بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ما قَدَرُوا الله حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزيزٌ﴾ (الحج74).
تكشف هذه الآية الشريفة أمراً في غاية الأهمية، يرتبط بأصلٍ من أصول الاعتقاد، حيث ورد في تفسيرها: مَا عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ!
من هم هؤلاء؟
كُلُّ أحدٍ!
لم يعرف أحدٌ الله حق معرفته، بمعنى أن أحداً ما أحاط بذات الله سبحانه وتعالى علماً.
لماذا؟ هل الناس كلهم أهل جهلٍ؟
الأمر ليس كذلك، بل الله سبحانه وتعالى عظيمٌ إلى حَدٍّ لا يمكن لمخلوق أن يحيط به علماً.
الله سبحانه وتعالى لا حَدَّ له، وكلُّ مخلوقٍ محدود، والعقل يحكم بأن المحدود لا يمكن أن يحيط بغير المحدود، لذا يثبت بحكم العقل أن المخلوق لا يمكن أن يحيط بالخالق.
ثمَّ يُرشِدُ القرآن الكريم إلى ذلك ويدلُّ عليه، قال تعالى: ﴿وَلا يُحيطُونَ بِهِ عِلْماً﴾، وتدلُّ عليه الروايات الكثيرة التي تفوق حدَّ الإحصاء.
إذا تأسَّسَ عندنا هذا الأصلُ واضحاً جلياً، نقلنا الحديث إلى مقدار معرفتنا بالله سبحانه وتعالى، فما هو الذي يجوز أو يمكن أن نعرفه عن الله عز وجل؟!
نحن نعتقد أنَّ الله سبحانه وتعالى موجودٌ، وأنَّه متصف بكل صفات الكمال، وإن كانت ذاته غير خاضعة لإدراك المخلوق.
لذا ورد في الحديث: سُبْحَانَ مَنْ لَمْ يَجْعَلْ فِي أَحَدٍ مِنْ مَعْرِفَةِ نِعَمِهِ إِلَّا المعْرِفَةَ بِالتَّقْصِيرِ عَنْ مَعْرِفَتِهَا، كَمَا لَمْ يَجْعَلْ فِي أَحَدٍ مِنْ مَعْرِفَةِ إِدْرَاكِهِ أَكْثَرَ مِنَ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَا يُدْرِكُهُ، فَشَكَرَ جَلَّ وَعَزَّ مَعْرِفَةَ الْعَارِفِينَ بِالتَّقْصِيرِ عَنْ مَعْرِفَةِ شُكْرِهِ، فَجَعَلَ مَعْرِفَتَهُمْ بِالتَّقْصِيرِ شُكْراً، كَمَا عَلِمَ عِلْمَ الْعَالِمِينَ أَنَّهُمْ لَا يُدْرِكُونَهُ فَجَعَلَهُ إِيمَاناً (الكافي ج8 ص394).
فإذا ثبت ذلك، اتَّضح سبب النهي عن التفكر في الذات الإلهية المقدَّسة، وعُلِمَ السِّرُّ في كون التفكُّر في ذات الله طريقاً للتيه والإلحاد والزندقة والبُعد عن الله تعالى، فالسالك في هذه الطريق لا يزداد عن الله إلا بُعداً.
وقد ورد الحثُّ الصريح على التفكُّر في آيات الله ومصنوعاته لا في ذاته.
إذا تبيَّن ذلك، قد يقول قائلٌ: ما الصلة بين هذا المعتقد، وبين عنوان بحثكم؟
ما الصلة بين هذه العقيدة وبين المتصوِّفة والعُرفاء؟!
ههنا جهاتٌ أربعة يحسن الوقوف عندها:
المحور الأول: معرفة ذات الله
أقرَّ بعض المتصوِّفة بأنَّ العقل لا يحيط بالله علماً، لكنَّهم زعموا أن القلب يقدر على الإحاطة بالله عزَّ وجل، وذلك من باب الكشف والشهود!
فقالوا أنَّ القلب قد يبصر ما لا يبصر العقل! وإذا فتحت بصائره رأى ما لا يرى غيره، ولئن كان العقل عاجزاً عن الإحاطة بالله سبحانه وتعالى فإن القلب قادرٌ على ذلك!
لكنَّهم غفلوا عن أنَّ القلب كالعقل مخلوقٌ محدودٌ، وما ينطبق على العقل ينطبق على القلب.. فكلُّ أدوات المعرفة عند الإنسان ومنها السمع والبصر محدودة، والمحدود لا يحيط بمن لم يكن له حدٌّ.
