• الموقع : موقع العلم والإيمان.. مقالاتٌ وأبحاثٌ ومؤلفات.. بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي .
        • القسم الرئيسي : المقالات والأبحاث .
              • القسم الفرعي : الموت والقيامة .
                    • الموضوع : 32. وصار التراب أكفاناً.. جيران القبور!! .

32. وصار التراب أكفاناً.. جيران القبور!!

بسم الله الرحمن الرحيم

قال أمير المؤمنين عليه السلام في وصف الدنيا:
فَاعْلَمُوا _وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ_ بِأَنَّكُمْ تَارِكُوهَا، وَظَاعِنُونَ عَنْهَا..

اعلموا.. وأنتم تعلمون!
فما الغاية من خطاب إمام البلاغة والبيان عليه السلام؟! أن نعلم ما نعلم؟!
هل يبيّن لنا أنّ العلم على مراتب؟ فنحن نعلم أنّا تاركون للدنيا لكنّ هناك مراتب من العلم أعلى يرشدنا إليها؟
أم يريدُ العلمَ الذي يستتبعُ عملاً، فمَن عَلِمَ ولم يعمل كان كالجاهل بل كانت الحجة عليه أعظم: إِنَّ الْعَالِمَ الْعَامِلَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ كَالْجَاهِلِ الْحَائِرِ الَّذِي لَا يَسْتَفِيقُ مِنْ جَهْلِه‏، بَلِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ أَعْظَمُ وَالْحَسْرَةُ لَهُ أَلْزَمُ وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ أَلْوَم‏.

لماذا يأمرنا عليه السلام بالإتّعاظ من الذين (قالوا مَن أشدُّ منّا قوّة) ثمّ حُملوا إلى قبورهم وأنزلوا الأجداث؟

هل لأنّه قد جُعِلَ لهم (مِنَ التُّرَابِ أَكْفَانٌ)؟!
لقد سُمِّيَ الكفن بذلك لأنّه يستر صاحبه ويغطيه، وصار هؤلاء الأقوياء مستورون بالتراب بعد موتهم..

أم لأنّه جُعِلَ لهم (مِنَ الرُّفَاتِ جِيرَانٌ)؟!
ما أعظم هذه الكلمة!
لقد جُعِلَ لهم من الأعظام البالية المفتّتة المكسرة جيرانٌ!

قال أمير المؤمنين عليه السلام: سَلْ عَنِ الرَّفِيقِ قَبْلَ الطَّرِيقِ، وَعَنِ الْجَارِ قَبْلَ الدَّار..
وكان رسولُ الله صلى الله عليه وآله يستعيذُ بالله من جارِ سَوء: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ جَارِ سَوْءٍ..

وها نحنُ نسألُ عن الجار قبل الدار.. فمن هم جيراننا في قبورنا؟!

يقول عليه السلام: أنّه جُعِلَ لهم (مِنَ الرُّفَاتِ جِيرَانٌ).. ثم يذكر من صفات هؤلاء الجيران أموراً عجيبة..

1. فَهُمْ جِيرَةٌ لَا يُجِيبُونَ دَاعِياً
ليس بمقدورنا دعوتهم إلى خيرٍ أو شرٍّ، لا جواب عندهم!

2. وَلَا يَمْنَعُونَ ضَيْماً
هل لهم أن يمنعوا وقوع الظلم عليهم؟ أو يجيبوا من يستنصرهم ليمنعوا عنه ضيما؟!
هل مَن يستنصر هؤلاء الأقوياء؟! أم من يفكّر بظلمهم إلا اللهم من يريد أن ينتقم منهم بنبش قبورهم فيعجزون عن الدفع عن أنفسهم.. هؤلاء جيران قبورنا.. 

3. وَلَا يُبَالُونَ مَنْدَبَةً
يموت الميت وتندبه النادبات، لكنّهم لا يبالون بالندب عليهم ولا بحزن أهليهم ومحبيهم.. 

