بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ إِنَّكَ الرَّبُّ الرَّءُوفُ، المَلِكُ العَطُوفُ، المُتَحَنِّنُ المَأْلُوفُ..
هذه كلماتٌ من قنوت مولانا الإمام الحسن عليه السلام، يصفُ فيها سيد شباب أهل الجنة ربه عزَّ وجلَّ بأنه (الرَّءُوفُ) و(المُتَحَنِّنُ)، فيما يصفه القرآن الكريم بأنَّه (رَؤُفٌ رَحيمٌ) في عدَّةٍ من السور والآيات.
وهاتان الصفتان قد يقال بأنهما صفةٌ واحدة، فتكون الرأفة هي الرحمة، وقد يقال بأن الرأفة أخص من الرحمة وأرقّ.
وأياً يكن.. فإنَّ ما يُبرِزُ أهميَّة الرأفة والرحمة في معرفة الله سبحانه وتعالى قول الإمام زين العابدين عليه السلام: إِنَّ مَعْرِفَةَ الله عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُعْرَفَ بِالوَحْدَانِيَّةِ وَالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَالعِزَّةِ وَالعِلْمِ، وَالقُدْرَةِ وَالعُلُوِّ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ (الكافي ج5 ص36).
إنَّ معرفة الله عز وجل بالوحدانية تلازم نفي الآلهة الأخرى، فهو إلهٌ واحدٌ لا شريك له، وهذا أصلُ التوحيد.
ثمَّ يذكر الإمامُ بعده معرفة الله (بالرأفة والرحمة) قبل معرفته بـ(العزة والعلم والقدرة)، مع أنَّ العلم والقدرة مثلاً من صفات الله الذاتية، إلا أنَّ الإمام قَدَّم الرأفة والرحمة بالذِّكر على العلم، فهل يرجع لذلك لارتباطنا نحن المخلوقات بالرأفة والرحمة؟! أو لحاجتنا إليها؟ مع ما نرتكب من ذنوبٍ وآثامٍ فنحتاج إلى مزيد رحمةٍ في العفو عنها.. كما رحمنا الله تعالى وأغنانا من نعمه الظاهرة والباطنة.
لقد أرسل الإله الرؤوف نبيَّاً رؤوفاً!
قال تعالى: ﴿لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَريصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنينَ رَؤُفٌ رَحيمٌ﴾ (التوبة 128).
وهكذا وصف الله سبحانه وتعالى أحب خلقه اليه بصفةٍ وصف بها نفسه! مع أنَّ أيَّ صفةٍ في الخالق لا يصحُّ أن تكون في المخلوق، لئلا يلزم المشابهة بين الخالق والمخلوق، والنقص في الخالق، وهو تعالى منزه عن ذلك.
فلا بُدَّ أن تُفَسَّر رحمة الله ورأفته بأحد معنيين:
أوَّلهما: أن يوصف الله تعالى بالرأفة والرحمة بمعنى إنزال الرأفة والرحمة، لا بمعنى الرِّقة التي توجد في العباد، والتي هي صفةٌ نفسانيةٌ تُلازم التغيُّر والتبدُّل، كما فُسِّرَ غضب الله بأنه عقابه، فالرحمة تعني إنزال الرحمة والإحسان والعطاء والإفضال، وليست تعني الرِّقة.
ثانيهما: أنَّ الله تعالى خلق أولياء لنفسه تظهر منهم الرحمة، فتُنسب له تعالى، كما الغضب، فإنَّ الله يُنسَبُ للغضب مع أنَّه لا يغضب كغضب العباد.
وكان النبيُّ أعظم هؤلاء الأولياء، وكان الإمامُ نفسَ النبيِّ، فثبت له من الصفات كلُّ ما ثبت له صلى الله عليه وآله.