مِن ثمَّ ذهب بعض أئمة التصوُّف إلى أنَّ مؤدى الكشف والشهود يُعمل به ولو نافى العقل وخالفه!
وهذا مما لا يمكن قبوله، فالعقل هو حجة الله الباطنة، والأنبياء هم الحجة الظاهرة، وقد اتفقت الحجتان على استحالة الإحاطة بذات الله تعالى، فكيف نقبل مع ذلك القول بالإحاطة بحجة الكشف والشهود المزعومة الموهومة؟!
كيف نقبل أن يكون الله سبحانه وتعالى مُحَاطاً به من قلبٍ مخلوقٍ محدودٍ؟! إنَّ هذا الكشف كشفٌ شيطانيٌّ، وهو من وسوسات وتلبيسات إبليس.
على أنَّ قبول مثل هذه السفاسف يلازم إسقاط حجية العقل، إذ أنَّ العقل كان الطريق الأول لمعرفة الله تعالى بل لكلِّ معرفةٍ، وإذا لم يكن حجة حينها كان للملحد أن يحتجَّ علينا، وللنصراني كذلك.. ولغيرهم..
هذا إشكالنا الأول على العرفاء والمتصوفة، ولأجله لا يكون أحدنا عارفاً متصوفاً.
المحور الثاني: الحلول أو الاتحاد
يذهب بعض المتصوِّفة إلى القول بالحلول أو الاتحاد.. بمعنى أنَّ الله سبحانه وتعالى يحلُّ في المخلوق، أو يتحد به، فيصير الإثنان واحداً!
ومن كلماتهم قول البسطامي: لا إله إلا أنا فاعبدون!
وقوله: سبحاني ما أعظم شأني!
وقوله: كنت أطلب الله طيلة ثلاثين عاماً، وعندما نظرت، كان هو الطالب وأنا المطلوب!
وقوله: أنّ الله- تعالى- اطلع على العالم فقال: يا ابا يزيد كلّهم عبيدي غيرك! فأَخْرَجَني من العبوديّة.
وزعم أنّ الله تعالى خاطبه قائلاً: يا أبا يزيد! إنهم كلّهم خلقي غيرك. فقلت: فأنا أنت، وأنت أنا!
ومن كلماتهم ما يقوله أبو بكر الشبليّ:
تباركت خطراتي في تعالائي فلا إله إذا فكرّت الّائي
هذا عبدٌ مخلوقٌ يتصور نفسه صار خالقاً! ويسبِّحُ نفسه! وهذه عقيدة فاسدةٌ منافيةٌ لحكم العقل، ولعقيدة التوحيد الحقَّة، لهجَ بها بعض أئمة التصوُّف.
المحور الثالث: الفناء في الله
تنبَّه بعض أئمة التصوف والعرفان إلى أنَّ القول بالحلول والاتحاد فيه مفاسد عظيمة جداً، وأنه لا يمكن المصير إليه عند كثير من الناس، فنفوا الاعتقاد به، وقالوا بالفناء في الله تعالى!
وكانت هذه الكلمة بما له من جاذبية باباً لخداع المؤمنين..
فإن أريد بهذه الكلمة شدة القرب من الله سبحانه وتعالى، الموقوف على عظيم الطاعة، كانت مما يأنس به أكثر المسلمين، وكانوا على يقين أنه ليس هناك من هو أقرب لله تعالى من خاتم الأنبياء محمدٍ صلى الله عليه وآله.
لكنَّ أئمة المتصوِّفة استخدموا هذا اللفظ وأرادوا منه ما يشبه الحلول والاتحاد، فهذا البسطامي يقول: ذهبت من الله إلى الله، فصدر نداء مني إليّ: يا من أنت أنا، أي أنني وصلت إلى مقام الفناء في الله!
وقال: خرجت من بايزيديني كالحية من الجلد، ثم نظرت فرأيت العاشق والمعشوق والعشق واحداً، لأنه في عالم التوحيد يمكن أن يكون الجميع واحداً.
لقد صار هو والله واحداً بزعمه! يُعبِّر عن نفسه بالعاشق وعن الله تعالى بالمعشوق! لكنه هو والله واحدٌ بزعمه!
وليس هذا أهوَن حالاً من القول بالحلول والإتحاد.
وقد استوى في ذلك العرفاء السنة والشيعة، فهذا السيد حيدر الآملي يقول: الفناء! صيرورة المحب والمحبوب شيئاً واحداً!
