بسم الله الرحمن الرحيم
(وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) (الانشقاق18-19)
أمَّةُ الإسلام ستركب كُلَّ طَبَقٍ ركبته الأمم السابقة..
إخبارٌ غيبيٌّ من علّام الغيوب، مَن كان أقرب إلينا من حبل الوريد، المطّلع على السرّ وأخفى، ينبؤنا أن هذه الأمة ستسير على سنن الأمم السابقة..
أما في أمر الإمامة وتضييع خلفاء الله في أرضه وسلبهم حقّهم، فقد روينا عن الباقر عليه السلام قوله:
يَا زُرَارَةُ، أَوَ لَمْ تَرْكَبْ هَذِهِ الْأُمَّةُ بَعْدَ نَبِيِّهَا طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ فِي أَمْرِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ وَفُلَان.. (الكافي ج1 ص415).
وأما في زمن الغيبة، فكان لا بدّ من أن يستوفي الإمام الغائب مدّة كل غيبة غابها نبيٌّ عن قومه، بعد أن وقع على الأئمة كلّ ظلم ارتكبته الأمم السابقة، فقد روينا عن الصادق عليه السلام:
إِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ يَا سَدِيرُ مِنِ اسْتِيفَاءِ مدَدِ غَيْبَاتِهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَق) (كمال الدين ج2 ص481).
وما بين هذا وذاك.. أمر الإمامة وأمر الأمّة حين فقدت إمامها.. ركب المسلمون الأطباق، وساروا على سُنن من كان قبلهم كما أخبر من قبلُ رسول الله (ص): لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ: حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ وَالْقُذَّةِ بِالْقُذَّة.. (تفسير القمي ج2 ص413)
وإحدى هذه السُنن.. التضييق على النفس والتشديد عليها بما لم يأمر به الله تعالى!
لقد روي عن رسول الله (ص) أنّه قال: الجهلُ رأس الشرّ كلّه! (بحار الأنوار ج74 ص175)
الجهلُ أيها الأحبّة يهدم أمماً وأُسَراً ونفوساً!
إذا عرَفتَ ما أراد ربُّك منك أمكن لك الامتثال لأمره والكفّ عما نهى عنه، لكن لو جَهِلتَ ما أراد، ثم زعمت أنّه كلّفك بما لم يكلّفك به، وأنّه حمّلك فوق طاقتك ووسعك، تكون قد شدّدت على نفسك وظلمتها!
إنّ لبني إسرائيل قصّةٌ مع البقرة وذبحها أشهر من أن تُعرَّف.. حينما قتل رجلٌ منهم قرابةً له وطرحه على طريق أفضل سبطٍ من أسباط بني إسرائيل ثم جاء يطلب بدمه..
تبدأ ههنا نماذج ركوب الأطباق في هذه الأمّة.. والاستنان بالسنن:
1. قتلُ النفس التي حرّم الله قتلها..
ألم يُقتل خير الخلق محمد صلى الله عليه وآله ظلماً وعدواناً ثم بضعته وصهره وذريته؟! وكم سارت هذه الأمة على تلك السنة الباطلة ولا تزال؟!
2. الكذب والافتراء على الأسباط..
حين يَتَّهِمُ القاتل الكاذبُ البريء الصادق! ثم يطلب القاتل بدم القتيل!
كم لهذا من نماذج في أمّتنا منذ شهادة نبيّنا وإلى يومنا هذا؟! أين أنت يا معركة الجمل؟! وسواك من الأباطيل..
ههنا يأمر الله تعالى اليهود بذبح (بقرةٍ).. فيأتي النموذج الثالث:
3. الاستهزاء بأمر السماء أو التوهين من قدره..
الله يأمرهم أن يذبحوا بقرة فما كان جوابهم إلا أن قالوا: (أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً).
قولهم هذا هو نوعُ استهزاء بأمر السماء.. فأنى لرسولٍ يزعم أنّه مرسل من قبل الله تعالى، ينقل أمر الله تعالى بكل قوّة ووضوحٍ أن يكون مستهزئاً؟ لقد اتهموه بأنه يتّخذهم هزوا استهزاءً منهم بهذا الأمر أو توهيناً له..
وهل قول أهل الباطل إلا استهزاءٌ وسخريةٌ من أهل الحق؟!
ألا نزال نعيش هذا النهج؟!
ألا يسخر الملحدون والحداثويون والمشكّكون وأضرابهم اليوم من المؤمنين الثابتين على دينهم؟!
4. التشديد على النفس والتضييق عليها..
ههنا تتدرّج قصة بني إسرائيل في أسئلتهم حول صفات البقرة إلى أن تنحصر الصفات ببقرةٍ لا يبيعها صاحبها إلا بملئ مِسكِها ذهباً!
ههنا لأهل العلم مذهبان في تفسير هذه الواقعة..
