• الموقع : موقع العلم والإيمان.. مقالاتٌ وأبحاثٌ ومؤلفات.. بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي .
        • القسم الرئيسي : المقالات والأبحاث .
              • القسم الفرعي : مقالات عامة ومتنوعة / مقالات اجتماعية .
                    • الموضوع : 229. لا تُحَدِّثوا أنفسكم.. بِفَقرٍ! .

229. لا تُحَدِّثوا أنفسكم.. بِفَقرٍ!

بسم الله الرحمن الرحيم

في سورة البقرة آيَةٌ شريفةٌ.. يتأمَّلُ فيها القارئ مِراراً.. فتُثيرُ تَعَجُّبَه!

هي آيةٌ تتحدَّثُ عن صِنفٍ من الفُقراء، العاجزون عن طَلب الرِّزق.. والمُتَعَفِّفون في الوقت نفسه، سِيَّما عن السؤال!

فهم قومٌ مُحتاجون.. فُقراء.. لكنَّهم لا يسألون أحداً.. سوى الله تعالى! لأنَّ السؤال لا يكون إلا له عزَّ وجلّ..

لكن العجيبَ.. هو أنَّ الجاهل بحالهم يحسَبُهُم أغنياء!

قال تعالى: ﴿لِلْفُقَراءِ الَّذينَ أُحْصِرُوا في‏ سَبيلِ الله لا يَسْتَطيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَليمٌ﴾ (البقرة273).

فلماذا لا يُظهِرُ هؤلاء فَقرَهم؟

وما المنقبة المحمودة التي أتوا بها حتى ذَكَرَهُم الله تعالى في كتابه؟!

ههنا جملةٌ من المعاني يحسنُ الوقوف عندها:

أولاً: الناس بين الغنى والفقر

ينقسمُ النّاسُ من هذه الجهة إلى أقسامٍ أربعة:

القسم الأول: قومٌ يطيعون الله على كلِّ حال، سواءٌ أغناهم أو أفقرهم، وهم الذين عقلوا عن الله تعالى أمرَه، ورضوا وقنعوا بما أعطاهم، فاختار الله لهم ما فيه صلاحهم من غنىً أو فقر.

القسم الثاني: قومٌ يعصون الله على كلِّ حال، أغنياء كانوا أم فقراء.. وهؤلاء أهل الجحود والمعصية.

القسم الثالث: قومٌ من المؤمنين لا يُصلِحُهُم إلا الغنى!

قال عنهم تعالى في خطابه لنبيِّه عند الإسراء: إِنَّ مِنْ عِبَادِيَ المُؤْمِنِينَ مَنْ لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا الْغِنَى! وَلَوْ صَرَفْتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَهَلَكَ!

وهؤلاء المؤمنون يطيعون الله حال الغنى، لكنَّهم يضعفون عند الفقر، فيبعده الله تعالى عنهم! تلطُّفاً بهم، ورعايةً لأمرهم.

القسم الرابع: قومٌ من المؤمنين لا يصلحهم إلا الفقر!

فلو أغناهم الله شمخت نفوسهم، وطغت، فيكون في ذلك هلاكهم!

قال عنهم تعالى: وَإِنَّ مِنْ عِبَادِيَ المُؤْمِنِينَ مَنْ لَا يُصْلِحُهُ إِلَّا الْفَقْرُ! وَلَوْ صَرَفْتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَهَلَك! (الكافي ج2 ص352).

وخيرُ النَّاس أهل القسم الأول، الذين يرضون بما قسم الله لهم، ويعلمون أنَّ فيه صلاحهم، سواءٌ كان ذلك غِنىً أم فقراً، صحةً أم سُقماً، ويطيعون الله في ما أَمَر.

ثانياً: لا تُحَدِّثوا أنفسكم بفقر!

يُنَبِّهُ الأئمة الأطهار عليهم السلام على أمرٍ في غاية الأهميَّة، وهو أمرٌ باطنيٌّ خَفيٌّ.. غير ظاهر..

ذاك هو: حديث النَّفس بالفقر.. فيَنهونَ عنه!

فعن الإمام الكاظم عليه السلام: لَا تُحَدِّثُوا أَنْفُسَكُمْ بِفَقْرٍ.. فَإِنَّهُ مَنْ حَدَّثَ نَفْسَهُ بِالْفَقْرِ بَخِل‏! (تحف العقول ص410).

ما أكثر من يُحَدِّثُ نفسه بالفقر من النّاس.. سواءٌ كان فقيراً.. أو غنياً مَرزوقاً! فيبخل.. وليس لله في البخيل حاجة!

