1. مَجدُ الزهراء.. فوق مجدِ الأنبياء!
في ذكرى ولادتها (عليها السلام)..
بسم الله الرحمن الرحيم
يُمَيِّزُ الكتابُ المقدَّس، كتابُ النصارى، بين الشَّمس والقمر والنجوم، فَلِكُلٍّ منها مَجدُه، حيث يقول -وقوله هذا حقٌّ-:
مَجْدُ الشَّمْسِ شَيْءٌ، وَمَجْدُ القَمَرِ آخَرُ، وَمَجْدُ النُّجُومِ آخَرُ. لأَنَّ نَجْماً يَمْتَازُ عَنْ نَجْمٍ فِي المَجْدِ(1).
لكلِّ كوكبٍ من الكواكب مرتبته، بحسب نوره وضوئه وأثره، وكذا عُظَماءُ البشر، حيثُ يتفاوتون في العظمة والمجد والشرف.
ومِن عُظمائهم السيِّد المسيح (عليه السلام)، الذي يعتقد النصارى بألوهيّته، ويعتقد المسلمون أنَّه مِن أعظم رسل الله تعالى، فهو كلمةُ الله، وروحُهُ، خَصَّهُ بِبَاهِرِ الكرامات، وأظهر على يديه خارقَ المعجزات.
ولأنّ نَجماً يمتازُ عن نجمٍ في المجد.. ولأنَّ درجات العظماء متفاوتة، ولأنَّ الله تعالى فضَّل بعض خلقه على بعض بحسب كمالاتهم، ولأنَّ السيِّدَ المسيح (عليه السلام) والسيدة الزهراء (عليها السلام) من كبار عظماء التاريخ..
لكلِّ هذا وسواه، يتساءل المؤمنون عن النِّسبة بين المسيح كلمة الله، وبين البَضعة الطاهرة، أُمِّ النجوم الزاهرة، فاطمة (عليها السلام)، قبيل ذكرى ولادتها.
فما هو مجد المسيح؟ وما هو مجد الزهراء (عليها السلام)؟
يظهر بعضُ ذلك بالنظر إلى كيفية ولادتهما، وما رافقَها من أحداث: فكيف كانت ولادة المسيح (عليه السلام)؟ وكيف كانت ولادة الزهراء (عليها السلام)؟
1. كيف وُلِدَ المسيح؟
يتحدَّثُ إنجيلُ متّى عن ولادة السيد المسيح (عليه السلام) في بيت لحم أيام هيرودس الملك، وقدوم المجوس من المشرق إلى أورشليم، وينقل قولهم في سبب قدومهم: إِنَّنَا رَأَيْنَا نَجْمَهُ فِي المَشْرِقِ، وَأَتَيْنَا لِنَسْجُدَ لَهُ(2).
رأى المجوسُ نجمَ عيسى إذاً، كان نَجماً في السماء لامعاً، كاشفاً عن حَدَثٍ عظيمٍ بحسب الإنجيل، هو ولادة المسيح (عليه السلام)، بل كان هذا النجمُ دليلاً لهم سائراً أمامهم بحسب إنجيل متى: وَإِذَا النَّجْمُ الَّذِي رَأَوْهُ فِي المَشْرِقِ يَتَقَدَّمُهُمْ حَتَّى جَاءَ وَوَقَفَ فَوْقُ، حَيْثُ كَانَ الصَّبِيُّ(3).
فهو إذاً علامةٌ سماوية تدلُّ الراغبين بمعرفته عليه، وترشدهم إلى ولادته، لذا صحَّ نسبةُ هذا النجم إليه (عليه السلام)، لظهوره عند ولادته.
لقد فَرِحَ المجوسُ بالنَّجم، نجم المسيح، فهو علامةٌ من علامات مَجدِ هذا الطفل: وَأَتَوْا إِلَى البَيْتِ، وَرَأَوْا الصَّبِيَّ مَعَ مَرْيَمَ أُمِّهِ. فَخَرُّوا وَسَجَدُوا لَهُ(4).
هذا ما تذكره الأناجيل المعتمدة من قبل الكنائس حول ولادة المسيح (عليه السلام)، لكن الأناجيل التي لم تُعتَمَد في الكنيسة تذكُرُ مزيداً من التفصيل حول ذلك.
ففي الإنجيل المنسوب لـ(جيمس): ظَهَرَ نورٌ عظيمٌ، إلى حَدِّ أن عينيّ لم تتمكنا من تحمُّله، وبعد مُضِيِّ وقتٍ قصيرٍ انحسر النور، وما إن حدث ذلك حتى ظَهَرَ الطفل(5).
وفي إنجيل (يعقوب التمهيدي) أن الضياء كان: ضياءً حاداً بحيث أن العين لم تكن تستطيع تأمُّله، وحين تبدّد ذلك النور قليلاً رؤي الطفل(6).
فكان هذا النور غير النجم الذي شوهِدَ في السماء، وقد ظهر عند ولادة الطفل، فهما نوران: ظهر أحدهما في السماء للدلالة عليه والإرشاد إليه، وظهر الآخر في الأرض محلَّ ولادته، وكان عظيماً حاداً لا تستطيع العين تأمّله ولا تحمُّله، ويكشف هذان النوران عن مزيد عظمةٍ لهذا المولود الجديد.
أما في (إنجيل أرونديل) فكان الأمرُ مختلفاً، حيث يذكر أن النور هو نورُ الطفل نفسه، فيقول: أَشَعَّ الطفلُ نفسُه وأضاءَ مثلَ الشمس بشكلٍ ساطع.. عندما وُلِدَ أعلنت أصواتُ عددٍ كبيرٍ من الكائنات المرئيّة بصوتٍ واحد: آمين(7).
وهذا النصُّ يذكرُ نوراً ثالثاً عظيماً ظهر من الطفل، ويشير إلى تفاعل المخلوقات المختلفة مع ولادته، في صورةٍ ومنظرٍ مَهيبٍ بحسب هذا الإنجيل.
لم يخلُ (كتاب مورمون) أيضاً من ذكر العجائب عند ولادته، فقد وصف تلك الليلة بقوله: ستظهر أضواءٌ عظيمةٌ في السماء، حتى أنّه في الليلة التي تسبقُ مجيئه لن يكون هناك ظلام، فيظنّ البشر كأنّه نهار.. إنّ الليل لن يكون مُظلماً، وهذه هي الليلة التي تسبق ميلاده.. ستكون علاماتٌ كثيرةٌ وعجائب في السماء(8).
لقد اتّفقت الكتب المسيحية إذاً، بما فيها الكتاب المقدَّس على أن ولادة عيسى (عليه السلام) كانت أمراً مُعجِزاً في مظهرها، فَفَضلاً عن ولادته من غير أبٍ، كان نجمه ساطعاً في السماء، مُرشِداً ومشيراً إليه، وظهرت أنوارٌ عظيمة ليلة ولادته حتى كأنّ الليل صار نهاراً، وظهرَ نورٌ عظيمٌ من الطفل عند ولادته، ولم تتمكن العيون من تأمُّل هذا النور لشدَّة سطوعه.
هو مجدٌ عظيم إذاً يعتقد النصارى أن الله تعالى خصَّ به عيسى (عليه السلام)، فهل مِن مَجدٍ أعظم من هذا؟!
2. كيف وُلِدَت الزهراء؟
لقد روي عن الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) أنّ السيدة خديجة (عليها السلام) لما تزوّج بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هجرتها نسوة مكّة: فَلمَّا حَمَلَتْ بِفَاطِمَةَ، كَانَتْ فَاطِمَةُ (عليها السلام) تُحَدِّثُهَا مِنْ بَطْنِهَا وَتُصَبِّرُهَا(9).
لقد حدَّثَ عيسى (عليه السلام) الناس في المهد صبيّاً، فكان ذلك معجزةً باهرة له، أمّا الزهراء (عليها السلام) فقد حدّثت أمّها حتى قبل ولادتها! وهي في بطنها.
ولمّا حانت ساعة ولادتها، أرسلَ الله تعالى إلى أمِّها خديجة (عليها السلام) أربعةً من كُمَّلِ نساء البشريّة، واحدةٌ منهن: مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، أمّ عيسى (عليه السلام)! والأخريات: سارة، وآسية، وكلثوم أخت موسى (عليه السلام).
فإذا كان الله تعالى قد خصَّ مريم (عليها السلام) بأن جعل من صلبها عيسى دون أبٍ، فقد خصّ خديجة (عليها السلام) بأن جعل مريم (عليها السلام) وتلك السيدات العظيمات بمنزلة القابلات لها.
يقول الصادق (عليه السلام): فَجَلَسَتْ وَاحِدَةٌ عَنْ يَمِينِهَا، وَأُخْرَى عَنْ يَسَارِهَا، وَالثَّالِثَةُ بَيْنَ يَدَيْهَا، وَالرَّابِعَةُ مِنْ خَلْفِهَا.
أحاطها الله تعالى بكلّ هذه الرعاية إكراماً لها وللمولودة المطهّرة: فَوَضَعَتْ فَاطِمَةَ طَاهِرَةً مُطَهَّرَةً.
أما عن ساعة الولادة، فيقول الإمام الصادق (عليه السلام): فَلمَّا سَقَطَتْ إِلَى الأَرْضِ، أَشْرَقَ مِنْهَا النُّورُ حَتَّى دَخَلَ بُيُوتَاتِ مَكَّةَ.
لقد ذكر الكتابُ المقدَّسُ نجماً في السماء قبل ولادة عيسى (عليه السلام)، وذكرت سائر الأناجيل نوراً ساطعاً عند ولادته، أما الزهراء، فإنّ النور الذي أشرق منها دخل بيوتات مكة، ثمّ عَمّ الأرض قاطبةً من شرقها لغربها!
يقول (عليه السلام): وَلَمْ يَبْقَ فِي شَرْقِ الأَرْضِ وَلَا غَرْبِهَا مَوْضِعٌ إِلَّا أَشْرَقَ فِيهِ ذَلِكَ النُّورُ.
فإذا كانت كلمة النصارى قد اتّفقت على ظهور نَجمٍ لعيسى (عليه السلام)، واختلفوا في النور وحدوده، وهو المبعوث للعالمين، فإنّ نور الزهراء (عليها السلام) قد أشرق على البشرية قاطبة!
لقد ظهر عند ولادتها (عليها السلام) نورٌ لم يكن مسبوقاً على الإطلاق، ليس عند الإنس والجنّ فحسب، بل عند ملائكة السماء! على عظمتهم واطّلاعهم.
يقول (عليه السلام): وَحَدَثَ فِي السَّمَاءِ نُورٌ زَاهِرٌ لَمْ تَرَهُ المَلَائِكَةُ قَبْلَ ذَلِكَ(10).
لم ترَ الملائكة هذا النور عند ولادة نوحٍ ولا إبراهيم ولا عيسى ولا موسى (عليهم السلام) جميعاً.
إنَّه نورُ بضعةِ خاتم الأنبياء محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، أوَّلُ نورٍ خلقه الله تعالى، وأعظم الأنوار على الإطلاق، وها هو بعض ذلك النور يسطع بما لا مثيل له، إنَّه نور البضعة الطاهرة.
ثمَّ نعود للكتاب المقدّس حين يقول: لأَنَّ نَجْماً يَمْتَازُ عَنْ نَجْمٍ فِي المَجْدِ.
فأيُّ مجدٍ هذا الذي حازَته الزهراء حتى امتازَ نجمُها عن نجم عيسى (عليه السلام)؟! أيُعقل أن تكون سيِّدةُ النساء أفضلَ من كلمة الله وروحه؟ وسائر الأنبياء العِظام؟! وإذا فُضِّلَت عليه وعليهم.. فما السرُّ في ذلك؟!
هذا ما نعرضه في البحث القادم إن شاء الله.
والحمد لله رب العالمين(11).
2. هل فُضِّلَتِ الزهراء.. على كلّ الأنبياء؟!
في ذكرى ولادتها (عليها السلام)..
بسم الله الرحمن الرحيم
أَنَا هُوَ نُورُ العَالَمِ!
كلمةٌ ينسبها إنجيلُ يوحنا إلى نبيِّ الله عيسى (عليه السلام)(12)، فهو نورٌ من أنوار الهداية السماوية، يُرشِدُ الناس إلى الله تعالى خالق الأولين والآخرين.
إنَّ لعيسى (نور العالم) هذا وَجهٌ مضيء في شبابه، كما كان في طفولته، فيجمع بين نور المادة ونور النفوس والأرواح، ففي إنجيل متّى أنه (عليه السلام) أخذ بعض الحواريين وصعد بهم جبلاً: وَأَضَاءَ وَجْهُهُ كَالشَّمْسِ، وَصَارَتْ ثِيَابُهُ بَيْضَاءَ كَالنُّورِ(13).
لكنَّ عيسى يؤكد (بحسب الإنجيل) أنّه نورُ العالم ما دام في هذه الدنيا، أمّا بعد خروجه منها فإنّ هذه الخصيصة تكون عند غيره، يقول: مَا دُمْتُ فِي العَالَمِ فَأَنَا نُورُ العَالَمِ(14).
إذاً ليس عيسى (عليه السلام) على عظمته هو أعظم نورٍ في هذا العالم، ولا أعظم مخلوقٍ فيه، وقد اشتركَ معه سائر الأنبياء (عليهم السلام) في كونهم أنوار السماء في الأرض.
لكنّ أعظم الأنوار هو أوَّلُها، نورُ محمدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم) وعليٍّ (عليه السلام)، وقد روي عن الصادق (عليه السلام) قول الله عزّ وجل:
يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي خَلَقْتُكَ وَعَلِيّاً نُوراً، يَعْنِي رُوحاً بِلَا بَدَنٍ، قَبْلَ أَنْ أَخْلُقَ سَمَاوَاتِي وَأَرْضِي وَعَرْشِي وَبَحْرِي: لقد تقدّم خلقُ محمدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم) وعليٍّ (عليه السلام) إذاً على كلِّ خَلق، فلا يدانيهم نورُ أحدٍ من أنبياء الله، لا نوح ولا إبراهيم ولا موسى ولا عيسى (عليهم السلام)، مهما كان لعيسى من نورٍ في الكتاب المقدّس، ولغيرهم في غيره.
يقول (عليه السلام): ثُمَّ خَلَقَ الله فَاطِمَةَ مِنْ نُورٍ ابْتَدَأَهَا رُوحاً بِلَا بَدَنٍ، ثُمَّ مَسَحَنَا بِيَمِينِهِ فَأَفْضَى نُورَهُ فِينَا(15).
تقدّمت الزهراءُ وبَنوها إذاً على كل الأنبياء كما تقدّم محمدٌ وعلي صلوات الله عليهما وآلهما. فقد سبقوا كلَّ الخلائق في العوالم السابقة، ومنها عالم الأنوار، الذي لا نُدركُ إلا رشحات منه.
إنَّ حقيقة هذا التقدُّمُ غير مألوفةٍ لدينا، وليس لها نظيرٌ أو مثيل، وقد روي عن الإمام الجواد (عليه السلام):
إِنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يَزَلْ مُتَفَرِّداً بِوَحْدَانِيَّتِهِ، ثُمَّ خَلَقَ مُحَمَّداً وَعَلِيّاً وَفَاطِمَةَ، فَمَكَثُوا الفَ دَهْرٍ، ثُمَّ خَلَقَ جَمِيعَ الأَشْيَاءِ فَأَشْهَدَهُمْ خَلْقَهَا، وَأَجْرَى طَاعَتَهُمْ عَلَيْهَا(16).
وقوله (عليه السلام): (فَمَكَثُوا الفَ دَهْر) في غاية العظمة، فالدَّهر يطلق تارة على (الأبد الممدود)، وتارة على (الزمان)، وتارة على (ألف سنة).
ومهما يكن ذلك القدر الذي لا ندركه، فإنّهم تقدّموا على كلِّ المخلوقات بألف دهر، وكانوا شهوداً على خَلق مَن سواهم، ثم أجرى الله طاعة كلِّ مخلوقٍ عليهم.
فلا عجب إذاً أن يكون عند عيسى (عليه السلام) حرفان من اسم الله الأعظم ففعل بها ما فعل، وأن يكون عند محمد وآله اثنان وسبعون حرفاً، فأين فضل أولي العزم من النبيين والمرسلين (عليهم السلام) من فضل محمدٍ وعليٍّ وفاطمة (عليهم السلام)؟
هكذا يكون رضا فاطمة رضا الله، وغضبها غضبه، فلو عصاها عاصٍ كان كمن عصى أباها رسول الله، ومن عصاه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان كمن عصى الله تعالى.
ولكن..
لماذا فَضَّلَها الإلهُ الحكيمُ مع أبيها وبعلها وبنيها على سائر الخلق؟
لقد رأى آدمُ في عالم الذَّرِّ تفاضلاً من حيث النُّور بين الذَّر، فسأل الله تعالى قائلاً: يَا رَبِّ، فَلَوْ كُنْتَ خَلَقْتَهُمْ عَلَى مِثَالٍ وَاحِدٍ وَقَدْرٍ وَاحِدٍ وَطَبِيعَةٍ وَاحِدَةٍ..؟
قال الله له: بِعِلْمِي خَالَفْتُ بَيْنَ خَلْقِهِمْ، وَبِمَشِيئَتِي يَمْضِي فِيهِمْ أَمْرِي.. وَبِعِلْمِيَ النَّافِذِ فِيهِمْ خَالَفْتُ بَيْنَ صُوَرِهِمْ وَأَجْسَامِهِمْ وَالوَانِهِمْ وَأَعْمَارِهِمْ وَأَرْزَاقِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ وَمَعْصِيَتِهِمْ، فَجَعَلْتُ مِنْهُمُ الشَّقِيَّ وَالسَّعِيدَ وَالبَصِيرَ وَالأَعْمَى(17).
هيَ قاعدةٌ ترفعُ كلَّ إشكالٍ في باب العدل الإلهي.
لماذا ميَّزَ الله تعالى بين الأنبياء ففضَّلَ بعضهم على بعض؟
وقد قال: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْض﴾(18)، وقال: ﴿وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْض﴾(19).
لماذا قدّم الزهراء مع محمدٍ وعليٍّ (عليهم السلام) على كلّ الخلائق؟!
لماذا خَلَقَ المؤمنين من طينة طَيِّبَة والكافرين والمنافقين من طينة نَتِنَة؟
لماذا جَعَلَ الشقيَّ شقياً والسعيدَ سعيداً؟
لماذا خالَفَ بين الناس في الدنيا من كلِّ جهةٍ؟
الجواب في كلمة واحدة، وهي قوله تعالى: (بِعِلْمِي).
قال تعالى: بِعِلْمِيَ النَّافِذِ فِيهِمْ خَالَفْتُ بَيْنَ صُوَرِهِمْ.
الله تعالى العالم بما كان قبل أن يكون، عَلِمَ أنّه لو لم يخصّ هذه الصفوة بما خصَّها لكانت أقرب خلقه إليه، وأكثرهم معرفة به وطاعةً له وامتثالاً لأمره، فخصَّهم بما خصَّهم لسبق علمه بذلك، وأعطى مَن أعطى وحرم من حرم لذلك.
وليس لقائل أن يحتجّ على ما لم يعطه الله، لأنّ العطاء عطاؤه، فمن أعطاه الله فقد تفضَّل عليه لحكمةٍ، ومن حرمه حرمه ما لا يستحقه.
قالها الإمام الباقر (عليه السلام): فَمَنْ مَنَعَهُ التَّعْمِيرَ(20)، فَإِنَّمَا مَنَعَهُ مَا لَيْسَ لَهُ، وَمَنْ عَمَّرَهُ فَإِنَّمَا أَعْطَاهُ مَا لَيْسَ لَهُ، فَهُوَ المُتَفَضِّلُ بِمَا أَعْطَاهُ، وَعَادِلٌ فِيمَا مَنَعَ، وَلا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ(21).
إنَّ كلَّ ما عِندَ محمدٍ وآله هو بفضلِ الله وكرمه.. وبعلمه النافذ فيهم خصّهم بما لم يخصَّ به أحداً من العالمين، فكانوا أول أنوارٍ خلقها الله تعالى.