أوّلهما: أنّ الله تعالى أراد ذبح هذه البقرة المخصوصة من أوّل الأمر، لكنّه لم يبيّن ذلك لبني إسرائيل، بل تأخر البيان لهم لمصلحة، وتوقّف البيان على سؤالهم.. ولا بدّ حينها من القول بوجود قرينة تلزمهم بالتوقُّف والسؤال عن صفات البقرة ليتمّ البيان..
وقد نقل هذا القول الشيخ الكراجكي عن الشيخ المفيد رحمهما الله تعالى في تلخيص الأول لكتاب الثاني الموسوم ب(مختصر التذكرة بأصول الفقه ص39-40).
ثانيهما: أنّ بنو إسرائيل كانوا ممّن شدّدوا فشدّد الله عليهم.. أي أنهم كانوا مأمورين بذبح أي بقرة مهما كانت صفاتها، لكنّهم لمّا ألحّوا في السؤال تشديداً على أنفسهم شدّد الله عليهم جزاءً بأفعالهم..
وهذا القول مرويٌّ عن المعصومين عليهم السلام، فعن الرضا عليه السلام:
وَلَوْ أَنَّهُمْ عَمَدُوا إِلَى أَيِّ بَقَرَةٍ أَجْزَأَتْهُمْ، وَلَكِنْ شَدَّدُوا فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ (عيون أخبار الرضا عليه السلام ج2 ص14).
وهكذا حالُ هذه الأمّة..
كم من مسألة لم يكلّفنا الله تعالى عناء الخوض فيها بل نهانا عن ذلك..
كالتفكر في الذات الإلهية..
وكم خالف في ذلك أقوامٌ من المسلمين حتى تاهوا وضلّوا وتحيروا وتزندقوا!
وكم من مسألةٍ أحلّها الله لنا فضيّقنا على أنفسنا فيها بجهالتنا؟!
يسأل أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي، وقد كان ثقةً جليل القدر، عظيم المنزلة عند إمامنا الكاظم وإمامنا الرضا عليهما السلام، وهو ممن أجمعت الطائفة على تصحيح ما يصحّ عنه، يسأل الإمام الرضا عليه السلام فيقول:
وَسَأَلْتُهُ عَنِ الْجُبَّةِ الْفِرَاءِ، يَأْتِي الرَّجُلُ السُّوقَ مِنْ أَسْوَاقِ الْمُسْلِمِينَ فَيَشْتَرِي الْجُبَّةَ، لَا يَدْرِي أَ هِيَ ذَكِيَّةٌ أَمْ لَا، يُصَلِّي فِيهَا؟
كثيراً ما نسأل هذه الأسئلة.. هل يصح الأكل من طعام المسلمين إن لم نعلم حلّيته؟! هل يصح الصلاة بهذا الثوب أو ذاك ما لم نعلم الحرمة؟! وأضرابها الكثير..
كان جواب الإمام الرضا عليه السلام:
قَالَ: «نَعَمْ، إِنَّ أَبَا جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ الْخَوَارِجَ ضَيَّقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِجَهَالَتِهِمْ، إِنَّ الدِّينَ أَوْسَعُ مِنْ ذَلِكَ، إِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ شِيعَتَنَا فِي أَوْسَعِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، أَنْتُمْ مَغْفُورٌ لَكُمْ. (قرب الإسناد ص385)
كلماتٌ غاية في الأهمية تستفاد من كلمات الإمام عليه السلام:
أوّلها: أن الخوارج قد سقطوا بجالتهم كما سقط بنو إسرائيل، فكم حريٌّ بالإنسان أن يسعى لرفع الجهالة في أمور دينه لئلا يضيّق على نفسه؟!
ثانيها: أن الدين أوسع من أن يكلِّفَ العباد ما فيه حرجٌ عليهم، وأن على العباد امتثال أمر الله تعالى دون أن يضيقوا على أنفسهم.. ووهنا وقعنا بين الإفراط والتفريط.. بين التهاون في أمور الشريعة والتشدُّد كبني إسرائيل.. فاتّخذنا منهجاً وسطاً هو منهج أنبياء الله ورسله..
ثالثها: أن الشيعة أقربُ الناس لمغفرة الله تعالى، حيث كانت موالاتهم وعداوتهم في الله تعالى، وأطاعوه في أحبّ الأشياء إليه، فغفر لهم ما دون ذلك من زلّات وهفوات..
أنتم أيها الشيعة مغفورٌ لكم.. شرط الحفاظ على إيمانكم ومودّتكم ومحبّتكم لآل محمدٍ عليهم السلام، وهو موقوفٌ على التسليم لهم..
فالتقدم عليهم كالتأخُّر عنهم.
أجارنا الله من ذلك.
والحمد لله رب العالمين
الثلاثاء 15 ربيع الثاني 1442 هـ
1 - 12 - 2020 م
بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
|