والواصل هو الذي يصل الى الله تعالى بالفناء فيه والبقاء به، في مقام المحبّة التامّة، وهو صيرورة المحبّ والمحبوب شيئاً واحداً!
فلا يُراد من الفناء في لسان أئمة المتصوفة الفهم العرفي، الذي يكشف عن شدَّة القرب من الله سبحانه وتعالى، بل يراد منه صيرورة العارف ذات الله!
وكلمات المتصوفة والعرفاء في هذا المعنى كثيرةٌ، وهي كلماتٌ فاسدةٌ باطلة..
وليس غريباً أن يصرح بعضهم حينها متحدثاً عن الاندكاك في الذات الإلهية: وصيرورته ذات الله، فلم يعد بشراً!
فأيُّ اختلافٍ بين هذا القول وبين الحلول والاتحاد؟!
ولذا لو سلكتُ مسلك المتصوفة والعرفاء وأردتُ أن أعرف الله سبحانه وتعالى على طريقتهم، لتعمقت في معرفة الله سبحانه وتعالى حتى قلت: سبحاني ما أعظم شأني! نعوذ بالله من ذلك.
المحور الرابع: وحدة الوجود
لقد تبرأ المتأخرون من الصوفية والعرفاء من قول المتقدمين بالاتحاد والحلول أو أوّلوه، لكنهم ذهبوا إلى ما هو أشنع منه، حيث قالوا أن ليس في الوجود إلا الله تعالى، فليس هناك اثنينية من أولّ الأمر بين الخالق والمخلوق!
هي وحدة الوجود والموجود الشخصية الحقيقية! التي قال بها الكثير من أئمة وأكابر المتصوفة.. فعندهم لا وجود لشيءٍ سوى الله تعالى!
يقول ابن عربي: فهو العالم والمعلوم والعلم. وهو الدليل والدال والمدلول!
وقال أنّه تعالى: عين الأشياء!
ومن أقواله:
ليس في الجبة شيء غير ما قاله الحلاج يوما فأنعموا
ثم ينفي بعض العرفاء الشيعة الوجود عن غير الله تماماً، فيقول قائلهم: ليس لغيره وجود أصلاً، لا ذهناً ولا خارجاً!
وهكذا تتكثَّر كلمات العرفاء والمتصوفة السنة والشيعة القائلين بوحدة الوجود والموجود، والتي لا يعتقد أصحابها بالمباينة بين الخالق والمخلوق!
ويلزم من ذلك بطلان كل الشرائع، والجبر، وإسقاط حجية العقل!
ويصير المخلوق خالقاً! والمعلوم عالماً! ويكون العابد هو المعبود والمعبود هو العابد!
فإذا وقفت للصلاة وصليت، فأنا بزعمهم المصلي والمصلى له!
هذه بعض مفاسد التصوف والعرفان الباطل التي تسربت حتى إلى بعض بيوتنا..
ذم الصوفية
لقد روى المحقق الأردبيلي في حديقة الشيعة عن الصادق (عليه السلام) بعدما ذم الصوفية أنه قال: سيكون أقوامٌ يدّعون حبّنا، ويميلون إليهم ويتشبّهون بهم، ويلقّبون أنفسهم بلقبهم ويؤولون أقوالهم!
لقد صار التشبُّه بالصوفية منهياً مذموماً! وكذا التلقب بألقابهم وتأويل أقوالهم..
لذا لزم على المؤمن أن يحذر على دينه وعقيدته منهم..
لقد صَغَّرَ هؤلاء عظمة الخالق.. وعظموا المخلوق.. فصار المخلوق خالقاً!
لهذا ولغيره.. لا أكون صوفياً عارفاً..
ولأن المتصوِّفة يعظِّمون أعداء آل محمدٍ.. ويسقطون العقل.. ويبطلون العدل الإلهي.. ويزعمون الإحاطة بالله تعالى..
لهذا نعتقد بالتشيع مذهباً حقاً ينافي ويناقض التصوف وعرفاءه، من ابن عربي إلى الآملي إلى غيرهما من المتقدمين والمعاصرين..
هذه هي حقيقة عقيدتنا، وهذا هو قول آل محمد سلام الله عليهم.
والحمد لله رب العالمين
ألقي هذا البحث في قم المقدسة يوم الثلاثاء 28 جمادى الأولى 1445 هـ، الموافق 12 – 12 – 2023 م
بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
|