لقد ورد في الحديث عن الصادق عليه السلام عن أبيه عن عليٍّ عليهم السلام جميعاً:
إِنَّا أَهْلَ بَيْتٍ: شَجَرَةُ النُّبُوَّةِ، وَمَوْضِعُ الرِّسَالَةِ، وَمُخْتَلَفُ المَلَائِكَةِ، وَبَيْتُ الرَّأْفَةِ، وَمَعْدِنُ العِلْمِ (بصائر الدرجات ج1 ص58).
لكل مفردة من هذه المفردات بحثها، ولكن.. كيف يكون الأئمة أهل البيت (بيت الرأفة).. أو كيف يكون بيتهم (بيت الرأفة)؟
في هذا الحديث تشبيه وكناية تثبت منقبةً عظيمة للأطهار عليهم السلام، فليست شجرتهم كما نعهد من الأشجار، ولا بيتهم كسائر البيوت.. إنَّه بيت الرأفة التي تعمُّ العباد.. وقد تجلَّت رأفة الله ورحمته في أوليائه، وأولهم محمدٌ وآل محمد عليهم السلام.
ما فارقت الرحمة أحداً منهم، من الرسول صلى الله عليه وآله، إلى الإمام المنتظر، الذي يرعى الشيعة في غيبته وحضوره.
لكن..
كيف نتلمس هذه الرأفة؟
قد تنقضي أيام أحدنا ولم يشعر بشيء من رأفة الله به! ولا من رأفة النبي والإمام!
نحاول أن نتلمس شيئاً من مواطن رحمتهم، ونضيء على بعض جوانبها، فتلفتنا رحمتهم عليهم السلام مع الملائكة!
كيف ذلك؟
لقد احتاج الملائكة إلى رحمة آل محمدٍ فظهرت سريعاً، وذلك في بدء خلقتهم..
يقول الحديث الشريف:
أَوَّل مَا خَلَقَ الله عَزَّ وَجَلَّ أَرْوَاحنَا، فَأَنْطَقَهَا بِتَوْحِيدِهِ وَتَمْجِيدِهِ: لقد ثبت أنَّهم أول من خلق الله سبحانه وتعالى، سواء في عالم الأنوار أو الأرواح أو الأشباح.. فقد كانوا المتقدمين، وأنطق الله أرواحهم بتوحيده وتمجيده، وهو لطفٌ عظيمٌ منه تعالى.
ثُمَّ خَلَقَ المَلَائِكَةَ، فَلَمَّا شَاهَدُوا أَرْوَاحَنَا نُوراً وَاحِداً اسْتَعْظَمَتْ أَمْرَنَا، فَسَبَّحْنَا لِتَعْلَمَ المَلَائِكَةُ أَنَّا خَلْقٌ مَخْلُوقُونَ، وَأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ صِفَاتِنَا، فَسَبَّحَتِ المَلَائِكَةُ بِتَسْبِيحِنَا وَنَزَّهَتْهُ عَنْ صِفَاتِنَا! (عيون أخبار الرضا عليه السلام ج1 ص263).
هكذا تظهر رحمتهم بالملائكة، لئلا ينظر الملائكة إلى هذا النور الواحد العظيم كأنه إله.. بل إنَّه على عظمته نورٌ مخلوق خلقه الله تعالى.. فينبغي التسبيح لله تعالى لا لهم.. وهكذا في التهليل والتكبير، فتعلم الملائكة أنهم عبيدٌ لله وليسوا آلهة.
ثمَّ ظهرت رحمتهم عليهم السلام على العباد في مواطن كثيرة، منها ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام:
إِنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَعَثَ رَسُولَهُ (ص) بِالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ، فَكَانَ مِنْ رَأْفَتِهِ وَرَحْمَتِهِ أَنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ قَوْمَهُ فِي أَوَّلِ نُبُوَّتِهِ عَنْ عَادَتِهِمْ حَتَّى اسْتَحْكَمَ الإِسْلَامُ فِي قُلُوبِهِمْ، وَحَلَّتِ الشَّرِيعَةُ فِي صُدُورِهِم (بحار الأنوار ج90 ص6).