فلا غَروَ أن تستعظم الملائكة أمرهم.. وقد قالوا (عليهم السلام):
لِأَنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ الله عَزَّ وَجَلَّ أَرْوَاحُنَا، فَأَنْطَقَهَا بِتَوْحِيدِهِ وَتَمْجِيدِهِ، ثُمَّ خَلَقَ المَلَائِكَةَ، فَلمَّا شَاهَدُوا أَرْوَاحَنَا نُوراً وَاحِداً اسْتَعْظَمَتْ أَمْرَنَا، فَسَبَّحْنَا لِتَعْلَمَ المَلَائِكَةُ أَنَّا خَلْقٌ مَخْلُوقُونَ، وَأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ صِفَاتِنَا، فَسَبَّحَتِ المَلَائِكَةُ بِتَسْبِيحِنَا، وَنَزَّهَتْهُ عَنْ صِفَاتِنَا(22).
تستعظم الملائكة أمرَ محمدٍ وآله، ويرقى من الأنبياء من يرقى بمعرفتهم والتسليم لهم وقبول أمرهم، ثم يستنكر الجُهّال تفضيلهم على مَن عداهم!!
نعم لقد فُضِّلَت الزهراء على كل الأنبياء.. وفاق مجدُها كلَّ مجدٍ لهم وشَرَف..
لا عَجَب، فقد شاركت محمداً وعلياً في نورهم، وأنوارهم جميعاً من نور الله عز وجل.
فسلام الله عليها وعليهم.. رزقنا الله ولايتهم، والبراءة من أعدائهم.
والحمد لله رب العالمين(23).
3. وَهَلَّ هلالُ فاطمة!!
بسم الله الرحمن الرحيم
إِذَا طَلَعَ هِلَالُ شَهْرِ رَمَضَانَ، فَكَانَ نُورُهَا يَغْلِبُ الهِلَالَ، يَخْفَى، فَإِذَا غَابَتْ عَنْهُ ظَهَرَ(24).
روايةٌ عن الإمام الهُمَام عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام) حول فاطمة الزهراء، سيّدة النساء (عليها السلام)، يُستفادُ منها أمور:
1. أنّ لفاطمة الزهراء (عليها السلام) نوراً يُرى ويُشاهَدُ بالعين فضلاً عن أنوارها المعنويّة.
2. أنّ نورَها (عليها السلام) أعظم من نور هلال شهر رمضان المبارك، يغلبه فيخفى نورُ الهلال إذا ظَهَرَ نورُها.
3. أن الهلال يحتجبُ إذا ما ظَهَرَ نورُها ولا يظهر إلا إذا غابت عنه.
لقد ذَكَرَ الإمامُ (عليه السلام) ذلك عندما بيَّنَ أنّها خَرَجَت في سَنَةً من السنين لتقرأ دعاء رؤية الهلال، فإذا بالهلال يخفى، ولا يظهر إلا إذا غابت عنه!
وههنا سؤالٌ ونحن في أوّل ليلة من شهر رمضان التي يهلُّ فيها الهلال المبارك: كيف يفهم الشيعة هذه الرواية؟!
أولاً: الهلالُ خَلقٌ مطيع!
لا ريبَ في أنّ الهلال خَلقٌ من مخلوقات الله، لا يخرجُ عن طاعة الله عزّ وجل وإرادته، فلا يزيد ولا ينقصُ إلا بتدبير الله، ولا يطلُعُ ولا يأفُلُ إلا بإرادة الله، جعله الله آيةً من آيات سلطانه، وعلامةً من علامات مُلكه واقتداره، إشعاراً بانقضاء شهرٍ وحدوث آخر، ثمَّ حَثَّنا عزَّ وجلَّ على الدعاء حيثُ رأيناه، ليكون هلالاً مباركاً علينا، ونُوَفَّقَ في شهرنا وكلّ شهرٍ مباركٍ لصيامه وقيامه.
ولطالما خاطَبَ إمامُنا زينُ العابدين (عليه السلام) الهلالَ إذا ما نظر إليه بقوله:
أَيُّهَا الخَلْقُ المُطِيعُ.. آمَنْتُ بِمَنْ نَوَّرَ بِكَ الظُّلَمَ، وَأَوْضَحَ بِكَ البُهَمَ(25).. وَامْتَهَنَكَ(26) بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، وَالطُّلُوعِ وَالأُفُولِ، وَالإِنَارَةِ وَالكُسُوفِ، فِي كُلِّ ذَلِكَ أَنْتَ لَهُ مُطِيعٌ، وَإِلَى إِرَادَتِهِ سَرِيعٌ(27).
هي قناعةُ المؤمن الذي يرى كلَّ ما في الكون خلقاً مُطيعاً لله تعالى، فيؤمن أنّ الشمسَ ستطلُعُ يوماً من مَغربها! لأنّ الذي يأتي بالشمس من المشرق سيأتي بها من المغرب، وهو على كلّ شيءٍ قدير.
وأنّ الله ليس بعاجزٍ أن يجعل: كُسُوف الشَّمْسِ فِي النِّصْفِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَخُسُوف القَمَرِ فِي آخِرِهِ عَلَى خِلَافِ العَادَات(28).
فإذا كان الهلال لا يصدُرُ عن نفسه، ولا يتقلَّبُ من حالٍ إلى حالٍ إلا بأمر رَبِّه.
لم يَكُن عَجَباً أن يكون الله الذي امتهنه بالزيادة والنقصان، والطلوع والأفول، قد امتهنه يوماً بالأفول أمام سيدة النساء فاطمة (عليها السلام)!
وما ذاك إلا في مثل ليلتنا هذه.. في مطلع شهر الله المبارك.
ثانياً: فضلُ شهر الله والعترة!
لقد ثَبَت أنّ هناك جِهَةَ تَنَاسُبٍ وتَشابُهٍ بين شهر الله (والهلالُ علامَتُه)، وبين العترة الطاهرة.
فكما فضَّلَ الله شهر رمضان على الشهور، فصار لهلاله مِزية على ما سواه، كذلك فضَّلَ آلَ محمدٍ على سائر الخلق، فجَعَلَ الله تعالى تناسُبَاً بين الفضلين.
لقد خطب أميرُ المؤمنين (عليه السلام) في أول يوم من شهر رمضان في مسجد الكوفة فقال:
إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ شَهْرٌ فَضَّلَهُ الله عَلَى سَائِرِ الشُّهُورِ كَفَضْلِنَا أَهْلَ البَيْتِ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ(29).
فكما لا يقاسُ بآل محمدٍ أحد، لا يُقاس بشهر الله غيرُه من الشهور.
وصار بينهم وبين الهلال تشابُهٌ، فكما جَعَلَ الله الهلالَ أداةً يُنَوِّرُ بها الظُّلَم: آمَنْتُ بِمَنْ نَوَّرَ بِكَ الظُّلَمَ، وَأَوْضَحَ بِكَ البُهَمَ.
كذلك جَعَلَ آلَ محمدٍ نوراً في الأرض يهدي بهم من يشاء من خلقه.
ثالثاً: بنورِ فاطمة أضاءت السماوات والأرض!
إنّ لشهرِ رمضان فضلاً يوم القيامة كما كان له في الدنيا، حيث يقدمُ سائر الشهور كالقمر بين الكواكب، ففي الحديث عن الرضا (عليه السلام):
إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ زُفَّتِ الشُّهُورُ إِلَى الحَشْرِ، يَقْدُمُهَا شَهْرُ رَمَضَانَ، عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ زِينَةٍ حَسَنَةٌ، فَهُوَ بَيْنَ الشُّهُورِ يَوْمَئِذٍ كَالقَمَرِ بَيْنَ الكَوَاكِبِ(30).
فهذا شهرُ رمضان الذي يفضُلُ الكواكب، احتجب هلالُه وهو آيته وعلامته أمام فاطمة (عليها السلام)، فإنّ فضلها (عليها السلام) كفضل والدها (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعلها (عليه السلام) وبَنيِهَا (عليهم السلام) عَميمٌ على كل خلقٍ لله مطيع، ومن ذلك السماوات والأرض، والشمس والقمر.
وأيُّ فَضلٍ لنور القمر أمام فضلها وقد: خُلِقَ نُورُ فَاطِمَةَ (عليها السلام) قَبْلَ أَنْ تُخْلَقَ الأَرْضُ وَالسَّمَاء، كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)(31).
بل خُلِقَت السماوات والأرض من نورها (عليها السلام)! وخُلِقَت الشمس والقمر من نور ابنها الحسن (عليه السلام)!
ففي الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
ثُمَّ فَتَقَ نُورَ ابْنَتِي فَاطِمَةَ: فَخَلَقَ مِنْهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، فَالسَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ مِنْ نُورِ ابْنَتِي فَاطِمَةَ، وَنُورُ ابْنَتِي فَاطِمَةَ مِنْ نُورِ الله، وَابْنَتِي فَاطِمَةُ أَفْضَلُ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ.
ثُمَّ فَتَقَ نُورَ وَلَدِي الحَسَنِ، وَخَلَقَ مِنْهُ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ، فَالشَّمْسُ وَالقَمَرُ مِنْ نُورِ وَلَدِيَ الحَسَنِ، وَنُورُ الحَسَنِ مِنْ نُورِ الله، وَالحَسَنُ أَفْضَلُ مِنَ الشَّمْسِ وَالقَمَر(32).
فالسماءُ والأرضُ خاضعةٌ لأصحاب الفضلِ محمدٍ وآله، وللزهراء خصوصاً، ثم الشمسُ والقمرُ من نور وَلَدِهَا أنارت، فكيف لا يحتجب القمرُ لظهورها (عليها السلام)؟
لقد روي أنّه لما خلق الله السماوات والأرض: ابتلى الأرضَ بالظلمات فلم تستطع الملائكة ذلك، فشكت إلى الله عزّ وجلّ، فقال عزّ وعلا لجبرئيل (عليه السلام):
خذ من نور فاطمة، وضعه في قنديلٍ، وعلّقه في قرط العرش(33).
ففعل جبرئيل (عليه السلام) ، فأزهرت السماوات السبع والأرضين السبع فسبّحت الملائكة وقدّست(34).
هذا نورُ فاطمة، وهذا حالُهُ منذ تلك العوالم، وإلى أيام هلال شهرنا المبارك، ثم إلى يوم القيامة.
عالمٌ من الأنوار التي لا تُدرَكُ حقيقته، ولا يُسبَرُ غورُه، وهي التي لا يُنال ما عند الله تعالى إلا ببركتها ورضاها.
نعم.. هلَّ هلالُها، وظَهَرَ نورُها أمام الهلال.. فغابَ نورُه واحتجب!
وهلَّ هلالُها وبَرَقَ نورُها في قلوب شيعتها.. فآمنوا بعظمتها، وبأنّهم مفطومون عن معرفتها، وسألوا الله بحقِّها أن يوفقهم للمقام معها في دارٍ خُلِقَت من نور ولدها الحسين (عليه السلام): ثُمَّ فَتَقَ نُورَ وَلَدِيَ الحُسَيْنِ فَخَلَقَ مِنْهُ الجَنَّة.
اللهم إنّا نسألك بحق فاطمة وأبيها، وبعلها وبنيها، الذين أبَنتَ فضلهم، وشرّفتهم ورفعتهم وعظّمتهم في الدنيا والآخرة، أن ترحمنا في هذا الشهر المبارك الذي فضّلته على سائر الشهور، وتوفِّقَنا لقيامه وصيامه، ومعرفة حقك وحق أوليائك فيه، فإنّها النعمة التي لا تُدرَك إلا بِمَنِّك وتوفيقك، وأن تجعل لنورك ووليك في أمره فرجاً ومخرجاً.
والحمد لله رب العالمين(35).
4. فاطمة.. وديعةُ الله!
بسم الله الرحمن الرحيم
جَمَعَ رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أهلَ بيته قُبيل شهادته ليُكَلِّمَهم، ولكن: غَلَبَتْهُ عَبْرَتُهُ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الكَلَام!
حينها بكت فاطمة بكاءً شديداً.. وقالت له:
يَا رَسُولَ الله، قَدْ قَطَعْتَ قَلْبِي! وَأَحْرَقْتَ كَبِدِي لِبُكَائِكَ يَا سَيِّدَ النَّبِيِّين!
سلامُ الله على قلبك يا زهراء.. يتقطع اليوم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل وفاته، ويَحتَرِقُ كبدُكِ عليه..
أما غداً.. فيُجرَحُ كَبِدُه في ظُلمِك! (وَجَرَحُوا كَبِدَ خَيْرِ الوَرَى، فِي ظُلْمِ ابْنَتِهِ) (36).
استجمع النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قواه، ووضع يدها (عليها السلام) في يد عَليٍّ (عليه السلام)، وقال له كلمةً عجيبة: يَا أَبَا الحَسَنِ، هَذِهِ وَدِيعَةُ الله، وَوَدِيعَةُ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ عِنْدَكَ، فَاحْفَظِ الله، وَاحْفَظْنِي فِيهَا، وَإِنَّكَ لَفَاعِلٌ يَا عَلِيُّ(37).
فماذا تعني هذه الكلمة؟!
لقد صارت (فاطمة) (عليها السلام) بنفسها وديعةً مشتركةً:
أولاً: من الله تعالى لعليٍّ (عليه السلام).
ثانياً: من النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لعليٍّ (عليه السلام).
وتُعرَفُ عَظَمَةُ الوديعة مِن عَظَمَة المُودِع، فالعَظيمُ يستودِعُ أمراً عظيماً بلا شكّ، وهو هنا الإله العظيم الغَنيُّ الجبَّار القادر، ثم معه خَيرُ خلقِه وأفضلُ بريَّته (صلى الله عليه وآله وسلم)، فماذا تكون هذه الوديعةُ العظيمة حتى يستودعاها معاً خيرَ الأوصياء والأولياء؟!
ثم إنَّ في الحديث إشارة مهمَّة، فالوَدِيعة هي: ما تَسْتَوْدِعُهُ غيرك ليحفظه(38).
أي أنَّ (الحِفظ) مأخوذٌ في معنى الوديعة، فمن استُودِعَ شيئاً وَجَبَ عليه أن يحفظه ويصونه ولا يقصِّر في شؤونه، ويرعاه ويحتاط في أمره.. ورغم ذلك أكَّدَ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على وجوب حفظها (عليها السلام)، مع استبطان الحِفظ في معنى الوديعة، وذلك لأهميَّة حفظها (عليها السلام) عنده، فقال لعليٍّ (عليه السلام):
فَاحْفَظِ الله، وَاحْفَظْنِي فِيهَا: فصارَ حِفظُ فاطمة حِفظاً لله تعالى، وللنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنَّها (عليها السلام) وديعتهما.
ثمَّ قال له (عليه السلام): وَإِنَّكَ لَفَاعِلٌ يَا عَلِيُّ.
وليس يُنتَظَرُ من أمير المؤمنين (عليه السلام) شيءٌ سوى حفظ الوديعة..
ولكن.. كيف حُفِظَت الوديعةُ وقَد جرى عليها ما جرى؟! ومَن ذا الذي ضَيَّعَ وديعة الله ورسوله ما دام عليٌّ لها حافظاً؟!
أولاً: آل محمد وديعة الله عند العباد
لقد أودَعَ الله تعالى ورسولُه فاطمة (عليها السلام) عند عليٍّ (عليه السلام)، وكانت هذه وديعة خاصة، من بَعدِ الوديعةِ العامة، فإنَّ آل محمد (عليهم السلام) جميعاً هُم وديعةُ الله تعالى ورسوله عند الأمّة، بل عند عباد الله جميعاً.
وكلُّ عبادِ الله مأمورون بحفظ وديعة الله تعالى، ورِعايتها، وصيانتها، والقيام بشؤونها، واجتناب التفريط فيها.
وقد روي عن الباقر (عليه السلام) في آل محمد، شجرة النبوة وبيت الرحمة: نَحْنُ وَدِيعَةُ الله فِي عِبَادِهِ(39).
وقد ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحسن والحسين (عليهما السلام): هُمَا وَدِيعَتِي فِي أُمَّتِي(40).
فصار آلُ محمدٍ وديعة الله ورسوله عند العباد، والزَّهراء (عليها السلام) منهم، فوجبَ على الأمّة كلها بل على العباد جميعاً أن يحفظوا هذه الوديعة، وإن كان عليٌّ (عليه السلام) أولى بحفظها.
ثانياً: آل محمد وصيَّة الرِّسول
لم يكتفِ النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن استودعَ أهل بيته عبادَ الله، فأوصى بهم بعد (الوديعة)، فاجتمعت (الوديعة) و(الوصية) بهم.
قال (صلى الله عليه وآله وسلم): أُوصِيكُمْ بِكِتَابِ الله وَأَهْلِ بَيْتِي.. عَلِيٌّ وَالحَسَنُ وَالحُسَيْنُ وَفَاطِمَةُ (عليهم السلام) (41).
لَم يُشهِد النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في وصيَّته هذه ﴿ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُم﴾(42)، بل أشهدَ كلَّ مَن سمعَ مقاله ووعى كلامه ورآه وأخذ عنه، وكرَّرَ الوصيَّة بحفظ أهل بيته مراراً في كلِّ حين وظَرف.. وأمر الشاهد أن يُبلغ الغائب.
لكنَّ الأمَّةَ لَم تحفظ وصيَّةَ النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهم، ولا في فاطمة، حتى قال عليٌّ (عليه السلام) بعد شهادتها:
إِنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لَمْ تَزَلْ مَظْلُومَةً، مِنْ حَقِّهَا مَمْنُوعَةً، وَعَنْ مِيرَاثِهَا مَدْفُوعَةً، لَمْ تُحْفَظْ فِيهَا وَصِيَّةُ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وَلَا رُعِيَ فِيهَا حَقُّهُ، وَلَا حَقُّ الله (عَزَّ وَجَلَّ)، وَكَفَى بِالله حَاكِماً، وَمِنَ الظَّالِمِينَ مُنْتَقِماً(43).
ثالثاً: الأمة الخائنة
لقد انقسَمَت الأمَّةُ بعدَ النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى فرقتين:
الفرقة الأولى: فرقة الحقّ
وإمامُها عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام)، الحافظ لوديعة الله فاطمة (عليها السلام) بنصِّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): وَإِنَّكَ لَفَاعِلٌ يَا عَلِيُّ.
ثم أفرادُها المؤمنون المحبّون لآل محمد (عليهم السلام)، الذين قال عنهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): فَاسْتَوْدَعَ الله عَزَّ وَجَلَّ حُبِّي وَحُبَّ أَهْلِ بَيْتِي وَشِيعَتِهِمْ فِي قُلُوبِ مُؤْمِنِي أُمَّتِي، فَمُؤْمِنُو أُمَّتِي يَحْفَظُونَ وَدِيعَتِي فِي أَهْلِ بَيْتِي إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ(44).
كشفَ هذا الحديثُ عن أنَّ حبَّ آل الرسول وديعةٌ باقيةٌ حتى بعدَ وفاتهم، فإنَّ العبادَ ينقسمون اليوم أيضاً إلى فرقةٍ تُحبُّهم قولاً وفعلاً فتحفظ الوديعة، وأخرى تُخالفهم قولاً أو فعلاً فتُضَيِّع الوديعة.
وبعدما بذلَ عليٌّ الأمينُ (عليه السلام) ومَن معَه غاية الوسع، لم يكن مؤاخَذاً بما فعلته الفرقة الثانية، وقد ورد في الحديث عن الرجل المؤتمن: لَيْسَ عَلَيْهِ غُرْمٌ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ أَمِيناً(45).
الفرقة الثانية: الفرقة الخائنة
هي التي اشتركَت في ظُلمِ الزَّهراء، وغَصبِ حقِّها، ودَفعِها عن إرثها، وضربِها وقَهرِها حتى ماتت مقتولةً مظلومة شهيدة!
ولقد أشار الشيخ عماد الدين الطبري رحمه الله إلى معنىً عجيب قارَنَ فيه بين بني إسرائيل وبين هذه الأمة المنحوسة.. فقال:
ولقد اختصَمَ اليهودُ أيُّهم يكفل ابنة عِمران إمامهم، واختصمَت أمّة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) على قتل ابنة امامهم، فكانوا هناك ﴿يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾(46)، وكانوا هنا يلقون: (أيُّهم يقتل فاطمة وعلياً والحسن والحسين عليهم السلام)! (47).
