• الموقع : موقع العلم والإيمان.. مقالاتٌ وأبحاثٌ ومؤلفات.. بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي .
        • القسم الرئيسي : المقالات والأبحاث .
              • القسم الفرعي : الإمامة والأئمة / مقالات اجتماعية .
                    • الموضوع : 179. الإمامُ الباقر.. والشيعة الأشدّاء! .

179. الإمامُ الباقر.. والشيعة الأشدّاء!

بسم الله الرحمن الرحيم

يَا بَاقِرَ الْعِلْمِ، يَا بَاقِرَ الْعِلْمِ!

كلمةٌ ظَلَّ جابرُ بنُ عبد الله الأنصاري ينادي بها في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله، بعد عشرات السنين من شهادته صلى الله عليه وآله.

لَم يفهَم أهلُ المَدينة غَرَضَ جابرٍ من ذلك، وهو آخر من بقي من أصحاب النبي (ص) يومَها، فرموه بما رمى به الثاني النبيَّ صلى الله عليه وآله، فكانوا يقولون: جَابِرٌ يَهْجُرُ!

لكنَّ جابراً ما كَذَبَ ولا هَجَر، بل كان ينادي بهذا النداء مُتَرَقِّبَاً وعدَ الصادق الأمين (ص) حين قال له:

إِنَّكَ سَتُدْرِكُ رَجُلًا مِنِّي، اسْمُهُ اسْمِي، وَشَمَائِلُهُ شَمَائلِي، يَبْقُرُ الْعِلْمَ بَقْراً! (الكافي ج1 ص469).

ولمّا تَحَقَّقَ الوعدُ يوماً، ورأى جابرٌ في غلامٍ شمائلَ النبيِّ صلى الله عليه وآله، وعَرَفَ شخصه، وأنَّه مِنه (ص)، سارَعَ إليه يقبِّلُ رأسه، ويُقرِؤُه السلام عن جدِّه صلى الله عليه وآله، ثمَّ صار: يَأْتِيهِ طَرَفَيِ النَّهَارِ.. فَيَتَعَلَّمُ مِنْهُ!

جابرٌ مع كِبَر سنِّه وكثرة علمه يتعلَّمُ من الإمام مع صِغَرِ سِنِّه، لأنَّه يعلم أنَّ العِلم عند الأئمة دونَ سواهم، وقد قال الباقر يوماً: لِيَذْهَبُوا حَيْثُ شَاءُوا، أَمَا وَالله لَا يَجِدُونَ الْعِلْمَ إِلَّا هَاهُنَا.. عِنْدَ آلِ مُحَمَّدٍ (بصائر الدرجات ج1 ص10).

وقال (ع): وَالله إِنَّا لَخُزَّانُ الله فِي سَمَائِهِ وَأَرْضِهِ، لَا عَلَى ذَهَبٍ وَلَا عَلَى فِضَّةٍ إِلَّا عَلَى عِلْمِهِ (بصائر الدرجات ج1 ص104).

ليسَ ما يؤخَذُ مِن غيرِهِم عِلمٌ وإن مُلِئَت به الصحائف!

ولا ما يُنشرُ عَن سواهُم حقٌّ وإن تُلِيَ على المنابر!

فعِلمُ الله لا يصدُرُ إلا مِن بيوتهم، وليسَ الحقُّ إلا ما تَجودُ به قرائحُهم، وهو العِلمُ الذي جَعَلَهُم الله تعالى خَزَنَتَهُ وحَمَلَته.

 ولمّا كانوا عليهم السلام البابَ المبتلى به الناس، أطاعهم قومٌ وأحبوهم، وعصاهم قومٌ وأبغضوهم!

فأوصى بعضُهم بعضاً بأصحابهم وشيعتهم! وكان من أهمِّ تلك الوصايا وصيَّة إمامنا الباقر عليه السلام عندما حضرته الوفاة لإمامنا الصادق عليه السلام: يَا جَعْفَرُ، أُوصِيكَ بِأَصْحَابِي خَيْراً!