4. إِنْ جِيدُوا لَمْ يَفْرَحُوا، وَإِنْ قُحِطُوا لَمْ يَقْنَطُوا
لم يَعُد أحدهم يبالي بسقوط المطر أو بالقحط، لا يفرح بالأول ولا يقنط بالثاني كحال أكثر الناس، فهذا ينتظر المطر لزرعه وهذا يفرّ من الجدب والقحط لتسهيل أمور معيشته، أما هؤلاء الجيرة فسيّان عندهم جادت السماء عليهم أم حلّ القحط واليبس.
بم يفرح هؤلاء؟ 
يفرحون بزيارة أحبائهم وأقربائهم: زُورُوا مَوْتَاكُمْ فَإِنَّهُمْ يَفْرَحُونَ بِزِيَارَتِكُمْ (الكافي ج3 ص230)
إِنَّهُمْ يَأْنَسُونَ بِكُمْ فَإِذَا غِبْتُمْ عَنْهُمُ اسْتَوْحَشُوا (الكافي ج3 ص228)

5. جَمِيعٌ وَهُمْ آحَادٌ، وَجِيرَةٌ وَهُمْ أَبْعَادٌ
أيُّ اجتماعٍ لهؤلاء وأيُّ جيرة هي هذه، اجتماعٌ مَعَ تَفَرُّق، وجيرةُ بُعدٍ لا قُربَ فيها.. 
أيفرحُ أحدنا بمثل هذا الجار أم يحزن؟! ما أعظم تلك الوحدة لمّا يصير الجميع آحاداً أبعاداً؟!

6. مُتَدَانُونَ لَا يَتَزَاوَرُونَ، وَقَرِيبُونَ لَا يَتَقَارَبُونَ 
يودُّ المؤمن أن يُدفن قربَ أئمته عليهم السلام.. لينعم بما يجود به المعصومون على محبيهم، فإن لم يُقَدَّر له ذلك يُحبُّ أن يُدفن قرب قبور أمواته وأحبابه..
فهل لهذا القرب من أثر؟ هل سيتمكن من زيارتهم أو التقارب منهم بعد دفنه؟
لَا يَتَزَاوَرُونَ.. لَا يَتَقَارَبُونَ.. مع قربهم لا يتقاربون.. أي جيرةٍ غريبةٍ هذه؟!

نعم أرواح المؤمنين تتزاور كما ورد عنهم عليهم السلام: أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ فِي حُجُرَاتٍ فِي الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ مِنْ طَعَامِهَا وَيَشْرَبُونَ مِنْ شَرَابِهَا وَيَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَقِمْ لَنَا السَّاعَةَ لِتُنْجِزَ لَنَا مَا وَعَدْتَنَا (المحاسن ج1 ص178)

لكنّ الرفات في محلّها، لا تفرح لفرح أهلها وأحبتها، ولا تحزن لحزنهم..

7. حُلَمَاءُ قَدْ ذَهَبَتْ أَضْغَانُهُمْ، وَجُهَلَاءُ قَدْ مَاتَتْ أَحْقَادُهُمْ
لقد وصف الإمام المتقين في الدنيا بأنّهم: حُلَمَاءُ عُلَمَاءُ أَبْرَارٌ أَتْقِيَاء..
وليس كلُّ الأموات أتقياء، لكنّهم جميعاً يصيرون بمثابة الحُلماء الذين لا يعرفون الحقد والحسد!
هل ينتظر أحدُنا تلك الساعة كي يصير من أهل الحلم فينزع عنه قذارة الأحقاد؟! 
أما آنَ للنفوس أن تطهُر قبل أن تصير تحت التراب؟! ماذا ينتظر أحدنا كي يبادر بالخير أهلَه وأحبابَهُ وجيرانه وإخوته المؤمنين؟!
أتبقى الأذية شعارنا ودِثارَنا حتى نصير للرُّفاتِ جيراناً؟! أما آن لنا أن نتّعظ بغيرنا؟!
ما أعظم كلماتك يا إمام الكلام والأنام.. 