هناكَ أمَّةٌ قَتَلَت الأنبياء، رغم ذلك كان أبناؤها يتسابقون على رعاية وكفالة مريم (عليها السلام)، وهنا أمَّةٌ تتسابقُ على قَتلِ ابنة نبيِّها، وديعته ووديعة ربِّه عندها!
وقَد اشتركوا في قَتلِها فِعلاً، بين آمرٍ ومُهاجِمٍ وشاهدٍ وساكِتٍ راضٍ، حتى خَرَجت من الدُّنيا ساخطَةً على هذه الأمَّة الخائنة.
قال الإمام الهادي (عليه السلام): اللهمَّ وَصَلِّ عَلَى الطَّاهِرَةِ البَتُولِ، الزَّهْرَاءِ ابْنَةِ الرَّسُولِ.. القَادِمَةِ عَلَيْكَ مُتَأَلّمةً مِنْ مُصَابِهَا بِأَبِيهَا، مُتَظَلِّمَةً مِمَّا حَلَّ بِهَا مِنْ غَاصِبِيهَا، سَاخِطَةً عَلَى أُمَّةٍ لَمْ تَرْعَ حَقَّكَ فِي نُصْرَتِهَا، بِدَلِيلِ دَفْنِهَا لَيْلًا فِي حُفْرَتِهَا(48).
فما حالُ أمَّة الخذلان هذه بعد أن لم ترعَ حقَّ الله تعالى، فضيَّعَت وديعته، ولم تحفظ وصيَّة الرّسول فيها، فغصبتها حقَّها، بل جرَّعتها من الغصص ما لا يكادُ يُدرَك، حتى وصفها الإمام الهادي (عليه السلام) بأنها: المُغَصَّصَةِ بِرِيقِهَا!
رابعاً: آثار الخيانة
لقد أكَّدَت الشريعة على أهميَّة الأمانة، ولزوم أدائها، ولم تجعل لأحدٍ عُذراً في تَركها، حتى لو كان المؤتَمِنُ فاجراً!
بَل عدَّت ميزان القُرب من الله تعالى ورسوله أداء الأمانات، حتى ورد في الحديث: إِنَّ عَلِيّاً (عليه السلام) إِنَّمَا بَلَغَ مَا بَلَغَ بِهِ عِنْدَ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بِصِدْقِ الحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ(49).
وقد ورد النَّهي عن الاغترار بعبادة العابد وصلاته في الليل وصومه في النَّهار مع تضييعه للأمانة، وأنَّ الخائن لا ينفعه مع خيانته عَمَل!
وأنّه يموت على غير ملّة النبيّ: وَيَلْقَى الله وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَان(50).
وأنّه:تَكَفَّأَ بِهِ الصِّرَاطُ فِي النَّارِ!(51).
وأنّ من خان أمانته: يُؤْمَرُ بِهِ إِلَى النَّارِ فَيُهْوَى بِهِ فِي شَفِيرِ جَهَنَّمَ أَبَدَ الآبِدِين(52).
لقد اقترن العقاب في الآخرة مع التقصير في أداء الأمانة، والتفريط بها، وتضييعها، فما حالُ الأمّة التي انقسَمَت بين مقصِّرٍ ومُضيِّعٍ وقاتل لأمانة الله ورسوله؟!
ولئن كان يُكفأ بمَن ضيَّع أمانة الناس في النار، فكيف بمَن ضيَّع أمانة الله!
نعم.. قَدِ اسْتُرْجِعَتِ الوَدِيعَة.. وعادَت الزَّهراء إلى ربِّها.. لكنَّ الأمَّةَ لا تزال مكلَّفةً بولايتها والبراءة من أعدائها، وحِفظِ أمرِها وعدم التفريط به، وهي التي ظلَّت ظلامَتها حيَّة وستبقى إلى يوم القيامة.
إنَّ الأمَّةُ لا تزال اليوم منقسمةً إلى فرقتين:
1. فرقةٌ ترعى حقَّ الزَّهراء (عليها السلام): فَمُؤْمِنُو أُمَّتِي يَحْفَظُونَ وَدِيعَتِي فِي أَهْلِ بَيْتِي إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ(53).
2. وفرقَةٌ توالي أعداءها وقاتليها وظالميها، فيُهوى بها في شَفير جهنم.
ولم ينقضِ تكليف الأمّة بعد، فآل محمد هم البابُ المبتلى والممتحن به النّاس، قديماً وحديثاً.. ولا يزال الأمر كذلك.
وفاطمة: وديعةُ الله تعالى ورسوله، فمَن حَفِظَ الوديعة بمعرِفَتِها وحُبِّها وولايتها والبراءة من أعدائها وطاعتِها وتَعظيم شأنِها وإحياء أمرِها كان من الأبرار.
ومَن ضَيَّعها بِجَهلِ قَدرِها وموالاة أعدائها وظُلمِ أوليائها وتَجاهُلِ أمرِها وحقِّها كان حريّاً به أن يعدَّ جواباً لصاحب الوديعة والأمانة، إله السماوات والأرض، العزيز الجبّار المنتقم، الذي سيأخذ: لَهَا الحَقَّ مِنْ ظَالِمِيهَا.
فليختر عاقلٌ لآخرته، بعدما قال تعالى ﴿إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾(54).
والحمد لله رب العالمين(55).
5. ولاية الزهراء.. بشارة السَّماء
بسم الله الرحمن الرحيم
يروي الشيخ الطوسي رحمه الله عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنَّه أوصى بأن تُزار جدَّتُه الزَّهراء (عليها السلام) بهذا اللفظ: وَزَعَمْنَا أَنَّا لَكِ أَوْلِيَاءُ وَمُصَدِّقُونَ وَصَابِرُونَ لِكُلِّ مَا أَتَانَا بِهِ أَبُوكِ (صلى الله عليه وآله وسلم) وَأَتَانَا بِهِ وَصِيُّهُ (عليه السلام).
إنَّ السيدة المُمتَحَنة الصابرة هي المخاطَبَةُ في الزيارة الشريفة.
والزائر في هذه الفقرة يزعَمُ أنّه يتَّصفُ بصفاتٍ ثلاثة:
الصفة الأولى: أنَّه وَليٌّ لفاطمة!
أي أنَّ الموالاة في دينِ الزّائر لا تكون للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام (عليه السلام) فقط، بل ينبغي لتكتمل ولاية النبي والإمام أن تنضمَّ إليها ولاية الزَّهراء، فهي سيدة الزائر المؤمن ومولاته، وهي التي نخاطبها في زيارة أخرى بقولنا: يَا سَيِّدَتَنَا وَمَوْلَاتَنَا إِنَّا تَوَجَّهْنَا بِكِ إِلَى الله(56).
فموالاةُ المؤمن للزَّهراء مقرونةٌ بمولاته لأبيها وبعلها وبنيها المعصومين (عليهم السلام)، وهكذا تكون الولاية والتَّبَعية لأربعة عشر نوراً من أنوار الله تعالى.
الصفة الثانية: أنَّه مصدِّقٌ للنبي والإمام
فالمؤمن يعتقدُ أنَّ كل ما أتى به النبيُّ والإمام هو أمرُ الله تعالى، والمؤمن ليس ممن يسأل النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كما كان يسأله رؤوس الضلال له فيقولون له: هذا منك أم من عند الله؟!
ومَن كان منهم لم يكن من أهل الإيمان، أمّا مَن كان مُصَدِّقاً بكلِّ ما أتى به النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كان من المؤمنين حقاً.
الصفة الثالثة: أنَّه صابرٌ على ما جاء به النبي والإمام
فلا يُكتفى بهذا التّصديق دون التزامٍ به وصَبرٍ عليه، فإبليس اللعين نفسه مُصَدِّقٌ بفضلهم مخالفٌ لهم، وكذا كثيرٌ من العباد، يوقنون بصحَّة ما يعتقده المؤمنون، لكنَّهم ينكرونه ويجحدونه، كما قال تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ﴾(57).
ثمَّ إنَّ مَن اتَّصَفَ بهذه الصفات الثلاثة، وكان ولياً لفاطمة (عليها السلام)، ومصدِّقاً للنبي والإمام، وصابراً على ما جاءا به، كان له أن يكمل الخِطاب مع الزهراء (عليها السلام) فيقول كما علَّمَه الباقر (عليه السلام):
فَإِنَّا نَسْأَلُكِ إِنْ كُنَّا صَدَّقْنَاكِ إِلَّا الحَقْتِنَا بِتَصْدِيقِنَا لهمَا بِالبُشْرَى، لِنُبَشِّرَ أَنْفُسَنَا بِأَنَّا قَدْ طَهُرْنَا بِولَايَتِكِ (58).
وفي هذه الفقرة من الدُّعاء معنيان عظيمان:
المعنى الأول: أنَّ تصديق فاطمة تصديق الرَّسول والإمام
لقد اقترنَ التّصديق بالزَّهراء (عليها السلام) بالتصديق برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والإمام (عليه السلام)، وكلاهما معصومٌ، فكانت الزَّهراء (عليها السلام) بذلك شريكتهم في العصمة، وصار تصديقُهما سبباً في أن تُلحِقَنا الزَّهراء بالبُشرى!
أي أنَّ التَّصديق لهما يحتاجُ إلى إمضاءٍ من الزَّهراء (عليها السلام)، فدونَها لا يُبشَّر المؤمنُ بهما، فمَن زعَمَ أنَّهُ آمن بهما وصدَّقَهُما واتَّبَعُهما ولم يتّبع فاطمة (عليها السلام) كان في دعواه كاذباً!
ثمَّ يشيرُ الدُّعاء إلى أن صاحبة البُشرى للمؤمن هي الزَّهراء (عليها السلام)، فهي التي تُلحقُ المؤمن بأسياده الأطهار، ودون ولايتها والتصديق بها لا تكتملُ ولاية النبي والإمام، فما أعظمها من منزلة، وأشرفه من مقام.
على أنَّ هذه الولاية لا تكتمل بغير البراءة ممن تَبَرَّأَت منه الزهراء (عليها السلام): أُشْهِدُ الله وَرُسُلَهُ وَمَلَائِكَتَهُ أَنِّي رَاضٍ عَمَّنْ رَضِيتِ عَنْهُ، وَسَاخِطٌ عَلَى مَنْ سَخِطْتِ عَلَيْهِ، وَمُتَبَرِّئٌ مِمَّنْ تَبَرَّأْتِ مِنْهُ، مُوَالٍ لِمَنْ وَالَيْتِ، مُعَادٍ لِمَنْ عَادَيْتِ، مُبْغِضٌ لِمَنْ أَبْغَضْتِ، مُحِبٌّ لِمَنْ أَحْبَبْتِ(59).
المعنى الثاني: أن ولاية فاطمة سبيلُ الطَّهارة!
إنَّ ثمرة البشارة من الزهراء (عليها السلام) لمحبيها هو أن: نُبَشِّرَ أَنْفُسَنَا بِأَنَّا قَدْ طَهُرْنَا بِولَايَتِكِ!
وههنا معنى في غاية العظمة، فالأشياء تنقسم إلى ما يكون طاهراً وما لا يكون كذلك، والطاهرُ قَد يكون مُطَهِّراً وقد لا يكون كذلك.
والزَّهراء (عليها السلام) بنفسِها من أهلِ بيتٍ أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرَهُم تطهيراً، وأورثهم علم الكتاب الذي لا يمسّه إلا المطهّرون.
ثمَّ جَعَلَ ولايتَهم باباً لطهارة عباده! فصاروا مُطهَّرين بأنفسهم، مُطَهِّرين لغيرهم.
كيف ذلك؟
لقد جعَلَ الله تعالى الماء طَهوراً فقال عزَّ وجل: ﴿وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً﴾(60)، وقال تعالى: ﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ﴾(61).
فثبت أنَّ الماء يُطهِّرُ النجاسات بظاهر القرآن، ودلَّ الخبر على أنَّهُم (عليهم السلام) يُطَهِّرون قلوب المؤمنين في الباطن، كما عن الصادق (عليه السلام) في الآية الشريفة:﴿ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ﴾ قال: فذلك عَليٌّ يُطَهِّرُ الله به قلبَ من والاه(62).
فليتأمَّل عاقلٌ في هذين اللفظين (عَليٌّ يُطَهِّرُ الله به قلبَ من والاه) و(طَهُرْنَا بِولَايَتِكِ)، ليرى أنَّ علياً وفاطمة صِنوان، لا يطهُرُ عبادُ الله إلا بمعرفتهما وولايتِهما، بعد معرفة الرَّسول والتصديق به والصبر على ما جاء به.
هكذا يصيرُ شيعتهم من أهل الطهارة، وأعداؤهم أهل الخباثة والقذارة!
ثمَّ لا يستوحشُ المؤمنون لقلَّتهم بعد ذلك، فإنَّهم يؤمنون بقول الله تعالى: ﴿قُلْ لا يَسْتَوِي الخَبيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخَبيثِ فَاتَّقُوا الله يا أُولِي الالبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾(63).
ويعلمون مآلَهم ومصيرهم حيثُ يحشرُهم الله تعالى في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر، ويجمع أعداء آل محمد وأولياءهم والراضين بأفعالهم معاً يوم القيامة!
قال تعالى: ﴿لِيَميزَ الله الخَبيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الخَبيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَميعاً فَيَجْعَلَهُ في جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ﴾(64).
هكذا صارَت ولاية الزهراء.. بشارة السَّماء..
هكذا صارت سبيل النجاح والفلاح، والحشر مع الأطهار.
ثَبَّتَنا الله على ولايتها، وعرَّفنا شأنها وعَظَمَتَهَا، وحشرنا معها بحقِّها (عليها السلام).
والحمد لله رب العالمين(65).
6. فاطمة.. وشجرة النبوَّة!
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد ضربَ الله تعالى في كتابه ﴿مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِي السَّماء﴾(66).
إنَّها شجرة النبوة.. التي كان أصلُها وجَذرُها رسول الله محمدٌ (صلى الله عليه وآله وسلم).
وفرعُها أميرُ المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، ويظهر أنَّ المُراد من الفرع هنا: (أعلى كلِّ شيء) كما في كتاب العين(67)، وفي كتب اللغة: الفاء و الراء والعين أصلٌ صحيح يدلُّ على علوٍّ وارتفاعٍ وسموٍّ وسُبوغ. من ذلك الفَرْعُ، وهو أعلَى الشيء(68).
وقد وصفته بعض النصوص بأنَّه (ذِرْوهَا)(69)، أي أعلاها، فكان عليٌّ (عليه السلام) أعلى شجرة النبوَّة، لقد كان في سماء الدين نجماً لا يُضاهى، في محلٍّ ينحدرُ عنه السيل ولا يرقى إليه الطير.
وأمّا فاطمة (عليها السلام)، فقد تنوَّعَت النصوص في وصف نسبتها لهذه الشجرة، ومن ذلك أوصافٌ ثلاثة:
1. عُنْصُرُ الشَّجَرَةِ فَاطِمَةُ(70): وعُنصُر الشيء هو أصله، فكانت في ذلك كرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في كونه أصل الشجرة.
2. وَفَاطِمَةُ فَرْعُهَا(71): فكانت في ذلك كعليٍّ (عليه السلام) في علاه وسموِّه وارتفاعه.
3. وَغُصْنُ الشَّجَرَةِ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم)(72)، وفي خبرٍ آخر: وَأَغْصَانُهَا فَاطِمَةُ بِنْتُ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ (73).
فكانت في ذلك كالأئمة (عليهم السلام) في تشعُّبهم عن هذه الشجرة، حيث ورد فيهم: أَغْصَانُ الشَّجَرَةِ وَثَمَرُهَا الْأَئِمَّةُ، وورد: وَالْأَئِمَّةُ مِنْ ذُرِّيَّتِهَا أَغْصَانُهَا، وَعِلْمُ الْأَئِمَّةِ ثَمَرُهَا(74).
فكان أعجبَ ما يكون أنَّ لفاطمة (عليها السلام) نسبةٌ مع أصل الشجرة ثمَّ مع فرعها ثمَّ مع أغصانها.. فهم أبوها وبعلها وبنوها..
مع ذلك، انطبق عليها أنَّها الأصل والفرع والغصن!
فمَن هي فاطمةُ؟! وما منزلتُها ومكانتُها؟
إنَّ أكثر من يعرف حقيقتها بعد أصل الشجرة وفرعها وأغصانها هم أوراق الشجرة، وليس هؤلاء إلا شيعتها المؤمنون بها، العارفون بحقِّها، المدركون أنَّها فوقَ مستوى الإدراك والإحاطة، المقرُّون بأنهم وسواهم فُطِمُوا عن معرفتها(75)!
ففي الروايات: وَوَرَقُ الشَّجَرَةِ الشِّيعَةُ، وفيها: وَشِيعَتُهُمُ المُؤْمِنُونَ وَرَقُهَا(76).
لقد علمَ هؤلاء أنَّ فاطمة مِن أصل هذه الشجرة، من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لذا قالوا في زيارتها: اللَّهُمَّ.. صَلِّ عَلَى الْبَتُولِ الطَّاهِرَةِ الصِّدِّيقَةِ المَعْصُومَة.. فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِكَ وَبَضْعَةِ لَحمِهِ، وَصَمِيمِ قَلْبِهِ، وَفِلْذَةِ كَبِدِهِ، وَالنُّخْبَةِ مِنْكَ لَهُ، وَالتُّحْفَةِ خَصَصْتَ بِهَا وَصِيَّه(77).
هي ليست روحه التي بين جنبيه فقط، هي بضعة لحمه وفلذة كبده، أي قطعة منهما!
وهي صميم قلبه، أي أصله أو قوامه! فهل لهذا صارت أمَّ أبيها؟ وصارت أصلاً لتلك الشجرة كأبيها؟! أم لشيء آخر؟! ذاك ما يعلمه الله تعالى.
وهي فوق ذلك خيرة الله لمحمدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم) وتحفته لعليٍّ (عليه السلام)!
فمَن هي هذه المرأة العظيمة التي بلغت من المجد عُلاه؟! وشاركت أعظم رجال الكون في صفاتهم؟!
إنَّها امرأةٌ لم يكلِّفها الله تعالى الخروج كما كلَّف الرجال، ولا أوجب عليها ما أوجبه على أنبيائه ورسله من تبليغ الرسالات والجَهر بها ومقارعة الظالمين حيث يؤمرون.
بل جعلها مثالاً أعلى للستر والحياء والعفة والرقة والعطف والمحبة، لكنَّها مع ذلك بلغت ما لم يبلغه أحدٌ من الرجال، إلا والدها وبعلها وبنيها الأطهار (عليهم السلام).
لقد روي عن حفيدها الصادق (عليه السلام) أنَّه قال فيها: هِيَ الصِّدِّيقَةُ الكُبْرَى، وَعَلَى مَعْرِفَتِهَا دَارَتِ القُرُونُ الأُوَلُ(78).
فما القرون الأولى؟ أوَّلُ الخلق؟ أم الأمم السابقة؟!
وهل المُراد معرفة القرون الأولى بها؟ حيث أوجبَ الله تعالى على المخلوقات والأمم السابقة معرفتها وأبيها وبعلها وبنيها. وكما صارت معرفة الإمام معرفةً لله فقد صارت معرفتها كذلك؟
أم أنَّ المراد توقُّفُ وجود القرون الأولى على معرفتها هي بالله تعالى؟ أو توقُّفُ كلُّ أمورهم على مقدار معرفتها؟ حيث أنَّه تعالى لولاها والكُمَّل من أهل بيتها لم يخلق الأفلاك. فلولا مقدار معرفتها (عليها السلام) لم يكن للقرون الأولى وجود؟
أياً كان المُراد من هذا الحديث، فإنَّ من الجليِّ أنَّ لها فضلاً على الوجود بأسره، وعلى كلِّ موجود بعينه.. فضلاً عميماً لا نظيرَ له ولا مَثيل.