الخيرُ عنوانٌ عميمٌ، مُترامي الأطراف، واسع المدى، لكنَّ الإمامَ يعلمُ مُراد الإمام، ويعلمُ أيَّ خَيرٍ يعنيه، فأجابه الصادق عليه السلام:

جُعِلْتُ فِدَاكَ، وَالله لَأَدَعَنَّهُمْ وَالرَّجُلُ مِنْهُمْ يَكُونُ فِي الْمِصْرِ فَلَا يَسْأَلُ أَحَداً! (الكافي ج1 ص306).

إنَّ الخيرَ كلُّ الخَير هو في علومهم عليهم السلام، وإنفاذُ وصيَّة الإمام يكون في تعليم أصحابه وشيعته ومواليه، حتى لا يحتاجوا إلى مخالفيهم، فإنَّ مَن احتاج إليهم: أَدْخَلُوهُ فِي بَابِ ضَلَالَتِهِمْ وَهُوَ لَا يَعْلَم‏ (الكافي ج1 ص33).

الخيرُ كلُّ الخَيرِ فيما يعتصمُ به الإنسان عن الضلال، ولا يكون ذلك إلا بالتفقُّه والتعلُّم، ومَن لم يتفقَّه سُلِبَ الخَير: لَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَتَفَقَّهُ مِنْ أَصْحَابِنا!

وكيفَ يكونُ مِن أهل الخير والصلاح مَن يستبدل الحقَّ بالباطل لجهله بالحقّ! وكَم مِن مؤمنٍ يعتقدُ بولاية آل محمدٍ عليهم السلام ثم لا يعمل بفقههم بل بفقه مخالفيهم لجهله!

هكذا يصيرُ تعليمُ أصحاب الأئمة وشيعتهم وصيَّة الباقر للصادق عليهما السلام، ولقد أنفذَ الإمام الصادق عليه السلام الوصيَّة بما لا مَزيد عليه، وكان يودُّ لو يُضرب أصحابه بالسياط حتى يتفقهوا في الحلال والحرام، فالعلم مع الضَّرب بالسياط خيرٌ من الجهل الذي تنفتح منهُ أبوابُ الضلال!

لقد استَلهَمَ الشيعة من إمامهم الباقر قديماً وحديثاً قواعدَ كثيرة تستحقُّ كلُّ واحدةٍ منها أن تكتب بماء الذهب، ومنها:

أولاً: الحقُّ لا يُترَكُ لاختلاطه بالباطل

لطالما مَزَجَ أصحابُ الأهواءَ الباطلَ بالحقِّ ليُمَوِّهوا على النّاس، ولطالما تداخَلَت المسائل واختلطت حتى حارَ كثيرٌ من الناس في معرفة حُكمِها أو تشخيص موضوعها.

ومع أنَّ الراجحَ في المتشابهات هو اجتنابُها طلباً للنجاة، فإنَّ هذا لا يعني تَركَ الحقِّ الواضح إذا ما مسَّهُ باطلٌ لا يَدَ للمؤمن فيه، بحيثُ يصيرُ هذا الأمرُ سلاحاً لأهل الباطل ليترك المؤمنون كلَّ حق.

ومِن ذلك ما جرى يوماً حضرَ فيه الإمامُ الباقر عليه السلام جنازةً، كما حضَرَها (فقيهٌ) من المخالفين، (فَصَرَخَتْ صَارِخَةٌ)، وصُراخ النِّساء في الجنائز ليس منَ الحقِّ في شيء، فقال ذاك (الفقيه): لَتَسْكُتِنَّ أَوْ لَنَرْجِعَنَّ!

ولما لم تسكُت المرأة رَجَعَ وتَرَكَ الجنازة، ولما أُخبِرَ الإمام بذلك قال عليه السلام: امْضِ بِنَا، فَلَوْ أَنَّا إِذَا رَأَيْنَا شَيْئاً مِنَ الْبَاطِلِ مَعَ الحَقِّ تَرَكْنَا لَهُ الحَقَّ لَمْ نَقْضِ حَقَّ مُسْلِمٍ (الكافي ج3 ص172).

