بسم الله الرحمن الرحيم
(يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَه أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرين..) (المائدة54)
المؤمنُ قد يرتدّ عن دينه إذاً.. ومفادُ الآية الشريفة في ذلك جَليٌّ بَيِّن..
وقد روينا عن الباقر والصادق عليهما السلام أنّ تأويل هذه الآية في عليٍّ عليه السلام..
وتأويلها في عليٍّ يحتمل وجهين:
أوّلهما: أنّ مَن يرتد عن ولاية علي عليه السلام، فقد ارتدّ عن دينه.
ثانيهما: أن من يرتدّ عن دينه، فسوف يأتي الله بقوم يحبّهم وهم عليٌّ وآله.
أما الشاهد على المعنى الأول، فهو قوله تعالى:
(وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ..) (آل عمران144)
الانقلاب على الأعقاب إذاً هو الانقلاب على ولاية أمير المؤمنين عليه السلام، حتى ورد في الحديث عن الباقر عليه السلام: ارْتَدَّ النَّاسُ بَعْدَ النَّبِيِّ ص إِلَّا ثَلَاثَةَ نَفَرٍ.. ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ عَرَفُوا وَلَحِقُوا بَعْدُ (الإختصاص ص6).
هَلَكَ أهل الشرق والغرب بالرِدَّة عن ولاية عليه السلام، ومخالفة أمر الله تعالى، حتى قال الصادق عليه السلام:
هَلَكَ النَّاسُ أَجْمَعُونَ.. إِنَّهَا فُتِحَتْ عَلَى الضَّلَالِ (الإختصاص ص6).
رايةُ الضلال هذه قد ارتفعت أعلامها وأميرُ المؤمنين عليه السلام حيٌّ يُرزق!
رايةُ الضلال التي هَدَرَ معها فَنيقُ الباطل بعد كُظُوم، سَقَطَ فيها القاصي والداني، قبل أن يعرف الناس الحق ويلحقوا بالمؤمنين الثابتين، وهم قلّة!
فهل كان هذا الامتحانُ مُختصاً بالحاضرين في زمن أمير المؤمنين؟
أم أن قانون الإمتحان والاختبار الإلهيّ لبني البشر سيّالٌ في كلّ حين؟
دلائلُ العقل والنقل تؤكد الثاني، أحسب الناس أن يتركهم ربهم سُدىً دون امتحان؟!
وامتحانُ الشيعة في زمن الغيبة كامتحان المؤمنين في زمن الحضور!
امتحانٌ يعني السقوط فيه (الرِّدة) عن دين الله.. فيصير المُرتدُّ منقلباً على الأعقاب، كأصحاب السقيفة وأتباعهم!
هل يُعقل هذا؟
هل يمكن أن يصير المؤمن الموالي لمحمدٍ وآله قريناً لأتباع السقيفة؟!
نعم.. لو لم يثبت على دينه فإنه وإياهم في درك الجحيم.. فليس بين الله وبين الشيعة قرابة! وإنما أحبّهم لطاعتهم له في أحب الأشياء إليه.. التوحيد والنبوة والولاية..
ههنا يكشفُ لنا الإمام الهادي عليه السلام عن سِتارٍ خفيٍّ تجري خلفه أحداثٌ عظيمة لا نكاد نراها..
فيبيّن لنا أن (العلماء في زمن الغيبة) هم الذين يحفظون (المؤمنين) من (الرِّدة)!
فيقول عليه السلام:
لَوْ لَا مَنْ يَبْقَى بَعْدَ غَيْبَةِ قَائِمِكُمْ (ع) مِنَ الْعُلَمَاءِ الدَّاعِينَ إِلَيْهِ، وَالدَّالِّينَ عَلَيْهِ، وَالذَّابِّينَ عَنْ دِينِهِ بِحُجَجِ اللَّهِ، وَالْمُنْقِذِينَ لِضُعَفَاءِ عِبَادِ اللَّهِ مِنْ شِبَاكِ إِبْلِيسَ وَمَرَدَتِهِ، وَمِنْ فِخَاخِ النَّوَاصِبِ، لَمَا بَقِيَ أَحَدٌ إِلَّا ارْتَدَّ عَنْ دِينِ اللَّه (الإحتجاج ج1 ص18)
يتّصفُ العلماء في هذا العصر بأنهم:
1. داعون إلى الله تعالى، بالقول والفعل.
2. يدلّون عليه، فلو أردتُ الوصول إلى الله تعالى وما دلّني أحدٌ على طريق الوصول إليه لوصلتُ إلى سواه، ففضلاً عن دعوتهم لله تعالى يرشدون الناس إلى الطريق الموصل إليه.
3. يذبّون عن دينه بحجج الله.
فيدافعون عن العقيدة الحق والشريعة المُحِقَّة، لا بالباطل، بل بحُجَج الله تعالى، بالعقل القطعي الذي لا يقبل الشك، وبالقرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل، وبأحاديث النور عن لسان العترة الطاهرة، فيُكتب لهم الفلاح والنجاح لِتَمَسُّكهم بحجج الله.
4. وهم المنقذون لضعفاء عباد الله..
المنقذُ الحقيقيُّ هو الله تعالى، لكن بتوسطهم، كلّ هذا بعين صاحب الزمان إمامنا الحجة عليه السلام..
ولهذا الإنقاذِ سِمَةٌ بالغة الخطورة، فإن الشِّباك التي يكاد يسقط فيها الضعفاء من عباد الله ليست شباك صيدٍ ولا لَعِبٍ ولا لهوٍ، إنّها شباك إبليس ومردته، عدوّ الإنسان الأول..