لا عجبَ حينها أن تكون الخلائق كلَّها مأمورةً بطاعة هذه المرأة العظيمة، وقد ورد فيها نصان عظيمان:
أوَّلهما: ما روي عن الإمام الجواد (عليه السلام):
إِنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يَزَلْ مُتَفَرِّداً بِوَحْدَانِيَّتِهِ، ثُمَّ خَلَقَ مُحَمَّداً وَعَلِيّاً وَفَاطِمَةَ، فَمَكَثُوا الفَ دَهْرٍ، ثُمَّ خَلَقَ جَمِيعَ الأَشْيَاءِ فَأَشْهَدَهُمْ خَلْقَهَا، وَأَجْرَى طَاعَتَهُمْ عَلَيْهَا(79).
فكشف أنَّ (جميع الأشياء) مأمورةٌ بطاعتها! وهي متقدِّمةٌ في الخلقة عليها كلّها! بل هي الشاهدةُ على خلق المخلوقات!
ثانيهما: ما روي عن الإمام الباقر (عليه السلام):
وَ لَقَدْ كَانَتْ (صَلَوَاتُ الله عَلَيْهَا) طَاعَتُهَا مَفْرُوضَةً عَلَى جَمِيعِ مَنْ خَلَقَ الله مِنَ الجِنِّ، وَ الإِنْسِ، وَ الطَّيْرِ، وَالبَهَائِمِ، وَالأَنْبِيَاءِ، وَالمَلَائِكَةِ(80).
أيُّ معنىً هذا؟!
جبرائيل الذي ينزل بالأمر من السماء على الأنبياء مأمورٌ بطاعة فاطمة (عليها السلام)! والأنبياء الذين وجبَ على الناس طاعتهم وجبت عليهم طاعة فاطمة (عليها السلام)، ثمَّ يُعرفُ بعدَ ذلك المطيعُ لله من إنسٍّ وجنٍّ وطير وبهيمة بطاعتها (عليها السلام)!
أليست أصلَ الشجرة الربَّانية وفرعَها وغُصنَها؟!
فحكمها كحكم أبيها، وهي (صميم قلبه) وروحه التي بين جنبيه!
وحكمها كحكم بعلها وبنيها أعظم خلق الله بعد رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)!
أليست ثمار الشجرة أيضاً بين يديها؟!
كيف ذلك؟
لقد ورد في بعض النصوص: وَعِلْمُ الْأَئِمَّةِ ثَمَرُهَا(81).
فثمار الشجرة هي علوم آل محمد (عليهم السلام)، ولقد كانت هذه العلوم بين يدي الأئمة (عليهم السلام)، وما أظهروا منها مقدارَ حَرفٍ من كلمات، ولا قطرةٍ من بحار، ومع ذلك حارت فيهم العقول والألباب.
ولقد كان بين يدي فاطمة (عليها السلام) من العلوم ما يثير العجب.
كان بين يديها كتابٌ سوى القرآن الكريم، خصَّها الله تعالى به، أنزله عليها بعد وفاة أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم)، حملَه إليها بأمره جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، وقد كان في أوَّل ورقتين منه:
خَبَرُ مَا كَانَ، وَخَبَرُ مَا يَكُونُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَفِيهِ خَبَرُ سَمَاءٍ سَمَاءٍ، وَعَدَدُ مَا فِي سَمَاءٍ سَمَاءٍ مِنَ المَلَائِكَةِ.. وَصِفَةُ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَعَدَدُ مَنْ يَدْخُلُهَا، وَعَدَدُ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ، وَ أَسْمَاءُ هَؤُلَاءِ وَ أَسْمَاءُ هَؤُلَاءِ، وَ فِيهِ عِلْمُ القُرْآنِ كَمَا أُنْزِلَ، وَعِلْمُ التَّوْرَاةِ كَمَا أُنْزِلَتْ، وَعِلْمُ الإِنْجِيلِ، وَ الزَّبُورِ، وَ عَدَدُ كُلِّ شَجَرَةٍ وَمَدَرَةٍ فِي جَمِيعِ البِلَادِ(82)..
كلُّ هذا في ورقتين من هذا المصحف! أما سائر الأوراق فيعلمُ الله تعالى وأولياؤه ما فيها!
هذه بعضُ علوم سيِّدة نساء أهل الجنة.
إنَّها سيِّدَةُ الوجود بأسره، فلا بدَّ أن يكون عندها علمُ ما فيه.
إنَّها الشاهدةُ على كلِّ خلقٍ، فلا بدَّ أن تكون عالمةً بما شاهدت حين الخلق.
إنَّها مَن أوجبَ الله تعالى طاعتَها على كلِّ مخلوقٍ، فلا بدَّ أن تكون عالمةً بحقائق المخلوقات وصفاتها وما فيه صلاحُها وكمالها، وبالنظام الأصلح، وبكلِّ خيرٍ وصلاح.
إنَّها عالمةٌ بكلِّ ذلك جزماً، وعارفةٌ بربِّها، كمعرفةِ أبيها وبعلها وبنيها، أعظمُ معرفةٍ ممكنةٍ بالله في الوجود.
إنَّها مُحيطةٌ بكلِّ ما يمكن للمخلوق أن يحيط به.
إنَّها سيدة العوالم والأكوان والأدوار والأكوار..
لقد صار هذا المصحف إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد شهادتها، ودفعه إلى الأئمة من ولده (عليهم السلام)، ولا يزال عند صاحب الزمان، الحجة المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، فقد صار إرثاً بين يديه وَرِثَهُ عن أمِّه فاطمة (عليها السلام)! وهو بعضُ ثمار هذه الشجرة المباركة.
هي الثمار التي تسعى إليها أوراق هذه الشجرة.. يسعى إليها المؤمنون، فيطلبون علوم آل محمدٍ (عليهم السلام)، فإذا نظروا فيها علموا أنَّ لفاطمة منزلةً تعجزُ العقول عن إدراكها!
من ثمَّ علموا أنَّ الإله الحكيم العظيم، القادر العليم، لا يعطي عبثاً، ولا يفضِّل من غير استحقاق، وأنَّها اتَّصَفَت بما جعلها محلَّ رعاية الله تعالى إلى حدٍّ أوجب على كل الخلائق طاعتها!
أما الرجل المؤمن، فيخضع أمام هذه المرأة العظيمة، ويأمل نظرةً منها (عليها السلام) تصلحُ حالَه، وحال أهله وأعزائه وأحبائه ومَن يلوذ به، ويعلم أنَّ في رحمته بالمؤمنات، وعطفه عليهنّ تسليةً لقلب فاطمة الكسير! التي لم يُراع حقُّها ولا حقُّ رسول الله فيها.
وأما المرأة المؤمنة، فإنَّها تنظر إلى ما بَلَغَها عن سيِّدَتها الطاهرة، فتعلم أنَّه الكمال المطلق، والحق الذي لا ريب فيه.
تعلَم أنَّ رأسَ مالها بعد اعتقادها بالله تعالى هو اعتقادها بالزهراء وأبيها، وبعلها وبنيها.
وتعلم أنَّ رضا سيِّدَتها ومولاتها يكمن في تمسّكها بشرفها وسترها، وحيائها وعفَّتها، وحسن تبعُّلها، ورفعة خلقها، وعطفها وحنوِّها على أبنائها، وتربيتهم تربية يرضاها ربُّها.
فلا يكترث المؤمن كما المؤمنة بكلِّ أغاليط هذا الدَّهر وأكاذيبه! ولا يغترّان بالأباطيل.. ولا يحرفهما عن شرفهما وكرامتهما أهلُ الباطل.
إنَّ المؤمنين أوراقُ دوحةٍ عظيمةٍ نبتت في أشرف منبت، وأطهر دارٍ، إنَّها شجرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، الذي ثبت نسبه في بني هاشم، وتفرَّعت منه الزهراء البتول.
وليست الزهراء مُغايرةً في كنهها وجوهرها وعنصرها لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وليست مُباينةً في خصالِها للأئمة الأطهار (عليهم السلام).
إنَّها وإيّاهم مِن نور الله تعالى، فليس في كونها روحَ النبي مبالغةٌ، ولا في كونها (عنصر الشجرة) مغالاةٌ، ولا في إنزال الله ثمار الشجرة وعلوم السماء والأرض عليها غلوٌّ.
إنَّها فوق ذلك بكثير.. إنها السيدة التي فُطِمَ الخلقُ عن معرفتها.. فحريٌّ بالمؤمن أن يخضع لها إجلالاً وتكريماً، وأن يعظِّمَها في قلبه وعقله ولسانه وجوارحه، وأن يعرف شيئاً من عظمتها، وأن يُدرك عَظيمَ مُصابِها وما حلَّ بها، وأن يشارك الأكوان في الحُزن عليها.
أليس للأصل والفرع والغصن حَقٌّ على الأوراق؟! فتألَمُ لألمه؟! وهو أضعف الإيمان.
جعلنا الله من هذه الأوراق، وختم لنا وللمؤمنين بحسن العاقبة، وعجَّل في فرج إمامنا، وجعلنا ممَّن يأخذ معه بثأر جدَّته الزهراء (عليها السلام)، وجدِّه الحسين (عليه السلام)، والعترة الطاهرة.
والحمد لله رب العالمين(83).
7. فاطمة.. مريم الكبرى!
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد أجمعَ المسلمون والنصارى على تعظيم أمِّ نبيِّ الله عيسى (عليه السلام)، السيدة الجليلة مريم (عليها السلام)، بل قيل أنَّ مِنَ النصارى مَن جعلها إلهاً مع ابنها عيسى (عليه السلام).
وقد كان من مظاهر تعظيم الإنجيل لها أن نَقَلَ خطاب الملك الذي نزل من السماء قائلاً لها: مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ(84)، وقال لها: لاَ تَخَافِي يَا مَرْيَمُ، لأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ الله(85).
ومِن مظاهر تعظيمها في القرآن الكريم وصفه لها بأنَّها صِدِّيقة، فقال عن عيسى (عليه السلام): ﴿وَأُمُّهُ صِدِّيقَة﴾(86).
لكنَّ امرأةً أخرى تَفوَّقَت على مريم (عليها السلام) في وصفها هذا، وفُضِّلَت عليها، فكانت أعظمَ منها.
تلك هي بضعة النبيِّ المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)، فاطمة الزهراء (عليها السلام)، حيثُ وصفها أبوها الصادق الأمين (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنَّها: الصِّدِّيقَةُ الْكُبْرَى(87).
بل وصفَها وصفاً غريباً.. حين أخذ يدها ووضعها في يد عليٍّ (عليه السلام)، وأقسَمَ بالله تعالى فقال: هذه والله مَريَمُ الْكُبْرَى(88).
ثمَّ ورد هذا التعبير عن لسان الأئمة (عليهم السلام) عند التوجُّه إلى الله بحقِّها، ففي الدُّعاء: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُك.. بِحَقِّ الزَّهْرَاءِ مَرْيَمَ الْكُبْرَى سَيِّدَةِ نِسَاءِ الْعَالَمِين(89) ..
فلئن كانت مريمُ (عليها السلام) صدِّيقةً، ففاطمة هي الصدِّيقة الكبرى!
ولئن كانت مريمُ هي مريم! ففاطمةُ هي مَريمُ الكُبرى!
نتوقَّفُ ههنا في سلسلة مقارباتٍ بين السيدتين الجليلتين العظيمتين، ومن أنجَبَتَا:
أولاً: آيات الله
لقد جعلَ الله تعالى مريم (عليها السلام) وابنها عيسى (عليه السلام) آيةً من آياته، وعلامةً تدلُّ عليه، وتُرشد الناس إليه.
قال تعالى عنها (عليها السلام): ﴿وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمينَ﴾(90).
وقال: ﴿وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعين﴾(91).
وعن عيسى (عليه السلام): ﴿وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً﴾(92).
لكنَّ فاطمةَ (عليها السلام) كانت كفواً لأعظم آيات الله تعالى! لمَن قالَ يوماً: مَا لله نَبَأٌ أَعْظَمُ مِنِّي! وَلَا لله آيَةٌ أَعْظَمُ مِنِّي!(93).
ذاك الذي لولاه لم يكن لها كفوٌ بين كلِّ الخلائق! ذاكَ مَن قال عنه حفيده الصادق (عليه السلام): لَوْ لَا أَنَّ الله خَلَقَ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) لَمْ يَكُنْ لِفَاطِمَةَ (عليها السلام) كُفْوٌ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ آدَمُ فَمَنْ دُونَهُ(94).
فمهما ثبتَ لمريم (عليها السلام) وعيسى (عليه السلام) من فضلٍ عند الله، كان لفاطمة ما هو أعظم منه!
ومهما كانت عظمة مريم وابنها حتى صارا علامةً تُرشدُ الناس إلى الله، كانت عظمةُ فاطمة (عليها السلام) أرفع وأسمى وأعظم، وأكثر دلالةً على الله تعالى من أيِّ سيِّدةٍ في الوجود!
ثانياً: وليد مريم وفاطمة
إنَّ بين هاتين السيدتين مُشتَرَكاتٌ حال الحمل والولادة..
فمن ذلك أنَّهما قد أنجبتا قبل أوانهما، فأنجبت الأولى عيسى بن مريم (عليه السلام)، وأنجبت الثانية الحسين بن علي (عليه السلام) لستَّة أشهرٍ فقط(95).
ولقد كان مولود مريم (عليها السلام) ﴿يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي المَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحينَ﴾(96).
لكنَّ فاطمة وبعلَها وأبناءها كانوا يتكلَّمون قبل أن يوضعوا في مَهدِهم.. مُذ كانوا في بطون أمَّهاتهم!
أما الزهراء (عليها السلام)، فإنَّها كانت ترفَعُ استيحاش أمِّها خديجة لمّا هَجَرَتها نسوة مكَّة، فـ: كَانَتْ فَاطِمَةُ (عليها السلام) تُحَدِّثُهَا مِنْ بَطْنِهَا وَتُصَبِّرُهَا.
وحين سألها النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عمَّن تحدِّثه قالت: الجَنِين الَّذِي فِي بَطْنِي يُحَدِّثُنِي وَيُؤْنِسُنِي(97).
ثمَّ لمّا أرسلَ الله تعالى لأمِّها خديجة أربعةً من أفضل نساء التاريخ، يَليِنَ منها ما تلي النساء من الحامل، كانت إحداهنَّ مريمُ أمّ عيسى (عليه السلام)، فصارت شاهدةً على حديث فاطمة (عليها السلام) عند ولادتها كحديث عيسى عند ولادته، فقد: نَطَقَتْ فَاطِمَةُ (عليها السلام) بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَقَالَتْ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله، وَأَنَّ أَبِي رَسُولُ الله سَيِّدُ الأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّ بَعْلِي سَيِّدُ الأَوْصِيَاءِ، وَوُلْدِي سَادَةُ الأَسْبَاطِ، ثُمَّ سَلَّمَتْ عَلَيْهِنَّ، وَسَمَّتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِاسْمِهَا(98).
أما بعلُها (عليه السلام)، فقد روي أنَّ أمَّه فاطمة (عليها السلام): لَمَّا حَمَلَتْ بِعَلِيٍّ ازْدَادَ حُسْنُهَا، فَكَانَ يَتَكَلَّمُ فِي بَطْنِهَا، فَكَانَتْ فِي الْكَعْبَةِ، فَتَكَلَّمَ عَلِيٌّ مَعَ جَعْفَرٍ فَغُشِيَ عَلَيْه(99).
وأما أبناؤها الأئمة (عليهم السلام)، فإن خاتمهم المنتظر (عليه السلام) كان يُجيب عمَّة أبيه حميده (عليها السلام) مِن بطن أمه، وقد ذكرت حالَهُ لمَّا قرأت عليه سورة القدر قبل ولادته فقالت: فَأَجَابَنِي الجَنِينُ مِنْ بَطْنِهَا يَقْرَأُ مِثْلَ مَا أَقْرَأُ، وَسَلَّمَ عَلَي(100)، وقالت: فَأَجَابَنِي الخَلَفُ مِنْ بَطْنِهَا يَقْرَأُ كَقِرَاءَتِي(101).
هذا حالُ عيسى وأمِّه اللذين حيَّرا الدُّنيا بأسرها، وكانا آيةً الله تعالى، وهذا حالُ فاطمة وآلها الأطهار.. وهكذا صارت أمُّ عيسى، مريم الصدِّيقة مؤنسةً لأمِّ فاطمة (عليها السلام) في حملها بها، شاهدةً على ما ظهرَ منها من عجائب كعيسى (عليه السلام).
ثالثاً: قوم مريم.. وفاطمة
لقد واجَهَت السيدة مريم (عليها السلام) حالةً عصيبةً جداً، عندما حملت بعيسى (عليه السلام) من غير أب، فليس هذا الأمرُ الخارقُ للعادة مما يسهل على العذراء الطاهرة تقبُّله، إذا ما واجهت مَن يطعن في كرامتها.. وما أكثَرَهم!
قال تعالى: ﴿فَأَجاءَهَا المَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَني مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا﴾(102).
لقد تمنَّت مريم (عليها السلام)، وهي الطاهرة العفيفة النجيبة، المباركة الصدّيقة، تمنَّت لو أنها كانت منسية لا تُذكَر، لماذا يا تُرى؟
إنَّ ما جرى معها يستحقُّ أنَّ تُكرَّم وتُشرَّف وتُعظَّم لأجله، إنَّه أمرٌ لم يتكرر مع امرأة أخرى في كلِّ الدُّهور.. إنَّه كرامةٌ من الله لها.. لكنَّ إدراك هذا المعنى في ذلك الظرف كان أمراً شاقّاً، غير متوقَّعٍ من أمَّةٍ لا تعرف كيف تميِّز بين الكرامة والرذيلة!
ولكن.. لماذا تمنَّت مريمُ ذلك؟
لِأَنَّهَا لَمْ تَرَ فِي قَوْمِهَا رَشِيداً ذَا فِرَاسَةٍ يُنَزِّهُهَا عَنِ السُّوءِ، كما عن صادق آل محمد (عليه السلام)(103).
لقد كان الرُّشدُ بضاعةً نادرةً في ذلك الزمن، بل منعدمة، جعلت القوم بأسرهم يتَّهمون مريم (عليها السلام): ﴿فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا﴾(104).
لقد واجهت مريمُ (عليها السلام) مِن الشدَّة ما جعلها تتمنى لو كانت نسياً منسياً، فيما واجَهَت فاطمةُ (عليها السلام) انقلاباً على الأعقاب بعد شهادة أبيها، فقالت (عليها السلام): يَا رَبِّ: إِنِّي قَدْ سَئِمْتُ الحَيَاةَ! وَتَبَرَّمْتُ بِأَهْلِ الدُّنْيَا! فَالحِقْنِي بِأَبِي! (105).
لقد أمرَ الله تعالى مريم (عليها السلام) بالصوم عن الكلام، وكفاها مؤونة خطابِ قومِها فلم تكلِّم منهم إنسيّاً، ثمَّ أنطَقَ تعالى عيسى (عليه السلام) في المهد مبرِّئاً ساحة أمه (عليها السلام)، ومُظهراً للناس طهارَتها وجهلَهم.
لكنَّ جنينَ فاطمة لم ينطق عندما اقتحموا عليها دارَها! ولا أمرَها الله تعالى بالصَّمت كما أمرَ مريم، بل أمرَها بالكلام دفاعاً عن أسرتها الطاهرة، فقالت للثاني: أَ مَا تَتَّقِي الله عَزَّ وَجَلَّ تَدْخُلُ عَلَى بَيْتِي، وَتَهْجُمُ عَلَى دَارِي، فَأَبَى أَنْ يَنْصَرِف(106).
لَم يكُن في قومِ مريم (عليها السلام) رشيدٌ ذو فراسةٍ ينزِّهها عن السوء، كما لم يكن في قوم فاطمة (عليها السلام) رشيدٌ عاقلٌ مطيعٌ لله تعالى ينصرُها وينصر بعلها علياً وآلهما، والثلة القليلة التي وَقَفَت معهما.
