بسم الله الرحمن الرحيم
﴿وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبيلاً * يا وَيْلَتى لَيْتَني لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَليلاً﴾ (1).
ينقل القرآن الكريمُ بعضَ أحداث يوم القيامة، والحديثُ الشريفُ بعضاً آخر، فهو يومُ الندامة، يوم يعضّ الظالم على يديه.
يُخبرُ ربّ السماء والأرض حبيبَه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وخليفتَه في أرضه وسمائه، عندما أسرى به إلى السماء، يُخبرُه عن محكمة العدل الإلهية في ذلك اليوم المَهول، فيخاطب الله تعالى نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما رويناه عن الصادق (عليه السلام):
وَأَمَّا ابْنَتُكَ، فَإِنِّي أُوْقِفُهَا عِنْدَ عَرْشِي، فَيُقَالُ لَهَا: إِنَّ الله قَدْ حَكَّمَكِ فِي خَلْقِهِ، فَمَنْ ظَلَمَكِ وَظَلَمَ وُلْدَكِ فَاحْكُمِي فِيهِ بِمَا أَحْبَبْتِ، فَإِنِّي أُجِيزُ حُكُومَتَكِ فِيهِمْ(2).
الله تعالى يوقف الخلائق ويعرضهم على الحساب يوم القيامة، اليوم الذي وُصِفَ في القرآن بقوله تعالى: ﴿وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ * وَالمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ﴾(3).
الله تعالى القادرُ المُمسِكُ للعرش، الحافظُ للملائكة، يوقف الزهراء (عليها السلام) عند العرش، وهو من أكبَرِ أبواب الغيوب، ويقال لها: إِنَّ الله قَدْ حَكَّمَكِ فِي خَلْقِهِ.
الله تعالى بارئ الخلائق ومالِكُهم، يعطي الحُكم للزهراء في (خلقه)، فأيُّ عظمةٍ للزهراء (عليها السلام) حتى حَكَّمَها الله في خلقه يوم العرض؟!
يتفرع عن هذه الحكومة قول الله تعالى في الحديث: فَمَنْ ظَلَمَكِ وَظَلَمَ وُلْدَكِ فَاحْكُمِي فِيهِ بِمَا أَحْبَبْتِ، فَإِنِّي أُجِيزُ حُكُومَتَكِ فِيهِمْ..
ما أحبّت الزهراء من حكمٍ صارَ نافذاً! أيّاً كان هذا الحُكم، عطاءٌ لا حدّ له من الله تعالى.
فَتَشْهَدُ العَرْصَة (البقعة)، فَإِذَا وَقَفَ مَنْ ظَلَمَهَا أَمَرت بِهِ إِلَى النَّارِ.
فَيَقُولُ الظَّالِمُ: وَا حَسْرَتَاهْ عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ الله، وَيَتَمَنَّى الكَرَّةَ، وَيَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ وَيَقُولُ: يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا، يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا. وَقَالَ حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ القَرِينُ. وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ اليَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي العَذابِ مُشْتَرِكُونَ.
ههنا يُدركُ الظالم أنَّ ساعة الحسرة قد حانت، وأنّ الرجوع إلى هذه الدنيا أمَلٌ زائف، ويتلمَّسُ أن لا مُنجيَ له في هذه المحكمة، ويخشى من العذاب، فينبري لِيُخادِعَ ربّه، مُحتَجّاً أن الله هو الحاكم بين عباده، فكيف يصير الحكم لغيره تعالى؟!
وكأنَّ حكمَ الزهراء كان عن غير أمر الله تعالى، أو كأنّه يريد أن يفرَّ من حكم الزهراء (عليها السلام) إلى حكم الله تعالى، لِما يسمع عن سَعَة رحمته تعالى.
وكأنّ ما وَقعَ عليها من ظلم قد يمرُّ بلا عقاب!
يقول الحديث: فَيَقُولُ الظَّالِمُ: أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ؟ أَوِ الحُكْمُ لِغَيْرِكَ؟
هؤلاء لا يخدعون إلا أنفسهم، فَيُقَالُ لَهُمْ: أَلا لَعْنَةُ الله عَلَى الظَّالِمِينَ. الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ الله وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ.
ههنا ما يثير الدهشة، فإنّ الله تعالى قد جعل الزهراء حَكَماً، لكن الحُكم أوّل ما يصدُرُ لا يكون عن لسانها (عليها السلام)، بل عن لسان ولدها السقط محسن بن علي (عليه السلام)!
تقول الرواية: وَأَوَّلُ مَنْ يَحْكُمُ فِيهِمْ مُحَسِّنُ بْنُ عَلِيٍّ (عليه السلام)، وَفِي قَاتِلِهِ، ثُمَّ فِي قُنْفُذٍ، فُيُؤْتَيَانِ هُوَ وَصَاحِبُهُ فَيُضْرَبَانِ بِسِيَاطٍ مِنْ نَارٍ لَوْ وَقَعَ سَوْطٌ مِنْهَا عَلَى البِحَارِ لَغَلَتْ مِنْ مَشْرِقِهَا إِلَى مَغْرِبِهَا، وَلَوْ وُضِعَتْ عَلَى جِبَالِ الدُّنْيَا لَذَابَتْ حَتَّى تَصِيرَ رَمَاداً فَيُضْرَبَانِ بِهَا(4).