والمُنقذُ للمؤمن من هذه الشباك في زمن الغيبة هم العلماء..
ثم هم المنقذون أيضاً من فِخاخ النواصب، وفِخاخُهم مصائدُهم، وكم يتفنّن النواصب وأذنابهم في إخفاء المَصيَدة حتى يقع فيها المؤمنون؟
وكم يغفل المؤمن عن مثل هذه الفِخاخ والمصائد حتى لا يكون له مُنقذٌ منها إلا العلماء.
وههنا بيتُ القصيد..
لولا أن العلماء في زمن الغيبة يقومون بهذه الأدوار الأربعة:
يقول عليه السلام:
لَمَا بَقِيَ أَحَدٌ إِلَّا ارْتَدَّ عَنْ دِينِ اللَّه!
كلُّ مؤمنٍ مُعَرَّضٌ للرِّدة في زمن الغيبة! بل كلُّ مؤمن سيرتدُّ في زمن الغيبة لولا أن هناك فئةً من الناس قد امتثلت أمر الله تعالى في التفقُّه في الدين.. والدفاع عن عقيدة المؤمنين.. حتى صار العلماء على مر العصور والدهور حُماةً للشريعة، وحصوناً للإسلام.
يُكمل الإمام عليه السلام حديثه:
وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يُمْسِكُونَ أَزِمَّةَ قُلُوبِ ضُعَفَاءِ الشِّيعَةِ، كَمَا يُمْسِكُ صَاحِبُ السَّفِينَةِ سُكَّانَهَا، أُولَئِكَ هُمُ الْأَفْضَلُونَ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَ.
أزمّةُ قلوب ضعفاء الشيعة بيد العلماء..
يتشرَّفُ الجميع.. العالِمُ والمتعلِّمُ من الشيعة بسفينة المعصومين عليهم السلام..
وفي زمن غيبة الإمام، الراعي للعلماء والمتعلمين، يزداد دورُ هؤلاء العلماء خطورةً، فَكَم هو عظيمٌ عند الله الإمساكُ بقلوب ضعفاء الشيعة، وكم هو خطيرٌ عند الله التفريطُ فيها!
كم هي ثقيلةٌ هذه المسؤولية على العلماء! وكم هو دقيقٌ حالُ عموم الشيعة!
لم يترك الأئمة شيعتَهم دون بيانٍ وتبيين، فعرف الشيعة أهميّة الأخذ عن العلماء، فتمسّكوا بعلمائهم حقّ تمسُّكٍ، فعصمهم ذلك عن الرِّدة في زمن الغيبة..
وكما تمسّكوا بأهدابهم في الدنيا، سيتعلَّقون بشُعَبِ أنوارهم في الآخرة..
ففي الحديث الشريف: يَأْتِي عُلَمَاءُ شِيعَتِنَا الْقَوَّامُونَ بِضُعَفَاءِ مُحِبِّينَا وَأَهْلِ وَلَايَتِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْأَنْوَارُ تَسْطَعُ مِنْ تِيجَانِهِمْ..
فَلَا يَبْقَى هُنَاكَ يَتِيمٌ قَدْ كَفَلُوهُ، وَمِنْ ظُلْمَةِ الْجَهْلِ عَلَّمُوهُ، وَمِنْ حَيْرَةِ التِّيهِ أَخْرَجُوهُ، إِلَّا تَعَلَّقَ بِشُعْبَةٍ مِنْ أَنْوَارِهِمْ، فَرَفَعَتْهُمْ إِلَى الْعُلُوِّ، حَتَّى تُحَاذِيَ بِهِمْ فَوْقَ الْجِنَانِ، ثُمَّ يُنْزِلُهُمْ عَلَى مَنَازِلِهِمُ الْمُعَدَّةِ فِي جِوَارِ أُسْتَادِيهِمْ وَمُعَلِّمِيهِمْ، وَبِحَضْرَةِ أَئِمَّتِهِمُ الَّذِينَ كَانُوا إِلَيْهِمْ يَدْعُونَ.. (الإحتجاج ج1 ص18)
هيَ ساعةُ السرور والحبور لهؤلاء وهؤلاء.. العلماء أصحاب التيجان والأنوار.. والمتعلِّقون بالأنوار.. ليأخذ الله تعالى بالجميع إلى حضرة الأئمة المعصومين عليهم السلام.. أصحاب الفضل كلِّه..
وَلَا يَبْقَى نَاصِبٌ مِنَ النَّوَاصِبِ يُصِيبُهُ مِنْ شُعَاعِ تِلْكَ التِّيجَانِ إِلَّا عَمِيَتْ عَيْنُهُ، وَأَصَمَّتْ أُذُنُهُ، وَأَخْرَسَ لِسَانُهُ، وَتَحَوَّلَ عَلَيْهِ أَشَدَّ مِنْ لَهَبِ النِّيرَانِ، فيَحْمِلُهُمْ حَتَّى يَدْفَعَهُمْ إِلَى الزَّبَانِيَةِ فَيَدْعُونَهُمْ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ..
هذا ما ينالُه الشيعة يوم الحساب.. وما يُصيب النواصب أصحاب الفِخاخ والمصائد والمكائد أجارنا الله منهم..
هذه بعضُ بَرَكاتِ محمدٍّ وآله عليهم السلام.. وما خفي أعظم..
والحمد لله رب العالمين
الأحد 20 ربيع الثاني 1442 هـ
6 - 12 - 2020 م
بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
|