لقد دفَعَ الله تعالى عن مريم بالجنين الذي في بطنها، بعيسى (عليه السلام)، لكنَّ جنينَ فاطمة كان شهيد الظُّلامة.. ظلامةٌ أبكت خاتم المرسَلين قبل وقوعها، حين حانت منيَّته، فأخرَجَ مَن كان عنده إلا علياً وفاطمة والحسنين، وأخذ بيدها (عليها السلام)، ووضعها على صدره طويلاً، ثمَّ: لَمَّا أَرَادَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الْكَلَامَ غَلَبَتْهُ عَبْرَتُهُ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْكَلَام(107).
لقد أبكت عبرتُه فاطمة وعلياً والحسنين، فبكوا بكاءً شديداً لبكائه، لقد تقطَّعَ قلبُ الزهراء، واحترق كبدُها، ثمَّ خاطبته (صلى الله عليه وآله وسلم): مَنْ لِوُلْدِي بَعْدَكَ؟ ولِذُلٍّ يَنْزِلُ بِي بَعْدَكَ؟ مَنْ لِعَلِيٍّ أَخِيكَ وَنَاصِرِ الدِّينِ؟ مَنْ لِوَحْيِ الله وَأَمْرِه؟(108).
هيَ تبكي لبكاء النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتخافُ على دين الله ووحيه وأمره وأوليائه، حينها يقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعليٍّ (عليه السلام): هَذِهِ وَالله سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الجَنَّةِ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، هَذِهِ وَالله مَرْيَمُ الْكُبْرَى، أَمَا وَالله مَا بَلَغَتْ نَفْسِي هَذَا المَوْضِعَ حَتَّى سَأَلْتُ الله لَهَا وَلَكُمْ فَأَعْطَانِي مَا سَأَلْتُه(109).
لقد رضي النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كما رضيت الزهراء بما ينزل عليهم، وما كان سؤاله (صلى الله عليه وآله وسلم) لله تعالى أن يرفع البلاء النازل، بل كان أعظمَ من ذلك وأسمى، فسلَّموا أمرَهم لله، وصبروا على ما نزل بهم، فأعطاهم الله أعظم ثواب المطيعين المسلِّمين.
لقد اشتدَّ غضب الله تعالى على قوم مريم حينما جعلوا ابنها إلهاً مع الله، واشتدَّ غضبه على قوم فاطمة حينما ظلموها وابتزوها حقَّها، وانتهكوا حرمتها، وأحرقوا بابها، وآذوا جنينها، وشجّوا جنبيها(110)، وشاقوها وبارزوها، وقتلوها وبعلها وبنيها.
لقد برأ الله ورسوله منهم والمؤمنون.. لما فعلوا بالصدِّيقة الكبرى، ومريم الكبرى، فاطمة الزهراء (عليها السلام).
إنَّ مريم التي تعرفُ معنى الظُّلامة قد صارت مؤنسةً لفاطمة المظلومة في آخر أيامها!
لقد ظلمها قومُها، فآنسها الله تعالى بالملائكة: فَنَادَتْهَا بِمَا نَادَتْ بِهِ مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ فَتَقُولُ: يَا فَاطِمَةُ ﴿إِنَّ الله اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ﴾.
يَا فَاطِمَةُ: ﴿اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾.
ولما ابتدأ بها الوجع ومرضت بعث الله عزَّ وجل إليها: مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ تُمَرِّضُهَا وَتُؤْنِسُهَا فِي عِلَّتِهَا(111).
هكذا صارَت مريمُ أنيسةً لمريم الكبرى.. والصديقةُ ممرِّضةً للصدِّيقة الكبرى.
وسيأتي يومٌ في الدُّنيا يُصلِّي مولودُ مريم (عليها السلام) خلف حفيد فاطمة (عليها السلام).. ويأتمُّ به، وينصره وينتصر له.
ثمَّ يأتي يوم القيامة، حين يكون عيسى وموسى وإبراهيم ونوح وآدم وسائر الأنبياء من شيعة محمدٍ وعليٍّ وفاطمة وآلهم الأطهار (عليهم السلام)، حينَها تستقبلُ مريمُ فاطمةَ (عليها السلام)، وتسلِّم عليها، وتسيرُ هي ومَن معها عن يسارها(112).
ذاك يوم الكرامة.. للمظلومة وآلها الأطهار.. جعلنا الله من حوارييهم منذ يومنا هذا وحتى ذلك اليوم.. وعجل الله في فرج المنتقم لهم.
والحمد لله رب العالمين(113).
8. ما السرُّ في (تسبيح فاطمة)؟!
بسم الله الرحمن الرحيم
(تسبيحُ فاطمة).. (تسبيحُ الزهراء) (عليها السلام).. عبارةٌ تتكرر على ألسنة الشيعة صغاراً وكباراً، يقصدون بها ذكراً خاصاً لله تعالى، غالباً ما يكون تعقيباً للصلوات، أو يُقرأ قبيل النوم.
فما السرُّ في هذا التسبيح؟ ولماذا يواظب الشيعة عليه؟
هل للأمر بُعدٌ مذهبيٌّ؟ أم عباديٌّ فقط من حيث كونه ذكراً لله تعالى؟ ومن أين استقى الشيعة هذا التسبيح الخاص؟ ولماذا اعتمدوه؟
أولاً: مصدر (تسبيح فاطمة) وكيفيّته
هذا التسبيحُ هو (نِحلَةٌ) (114) من خير خلق الله تعالى، محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، لابنته وبضعته وقرّة عينه، فاطمة الزهراء (عليها السلام)، ومِن عَظَمَة المُهدِي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومَن أُهدِيَ إليها (عليها السلام) تظهر إشاراتُ العَظَمَة فيه.
وفي تسبيح فاطمة: يُبْدَأُ بِالتَّكْبِيرِ أَرْبَعاً وَ ثَلَاثِينَ، ثُمَّ التَّحْمِيدِ ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ، ثُمَّ التَّسْبِيحِ ثَلَاثاً وَثَلَاثِين(115).
وفي بعض الأخبار أنه: خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا(116).
هو هديةٌ من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لبضعته، تُقرأ عَقِبَ كلِّ صلاة، وعند النوم، ففي خبرٍ آخر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال فيه لأمير المؤمنين وللزهراء (عليهما السلام): إِذَا أَخَذْتُمَا مَنَامَكُمَا فَكَبِّرَا(117)، ثم ذكر (صلى الله عليه وآله وسلم) كيفيته، وعن الباقر (عليه السلام) استحبابُ الاتيان بتسبيح فاطمة الزهراء (عليها السلام) عند النوم: إِذَا تَوَسَّدَ الرَّجُلُ يَمِينَهُ(118).
من ههنا بدأت قصّة الشيعة مع الدعاء، فَمَن لا ينطق عن الهوى يُنحِله ابنتَه الصدِّيقة، ثم يصير ملازماً للأئمة المعصومين (عليهم السلام) وصحبهم، بل شعاراً لهم ولشيعتهم إلى يومنا هذا، وقد روي أن الصادق (عليه السلام): كَانَ يُسَبِّحُ تَسْبِيحَ فَاطِمَةَ (عليها السلام) فَيَصِلُهُ وَلَا يَقْطَعُهُ(119).
فلم يكن يفصل بين التسبيح بكلامٍ أو غيره، وقد رُوي الأمرُ بإعادة التسبيح مع الشكِّ فيه.
فبرزَ اهتمامٌ خاصٌ بهذا التسبيح منهم (عليهم السلام)، فلماذا كان ذلك؟
ثانياً: ثواب (تسبيح فاطمة)
لقد ورد في الأحاديث الشريفة ما يثير التعجُّب من عظمة ثواب هذا التسبيح، ومن ذلك:
1. أنَّهُ أفضلُ تحميدٍ لله تعالى!
فعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَالَ: مَا عُبِدَ الله بِشَيْءٍ مِنَ التَّحْمِيدِ أَفْضَلَ مِنْ تَسْبِيحِ فَاطِمَةَ (عليها السلام)، وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ أَفْضَلَ مِنْهُ لَنَحَلَهُ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فَاطِمَةَ (عليها السلام)(120).
هو أعظمُ حَمدٍ يُحمَد به الله تعالى، يهديه أعظمُ مخلوقٍ، لسيِّدة النساء.
لم يجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أفضل منه، ما يعني أن ليس في الوجود أفضل من هذا التسبيح في تحميد الله تعالى.
2. أنَّه أحبُّ من ألف ركعة!
لهذا التسبيح البسيط ثوابٌ عظيمٌ جداً، فعن الصادق (عليه السلام): تَسْبِيحُ فَاطِمَةَ (عليها السلام) فِي كُلِّ يَوْمٍ فِي دُبُرِ(121) كُلِّ صَلَاةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ صَلَاةِ الفِ رَكْعَةٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ(122).
3. مغفرة الذنوب وآلاف الحسنات
ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): مَنْ سَبَّحَ تَسْبِيحَ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ (عليها السلام) قَبْلَ أَنْ يَثْنِيَ رِجْلَيْهِ مِنْ صَلَاةِ الفَرِيضَةِ غَفَرَ الله لَهُ، وَلْيَبْدَأْ بِالتَّكْبِيرِ(123).
وفي حديث آخر من سبّح وأتبعها بِلَا إِلَهَ إِلَّا الله.
وفي بعض الأحاديث أن حسنات هذه التسبيحات المائة التي يتألَّف منها تسبيح فاطمة (عليها السلام): عَشْرٌ أَمْثَالُهَا عِنْدَ الله، فَيُكْتَبُ لَهُ بَعْدَ كُلِّ صَلَاةٍ الفُ حَسَنَةٍ وَيكْتَسبُ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَةُ آلَافٍ(124).
فضلاً عمّا ورد من أنّها: مِائَةٌ بِاللِّسَانِ، وَالفٌ فِي المِيزَانِ، وَتَطْرُدُ الشَّيْطَانَ، وَتُرْضِي الرَّحْمَنَ(125).
على أنَّ طردَ الشيطان ورضا الرحمان ومغفرة الذنوب، غايةُ منى العباد المؤمنين.
فضلاً عن استعماله للاستشفاء، حيث أَمَرَ المعصومون (عليهم السلام) أصحابهم بتسبيح فاطمة (عليها السلام) عند الشكاية من بعض الأمراض كالثِّقل في الأذن.
ثالثاً: ما السِرُّ في (تسبيح فاطمة)؟
لماذا اختُصَّ هذا التسبيح بهذه العظمة؟! وكان له هذا الأثر العظيم؟
ههنا وجوه محتملة منها:
الوجه الأول: تخليدا (لذِكرِ فاطمة)!
هو تسبيحٌ لله تعالى، يُعَدُّ أعظمَ تحميدٍ يُحمَدُ به الله تعالى، لا يَجِدُ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خيراً منه ليُنحله بضعته الزهراء، فيُعرَف في الأمّة باسمها (عليها السلام)، فيُسهِم في تخليد ذكرِها، وإحياءِ أَمرِهَا، وأمرُها من أمر الله تعالى.
ولمّا كانت الأمّة قد ظلمت الزهراء (عليها السلام) بل أبغضَ جُلُّ مَن فِيها ذكرَها وذكرَ بعلها وذريّتها، وأنكروا تقديمهم على من عداهم، حتى روي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: إِنَّ النَّاسَ لَيْسَ شَيْءٌ أَبْغَضَ إِلَيْهِمْ مِنْ ذِكْرِ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ (عليهما السلام)(126).
كان في إحياء ذكرهم عظيمُ ثوابٍ عند الله تعالى، وهم الذين أَمَرَ بمودّتهم.
أفلا يُعقَل أن يكون في نِسبَةِ خيرِ تسبيحٍ لله تعالى إليها نوعاً من الحفاظ على ذكرها (عليها السلام)؟ وهي التي أمر الله بمودّتها فأنكرت الأمة فضلها، وقَدَّمت مَن ظَلَمَها وسَلَبَها حقّها، وأخذت بقوله وقدَّسته!
لقد صار خيرُ تسبيحٍ لا يُترك بعد كل صلاة باسم (فاطمة)، فهل مِن امرئٍ غير شقيٍّ يذكر تسبيحها كل يوم ولا يتبرأ من قاتليها وأعدائها؟!
فيجتمع فيه مع تكبير الله وحمده وتسبيحه، الإقرار بفضل فاطمة (عليها السلام) وعظمتها، والبراءة من قاتليها وظالميها، فتجتمع أركان الإيمان في فعلٍ واحد، فما أعظمه من فعلٍ.
الوجه الثاني: أنَّهُ وِقايةٌ من الشقاء!
إنّ المعصوم عالمٌ بتعليم الله تعالى، ومُدرِكٌ لتأثير كلِّ فعلٍ على مصير الإيمان، لأن مِنَ الأفعال ما يُثَبِّتُ الإيمان ومنها ما يكون سبباً لزواله.
ولتسبيح الزهراء (عليها السلام) أثَرٌ في غاية الأهمية، وهو أنّ ملازمته تَحفَظُ العبدَ من الشقاء! فكان المعصومون (عليهم السلام) يأمرون صبيانهم بهذا التسبيح ليعتادوا عليه، فيكون عوناً لهم للوقاية من الانحراف والشقاء.
فعَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: يَا أَبَا هَارُونَ، إِنَّا نَأْمُرُ صِبْيَانَنَا بِتَسْبِيحِ فَاطِمَةَ (عليها السلام) كَمَا نَأْمُرُهُمْ بِالصَّلَاةِ، فَالزَمْهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ عَبْدٌ فَشَقِيَ(127).
فصار تسبيحُ فاطمة مُلازماً للهداية، فمن لازَمَه لازَمَ الهدى وأَمِنَ من الشقاء.
الوجه الثالث: أنّه من علامات الشيعة!
لقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: شِيعَتُنَا الَّذِينَ إِذَا خَلَوْا ذَكَرُوا الله كَثِيراً(128)، وهذه من علامات الشيعة، أي أنّهم الذين يذكرون الله كثيراً.
لكن ما هو الذكر الكثير الذي يذكره الشيعة؟ وفيهم من لا يُكثِرُ ذكرَ الله تعالى؟
لمّا سئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن قوله تعالى: ﴿اذْكُرُوا الله ذِكْراً كَثِيراً﴾(129) قَالَ: مَنْ سَبَّحَ تَسْبِيحَ فَاطِمَةَ (عليها السلام) فَقَدْ ذَكَرَ الله الذِّكْرَ الكَثِير(130).
وفي حديثٍ آخر: تَسْبِيحُ فَاطِمَةَ (عليها السلام) مِنْ ذِكْرِ الله الكَثِيرِ الَّذِي قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾(131).
وفي الحديث: مَنْ بَاتَ عَلَى تَسْبِيحِ فَاطِمَةَ (عليها السلام) كَانَ مِنَ الذَّاكِرِينَ الله كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ(132).
لقد اقترن ذكرُ الله ذِكراً كثيراً بالتشيُّع إذاً، فالشيعة هم الذين يذكرون الله ذِكراً كثيراً فيذكُرُهُم الله تعالى، وهل يذكر الله تعالى سوى من كان من أهل الحق؟! وهل هؤلاء إلا الذين أخذوا هذا الذكر من المعصومين (عليهم السلام) واتّبعوهم؟!
لقد ورد أنّ لكلِّ شيءٍ حداً ينتهي إليه إلا الذِّكر، فإنّه ليس له حدٌّ، وأنّ الله تعالى لم يرض منه بالقليل، فرِضاه عز وجلّ مقرونٌ بكون الذكر (ذِكْراً كَثِيراً)، وهو (تسبيحُ فاطمة): علامةُ الشيعة.
يقول الإمام الصادق (عليه السلام): أَ لَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ لَكُمْ؟ أَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ .. ذِكْرُ الله عَزَّ وَجَلَّ كَثِيراً..
قالَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم): مَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ الله عَزَّ وَجَلَّ أَحَبَّهُ الله.
وَمَنْ ذَكَرَ الله كَثِيراً كُتِبَتْ لَهُ بَرَاءَتَانِ:
1. بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ.
2. وَبَرَاءَةٌ مِنَ النِّفَاقِ(133).
فصارَ تسبيحُ فاطمة من (علامات الشيعة)، وموجباً (لحبِّ الله)، وفيه (براءةٌ من النار)، و(براءةٌ من النفاق)، وهل تجتمع البراءة من النِّفَاق مع حُبِّ رؤوس المنافقين؟ مَن ظلموا الصديقة الزهراء وغصبوها حقها؟!
لقد قرن الله تعالى بين (خير الأعمال) و(أرفعها) و(أزكاها) وما فيه (براءةٌ من النار) و(براءةٌ من النفاق) ووقايةٌ من الشقاء، بين كل هذا وبين اسم (فاطمة)، وتسبيحها (عليها السلام).
أَفَهَل يغيب السرُّ في تسبيح فاطمة بعد ذلك عن مُحبِّيها؟!
وهل يُستَغرَبُ اهتمام الشيعة بهذا التسبيح وتعليمه لصبيانهم اقتداءاً بالأئمة المعصومين؟!
فاطمةُ الزهراء، يرضى الله لرضاها، ويغضب لغضبها، هي التي يُسَبِّحُ شيعتُها تسبيحَها كلّ يومٍ خمس مرات في تعقيب الصلاة، وقُبَيلَ النومِ سادسةً، ثم يستذكرون مودّتها باللسان والفعل، ويتبرؤون من أعدائها قولاً وعملاً، وهذا غاية القُرب من الله تعالى، ووقايةٌ من الشقاء والنفاق.
اللهم ثبِّتنا على مودَّتها والبراءة من أعدائها واحشرنا في زمرتها إنك سميعٌ مجيب.
والحمد لله رب العالمين(134).
9. (تسبيح فاطمة).. وأُمَّةُ الكَذِب!
بسم الله الرحمن الرحيم
عن أمير المؤمنين (عليه السلام): قَدْ كُذِبَ عَلَى رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عَلَى عَهْدِهِ حَتَّى قَامَ خَطِيباً فَقَالَ:
أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ الكَذَّابَةُ، فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، ثُمَّ كُذِبَ عَلَيْهِ مِنْ بَعْدِهِ (135).
هو تاريخٌ للمسلمين عجيبٌ، يكذبُ فيه كثيرٌ منهم على نبيّهم (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته وبعد وفاته، ثم على أئمتهم المعصومين (عليهم السلام)، حتى قال الصادق (عليه السلام): إِنَ النَّاسَ أَوْلَعُوا بِالكَذِبِ عَلَيْنَا(136).
ولهذا الوَلَعِ أسلوبٌ في غاية الدناءة، حيثُ كانت الأمة تُخالف إمامها علياً في كلّ ما ذهب إليه وأمكنهم مخالفته فيه، حتى أنّهم كانوا يسألونه لا ليعملوا بقوله، بل ليخترعوا قولاً خلاف قوله!
فعن الصادق (عليه السلام): إِنَّ عَلِيّاً (عليه السلام) لَمْ يَكُنْ يَدِينُ الله بِدِينٍ إِلَّا خَالَفَ عَلَيْهِ الأُمَّةُ إِلَى غَيْرِهِ، إِرَادَةً لِإِبْطَالِ أَمْرِهِ، وَكَانُوا يَسْأَلُونَ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) عَنِ الشَّيْءِ الَّذِي لَا يَعْلَمُونَهُ، فَإِذَا أَفْتَاهُمْ جَعَلُوا لَهُ ضِدّاً مِنْ عِنْدِهِمْ لِيَلْبِسُوا عَلَى النَّاس(137).
هي أمّةُ الكذب إذاً، تمتهنه في مخالفة وليِّها عليّ (عليه السلام)، فتجعل لأقواله ضدّاً من عندها، ثم تنسب ذلك للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)!
ولأمّة الكذب نصيبٌ مع (تسبيح فاطمة) (عليها السلام).
وكيف يفوتهم الكذبُ في تسبيحها وهو من علامات الشيعة، وفيه البراءة من النفاق، والحال أنَّ أكثرَ مَن في الأمة هم من أهل النفاق والشقاق، أو من أتباع هؤلاء وأشياعهم!
إن المعروف والمشهور أن تسبيح الزهراء (عليها السلام) على النحو التالي من حيث العدد والترتيب:
الله أكبر: 34 مرة.
الحمد لله: 33 مرة.
سبحان الله: 33 مرة.
ومجموعها 100 تسبيحة.
