﴾
فلو كان هناك إلهٌ شريكٌ لله تعالى، كان مقتضى الاشتراك في الألوهية الاشتراك في بعثة الأنبياء، أو اختصاص كلٍّ منهم بأنبياء ينقلون أمره ونهيه، ولما لم يقع هذا ولا ذاك، ثبت أن ليس لله شريكٌ.
الدليل الثالث: لَوْ كَانَ لِرَبِّكَ شَرِيكٌ.. لَرَأَيْتَ آثَارَ مُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ وَلَعَرَفْتَ أَفْعَالَهُ وَصِفَاتِهِ
إذا كان الله تعالى لا يُعرَفُ بذاته، بل بآثاره ومصنوعاته، وقدرته وسلطانه، فأين هي آثار شريكه لو كان؟!
ولما كان كلُّ ما نراه في هذا الكون هو من خلق الله تعالى.. ثبت أن ليس له من شريك، إذ لو كان له شريكٌ لظهرت قدرته ومصنوعاته.
الدليل الرابع: أنَّ مشابهة مخلوقاته تدلُّ (عَلَى أَنْ لَا شِبْهَ لَه)..
فالله تعالى لا شبيه له ولا نظير، ولو كان له شريكٌ أو نظير، أو كان غيره إلهٌ، لوقعت المشابهة بينه وبين مَن سواه.. والنتيجة باطلة فالمقدَّمة كذلك..
الدليل الخامس: أنَّه: إِلَهٌ وَاحِدٌ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ..
لو لم يُقبَل شيء من الأدلَّة المتقدِّمة.. أو لم يتمكَّن بعضنا من تعقُّلها.. كفانا أنَّ الله تعالى (الذي ثبتت ألوهيته) قد وصف نفسه بالوحدانية، لتثبت الوحدانية بلا لبس ولا ترديد..
قال تعالى: ﴿الله لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم﴾.
لهذا ولغيره.. الله تعالى واحدٌ.. لا شريك له..
2. كيف يكون الله واحداً؟
إنَّ الوحدانية التي نثبتها لله تعالى ليست وحدانية عددٍ بحالٍ من الأحوال.
كيف ذلك؟
إنَّ الوحدانية تُتصوَّرُ على أنحاءٍ عدَّة، وليست كلها مما تصحُّ نسبتها لله تعالى.
قال أمير المؤمنين عليه السلام:
إِنَّ القَوْلَ فِي أَنَّ الله وَاحِدٌ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ، فَوَجْهَانِ مِنْهَا لَا يَجُوزَانِ عَلَى الله عَزَّ وَجَلَّ، وَوَجْهَانِ يَثْبُتَانِ فِيهِ:
فَأَمَّا اللَّذَانِ لَا يَجُوزَانِ عَلَيْهِ:
- فَقَوْلُ القَائِلِ: وَاحِدٌ، يَقْصِدُ بِهِ بَابَ الأَعْدَادِ، فَهَذَا مَا لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ مَا لَا ثَانِيَ لَهُ لَا يَدْخُلُ فِي بَابِ الأَعْدَادِ، أَ مَا تَرَى أَنَّهُ كَفَرَ مَنْ قَالَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ.
أي أنَّنا لو قلنا: الله واحدٌ، كما نقول: فلان هو الأول، وصديقه الثاني.. لثبت إمكان وجود إلهٍ آخر، ولم تكن الوحدانية حقَّة.. ولوقع التعدُّد..
لذا لما قال النصارى بأنَّ الآب هو الله.. والابن هو الله.. والروح القدس هو الله.. وكان كلُّ واحد من الثلاثة مغايراً للآخر.. كفروا بقولهم هذا..
- وَقَوْلُ القَائِلِ: هُوَ وَاحِدٌ مِنَ النَّاسِ، يُرِيدُ بِهِ النَّوْعَ مِنَ الجِنْسِ، فَهَذَا مَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ تَشْبِيهٌ، وَجَلَّ رَبُّنَا عَنْ ذَلِكَ وَتَعَالَى.
لو قلتُ بأنَّ الله واحدٌ.. وحدانية نوعٍ أو جنسٍ، أو جوهرٍ كما قال النصارى.. لقبلتُ تشبيه الله تعالى بأفراد هذا النوع أو الجنس.. والحال أنَّه تعالى منزَّه عن المشابهة..