وهكذا تَعَلَّمَ المؤمنُ مِن إمامه أن لا يترُك شيئاً من حقوق الله أو حقوق العباد لأجلِ طَرَفٍ ثالث غير مُصيب، فتمسَّكَ بأمر الله تعالى، ونال رضاه ومحبَّته تعالى.

ثانياً: ليُقوِّ شديدُكُم ضعيفَكم

لقد دخَلَ جماعةٌ على الباقر عليه السلام يريدون الخروجَ إلى العراق، وطلبوا منه وصيَّةً، فقال عليه السلام:

لِيُقَوِّ شَدِيدُكُمْ ضَعِيفَكُمْ، وَلْيَعُدْ غَنِيُّكُمْ عَلَى فَقِيرِكُمْ، وَلَا تَبُثُّوا سِرَّنَا، وَلَا تُذِيعُوا أَمْرَنَا.. وَاعْلَمُوا أَنَّ المُنْتَظِرَ لِهَذَا الْأَمْرِ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ (الكافي ج‏2 ص222)

لقد أوصى عليه السلام هنا بأمورٍ في غاية الأهمية:

أوَّلُها: لزومُ التكاتُف بين الشيعة، في أمورِ دينِهم ودُنياهم، فالقويُّ مِنهُم ببدنه يُعينُ الضعيف، والقويُّ بعلمه يُعَلِّمُ الجاهل، فإنَّ: مِنَ الْعِلْمِ صَعْباً شَدِيداً مَحْمِلُه‏، وأشدّاءُ الشيعة الذين حملوا علومهم يعطفون على ضِعافِهم ويسندونهم في حاجاتهم.. كما يعطفُ الغنيُّ منهم على الفقير.

وهكذا لا يكونُ المؤمنُ القويُّ الذي لا يأخذ بيد أخيه عاملاً بوصيَّة إمامه، فكيف بمَن يستغلُّ قوَّته ليظلم أخاه الضعيف؟ أو يسلُبَه حقَّه، ويغترَّ بنفسه، فيتكبَّر ويتجبَّر على إخوانه!

ثانيها: أنَّ نشرَ العلوم أو كِتمانَها يخضعُ للظروف، فينبغي للمؤمن أن ينظُرَ في ذلك، ويتكلَّم الكلمة في موضعها، فيحدِّث تارةً بما عنده، ويكتم إيمانه تارةً أخرى كمؤمن آل فرعون.

ولقد بيَّنَ الإمامُ عليه السلام ذلك لجابرٍ حينما دفعَ إليه كتاباً وقال له:

إِنْ أَنْتَ حَدَّثْتَ بِهِ حَتَّى تَهْلِكَ بَنُو أُمَيَّةَ فَعَلَيْكَ لَعْنَتِي وَلَعْنَةُ آبَائِي!

وَإِذَا أَنْتَ كَتَمْتَ مِنْهُ شَيْئاً بَعْدَ هَلَاكِ بَنِي أُمَيَّةَ فَعَلَيْكَ لَعْنَتِي وَلَعْنَةُ آبَائِي! (رجال الكشي ص193).

ثالثُها: أنَّ انتظارَ الإمام ليس قعوداً عن الحقِّ، وأنَّه لا ينبغي حملُ السِّلاح كيفما كان ليصيرَ المؤمن مناصراً لإمامه، فانتظارُ الإمام مع تعلُّم علومه وتعليمها المؤمنين، ومَعونتِهم بحفظ دينهم ودنياهم، هو بابٌ من أبواب رضا الإمام، فيصيرُ المنتظرُ بذلك (كَمَنْ قَارَعَ مَعَهُ بِسَيْفِه‏)، وما أعظمها مِن رُتبةٍ وشَرَف.

ثالثاً: ليس بعد مُلكِنا مُلك

إنَّ الباقرَ إمامٌ أعطاهُ الله خزائن علمه، وجعلَ الكونَ طوعَ أمرِه، فصارَت إرادةُ الربِّ في مقادير أموره تصدُرُ مِن بيته، والأرضُ التي تحملُ بدنه الشريف مستقرَّة بوجوده، رغمَ ذلك لم يكن عليه السلام إماماً يتعاطى (العنتريات)! ولا يرعدُ ويُبرق!