وقد يضاف إليها الاستغفار، أو قول (لا إله إلا الله) فيكون أمراً خارجاً عن المئة المستحبَّة التي يصدق عليها أنها (تسبيح فاطمة) (عليها السلام)، والتي صارت شعاراً للشيعة يُعرَفون به، كما دلت على ذلك النصوص الشريفة.
وقد ثبتت هذه الصيغة بهذا (العدد والترتيب) بسندٍ صحيح، ومن ذلك ما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام): عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُذَافِرٍ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِي عَلَى أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) فَسَأَلَهُ أَبِي عَنْ تَسْبِيحِ فَاطِمَةَ (عليها السلام) فَقَالَ: (الله أَكْبَرُ) حَتَّى أَحْصَاهَا أَرْبَعاً وَثَلَاثِينَ مَرَّةً. ثُمَّ قَالَ: (الحَمْدُ لله) حَتَّى بَلَغَ سَبْعاً وَسِتِّينَ. ثُمَّ قَالَ: (سُبْحَانَ الله) حَتَّى بَلَغَ مِائَةً. يُحْصِيهَا بِيَدِهِ جُمْلَةً وَاحِدَةً(138).
وفي حديثٍ آخر عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: فِي تَسْبِيحِ فَاطِمَةَ (عليها السلام) يُبْدَأُ بِالتَّكْبِيرِ أَرْبَعاً وَثَلَاثِينَ، ثُمَّ التَّحْمِيدِ ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ، ثُمَّ التَّسْبِيحِ ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ(139).
فما روي من أجرٍ عظيم وثوابٍ جزيل وأثرٍ عميمٍ يختصُّ بمن أتى بهذه الكيفية خاصةً.
وههنا يلاحظ على السُنَّة أمورٌ:
الأول: بغضهم لنسبة التسبيح لفاطمة عليها السلام!
لقد روى المخالفون تسبيح فاطمة (عليها السلام) في أصحّ كتبهم، كالبخاري ومسلم، لكنّهم ما أطلقوا عليه يوماً اسم (تسبيح الزهراء) أو (تسبيح فاطمة) كما هو المعلوم والمعروف عند آل محمد (عليهم السلام).
وكأنّهم يعزُّ عليهم أن لا يكونوا مصداقاً لما ورد عن آل محمد (عليهم السلام): إِنَّ النَّاسَ لَيْسَ شَيْءٌ أَبْغَضَ إِلَيْهِمْ مِنْ ذِكْرِ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ (عليهما السلام)(140).
والأوضح من ذلك أنهم نقلوه في نصوصٍ أخرى بما يخلو من ذكر فاطمة (عليها السلام) تماماً، فقد روى مُسلم وبعض أئمة المحدثين من العامة روايةً أخرى خَلَت من ذكرها (عليها السلام)، فقال مسلم:
عن كعب بن عجرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: معقِّبَاتٌ لا يخيب قائلهن أو فاعلهن دبر كل صلاة مكتوبة: ثلاث وثلاثون تسبيحة، وثلاث وثلاثون تحميدة، وأربع وثلاثون تكبيرة(141).
فلم يبق لذكر الزهراء معه أثرٌ ولا نصيب! وهو نِحلةٌ من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لها (عليها السلام).
الثاني: إقحام عائشة في الحديث!
لقد عظم على البخاري وغيره ذِكرُ حديثٍ لفاطمة (عليها السلام)، دون أن يُقحِمَ عائشة فيه! بأساليبه الماكرة المعهود.
وعائشة هي نفسها التي يروي البخاري قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بحقها فيقول: قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً فأشار نحو مسكن عائشة فقال: ههنا الفتنة، ثلاثاً، من حيث يطلع قرن الشيطان(142).
ثم ما يلبث أن يجعلها واسطةً في طلبات الزهراء (عليها السلام) لأبيها (صلى الله عليه وآله وسلم)! فيقول:
(أن فاطمة عليها السلام اشتكت ما تلقى من الرحى مما تطحن، فبلغها أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بسبيٍ فأتته تسأله خادماً فلم توافقه، فذكرت لعائشة، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فذَكَرَت ذلك عائشة له، فأتانا وقد دخلنا مضاجعنا، فذهبنا لنقوم فقال: على مكانكما، حتى وجدت برد قدميه على صدري، فقال: ألا أدلكما على خير مما سألتماه؟
إذا أخذتما مضاجعكما فكبرا الله أربعاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وسبحا ثلاثاً وثلاثين، فإنّ ذلك خيرٌ لكما مما سألتماه) (143).
ليس هذا محلُّ مناقشة الحديث وبيان ضعفه، لكن اللافت فيه هو زَجُّ عائشة فيه وكأنّ (قرن الشيطان) تأخذ دور الوسيط بين خير الخلق وابنته الصديقة الكبرى!
الثالث: التشويش على (تسبيح فاطمة)!
يظهر أن حديث (تسبيح فاطمة) (عليها السلام) كان على قدرٍ من الشهرة، إلى حدّ أن البخاري ومسلم وأئمة الحديث عند العامة ما تمكنوا من غضّ النظر عنه وعدم ذكره.
فعمدوا إلى قاعدة أخرى لطالما استعملوها مفادها أنَّ: ما لا تتمكن من حذفه فعليك بالتلاعب به!
فتلاعَبَ البخاري بالرواية تلاعُبَاً مَقيتاً، حيث روى القصة نفسها في أربع مواضع من كتابه، في كلِّ مرةٍ بصيغةٍ مختلفة عن الأخرى! مع أن الواقعة واحدة لم تتعدد.
وكان في كلِّ مرّة يُعِدِّلُ شيئاً في التسبيح لئلا تُعلم حقيقته فعلاً!
وهذه الصيغ الأربعة كالتالي:
- فكبرا الله أربعاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وسبحا ثلاثاً وثلاثين(144).
- تكبرا أربعاً وثلاثين، وتسبحا ثلاثاً وثلاثين، وتحمدا ثلاثةً وثلاثين(145).
- فسبحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكبرا أربعاً وثلاثين(146).
- فكبرا ثلاثاً وثلاثين، وسبحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين(147).
فكانت الرواية الأولى موافقةً للمعروف عند الشيعة، لكنَّه في الثانية قَدَّمَ التسبيح على التحميد، وفي الثالثة قَدَّمَ التسبيح والتحميد على التكبير، وفي الرابعة أنقص من التكبير واحداً وبَدَّلَ بين التسبيح والتحميد.. وهكذا لم تتّفق ولو روايتان من الأربعة، مع أنّها كلّها في صحيح البخاري!
فضيَّعَ البخاري صيغة التسبيح الحقّة، بعد أن حذف اسم الزهراء منها ومَنَعَ الاقتران بينهما.
والحال أن الروايات المتقدمة قد نصّت على العدد وعلى تقديم التكبير، وعلى الترتيب بقوله (ثم)، لكن البخاري أغاظه أن يُعرف هذا التسبيح باسم فاطمة وأن ينتشر بصيغته المعروفة، فتلاعَبَ هذا التلاعب المقيت. وسار على النهج نفسه مسلمُ وسواه من أئمة الحديث.
الرابع: الكذب على النبي، لإبطال التسبيحة الحقة!
إمعاناً في المؤامرة وإتماماً لها، اخترع أبو هريرة أو البخاري حديثاً نُسِبَ للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، يزعم فيه أبو هريرة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد عَلَّم هذا التسبيح للفقراء لمّا شكوا عجزهم عن الاتيان بما يؤجر عليه الأغنياء، من بذل الأموال في الحج والعمرة والجهاد والصدقة، فعلَّمَهُم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه التسبيحات، حتى قال أبو هريرة:
(فاختلفنا بيننا فقال بعضنا: نسبح ثلاثاً وثلاثين، ونحمد ثلاثاً وثلاثين، ونكبر أربعاً وثلاثين.
فرجعتُ إليه: فقال: تقول: سبحان الله والحمد لله والله أكبر، حتى يكون منهنّ كلهن ثلاثاً وثلاثين)(148).
فنصَّ هذا الحديث على إبطال ثلاثة صِيَغٍ وهي التي تتضمن التكبير أربعاً وثلاثين مرّة، وأن مجموع التسبيحات الثلاث 99 وليس 100 تسبيحة.
كلُّ هذا هَرَباً من موافقة ما ذهب إليه آل محمد (عليهم السلام)، ولو استلزم ذلك تكذيب روايات البخاري الصحيحة، فإنّ فيه مخالفةً لعليٍ وآل علي (عليهم السلام)! وهو غاية المُنى عند القوم.
فهذا الحديث وفق الموازين حاكمٌ على الأحاديث الأخرى عندَهم، لأنّه ناظرٌ إليها، فهو يحاكم الأحاديث بناء على الاختلاف الحاصل بين الناس، والناشئ من الروايات المكذوبة، ثم يرجِّح الرواية المخالفة لرواية آل محمد (عليهم السلام)، فيجعل التسبيحات تسعاً وتسعين (99) بدلاً من المائة (100) كما هي عند الشيعة.
هذا شيءٌ من قصَّة (تسبيح فاطمة) وأمّة الكذب!
أفهل من شكٍّ بعد ذلك في أنّ الناس أبغض شيءٍ إليهم ذكر عليّ وفاطمة؟! وفي أنّهم كانوا يسألون أمير المؤمنين (عليه السلام) ليجعلوا لكلامه ضِدَّاً من عندهم؟!
أعاذنا الله ممن أولعوا بالكذب على المعصومين، ونبرأ إلى الله تعالى منهم.
والحمد لله رب العالمين(149).
10. (تسبيح فاطمة).. وشيعتها..
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد حَذَفَ المخالفون اسم فاطمة الزهراء (عليها السلام) من التسبيح المعروف باسمها، وهو نِحلةٌ لها من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وقد ذهبنا إلى أنَّهم تعمَّدوا الكذب والتشويش على هذا التسبيح، وأنَّهم نَقَلوه بصورٍ مختلفةٍ بعيدةٍ عن الواقع، حتى لا تُعرفَ حقيقته وكيفيته.
لكنَّ الباحث منهم قد ينظر في كتبنا فيرى فيها اختلافاً أيضاً في كيفيته، فيخاطبنا قائلاً:
لماذا تتَّهمون المخالفين لكم بتعمُّد الكذب على النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومحاولة التشويش على (تسبيح فاطمة) (عليها السلام)؟
إذا كان السبب هو الاختلاف في نقل الرواية عند المخالفين لكم، سيَّما البخاري، فهذا الاختلاف لا يختصُّ بهم، بل إن رواياتكم أيها الشيعة أيضاً مختلفة في كيفية تسبيح فاطمة (عليها السلام)، فما بالكم تتَّهمون غيرَكم بما وقعتم فيه؟
لكنَّ المؤمن الفَطِنَ يعلمُ أنَّ هناك فرقاً فارقاً بيننا وبينهم، فيجيب من جهات:
الجهة الأولى: إجماعُ الشيعة على تقديم التكبير
إنَّ الشيعة الإمامية متَّفقون على أمرين:
الأمر الأول: هو كون التسبيحات مئة، لا يزيد عددها ولا ينقص.
الأمر الثاني: هو أنَّ التكبير مقدَّمٌ على التحميد والتسبيح.
فلو خالفَ أحدٌ هذين الأمرين لم يكن ملتزماً بتسبيح فاطمة (عليها السلام).
أمّا المخالفون فلم يلتزموا بذلك، وقد تَقَدَّمت روايات البخاري بصيَغها الأربعة، ويُلاحظ عليها مخالفتها لهذين الأمرين:
1. أما الأول أي كونها مئة: فلأنه قد ورد في احدى الصيغ كون التسبيحات تسعاً وتسعين، وهي التي رجَّحها أبو هريرة برواية البخاري، لكونها ناظرةً إلى الاختلاف بين الروايات وحاكمةً عليها.
2. وأما الثاني أي تقديم التكبير: فلأنه ورد في صيغةٍ أخرى عندهم تأخير التكبير عن التحميد والتسبيح.
فخالفَوا بذلك إجماع الشيعة في المسألتين.
قال الشيخ المجلسي: ولا خلاف بيننا في أنها مائة، وفي تقديم التكبير(150)، وقال صاحب مفتاح الكرامة: ولا خلاف عندنا في أنّه يبدأ فيه بالتكبير(151).
لكنَّ القومَ ما اكتفوا بهذه الصيغ الأربعة، بل أضافوا لها صيغاً أخرى غريبة منها:
الصيغة الأولى: أن يكون المجموع ثلاثين تسبيحة فقط!
كما في صحيح البخاري، حيث روى رواية يكون مجموع التسبيحات فيها ثلاثين تسبيحة! ففيه: تسبحون في دبر كل صلاة عشراً وتحمدون عشراً وتكبرون عشراً(152).
الصيغة الثانية: أن يكون المجموع ثلاث وثلاثين تسبيحة فقط!
كما في صحيح مسلم، ففيه: احدى عشرة احدى عشرة، فجميع ذلك كله ثلاثة وثلاثون(153).
الصيغة الثالثة: أن ينقص من التسبيحات الثلاث ويزاد التهليل!
كما في الخبر الذي رواه الترمذي وصححه، ثم صححه الألباني، وفيه عن زيد:
أمرنا أن نسبح دبر كلّ صلاة ثلاثاً وثلاثين، ونحمده ثلاثاً وثلاثين، ونكبره أربعاً وثلاثين.
قال: فرأى رجلٌ من الأنصار في المنام، فقال: أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن تسبحوا في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وتحمدوا الله ثلاثاً وثلاثين، وتكبروا أربعا وثلاثين؟
قال: نعم!
قال: فاجعلوا خمساً وعشرين، واجعلوا التهليل معهن.
فغدا على النبي صلى الله عليه وسلم، فحدثه، فقال: افعلوا(154).
وهو يدلُّ على جعل كل واحدةٍ من التسبيحات خمساً وعشرين، مع إضافة التهليل ليكون المجموع مئة، وميزة هذا الحديث أنَّه ناظرٌ للصيغة المعروفة، ثم ينسب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه أمر بالصيغة الجديدة، وهو قريبٌ من خبر أبي هريرة، الذي كان ناظراً إلى الاختلاف بين الصحابة في التسبيح، وكان الترجيح فيه لتسعٍ وتسعين تسبيحة.
وبهذا يظهر أنَّ الاختلاف بين السنة ليس كالاختلاف بين الشيعة، فإنَّ السنَّة قد خالفوا الحقَّ وشوَّشوا على أصل العدد في التسبيح، فما اتفقوا على كونه مئة تسبيحة، ولا على كون التسبيحات ثلاثة (تكبيرٌ وتحميدٌ وتسبيح)، ولا على تقديم التكبير. وهو يؤكد ما تقدَّم من تعمُّدهم التشويش على التسبيح.
الجهة الثانية: الترتيب المعروف عند الشيعة
إنَّ المعروف والمشهور بين الشيعة هو أنَّ تسبيح الزهراء (عليها السلام) يبدأ بالتكبير (34 مرة)، ثم التحميد (33 مرة)، ثم التسبيح (33 مرة).
وفي هذا المعنى رواياتٌ عدَّة، صحيحة السند، صريحةٌ في الترتيب، منها صحيحة بن عذافر، التي ينقل فيها الراوي عن الصادق (عليه السلام) أنَّه قال:
(الله أَكْبَرُ) حَتَّى أَحْصَاهَا أَرْبَعاً وَثَلَاثِينَ مَرَّةً.
ثُمَّ قَالَ: (الحَمْدُ لله) حَتَّى بَلَغَ سَبْعاً وَسِتِّينَ.
ثُمَّ قَالَ: (سُبْحَانَ الله) حَتَّى بَلَغَ مِائَةً(155).
وقد رواها البرقي في المحاسن، والكليني في الكافي، ومثلها رواياتٌ أخرى مشهورة، عمل بمضمونها العلماء، وقد صرَّح بهذا الترتيب كثيرٌ منهم كالشيخ المفيد في المقنعة(156)، والشيخ الطوسي في المبسوط(157)، وغيرهما.
وصرَّحَ العلامة الحلي في المختلف بأن هذا الترتيب هو المشهور(158)، ومثله المجلسي في بحاره(159)، بل ذكر الحر العاملي أنَّ على هذا الترتيب: عَمَلُ الطَّائِفَةِ(160)، وقال صاحب الجواهر أنّ ما تقدَّم هو: المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة.. بل لا خلاف أجده في الفتاوى و النصوص عدا خبر العلل(161).
بهذا يتَّضح أنَّ الشيعة لم يختلفوا كاختلاف السنة فيه، رغم ذلك ورد في رواياتهم وكلمات علمائهم ما يظهر منه مخالفة المشهور.
الجهة الثالثة: هل اختلف الشيعة؟
يظهرُ من كلمات بعض العلماء ما يخالفُ المشهور في تسبيح فاطمة (عليها السلام)، ومن ذلك كلام الشيخ الصدوق، حيث قدَّمَ في الفقيه التسبيح على التحميد فقال:
وَسَبِّحْ تَسْبِيحَ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ (عليها السلام)، وَهِيَ أَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ تَكْبِيرَةً، وَثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ تَسْبِيحَةً، وَثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ تَحْمِيدَةً(162).
وقد استند في ذلك إلى روايةٍ أوردها في الفقيه والعلل.
وهذا القولُ لو تمَّ هو في الحقيقة تخييرٌ بين الصيغتين:
1. تكبيرٌ ثمَّ تحميدٌ ثمَّ تسبيحٌ كما هو المشهور.
2. تكبيرٌ ثمَّ تسبيحٌ ثمَّ تحميد.
ولكن، بعد ثبوت الترتيب المشهور بسندٍ صحيح، واعتضاده بروايات عدة، وعمل الأصحاب به، لا بدَّ من النظر فيما خالفه من روايات، وهي رواياتٌ عدة، نكتفي بذكر روايتين منها، وبها يتَّضح حال ما تبقى:
الرواية الأولى
روى الشيخ الصدوق في الفقيه فقال:
رُوِيَ أَنَّ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي سَعْدٍ: أَ لَا أُحَدِّثُكَ عَنِّي وَعَنْ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ؟
أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدِي فَاسْتَقَتْ بِالْقِرْبَةِ حَتَّى أَثَّرَ فِي صَدْرِهَا، وَطَحَنَتْ بِالرَّحَى حَتَّى مَجِلَتْ يَدَاهَا، وَكَسَحَتِ الْبَيْتَ حَتَّى اغْبَرَّتْ ثِيَابُهَا، وَأَوْقَدَتْ تَحْتَ الْقِدْرِ حَتَّى دَكِنَتْ ثِيَابُهَا، فَأَصَابَهَا مِنْ ذَلِكَ ضُرٌّ شَدِيدٌ.
فَقُلْتُ لَهَا: لَوْ أَتَيْتِ أَبَاكِ فَسَأَلْتِهِ خَادِماً يَكْفِيكِ حَرَّ مَا أَنْتِ فِيهِ مِنْ هَذَا الْعَمَلِ.
فَأَتَتِ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فَوَجَدَت عِنْدَهُ حُدَّاثاً فَاسْتَحْيَتْ، فَانْصَرَفَتْ.
فَعَلِمَ (صلى الله عليه وآله وسلم) أَنَّهَا قَدْ جَاءَتْ لِحَاجَةٍ، فَغَدَا عَلَيْنَا وَنَحْنُ فِي لِحَافِنَا، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَسَكَتْنَا وَاسْتَحْيَيْنَا لِمَكَانِنَا.
ثُمَّ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَسَكَتْنَا!
ثُمَّ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، فَخَشِينَا إِنْ لَمْ نَرُدَّ عَلَيْهِ أَنْ يَنْصَرِفَ، وَقَدْ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فَيُسَلِّمُ ثَلَاثاً فَإِنْ أُذِنَ لَهُ وَإِلَّا انْصَرَفَ.