ولوقع الشرك كما حصل مع النصارى أيضاً.. حيث ذهبوا إلى الوحدانية في الجوهر.. فكان الجوهر بمثابة النوع.. والله واحدٌ عندهم في الجوهر فقط وإن تعدَّدَ في الحقيقة..
هذان الوجهان من الوحدانية منفيَّان عن الله تعالى، لاستلزامهما النقص.
وَأَمَّا الوَجْهَانِ اللَّذَانِ يَثْبُتَانِ فِيهِ:
الوجه الأول:
فَقَوْلُ القَائِلِ: هُوَ وَاحِدٌ لَيْسَ لَهُ فِي الأَشْيَاء شِبْهٌ، كَذَلِكَ رَبُّنَا.
فهو وحده الذي تُنفى عنه المشابهة.. وكلُّ من سواه مخلوقٌ.. يشبه بعضه بعضاً ولو في كونه مخلوقاً.. محتاجاً.. فقيراً.. وإن كان فيهم إمامٌ ومأموم.. سيدٌ وعبد.. قريبٌ وبعيد..
أما الله تعالى، فلا يشبهه أحدٌ في شيء من صفاته.. لأنَّ صفات الخالق لا تكون في المخلوق، وصفات المخلوق لا تكون في الخالق.
ولقد صارت هذه القاعدة من أهم قواعد باب التوحيد: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَلَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ..
الوجه الثاني:
وَقَوْلُ القَائِلِ: إِنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَحَدِيُّ المَعْنَى، يَعْنِي بِهِ أَنَّهُ لَا يَنْقَسِمُ فِي وُجُودٍ وَلَا عَقْلٍ وَلَا وَهْمٍ، كَذَلِكَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ (التوحيد ص83).
الله تعالى أحديٌّ بمعنى عدم الانقسام مطلقاً.. فالذي ينقسم يحتاجُ إلى أقسامه، ويفتقر إليها.. ويتركَّبُ منها.. فلا يكون غنياً.. ولو على مستوى الفكر والوهم.. أي أني لو اعتقدتُ بأنَّ الله مركَّبٌ من ذاتٍ يعرضُ عليها العلم والقدرة مثلاً.. فإني أعتقد بالآلهة المتعدِّدة.. لذا لا ينبغي أن أعتقد أن العلم غيره.. والقدرة غيره.. أو أن له أبعاضاً وأجزاءً..
إذا رأيتُ شخصاً صامتاً لا يتكلم.. احتجتُ إلى دليلٍ لأثبت قدرته على النطق..
لكني لو وجدتُ متكلماً يتحدث بلغاتٍ عدَّة كان كلامه دليلاً على قدرته.. واستغنيت عن طلب الدليل..
ونحن لو كُنَّا ندَّعي قدرة الإله الذي لم يفعل شيئاً.. لكنَّا بحاجةٍ إلى إثبات قدرته..
لكنَّنا نقول بألوهية الإله الذي ظهرت قدرته في كلِّ ما نرى من آياته.. فإذا كان الله سبحانه وتعالى قد خلقني وخلقك وسائر الناس جميعاً، وخلق سماء مبنية، وأرضاً مدحية.. بما فيهما من إنسٍ وجنٍّ وملكٍ.. فما معنى السؤال عن قدرته؟
وهذه آياته علامة سلطانه القاهر..
ففي الآفاق: الَّذِي رَفَعَ السَّمَاءَ فَبَنَاهَا، وَسَطَحَ الأَرْضَ فَطَحَاهَا، أَخْرَجَ مِنْها ماءَها ومَرْعاها، وَالجِبالَ أَرْساها.
وفي الأنفس: كَيْفَ احْتَجَبَ عَنْكَ مَنْ أَرَاكَ قُدْرَتَهُ فِي نَفْسِكَ؟
1. نُشُوءَكَ وَلَمْ تَكُنْ.
2. وَكِبَرَكَ بَعْدَ صِغَرِكَ.
3. وَقُوَّتَكَ بَعْدَ ضَعْفِكَ.
4. وَضَعْفَكَ بَعْدَ قُوَّتِكَ.
5. وَسُقْمَكَ بَعْدَ صِحَّتِكَ.
6. وَصِحَّتَكَ بَعْدَ سُقْمِكَ (الكافي ج1 ص75).
فمن لم ير هذه القدرة في السماء وما حَوَت.. والأرض وما احتوت.. كان أعمى البصر والبصيرة.. فسبحان الله ما أعظم قدرته.. وأعلى شأنه.. وأرفع مجده..
4. ماذا أعرف عن الله؟!