فصارَ المحسن بن عليٍّ أول من يحكم فيمن ظَلَم أمّه الزهراء وظلم وُلدها (عليهم السلام)، فهل صدور الحكم من محسنٍ كان على قاعدة ما ورد في الحديث الشريف: إِنْ قُلْنَا لَكُمْ فِي الرَّجُلِ مِنَّا قَوْلًا فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ، كَانَ فِي وَلَدِهِ أَوْ وَلَدِ وَلَدِهِ، فَلَا تُنْكِرُوا ذَلِك(5).
كما أوحى الله لعمران أني واهبٌ لك ذكراً مباركاً، لكنّ زوجته حنّى وضعت أنثى ولم تضع ذكراً، وجاء عيسى (عليه السلام) هبةً من الله لابنتها مريم، وصدق الله تعالى لما أوحى لعمران ما أوحى، فصار إعطاؤه لمريم (عليها السلام) إعطاءً لعمران.
أم أنّ مُحسناً نُزِّلَ منزلة الزهراء (عليها السلام) نفسها فما صدر منه فكأنّه صدرَ منها؟!
أم أنّ لها حكماً آخر يصدر بعد حكم المحسن، وإن كان حكمه متفرعاً عن حكمها؟!
كل هذا لا يغير في عظمتهم.
السلام عليكم يا آل بيت النبوة، السِّقطُ منكم يُصبحُ حاكماً يوم القيامة! بل أوّل حاكمٍ على ظالميكم! فأيُّ جزاءٍ عظيم هذا!
ولكن ماذا تحمّلتم وصبرتم حتى أعطاكم الله تعالى ما أعطاكم؟
عن الصادق (عليه السلام) عن ربّ السماء لنبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) في ليلة المعراج:
وَأَمَّا ابْنَتُكَ فَتُظْلَمُ وَتُحْرَمُ، وَيُؤْخَذُ حَقُّهَا غَصْباً الَّذِي تَجْعَلُهُ لَهَا، وَتُضْرَبُ وَهِيَ حَامِلٌ، وَيُدْخَلُ عَلَيْهَا وَعَلَى حَرِيمِهَا وَمَنْزِلِهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ، ثُمَّ يَمَسُّهَا هَوَانٌ وَذُلٌّ، ثُمَّ لَا تَجِدُ مَانِعاً، وَتَطْرَحُ مَا فِي بَطْنِهَا مِنَ الضَّرْبِ، وَتَمُوتُ مِنْ ذَلِكَ الضَّرْبِ(6).
صَبَرَ النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما ينزل ببضعته من مُصاب، وصَبَر عليٌّ (عليه السلام) وهو يرى ما يُفَتِّتُ الفؤاد، وصَبَرَت الزهراء (عليها السلام) وهي لا تَجِدُ مانعاً يمنع القوم عنها، فكان الله وليّها فحكّمها في خلقه يوم القيامة!
ما طالَ حُزنها بعد شهادة أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم)! إذ كيف يطول حزنُ من قَصّر الضّربُ عمرَها؟!
لكنّ حزن الشيعة طال عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها.
انقضى شهرُ المحرّم، وتَبِعهُ صفر، لكنَّ حُزنَ الشيعة طال وما انتهى.
هي أيامٌ ظُلِمَت فيها الزهراء (عليها السلام)، وأسقطت محسنها، ولكن.. أيُّ منزلةٍ للمحسن (عليه السلام)؟! لقد نال منصبَ الحكم في محكمة العدل المطلقة، فكانَ الحَكَمَ الأول.. فمن هو الذي يليق بهذا المنصب؟!
لقد روينا عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قوله: اتَّقُوا الحُكُومَةَ، فَإِنَّ الحُكُومَةَ إِنَّمَا هِيَ لِلْإِمَامِ العَالِمِ بِالقَضَاءِ العَادِلِ فِي المُسْلِمِينَ، لِنَبِيٍّ أَوْ وَصِيِّ نَبِي(7).
منصبُ الحكومة في هذه الدنيا مُختَصٌّ بالنبيّ أو وصيّه الإمام المعصوم، والمحسن ليس نبيّاً ولا إماماً، فكيف أعطاه الله تعالى منصب الحكم لا في الدنيا بل في يوم العدل الإلهي؟!
أيُّ عظمةٍ بلغها محسنُ السقط حتى أعطاه الله ما أعطاه؟! والحُكمُ يوم الحساب لا يصدرُ إلا بعد الإطلاع على سرائر النفوس وبواطنها وخفايا الأعمال وحقائقها ونوايا العباد وأفعالهم.. فكم عَرَّفَكَ الله يا محسن وماذا أعطاك وكم أنعم عليك قبل ان يجعلك أول حَكمٍ فيمن ظلمكم؟!
وإذا كان هذا حال صغيرهم، فكيف بهم (عليهم السلام)؟!
اللهم إنّا سلّمنا أنا لا نحيط بهم علماً، ولا نحيط بك علماً، وأنّهم عبادُك المربوبون المطيعون لك، وأنهم بابك وطريقك، فوفقنا لاتباعهم، واحشرنا معهم، إنك نعم المولى ونعم النصير. وعظم الله اجورنا وأجوركم(8).
(8) ثاني ربيع الأول 1442 للهجرة الموافق 19 - 10 - 2020 م.
بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
|