فَقُلْنَا: وَعَلَيْكَ السَّلَامُ يَا رَسُولَ الله، ادْخُلْ، فَدَخَلَ وَجَلَسَ عِنْدَ رُءُوسِنَا، ثُمَّ قَالَ: يَا فَاطِمَةُ، مَا كَانَتْ حَاجَتُكِ أَمْسِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ نُجِبْهُ أَنْ يَقُومَ، فَأَخْرَجْتُ رَأْسِي فَقُلْتُ: أَنَا وَالله أُخْبِرُكَ يَا رَسُولَ الله، إِنَّهَا اسْتَقَتْ بِالْقِرْبَةِ حَتَّى أَثَّرَ فِي صَدْرِهَا، وَجَرَتْ بِالرَّحَى حَتَّى مَجِلَتْ يَدَاهَا، وَكَسَحَتِ الْبَيْتَ حَتَّى اغْبَرَّتْ ثِيَابُهَا، وَأَوْقَدَتْ تَحْتَ الْقِدْرِ حَتَّى دَكِنَتْ ثِيَابُهَا، فَقُلْتُ لَهَا: لَوْ أَتَيْتِ أَبَاكِ فَسَأَلْتِهِ خَادِماً يَكْفِيكِ حَرَّ مَا أَنْتِ فِيهِ مِنْ هَذَا الْعَمَلِ.
قَالَ: أَ فَلَا أُعَلِّمُكُمَا مَا هُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنَ الْخَادِمِ؟
إِذَا أَخَذْتُمَا مَنَامَكُمَا فَكَبِّرَا أَرْبَعاً وَثَلَاثِينَ تَكْبِيرَةً، وَسَبِّحَا ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ تَسْبِيحَةً، وَاحْمَدَا ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ تَحْمِيدَةً.
فَأَخْرَجَتْ فَاطِمَةُ (عليها السلام) رَأْسَهَا وَقَالَتْ: رَضِيتُ عَنِ الله وَعَنْ رَسُولِهِ، رَضِيتُ عَنِ الله وَعَنْ رَسُولِهِ(163).
ويلاحظ على هذه الرواية:
أولاً: أنَّها عاميَّة، وليست من طُرُقنا. فلا يصحُّ الاستناد إليها في مقابل مروياتنا الصحيحة المعمول بها.
بل ذهب بعضهم إلى كونها موضوعة لتضمُّنها بعض الغرائب (164).
ثانياً: أنَّها ظاهرةٌ في هذا الترتيب وليست صريحةً فيه، وهو جليٌّ، وقد صرَّحَ به غيرُ واحدٍ من الأعلام، كالعلامة الحلي حيث قال: وهو يُشعِر بتقديم التسبيح على التحميد(165).
فإذا وُجِدَ المقتضي لحملِها على خلاف الظاهر لم يكن هناك ما يمنع من ذلك.
ثالثاً: أنَّ الشيخ قد ذكر الرواية نفسها في علل الشرائع بترتيبٍ مختلف، حيثُ ورد فيها: إِذَا أَخَذْتُمَا مَنَامَكُمَا فَسَبِّحَا ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ، وَكَبِّرَا أَرْبَعاً وَثَلَاثِين(166).
والحديثُ في حقيقته واحدٌ لا اثنان، فلئن كان يُحتملُ في الأحادث المختلفة الصادرة في وقائع مختلفة أن يختلف الترتيب فيها من باب التخيير، فإنَّ هذا الحديث ينقل واقعةً واحدةً محدَّدةً بصيغتين مختلفتين، وقد نقلهما الشيخ في كتابيه عن مصادر العامة لا عن مصادرنا.
لذا لا وجه لما ذكره الشيخ المجلسي بقوله: ويمكن الجمع بالقول بالتخيير مطلقاً(167) إن أراد به هذه الرواية بالخصوص، فالاختلافُ بين صيغتين حول حدثٍ واحدٍ لا يمكن حمله على التخيير.
وما في العلل يخالف ما عليه كلمة الشيعة جميعاً من تقديم التكبير، وأما ما في الفقيه فيخالف ما عليه مشهورهم من تقديم التحميد على فرض ظهور الرواية في الترتيب.
رابعاً: إن قيل: هذه روايةٌ خاصةٌ بوقت النوم، وقد يختلف حكم التسبيح بعد الصلاة عنه عند النوم.
قلنا:
تقابلُ هذه الرواية روايةٌ صحيحةٌ مختصَّةُ أيضاً بقراءة تسبيح الزهراء (عليها السلام) عند النوم، وهي ظاهرةٌ في الترتيب المشهور عندنا، وهي صحيحة هشام بن سالم: عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: تَسْبِيحُ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ (عليها السلام): إِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ فَكَبِّرِ الله أَرْبَعاً وَثَلَاثِينَ، وَاحْمَدْهُ ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ، وَسَبِّحْهُ ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ(168).
فإذا دلَّت الروايات المتقدِّمة الموافقة للمشهور على الترتيب صريحاً، لزمَ حملُ الروايات المخالفة لها على عدم إرادة الترتيب منها إن أمكن.
قال العلامة الحلي: ليس في الحديث تصريح بتقديم التسبيح على التحميد، أقصى ما في الباب أنّه قدّمه في الذكر، وذلك لا يدلّ على الترتيب، والعطف بالواو لا يدلّ عليه(169).
كما ذهب إلى عدم صراحتها الشيخ البهائي فقال: هذا ولا يخفى أن هذه الرواية غير صريحة في تقديم التسبيح على التحميد، فإن الواو لا تفيد الترتيب، وإنما هي لمطلق الجمع على الأصح كما بين في الأصول، نعم ظاهر التقديم اللفظي يقتضي ذلك(170).
ولما كان هناك روايةٌ صريحةٌ في تقديم التحميد لزم حملُ هذه الرواية عليها، فقال البهائي: فتحمل الرواية الأخرى (أي هذه التي نتحدث عنها) على خلاف ظاهر لفظها ليرتفع التنافي بينهما(171).
وكذا فعل الحر العاملي فقال عن الروايات التي تقدَّم فيها التسبيح بالعطف: الْوَاوُ لِمُطْلَقِ الْجَمْعِ كَمَا تُقُرِّرَ فَيَجِبُ حَمْلُهُ هُنَا عَلَى تَقْدِيمِ التَّحْمِيدِ عَلَى التَّسْبِيحِ كَمَا مَرَّ، وَعَلَيْهِ عَمَلُ الطَّائِفَةِ(172).
من ثمَّ احتمل المجلسي الأول أن لا يكون الشيخ الصدوق أيضاً ناظراً إلى الترتيب بل لذكر التسبيحات بغض النظر عن ترتيبها، فقال: الظاهر أن مراد الصدوق بالواو الترتيب، وإن احتمل أن يكون مراده مطلق الجمع لئلا يكون مخالفاً للأخبار مثل ما رواه الكليني والشيخ في الصحيح(173).
وبهذا يظهر أنَّ الرواية غير ناهضة لإثبات التخيير، بل يحتمل أن لا يكون الشيخ الصدوق أيضاً قائلاً بالتخيير.
الرواية الثانية
وهي رواية ابن فرقد، أنَّ شِهَابَ بْنَ عَبْدِ رَبِّهِ سَأَلَهُ أَنْ يَسْأَلَ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) وَقَالَ: قُلْ لَهُ إِنَّ امْرَأَةً تُفْزِعُنِي فِي المَنَامِ بِاللَّيْلِ.
فَقَالَ: قُلْ لَهُ: اجْعَلْ مِسْبَاحاً وَكَبِّرِ الله أَرْبَعاً وَثَلَاثِينَ تَكْبِيرَةً، وَسَبِّحِ الله ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ تَسْبِيحَةً، وَاحْمَدِ الله ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ(174)..
قال الشيخ المجلسي الأول بعد رواية الترتيب المشهور ثم هذه الرواية: وكلا الطريقين جائزٌ عند المنام جمعاً بين الأخبار، ويمكن حمل الطريق الثاني على التقية(175).
ويُلاحَظ على كلامه:
أنَّه لا كلام في جواز كلا الترتيبين، فالذِّكرُ مستحبٌّ بأيِّ صيغة اتَّفَق، ولَم يناقش أحدٌ في ذلك. وهذا الشيخ الطوسي القائل بالترتيب الذي عليه المشهور يقول: وفي أصحابنا من قدم التسبيح على التحميد، وكل ذلك جائز(176).
لكنَّ الكلام في أنَّ التسبيح الخاص الذي صار يُعرفُ ب(تسبيح فاطمة (عليها السلام)) هل له ترتيبٌ مخصوص هو المشهور المعروف؟
أم أنَّهُ يتحقَّق ويحصل الغرض منه ويترتب الثواب الخاص به بالإتيان بالتسبيحات المائة بأي ترتيب اتَّفَق؟
إنَّ مقتضى القاعدة هو ترتُّبُ الأثر الخاص عند الاتيان به بالصيغة الواردة فقط، وهي الصيغة المشهورة، وإن احتمل بعض العلماء التخيير في تقديم التسبيح على التحميد أو العكس، ومنهم المجلسي كما تقدم، والحر العاملي حيث أشار إلى أن أحد الوجوه هو: لِلْإِشَارَةِ إِلَى الجَوَازِ وَعَدَمِ وُجُوبِ التَّرْتِيبِ، فَيَرْجِعُ إِلَى التَّخْيِيرِ(177)، وصاحب الحدائق(178)، وردَّه صاحب مفتاح الكرامة بأنٍّه لا قائل به(179)، فإنَّهم وإن احتملوه إلا أن أحداً لم يقل به.
فما الحقُّ في ذلك؟ وكيف تعامَلُ الروايات المختلفة؟ هل تُحمَل على التخيير أم على التقيَّة؟
لقد احتمل المجلسي الأول إمكان حمل الرواية الثانية التي تخالف المشهور على التقيَّة، وقد تقدَّم كلامه، أشار أيضاً إلى هذا الوجه الحر العاملي(180).
لكن صاحب الحدائق ترقَّى في ذلك، فمنع من الحمل على التخيير تأسيساً، بمعنى أنه ما ارتضى كون التسبيح قد ورد على سبيل التخيير، وإن كان يجوز الاتيان بهذه التسبيحات على أيِّ نحوٍ بلا خلاف، لكنَّه عند مخالفته للمنصوص لا يكون مصداقاً لتسبيح فاطمة (عليها السلام).
فإمَّا أن تكون النصوص المخالفة للمشهور غير صريحةٍ في الترتيب، فتُحمَل على الترتيب الموافق للمشهور، أو تُحمَل على التقية، لموافقتها للعامة.
قال صاحب الحدائق: لما كان القول المشهور بين الطائفة المعتضد بالأخبار المتقدمة هو تقديم التكبير ثم التحميد ثم التسبيح، فلو سلمنا صراحة المخالف في المخالفة فالظاهر انه لا محمل له إلا التقية لموافقته لرواياتهم، ولا سيما ان طريق الخبر المذكور رجالهم(181).
فإنَّه لم يجد لهذه الروايات المخالفة للمشهور محملاً إلا التقية.
وقد رجَّحَ صاحب مفتاح الكرامة هذا الوجه، فقال: وأمّا الروايات الاخر الدالّة على تقديم التسبيح في حال النوم كما في خبر علي وفاطمة (عليهما السلام)، وكذا خبر شهاب، أو تعقيب الصلاة كما في خبر المفضّل، فيمكن حملها على التقية. ويؤيّده أنّ حديث علي وفاطمة (عليهما السلام) وإن رواه في الفقيه مرسلًا، إلّا أنّ ظاهر سنده في العلل أنّ رجاله إنّما هم من العامّة(182).
ولم يستبعد ذلك الشيخ موسى كاشف الغطاء حيث قال: ولو حملت على التقية لم يكن بعيداً(183).
بناء على هذا يكون الراجح حملُ الروايات المخالفة للمشهور على التقيَّة، وكذا حملُ كلمات العلماء الذين لم يذكروا الترتيب المشهور على عدم إرادتهم الترتيب، بل على ذكر التسبيحات بغض النظر عن ترتيبها، كما احتمل بعضُ العلماء كصاحب الجواهر حين قال: بل لعلهم جميعاً لا يريدون الترتيب، بل مطلق الجمع الذي لا ينافيه(184).
وعلى كلِّ تقدير، فإنَّه مع عدم ثبوت التخيير، وكون صريح الأخبار الموافقة للمشهور دالةً على الترتيب، تصل النوبة إلى الترجيح بين الطائفتين، فترجح الروايات الموافقة للمشهور.
قال صاحب الجواهر: وترجح بالشهرة فتوى وعملاً، وبقوة الدلالة، ضرورة أنه ليس في أخبار الخصم كخبر أبي بصير، كما أنه ليس فيها كصحيح ابن عذافر سنداً(185).
فمن وجوه أقوائية ما عمل به المشهور:
1. شهرته في الفتوى، بل تقدَّم أن أحداً لم يفتِ صريحاً بخلافه.
2. شهرته في العمل، وهو واضحٌ بين علماء الشيعة وعوامهم.
3. صحة وصراحة الروايات الدالة على الترتيب، بخلاف سائر الروايات فليس فيها شيءٌ صريحُ الدلالة على ذلك.
فإذا ضُمَّ إلى ذلك ما يشهد بتلاعُب القوم بالتسبيح، ومنه:
1. اختلاف الرواية المنقولة عن المخالفين بين الفقيه والعلل، وذلك من جهة الترتيب، مع وحدة الواقعة.
2. رواية البخاري لأربع نصوصٍ لا يتَّفق منها اثنان في الترتيب، بل روايته لما يُقتَصَرُ فيه على ثلاثين تسبيحة، ورواية غيره ما يقتصر فيه على ثلاثٍ وثلاثين، أو جعل كل تسبيحة خمساً وعشرين مع إضافة التهليل.
3. ترجيح أبي هريرة في البخاري للترتيب الذي ينقص من التسبيحات واحدة، فيخالف إجماع الشيعة، ويجعل التكبير مؤخراً لا مقدَّماً، فيخالف إجماعهم ثانية، ونسبة ذلك إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)(186).
كلُّ هذا يجعل احتمال الكذب عند القوم راجحاً، بل متعيِّناً، ويُرجِّحُ حمل الروايات المخالفة للمشهور عندنا على التقية، بل يعيِّنُه.
وعلى هذا يكون القدرُ المتيقَّن مما يحصل به الثواب المخصوص لتسبيح فاطمة الزهراء (عليها السلام) هو الكيفية المشهورة المعروفة المعمول بها بين الشيعة، سيَّما أنَّ: المقطوع به اتحاد كيفية تسبيح الزهراء (عليها السلام)(187)، وإن لم يحرُم غيرها.
ثمَّ إنَّه على فرض عدم تمامية شيء ممّا تقدَّم، وثبوت التخيير في رواياتنا، فإنَّه مقتصرٌ على التخيير بين التحميد والتسبيح، مع الاتفاق على تقديم التكبير عليهما، لكنَّ عدَّة صيغٍ من الصيغ التي أوردها البخاري وغيره لا توافق إجماع الشيعة، فيثبت بذلك تعمُّده أو رواة العامة التشويش على تسبيح فاطمة، كما تقدَّم.
هذا وقد احتمل صاحب الجواهر التخيير في الاتيان بالتحميد أو التسبيح بعد التكبير، بناءً على أنَّ بعض النصوص قد خصَّت التكبير بالتقدُّم، وقد خالف العامَّةُ في ذلك، فيكون ما خالف العامة هو الحق، وهو تقديم التكبير عليهما، سواء أعقبه التحميد كما هو المشهور أو أعقبه التسبيح كما هو ظاهرُ بعض الروايات.
وعلى هذا الوجه أيضاً لا يسلَمُ العامة من الإشكال، لأنَّهم خالفوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى في هذا المقدار، الذي لا بدَّ معه من تقديم التكبير.
وعلى هذا الوجه تكون الروايات الصريحة في الترتيب عندنا دالةً على الأفضلية، كما قال صاحب الجواهر: لإمكان إرادة أفضل الأفراد منه كما هو الشأن في غير المقام من مطلق المستحبات ومقيدها(188).
وعليه تُحمَل بعضُ النصوص الأخرى التي وردت فيها التسبيحات على على خلاف الصيغة المعروفة، كزيارة السيدة المعصومة (عليها السلام) المروية عن الإمام الرضا (عليه السلام): فَإِذَا أَتَيْتَ الْقَبْرَ فَقُمْ عِنْدَ رَأْسِهَا مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، وَكَبِّرْ أَرْبَعاً وَثَلَاثِينَ تَكْبِيرَةً، وَسَبِّحْ ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ تَسْبِيحَةً، وَاحْمَدِ الله ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ تَحْمِيدَةً، ثُمَّ قُلِ: السَّلَامُ عَلَى آدَمَ صَفْوَةِ الله(189).
النتيجة والثمرة
من الواضح أنَّ الاختلاف في الروايات عند الشيعة مقصورٌ على صورةٍ خاصة، بحيث يكون ما خالفَ المشهورُ منها محمولاً على التقيَّة، أو على التخيير في هذه الصورة.
وبهذا فإنَّ الشيعة وحدَهم هم من عرفوا قدر تسبيح الزهراء (عليها السلام)، والتزموا به دائماً، وحافظوا على صورته كما هو، فيما ضيَّعَهُ غيرهم، وكانت أسباب التضييع نسبته للزهراء (عليها السلام)، فصار المتلاعبون به مصاديق الحديث الشريف: إِنَّ النَّاسَ لَيْسَ شَيْءٌ أَبْغَضَ إِلَيْهِمْ مِنْ ذِكْرِ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ (عليهما السلام)(190).
وبأحاديثهم المكذوبة غُيِّبَ تسبيحُ فاطمة الزهراء (عليها السلام) عن المسلمين، ولم يواظب عليه أحدٌ كما فعل الشيعة.
ولا عجب أن تُحرَمَ الأمَّة بركات هذا التسبيح، فإنَّها بظُلمِها لآل محمدٍ حُرِمَت رحمةَ الله تعالى، وهي مستحقِّةٌ لذلك، بقبيح فِعالِها، وتقديمها الأجلاف القُساة على الأطهار الأبرار.
والحمد لله رب العالمين(191).
11. فرحة الزَّهراء.. عيدٌ وسُرورٌ لآل الرَّسول!
بسم الله الرحمن الرحيم
تَلهَجُ الزَّهراء (عليها السلام) بالحقّ، وتُتِمُّ حجَّتَهَا على الحاكم الأول، فيكتب لها كتاباً بِرَدِّ فدك!
تخرُج فيستقبلُها الآخر، يأخُذُ الكتاب منها.. يتفُلُ فيه ويمزِّقُه!
تخاطبُه الزهراء (عليها السلام): مَا لَكَ؟ لَا أَمْهَلَكَ الله، وَقَتَلَكَ، وَمَزَّقَ بَطْنَك(192).
كلامُ سَيِّدَةِ النِّساء هذا هو دُعاءٌ بالانتقام من الظالم، وليس الإنتقام نَقصاً أو عيباً، بل هو الكمالُ بعينه عندما يستند إلى العدل، فيُكافَأ الظالمُ عقوبةً على ما جَنَت يداه، قال تعالى: ﴿إِنَّا مِنَ المُجْرِمينَ مُنْتَقِمُونَ﴾(193).
والانتقام قد يبدأ من دار الدُّنيا، كما في قصة آل فرعون: ﴿فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي اليَمِّ﴾ (194)، ثم ينضمُّ إليه انتقام الآخرة: ﴿يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ﴾ (195).
والنّقمة هي (المكافأَة بالعقوبة)، والبطش هو (الأخذ الشديد).
وقد تكون النِّقمة في الدُّنيا عذاباً مباشراً ينزله الله تعالى، أو يسلِّط الله على الظالمين من يعاقبهم انتقاماً، كما سَلَّطَ على قاتل الزَّهراء (عليها السلام) من ينتقم منه.
كانت يداً نَجِسَةً مَزَّقَت للزهراء كتابها، ثمَّ امتدّت إليها سلام الله عليها، مِنَ الرَّجل الذي: (لَطَمَ وَجْهَ الزَّكِيَّةِ!) (196).
فما كان إلا أن دَعَت عليه، واستجابَ الله تعالى دعاءها، ثم جَعَلَ يوم الاستجابة يوماً عظيماً مُقابلَ أيام الظُّلامة والمآسي.
واتَّصَفَ هذا اليوم في روايات آل محمدٍ بصفاتٍ جليلة منها أنّه:
1. يَوْمُ نَزْعِ السَّوَادِ!