قد يُقبَلُ عُذرٌ في أوّل الدعوة إذاً، ولا يُقبَلُ في آخرها، فالنبي صلى الله عليه وآله لم يُلزِم قومه بالإمتناع عن كل المحرَّمَات التي اعتادوا عليها دفعةً واحدة، فجاءت أوامره تدريجيةً رأفةً ورحمةً بهذه الأمة، كما ينص الإمام عليه السلام.
لم ينقل (ص) قومه في أول نبوته عن عادتهم حتى استحكم الإسلام في قلوبهم، فالنبي الرؤوف يعلم أن هؤلاء الخلق يصعب عليهم أن ينتقلوا من حالٍ إلى حال آخر بشكلٍ سريع، حتى تستقر القلوب.
وهكذا تختلف الأمور والمفردات العقدية والفقهية، فما قد يقبل في زمنٍ قد لا يقبل في آخر، وهكذا لم يكن الحدُّ يُقام على من خالف الأحكام في أول أيام نزولها، إلا أن يُطمَأنَّ بأن هذا الحكم قد بَلَغَه.
والحكم لا ينزل إلا بعد أن تصبح الأمة مهيئة لتقبله، وإن كان منها من كان مهيئاً لتقبل كل الأحكام من أول يوم، لكن الشريعة تراعي الضعاف، بل تراعي أضعف القوم.
وهكذا قد يعذر من لم يكن في تلك الأيام عارفاً بمقامات الأئمة عليهم السلام، دون أن يُعذر في أيامنا..
فمقامهم ومرتبتهم لم تكن معروفةً بعد عند كثيرٍ من الخلق، سوى الخُلَّص والكُمَّل من أصحابهم.
وفي أيامنا.. قد يحاول البعض الترويج لأفكارٍ تخالف عقيدة الشيعة، محتجَّاً بأنَّ الإمام كان يُسأَلُ عنها فيجيب برحابة صدر!
والحال أنَّ الإمام كان يبينها لأصحابه لمّا لم تكن جليَّة بيِّنة بعد.
أما بعد مرور مئات السنين، وبعدما استحكمت العقيدة الحقة في قلوب المؤمنين بشكل جليٍّ واضح، فقد لا يكون التقصير حينها مقبولاً.
يَتَنَبَّهُ المؤمن إلى أنَّ وجود شُبهَةٍ أو إشكالٍ أو تقصيرٍ من قبل بعض أصحاب الأئمة لا يسوغ له الغرق في الشبهات والانقياد خلفها.
كانت هذه واحدة من نماذج رأفته صلى الله عليه وآله مع الملائكة، ومع عموم الأمّة.. ولو كانت عاصيةً متمرِّدة.
أما الشيعة، وهم خاصَّة النبيِّ صلى الله عليه وآله، وأهل طاعته، فيبيِّنُ لهم الأئمة عليهم السلام ما يجب الأخذ به وما يجب اجتنابه رحمة بهم.
ففي مقبولة ابن حنظلة عن الصادق عليه السلام:
إِنَّمَا الأُمُورُ ثَلَاثَةٌ:
1. أَمْرٌ بَيِّنٌ رُشْدُهُ فَيُتَّبَعُ.
2. وَأَمْرٌ بَيِّنٌ غَيُّهُ فَيُجْتَنَبُ.
3. وَأَمْرٌ مُشْكِلٌ يُرَدُّ عِلْمُهُ إِلَى الله وَإِلَى رَسُولِهِ.
قَالَ رَسُولُ الله (ص): حَلَالٌ بَيِّنٌ، وَحَرَامٌ بَيِّنٌ، وَشُبُهَاتٌ بَيْنَ ذَلِكَ.