فمن يحدِّثُ نفسه بفقر إما أن يكون:

1. فقيراً.. يحدِّثُ نفسه بالفقر دائماً..

وقد يودي به ذلك إلى انقطاع الأمل من الله تعالى.. حتى كأنَّ رزقَ الله قد نفد! وكأنَّه عزَّ وجل لا يُجيبُ داعيه! وكأنَّه يحجبُ عن العباد ما فيه مصلحتهم!

وينسى أنَّ المال لا يزداد إن حدَّثنا نفسنا بالفقر.. بل نزدادُ نحن همَّاً وغمّاً وألماً وأذيَّةً!

2. أو غنيَّاً.. يحدِّثُ نفسه بزوال النِّعَم!

فقد يكون مرزوقاً.. كفاه الله مؤونة نفسه وعياله.. ورَزَقَهُ طعاماً ولباساً وداراً وما يحتاج.. وصان وجهه عن الابتذال.. لكنَّه لا يُحسِنُ الظنَّ بالله تعالى.. ولا يثق بما في يد الله كثقته بما في يده..

يخشى الفقر ويحدِّثُ نفسه به دائماً.. كأنَّ الذي رزقه حتى الساعة عاجزٌ عن أن يرزقه في قادم أيامه..

ثالثاً: لا تظهروا الافتقار!

ثمَّ إنَّ الفقير قد يحدِّثُ نفسه بالفقر، وقد يُظهرُ الافتقار.. وكلاهما مذمومٌ.. وإن كان الأول خفيَّاً.. والثاني جليَّاً ظاهراً للعيان..

ومَن يُظهرُ الافتقار يُعينُ على نفسه!

فإن في إظهار الافتقار زيادةٌ في الفقر!

كيف ذلك؟

روي عن الصادق عليه السلام أنَّه قال: الذُّنُوبُ الَّتِي تَدْفَعُ الْقِسَمَ إِظْهَارُ الِافْتِقَار.. (معاني الأخبار ص271).

والْقِسَمَ: هو النَّصيب!

أي أن الله تعالى الذي يقسم للعباد أرزاقاً ونصيباً، قد جعل لذلك أسباباً، فهناك ما يزيدُ في الرزق، وهناك ما ينقصه..

وإظهار الفقر مما ينقص في النَّصيب والرزق.. أو يحبسه ويمنع نزوله..

فيكون إظهار الافتقار حاجباً ومانعاً من نزول النصيب الذي قسمه الله للعبد، لو لم يظهر الفقر..

لذا ما كان الشيعة يحدِّثون أنفسهم بفقرٍ.. ولو كانوا فقراء..

ولا كانوا يظهرون الفقر.. ولو كانوا في أسوأ حالاتهم..

حتى قال الصادق عليه السلام مخاطباً شيعته: وَإِنَّ فُقَرَاءَكُمْ لَأَهْلُ الْغِنَى‏ (الكافي ج8 ص214).

هم أهل الغنى في الدُّنيا والآخرة.. أما في الدُّنيا فبالتوكل على الله.. والتعفُّف ولو كانوا فقراء.. فلا يظهرون الفقر.. فكانوا ممَّن: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ﴾!

وأما في الآخرة.. لأنَّهم أهل النعيم المقيم الذي لا زوال له..

نعم إخفاء الفقر لا يمنع من أن يشكو المؤمنُ حاجَتَهُ لأخيه المؤمن.. لا لسواه..

فإنَّ الله تعالى جعل المؤمنين سنداً وعوناً بعضهم لبعض..

ففي الحديث: أَيُّمَا رَجُلٍ مُؤْمِنٍ شَكَا حَاجَتَهُ وَضُرَّهُ إِلَى مُؤْمِنٍ مِثْلِهِ، كَانَتْ شَكْوَاهُ إِلَى الله عَزَّ وَجَل‏ (الكافي ج8 ص144).

فإنَّ هذه الشكاية للمؤمن رجاء قضاء الله الحاجة على يديه لا تُنافي عدم إظهار الافتقار.

رابعاً: كيف كان حالُ الأئمة عليهم السلام؟!

لقد كان الأئمة من أهل الرِّزق الوفير في كثيرٍ من أيامهم.. وكانوا يوزِّعون أموالهم على مَن يحتاجُها..

وإذا تضايقت الأمور عليهم صبروا..

لكنَّهم ما كانوا يُظهرون الافتقار بحال..