إنَّ أحزانَ آل محمد (عليهم السلام) عظيمةٌ، وأشدّها على قلوبهم أيام الحسين (عليه السلام)، فيبدأ حزنهم من عاشورائه إلى أربعينه، حتى شهادة الرَّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وما تلبث الأحزان أن تتجدَّدَ بالهجوم على الدّار وإسقاط الجنين.
لا يُنزَعُ السواد عند الشيعة منذ بداية محرم إلا في تاسع ربيع، في اليوم الذي يلي شهادة الإمام العسكري (عليه السلام).
فما الذي جرى حتى نَزَعَ الشيعةُ السوادَ في هذا اليوم؟
إنّه اليوم الذي: أَقَرَّ الله بِهِ عَيْنَ آلِ الرَّسُولِ! كما عن أمير المؤمنين (عليه السلام)(197).
هُوَ يومٌ مباركٌ كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يهنئ فيه الحسنين ويبارك لهما فيه ويقول:
كُلَا، هَنِيئاً لَكُمَا بِبَرَكَةِ هَذَا اليَوْمِ، فَإِنَّهُ اليَوْمُ الَّذِي يُهْلِكُ الله فِيهِ عَدُوَّهُ وَعَدُوَّ جَدِّكُمَا، وَيَسْتَجِيبُ فِيهِ دُعَاءَ أُمِّكُمَا! (198).
عندما يُهلِكُ الله تعالى عدواً له مستجيباً لدعاء الزَّهراء (عليها السلام)، ينزعُ المؤمن السواد استبشاراً بانتقام الله تعالى لها، واستجابَةِ دعائها، ونصرها، كيف لا وهي التي (اسْمُهَا فِي السَّمَاءِ المَنْصُورَة)! (199).
فأوَّلُ ما يُفعَلُ في هذا اليوم هو نَزعُ السواد، حباً لمحمد وآل محمد (عليهم السلام).
2. يَوْمُ عِيدِ الله الأَكْبَرِ!
ينزعُ المؤمنون السوادَ في هذا اليوم، ثم يَتَعيَّدون كما كان يفعل أئمتهم الأطهار، فقد روي أنَّ الإمام المعصوم (عليه السلام): قَدْ أَوْعَزَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ خَدَمِهِ أَنْ يَلْبَسَ مَا يُمْكِنُهُ مِنَ الثِّيَابِ الجُدُدِ، في مثل هذا اليوم..
إنَّهُ الإمتثال لأمر الله تعالى، وقد أوحى عزّ وجل إلى خير خلقه (صلى الله عليه وآله وسلم):
يَا مُحَمَّدُ! .. إِنِّي قَدْ أَمَرْتُ مَلَائِكَتِي فِي سَبْعِ سَمَاوَاتِي (وشيعتك ومحبّيك) أَنْ يَتَعَيَّدُوا فِي هَذَا اليَوْمِ الَّذِي أَقْبِضُهُ إِلَيَّ ..
يَا مُحَمَّدُ! إِنِّي قَدْ جَعَلْتُ ذَلِكَ اليَوْمَ عِيداً لَكَ وَلِأَهْلِ بَيْتِكَ وَلِمَنْ تَبِعَهُمْ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَشِيعَتِهِمْ، وَآلَيْتُ عَلَى نَفْسِي بِعِزَّتِي وَجَلَالِي وَعُلُوِّي فِي مَكَانِي لَأَحْبُوَنَّ مَنْ تَعَيَّدَ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ مُحْتَسِباً ثَوَابَ الخَافِقَيْنِ! (200).
الآمِرُ بالتعيُّد هنا هو الله تعالى، ﴿وَالله عَزيزٌ ذُو انْتِقامٍ﴾(201)، وقد حانَت ساعة الإنتقام الأوَّل في دار الدّنيا مما جرى على الزَّهراء (عليها السلام)، فصار اليومُ الذي قبضَ الله فيه عدوَّه الظالم لها عيداً.
إنَّ رَبَّ السماوات والأرض هو الذي جَعَلَ هذا اليوم عيداً، وهو لا يختص بالملائكة، بل هو عيدٌ لخير خلقه وأحبِّهم إليه (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولأهل بيته (عليهم السلام)، ومَن شايعهم وأحبهم واتّبعهم، ليثيبهم على ذلك عطاءً جزيلاً.
فماذا يعني ذلك؟!
لسنا نزعمُ الإحاطة بما يستبطن التعيُّد في هذا اليوم من حِكَمٍ على كثرَة ما يظهر منها، ولكن يكفينا قولُ أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهجه الشريف: كُلُّ يَوْمٍ لَا يُعْصَى الله فِيهِ فَهُوَ يَوْمُ عِيدٍ!(202).
فكيف يكون اليومُ الذي يُقتلُ فيه من كان رأساً لكلّ المعاصي، وقد ورد عنهم (عليهم السلام): وَمَا مِنْ مِحْجَمَةِ دَمٍ تُهَرَاقُ إِلَّا وَهِيَ فِي رِقَابِهِمَا!(203).
لقد قبضَ الله في هذا اليوم من أسَّسَ أساس الظُّلم والجور على آل محمد، ومَن فتح باب أعظم المعاصي على مصراعيه، وأبشع الظلامات على آل محمد، فكان يوم الانتقام منه (عيد الله الأكبر)، وكان (يَوْم فَرَحِ الشِّيعَةِ)، و(يَوْم سُرُورِ أَهْلِ البَيْتِ)!
فهنيئاً لمَن تعيَّدَ فيه وتقرَّبَ إلى الله تعالى بذلك.
3. يَوْمُ الغَدِيرِ الثَّانِي!
لَقَد وُصِفَ هذا اليوم بأنَّهُ (يَوْمُ الغَدِيرِ الثَّانِي)، وبما وصف به الغدير الأول، فالغدير المعروف هو: عِيدُ الله الأَكْبَر(204)، ويوم فرحة الزَّهراء كذلك!
فلماذا اشتركا في هذين الوصفين؟ وماذا يعني ذلك؟
لقد وُصِفَ الغدير على لسان أمير المؤمنين (عليه السلام) بأنّه: يَوْمُ دَحْرِ الشَّيْطَانِ!(205)، وعلى لسان الإمام الرضا (عليه السلام) بأنّه: يَوْمُ مَرْغَمَةِ الشَّيْطَانِ!(206).
وشابَهَهُ يومُ فرحة الزهراء لأنَّهُ: يَوْمُ هَدْمِ الضَّلَالَةِ! ولأنّه: اليَوْمُ الَّذِي يَتَكَسَّرُ فِيهِ شَوْكَةُ مُبْغِضِ جَدِّكُمَا! كما عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للحسنين (عليهما السلام).
فقد عَظُمَ أمرُ عيد الغدير الأوَّل حيث أُرغِمَ أنفُ الشيطان فيه، وقد صار رَمزاً للولاية الحقة، والإمامة العظمى.
وعَظُمَ أمرُ عيد الغدير الثاني حيث قُتِلَ فيه من أسَّسَ أساس الظُّلم والجور وفَتَحَ بابَ الضلالة، وانكسرت شوكته، وقد صار رمزاً للبراءة.
وقد روي عَنِ الرِّضَا (عليه السلام) أَنَّهُ قَالَ: كَمَالُ الدِّينِ:
1. وَلَايَتُنَا.
2. وَالبَرَاءَةُ مِنْ عَدُوِّنَا(207).
فالغديرُ الأول رمزُ الولاية الأعظم، والغديرُ الثاني رمزُ البراءة الأوضح.
وبالولاية والبراءة يكمُلُ الدِّين، وينقص بنقصان أحد هذين الركنين.
بهذا صار يوم التاسع من ربيع الأول عيداً عظيماً من أعياد الله، ورمزاً للبراءة من أعداء الله.
ولا يزال المؤمنون يستذكرون فيه وفي غيره من الأيام وليَّ أمرهم وإمام عصرهم الحجة بن الحسن المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، وينتظرون طلعته البهيّة، ويعلمون أنّ تمام هذا السُّرور في أخذه بالثار، وانتقامه من ظالمي آل محمد في الدُّنيا قبل الآخرة.
اللهم أقرَّ عيوننا برؤيته، واجعلنا من جنده، الذين تُدخل بهم السرور على أوليائك، بالانتقام من أعدائك، يا أرحم الراحمين.
والحمد لله رب العالمين(208).
(1) كورنثوس الأولى15: 41.
(2) متى2: 2.
(3) متى2: 9.
(4) متى9: 11.
(5) الأناجيل النصوص الكاملة ص589.
(6) الأناجيل المنحولة ص45.
(7) الأناجيل النصوص الكاملة ص593.
(8) سفر حيلامان14: 3-6.
(9) الأمالي للصدوق ص593.
(10) الأمالي للصدوق ص595.
(11) في 18 جمادى الثاني 1442 هـ، الموافق 1 - 2 - 2021 م.
(12) يوحنا8: 12.
(13) متى17: 2.
(14) يوحنا9: 5.
(15) الكافي ج1 ص440.
(16) الكافي ج1 ص441.
(17) الكافي ج2 ص9.
(18) البقرة253.
(19) الإسراء55.
(20) أي العمر الطويل المديد.
(21) التوحيد للصدوق ص397.
(22) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج1 ص263.
(23) الأربعاء 20 جمادى الثاني 1442 هـ الموافق 3 - 2 - 2021 م.
(24) فضائل الأشهر الثلاثة ص99.
(25) البُهَم: الظُّلَم، جمع ظُلمة.
(26) امتهن: استخدم واستعمل واستخدم.
(27) الصحيفة السجادية، الدعاء43.
(28) الإرشاد ج2 ص368.
(29) فضائل الأشهر الثلاثة ص108.
(30) فضائل الأشهر الثلاثة ص110.
(31) معاني الأخبار ص396.
(32) تأويل الآيات الظاهرة ص144.
(33) هو نوعُ تشبيهٍ، فإنَّ القُرطَ هو الذي يعلَّق في شحمة الأذن.
(34) نوادر المعجزات ص195.
(35) ليلة الأربعاء، الليلة الأولى من شهر رمضان المبارك 1442 هـ الموافق 13 - 4 - 2021 م.
(36) المزار الكبير (لابن المشهدي) ص297.
(37) طرف من الأنباء والمناقب ص168.
(38) العين ج2 ص224.
(39) بصائر الدرجات ج1 ص57.
(40) مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) ج2 ص387.
(41) الكافي ج1 ص287.
(42) المائدة106، والمراد الإشارة إلى الأمر بالوصية في قوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ حينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُم﴾.
(43) الأمالي للطوسي ص156.
(44) الكافي ج2 ص46.
(45) الكافي ج5 ص239.
(46) آل عمران44.
(47) تحفة الأبرار ص171.
(48) مصباح الزائر ص٤٧٨.
(49) الكافي ج2 ص104.
(50) من لا يحضره الفقيه ج4 ص15.
(51) الكافي ج2 ص152، فيُكبُّ في النار ويُقلَبُ فيها.
(52) ثواب الأعمال ص285.
(53) الكافي ج2 ص46.
(54) الإنسان3.
(55) الثلاثاء 6 رجب 1443 هـ الموافق 8 – 2 – 2022 م.
(56) البلد الأمين ص325.
(57) النمل14.
(58) تهذيب الأحكام ج6 ص10.
(59) تهذيب الأحكام ج6 ص11.
(60) الفرقان48.
(61) الأنفال11.
(62) تفسير العياشي ج2 ص50.
(63) المائدة100.
(64) الأنفال 36-37.
(65) الأربعاء 7 رجب 1443 هـ الموافق 9 – 2 – 2022 م.
(66) إبراهيم24.
(67) كتاب العين ج2 ص126.
(68) معجم مقائيس اللغة ج4 ص491.
(69) بصائر الدرجات في فضائل آل محمد صلى الله عليهم ج1 ص60.
(70) بصائر الدرجات في فضائل آل محمد صلى الله عليهم ج1 ص59.
(71) بصائر الدرجات في فضائل آل محمد صلى الله عليهم ج1 ص60.
(72) معاني الأخبار ص400.
(73) تفسير فرات الكوفي ص395.
(74) بصائر الدرجات في فضائل آل محمد صلى الله عليهم ج1 ص59.
(75) فقد ورد في الحديث أنَّها سُمِّيَت فاطمة: لِأَنَّ الخَلْقَ فُطِمُوا عَنْ مَعْرِفَتِهَا (تفسير فرات الكوفي ص581).
(76) بصائر الدرجات في فضائل آل محمد صلى الله عليهم ج1 ص59.
(77) إقبال الأعمال ج2 ص625.
(78) الأمالي للطوسي ص668.
(79) الكافي ج1 ص441.
(80) دلائل الإمامة ص106.
(81) بصائر الدرجات في فضائل آل محمد صلى الله عليهم ج1 ص59.
(82) كما عن الباقر (عليه السلام) في دلائل الإمامة ص105.
(83) الأحد العاشر من ربيع الثاني 1444 هـ، الموافق 6 - 11 - 2022م.
(84) لوقا1: 28.
(85) لوقا1: 30.
(86) المائدة75.
(87) الأمالي للصدوق ص22.
(88) طرف من الأنباء والمناقب ص169.
(89) الدعوات للراوندي ص58.
(90) الأنبياء91.
(91) المؤمنون50.
(92) مريم21.
(93) تفسير فرات ص533.
(94) تهذيب الأحكام ج7 ص470.
(95) الكافي ج1 ص465.
(96) آل عمران46.
(97) الأمالي للصدوق ص593.
(98) الأمالي للصدوق ص595.
(99) مناقب آل أبي طالب (عليهم السلام) ج2 ص172.
(100) كمال الدين وتمام النعمة ج2 ص428.
(101) الخرائج والجرائح ج1 ص455.
(102) مريم23.
(103) بحار الأنوار ج14 ص226.
(104) مريم27.
(105) الأمالي للصدوق ص 114.
(106) كتاب سليم بن قيس الهلالي ج2 ص585.
(107) طرف من الأنباء والمناقب ص168.
(108) طرف من الأنباء والمناقب ص168.
(109) طرف من الأنباء والمناقب ص169.
(110) روى ابن طاووس قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام): ويلٌ لمن آذى جنينها، وشجّ جنبيها (طرف من الأنباء والمناقب ص169)، فيكون على وزان قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): وَخَلِّدْ فِي نَارِكَ مَنْ ضَرَبَ جَنْبَيْهَا حَتَّى أَلْقَتْ وَلَدَهَا (بشارة المصطفى ج2 ص199)، لكنَّنا نحتمل أن يكون اللفظ (شجَّ جبينها) بدل (شجَّ جنبيها)، لأنَّ: الشَّجّ: كسر الرأس.. والشَّجَج: أثر شَجَّة في الجبين (كتاب العين ج6 ص4)، ولأن: الشَّجُّ فى الرأس خاصّة في الأصل، وهو أن يضربه بشيء فيجرحه فيه ويشقّه، ثم استعمل فى غيره من الأعضاء (النهاية في غريب الحديث ج2 ص445).
(111) الأمالي للصدوق ص114.
(112) تفسير فرات الكوفي ص445.
(113) الثلاثاء الثاني عشر من ربيع الثاني 1444 هـ، الموافق 8 - 11 - 2022م.
(114) أي عطيَّةٌ أو هبةٌ من غير عِوَض.
(115) الكافي ج3 ص342.
(116) دعائم الإسلام ج1 ص168.
(117) علل الشرائع ج2 ص366.
(118) تهذيب الأحكام ج2 ص116.
(119) الكافي ج3 ص342.
(120) الكافي ج3 ص343.
(121) أي عقيب كلّ صلاة.
(122) الكافي ج3 ص343.
(123) الكافي ج3 ص342.
(124) دعائم الإسلام ج1 ص168.
(125) ثواب الأعمال ص163.
(126) الكافي ج8 ص159.
(127) الكافي ج3 ص343، والشقاء خلافُ السعادة، وقد يُراد منها الشقاوة الأخروية بمعنى سوء العاقبة.
(128) الكافي ج2 ص500.
(129) الأحزاب41.
(130) معاني الأخبار ص193.
(131) معاني الأخبار ص194.
(132) وسائل الشيعة ج6 ص447.
(133) الكافي ج2 ص499.
(134) الأربعاء 22 جمادى الأولى 1442 هـ الموافق 6 - 1 - 2021 م.
(135) الكافي ج1 ص62.
(136) رجال الكشي ص136.
(137) علل الشرائع ج2 ص531.
(138) الكافي ج3 ص342.
(139) المحاسن ج1 ص36، والكافي ج3 ص342.
(140) الكافي ج8 ص159.
(141) صحيح مسلم ج2 ص98.
(142) صحيح البخاري ج4 ص46.
(143) صحيح البخاري ج4 ص48.
(144) صحيح البخاري ج4 ص48.
(145) صحيح البخاري ج4 ص208.
(146) صحيح البخاري ج6 ص193.
(147) صحيح البخاري ج7 ص149.
(148) صحيح البخاري ج1 ص205.
(149) الخميس 23 جمادى الأولى 1442 هـ الموافق 7 - 1 - 2021 م.
(150) بحار الأنوار ج82 ص336.
(151) مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة ج7 ص609.
(152) صحيح البخاري ج٦ ص١٥١.
(153) صحيح مسلم ج٢ ص٩٨.
(154) سنن الترمذي حديث3413.
(155) المحاسن ج1 ص36، والكافي ج3 ص342.
(156) المقنعة ص114.
(157) المبسوط في فقه الإمامية ج1 ص117.
(158) مختلف الشيعة في أحكام الشريعة ج2 ص182.
(159) قال أنه: أشهر وأقوى (بحار الأنوار ج82 ص336).
(160) وسائل الشيعة ج6 ص445.
(161) جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام ج10 ص399.
(162) من لا يحضره الفقيه ج1 ص320.
(163) من لا يحضره الفقيه ج1 ص320-321.
(164) يراجع هامش بحار الأنوار ج82 ص338.
(165) مختلف الشيعة في أحكام الشريعة ج2 ص183.
(166) علل الشرائع ج2 ص366.
(167) بحار الأنوار ج82 ص340.
(168) الكافي ج2 ص536.
(169) مختلف الشيعة في أحكام الشريعة ج2 ص185.
(170) مفتاح الفلاح في عمل اليوم والليلة ص278.
(171) مفتاح الفلاح في عمل اليوم والليلة ص279.
(172) وسائل الشيعة ج6 ص445.
(173) روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه ج2 ص363.
(174) الكافي ج2 ص537.
(175) روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه ج2 ص670.
(176) المبسوط في فقه الإمامية ج1 ص117.
(177) وسائل الشيعة ج6 ص446.
(178) الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة ج8 ص522.
(179) مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة ج7 ص614.
(180) وسائل الشيعة ج6 ص446، و هداية الأمة إلى أحكام الأئمة - منتخب المسائل ج3 ص188.
(181) الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة ج8 ص523.
(182) مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة ج7 ص613.
(183) منية الراغب في شرح بلغة الطالب ص312.
(184) جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام ج10 ص400.
(185) جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام ج10 ص401.
(186) صحيح البخاري ج1 ص205.
(187) جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام ج10 ص402.
(188) جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام ج10 ص403.
(189) بحار الأنوار ج99 ص266.
(190) الكافي ج8 ص159.
(191) الثلاثاء الخامس من ربيع الثاني 1444 هـ، الموافق 1 - 11 - 2022م.
(192) دلائل الإمامة ص120.
(193) السجدة22.
(194) الأعراف136.
(195) الدخان16.
(196) بحار الأنوار ج31 ص126.
(197) بحار الأنوار ج31 ص127.
(198) بحار الأنوار ج31 ص122.
(199) تفسير فرات الكوفي ص321.
(200) بحار الأنوار ج31 ص125.
(201) آل عمران4.
(202) نهج البلاغة، حِكَمُ أمير المؤمنين (عليه السلام).
(203) تقريب المعارف ص247.
(204) تهذيب الأحكام ج3 ص143.
(205) مصباح المتهجد ج2 ص756.
(206) إقبال الأعمال ج1 ص464.
(207) مستطرفات السرائر ص266.
(208) ليلة التاسع من ربيع الأول 1443 هـ الموافق 15 - 10 - 2021 م.