لقد أرادَ هشام بن عبد الملك توبيخَ إمامٍ عظيمٍ بهذه المنزلة! فنطق إبليسُ على لسانه بكلماتٍ تهتزُّ لِهَولِها السماوات والأرض، وكان ممّا قاله:

يَا مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ، لَا يَزَالُ الرَّجُلُ مِنْكُمْ قَدْ شَقَّ عَصَا المُسْلِمِينَ، وَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ الْإِمَامُ سَفَهاً وَقِلَّةَ عِلْمٍ!

ثمَّ تبعهُ مَن كان بين يديه من بني أميَّة بأقوالٍ تُشاكِلُ قولَه، والإمام مع كلِّ ذلك لا ينطق بكلمة! حتى انقضى آخرُهم، وسكت القوم، فنهض عليه السلام قائماً، ثم قال:

أَيُّهَا النَّاسُ أَيْنَ تَذْهَبُونَ؟ وَأَيْنَ يُرَادُ بِكُمْ؟

بِنَا هَدَى الله أَوَّلَكُمْ، وَبِنَا يَخْتِمُ آخِرَكُمْ، فَإِنْ يَكُنْ لَكُمْ مُلْكٌ مُعَجَّلٌ، فَإِنَّ لَنَا مُلْكاً مُؤَجَّلًا، وَلَيْسَ بَعْدَ مُلْكِنَا مُلْكٌ، لِأَنَّا أَهْلُ الْعَاقِبَةِ، يَقُولُ الله عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (الكافي ج‏1 ص471).

ما أكثر العِبَرَ في هذه الكلمات..

إنَّ الإمام ما حَمَلَ سَيفاً، فاتَّهموه بشقِّ عصا المسلمين! كما يَتَّهِمُ السلاطين الذين يسرفون في القتل اليوم العلماء بشقِّ العصا إذا ما لهجوا بالحق!

ولقد كان الإمامُ بابَ علم الله تعالى! فنفوا عنه هذا الكمال حِقداً وحسداً وجهلاً!

والإمام في كلِّ ذلك حليمٌ لا يعجَل، فإنَّما يعجَلُ مَن يخافُ الفوت، والإمام لا يخافُ فوتَ ما وعده الله، مِن مُلكٍ لا مُلكَ لأحدٍ بعده.

إنَّ كلَّ مملكةٍ زائلةٌ إلا مملكةً يقودُها الإمام المعصوم عليه السلام، فمُلكُه عليه السلام مؤجَّلٌ، رغم ذلك لا يعجَل عليه السلام ولا شيعته والمؤمنون به والمقرون بفضله.

لذا تراهُم رغم كلِّ ما يقع عليهم من بلاءات مِن أهل الصبر، أليس قد صَبَرَ إمامهم على هذا الخليفة وسواه؟!

ألم يعدهم ربُّهم بالاستخلاف بعد الاستضعاف؟! فما ضرَّ المؤمنَ استضعافُ ساعةٍ بعد وعد الله بالاستخلاف؟!

هكذا يقدرُ المؤمنُ على تحمُّل ما يعجز عنه سواه.

وهكذا تصيرُ معرفةُ الحقِّ وتعلُّمه وتعليمه وبثُّه بين المؤمنين والثبات عليه مِن أهمِّ الوظائف التي أوصى بها الإمام عليه السلام.

فيستذكرها المؤمنون في أيام شهادته عليه السلام، ليتأمَّلوا في مِقدار تقصيرهم في إنفاذ وصيَّة إمامهم، فيصيرُ ذلك حافزاً وباعثاً لهم على طلب العلم والتعلُّم والتعليم والعمل به.

وفقنا الله لطاعته بطاعة الإمام، وإحياء أمره، والأخذ بحجزته.

وعظم الله لنا ولجميع المؤمنين أجورنا بإمامنا عليه السلام.

وإنا لله وإنا إليه راجعون.

الخميس 7 ذو الحجة 1443 هـ الموافق 7 – 7 – 2022 م


بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

  • المصدر : http://www.aliiman.net/subject.php?id=237
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2022 / 07 / 26
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 5