8. لَا يُخْشَى فَجْعُهُمْ، وَلَا يُرْجَى دَفْعُهُمْ
لا خوفَ من أن يفجعَ هؤلاء الأموات جيرانهم أو يضروهم أو يؤذوهم، بل ولا يرجى دفعهم عن جيرانهم أي سوء أو خطر.. ما عاد لهم تلك السطوة والقدرة.. سقط كل ما حاكوه حولهم في الدنيا من أبّهة وعظمة وسلطانٍ..

اسْتَبْدَلُوا بِظَهْرِ الْأَرْضِ بَطْناً، وَبِالسَّعَةِ ضِيقاً، وَبِالْأَهْلِ غُرْبَةً، وَبِالنُّورِ ظُلْمَةً، فَجَاءُوهَا كَمَا فَارَقُوهَا حُفَاةً عُرَاةً.

أيُّ ضيقٍ هذا في بطن الأرض.. وأيُّ غربةٍ ستكون بديلاً عن الأهل!

فما النافع في تلك الوحشة؟

يُمَثَّلُ للإنسان في أول يومٍ من أيام الآخرة وهو في قبره ثلاث: مالُه، وولده، وعمله.
أما ماله، فلا يأخذ منه إلا الكفن، قبل أن يبلى ويصبح التراب كفنه!
وأما ولده فَيَقُولُونَ: نُؤَدِّيكَ إِلَى حُفْرَتِكَ نُوَارِيكَ فِيهَا!
وأما عمله فيقول: أَنَا قَرِينُكَ فِي قَبْرِكَ وَيَوْمِ نَشْرِكَ!

فَإِنْ كَانَ لِلَّهِ وَلِيّاً أَتَاهُ أَطْيَبَ النَّاسِ رِيحاً وَأَحْسَنَهُمْ مَنْظَراً وَأَحْسَنَهُمْ رِيَاشاً..
وَإِنْ كَانَ لِرَبِّهِ عَدُوّاً فَإِنَّهُ يَأْتِيهِ أَقْبَحَ مَنْ خَلَقَ الله زِيّاً وَرُؤْيَا وَأَنْتَنَهُ رِيحاً (الكافي ج3 ص230)

لكنّ أفضل الأعمال.. بعد الإيمان بالله تعالى.. الإيمان بنبيّه (ص) وموالاة أوليائه عليهم السلام..

يقول أمير المؤمنين عليه السلام: وَلَيْسَ أَحَدٌ يَمُوتُ إِلَّا تَمَثَّلْتُ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ (الكافي ج‏2 ص638)

ويقول الصادق عليه السلام عن الميت: وَيُمَثَّلُ لَهُ رَسُولُ الله (ص‏) وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَفَاطِمَةُ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَالْأَئِمَّةُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمْ (ع) فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا رَسُولُ الله وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَفَاطِمَةُ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَالْأَئِمَّةُ (ع) رُفَقَاؤُكَ (الكافي ج‏3 ص 128) 

أيُّ وحشةٍ إذاً تبقى لمن كان رفيقاً لخير الخلق وساداتهم محمد وآله الأطهار؟!
هل من سبيلٍ ومنجاةٍ لنا سوى العودِ إلى الله تعالى والتمسُّك بأهدابهم وأذيالهم؟ عسى أن نكون من محبيهم فنسعد برفقتهم ونحشر معهم..

هل نُفَرِّط بولايتهم وهي من أعظم نعم الله تعالى علينا في الدنيا والآخرة؟!
أيتركُ المعصومون محبيهم المطيعين لهم في غربتهم ووحشتهم؟!

حاشاكم أيها الكرام..
عبدكم لائذٌ ببابكم.. يسألكم الشفاعة والمودة والمحبّة والرفقة الطيبة.. له ولأهله وإخوانه وأقربائه وسائر المؤمنين.. 

ما خاب من تمسّكم بكم، وأمن لمن لجأ إليكم.. وإنّا بأمر الله إليكم نلجأ، وبعصمتكم نستمسك.. 
اللهم اجعلنا من الآمنين بهم، واحشرنا في ركبهم..

والحمد لله رب العالمين

10 ربيع الأول 1442 للهجرة
27 - 10 - 2020 م
 


بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

  • المصدر : http://www.aliiman.net/subject.php?id=91
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2022 / 07 / 26
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 5