ولقد قيل للصادق عليه السلام: إِنَّ النَّاسَ يَرْوُونَ أَنَّ لَكَ مَالًا كَثِيراً!

فَقَالَ: مَا يَسُوؤُنِي ذَاكَ! (الكافي ج‏6 ص439).

ثمَّ إنَّ أمير المؤمنين عليه السلام: مَرَّ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى نَاسٍ شَتَّى مِنْ قُرَيْشٍ، وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ مُخَرَّقٌ، فَقَالُوا: أَصْبَحَ عَلِيٌّ لَا مَالَ لَهُ!

سَمِعَ أمير المؤمنين ذلك، فأمر من يوزِّع صدقاته من التمور أن يجمعها ولا يوزِّعها، ثمَّ باعها وجمع الدَّراهم، وأمر بوضعها مكان التَّمر، وأمر عامله أن يضربها برجله إذا دعا الإمام بالتمر!

ثُمَّ بَعَثَ إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ يَدْعُوهُمْ، ثُمَّ دَعَا بِالتَّمْرِ، فَلَمَّا صَعِدَ يَنْزِلُ بِالتَّمْرِ ضَرَبَ بِرِجْلِهِ، فَنُثِرَتِ الدَّرَاهِمُ!

فَقَالُوا: مَا هَذَا يَا أَبَا الحَسَنِ؟!

فَقَالَ هَذَا مَالُ مَنْ لَا مَالَ لَهُ! (الكافي ج‏6 ص439).

ثمَّ أمر بتوزيع الأموال إلى كلِّ بيتٍ كان يبعث إليهم..

وهكذا لمّا بلغه أن طلحة والزبير يقولان: لَيْسَ لِعَلِيٍّ مَالٌ!

فجمع من ثمن غلَّته مائة ألف درهم فنُشِرَت بين يديه.. وأرسل إلى طلحة والزبير.. وقال لهما: هَذَا المَالُ وَالله لِي، لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهِ شَيْ‏ءٌ!

فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ وَهُمَا يَقُولَانِ: إِنَّ لَهُ لَمَالًا! (الكافي ج‏6 ص440).

أما الإمام الحسن عليه السلام، فإنَّه لما قال أناسٌ بالمدينة: ليس للحسن مال! استقرض ألفَ درهم.. وَأَرْسَلَ بِهَا إِلَى المُصَدِّقِ، وَقَالَ: هَذِهِ صَدَقَةُ مَالِنَا، فَقَالُوا: مَا بَعَثَ الحَسَنُ (ع) بِهَذِهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إِلَّا وَلَهُ مَالٌ! (الكافي ج‏6 ص440).

وكذا فعل الإمام السجاد عليه السلام، فقد روي أنّ حاله اشتدَّت حتى تحدَّثَ بذلك أهل المدينة، فبلغه ذلك، فاقترض ألف درهم.. ثُمَّ بَعَثَ بِهَا إِلَى صَاحِبِ المَدِينَةِ وَقَالَ: هَذِهِ صَدَقَةُ مَالِي! (الكافي ج‏6 ص440)

وهكذا ما كان الأئمة يستاؤون إذا رأى النّاسُ أنَّ لهم مالاً.. بل كانوا يحمدون الله تعالى على ذلك، ويعينون المحتاجين خيرَ عَون..

وإذا نُسِبَ لهم الفقر، دفعوا هذه النِّسبة، ولو كانوا في ضيقٍ وشِدَّة، فإنَّ إظهار الفقر غير محمود..

وهكذا هُم شيعتهم.. تحسبُهم أغنياء من التعفُّف.. لا يحدِّثون أنفسهم بفقر.. ولا يظهرون فقراً..

إن اضطر أحدهم لشيء عمل وسعى ودعا الله، وإن شكا فإلى أخيه المؤمن.. فيعينه عند المقدرة..

هكذا هم المؤمنون.. يعلمون أنَّ الله تعالى لا يغنيهم ولا يفقرهم إلا لما فيه مصلحتهم.. فيحمدون الله على كلِّ حال.. ويعلمون أنَّ ما أعدَّ لهم خيرٌ مما في أيديهم..

جعلنا الله منهم.. وثبَّتنا على ولاية آل محمدٍ عليهم السلام.

والحمد لله رب العالمين.

الجمعة 14 شوال 1444 هـ، الموافق 5 – 5 – 2023 م


بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

  • المصدر : http://www.aliiman.net/subject.php?id=295
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2023 / 05 / 05
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 5