هُوَ مِنْ جِهَةٍ كَالوَاضِحِ لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ، وَهُوَ مِنْ جِهَةٍ كَالغَامِضِ لَا يُدْرِكُهُ أَحَدٌ!
يُنقلُ هذا المعنى عن الصادق عليه السلام.. ثمَّ يقرِّبُ الإمام الفكرة إلى الأذهان بمثال العقل فيقول:
وَكَذَلِكَ العَقْلُ أَيْضاً: ظَاهِرٌ بِشَوَاهِدِهِ، وَمَسْتُورٌ بِذَاتِه (توحيد المفضل ص180).
العقولُ تعجز عن تخيُّل ذات الله تعالى، لأنه ممتنع عن المشابهة مع أيِّ شيءٍ من خلقه.. فمن هذه الجهة يصيرُ الله تعالى كالغامض.. فلا مطمع لأحدٍ من الخلائق بالإحاطة به.. ﴿وَلا يُحيطُونَ بِهِ عِلْماً﴾..
لكنَّه ليس غموضاً يبعِّدُنا عن معرفته.. بل معرفته واضحةٌ إلى حدٍّ لا تحتاجُ عند أكثر الناس إلى دليلٍ.. لشدَّة ظهورها..
فالله تعالى ظاهر لكل أحد بآياته وقدرته.. بعيدٌ عن كلِّ أحدٍ بذاته فلا تُدرَك..
إِنَّ العَقْلَ يَعْرِفُ الخالِقَ مِنْ جِهَةٍ تُوجِبُ عَلَيْهِ الإِقْرَارَ، وَلَا يَعْرِفُهُ بِمَا يُوجِبُ لَهُ الإِحَاطَةَ بِصِفَتِهِ.. كَمَا أَنَّ الملِكَ لَا يُكَلِّفُ رَعِيَّتَهُ أَنْ يَعْلَمُوا أَطَوِيلٌ هُوَ أَمْ قَصِيرٌ وَأَبْيَضُ هُوَ أَمْ أَسْمَرُ، وَإِنَّمَا يُكَلِّفُهُمُ الإِذْعَانَ لِسُلْطَانِهِ وَالِانْتِهَاءَ إِلَى أَمْرِهِ (توحيد المفضل ص177)..
إذا كان الله تعالى لا يقال له كيف.. لأنَّه كَيَّفَ الكيف..
فهل يُقال له: أين؟!
اللافت أنّا نجيب الأطفال إن سألوا عن الله فنقول: الله في كل مكان!
ونجيب الكبار إن سألوا: الله لا يحل في المكان!
فكيف نجمع بين هذين القولين.. وهل يصح أن يُقال: أين الله؟!
من الجَليِّ أنَّ الله تعالى لا يحلُّ في المكان.. لذا يقال أيضاً: أَيَّنَ الأَيْنَ، فَلَا يُقَالُ لَهُ أَيْن؟
فهو الخالق للمكان، ولا يخضع له.. وَلَوْ كَانَ فِي شَيْءٍ لَكَانَ مَحْصُوراً.
لذا.. لا يصحُّ أن نقول: الله في كل مكانٍ (بذاته)..
إذا.. كيف كنا نقول لأطفالنا: الله في كل مكان؟!
هو في كلِّ مكان:
1. بآياته: هُوَ فِي كُلِّ مَكَانِ مَوْجُودٌ بِآيَاتِهِ..
فكلُّ ما في الوجود من آياته.. بل المكان من آياته.. فصارت الآيات دليلاً عليه.. فإذا وجدت آيةٌ دلَّت على وجوده.. فكان في ذلك المكان لا بذاته، بل بآياته.
2. بإحاطته: مُحِيطٌ بِمَا خَلَقَ عِلْماً وقُدْرَةً وإِحَاطَةً وسُلْطَاناً ومُلْكاً..
فكلُّ ما في الكون خلقه.. وهو المحيط بخلقه.. العالم بهم.. القادر عليهم.. صاحب السلطان والقدرة والمُلك..
فالله تعالى ليس في مكانٍ من الأماكن بذاته..
وهو في كلِّ مكان بآياته وإحاطته..
هذه هي عقيدة الشيعة في الله تعالى.. توافق العقل السليم.. ويُنزَّهُ الله فيها عن كلِّ نقص وعيب..
والحمد لله رب العالمين
ألقي هذا البحث في قم المقدسة يوم الثلاثاء 4 رجب 1445 هـ الموافق 16 – 1 – 2024 م
بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
|