فَمَنْ تَرَكَ الشُّبُهَاتِ نَجَا مِنَ المُحَرَّمَاتِ.
وَمَنْ أَخَذَ بِالشُّبُهَاتِ ارْتَكَبَ المُحَرَّمَاتِ، وَهَلَكَ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ (الكافي ج1 ص68).
إنَّ العقل يدعو إلى ردّ المتشابهات إلى المحكمات في كتاب الله، ويدعو إلى اجتناب الشُّبُهات..
أما المتشابهات.. فلها محلٌّ تُبحث فيه..
وأمَّا الشُّبهات، فيشير الحديث إلى أنَّ موارد الشُّبُهات توقع الإنسان في المحرَّمات..
وتلك قد تكون ناشئة عن الجهل بالأحكام، أو المفاهيم، أو المصاديق، فيدعو العقل إلى اجتنابه، ويحثُّ الشرع على ذلك.
وكما أنَّنا نتوقف في كلِّ نصٍّ ينافي التوحيد والعدل، أو عصمة الأنبياء والأئمة، ونردُّ علمه إليهم، كذلك ينبغي التوقُّف في الشُّبهات التي تواجهنا في كلِّ مجال.. سواءٌ في عالم السياسة، أوالعمل المسلح، أو في المعاملات، كما في العقيدة.. فهناك عشرات المصاديق التي قد تشتبه أدلتها وأحكامها على بعض المؤمنين.
وهذا التنبيه من النبيّ صلى الله عليه وآله (وَمَنْ أَخَذَ بِالشُّبُهَاتِ ارْتَكَبَ المُحَرَّمَاتِ) هو رحمةٌ منه بنا..
لقد أرشد الأئمة عليهم السلام شيعتهم إلى أبواب النجاة، وذلك بالأخذ عن العلماء العاملين المخلصين.
فقد ورد عنهم عليه السلام: عُلَمَاءُ شِيعَتِنَا مُرَابِطُونَ فِي الثَّغْرِ الَّذِي يَلِي إِبْلِيسَ وَعَفَارِيتَهُ يَمْنَعُوهُمْ عَنِ الخُرُوجِ عَلَى ضُعَفَاءِ شِيعَتِنَا وَعَنْ أَنْ يَتَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ وَشِيعَتُهُ وَالنَّوَاصِبُ (الاحتجاج ج2 ص385).
هؤلاء العلماء من مظاهر رحمة الله بالمؤمنين، يطعن بهم أعداء الدين، وشيعة إبليس، ويسعون للحطّ من شأنهم وكرامتهم ومكانتهم، فهم على الجبهة المقابلة، وهؤلاء العلماء يقفون أمامهم بكل قواهم، للحفاظ على أديان المؤمنين.
إنَّ من المؤمنين من يكون قوياً في ذات الله، تزول الجبال ولا ينتقص من دينه.. ومنهم من يكون ضعيفاً أمام شياطين الإنس والجن، الذين يسعون جهدهم لإبعاده عن دين الله.
إنَّهم يتلونون ألواناً.. تارةً باسم الدين والتشيع.. وتارةً باسم محبة آل محمد.. ويحاولون استقطاب شبابنا وشاباتنا وأبنائنا وبناتنا.
ثمَّ يطعنون بالعلماء، لمنعهم من المرابطة أمامهم.. فإذا سقط العالم فُتِحَ الباب أمام الأبالسة، وتمكَّنَ العفاريتُ من الولوج إلى عقيدة ضعفاء الشيعة.
يبين الإمام عليه السلام أهمية دور هؤلاء العلماء فيقول:
أَلَا فَمَنِ انْتَصَبَ لِذَلِكَ مِنْ شِيعَتِنَا كَانَ أَفْضَلَ مِمَّنْ جَاهَدَ الرُّومَ وَالتُّرْكَ وَالخَزَرَ الفَ الفِ مَرَّةٍ، لِأَنَّهُ يَدْفَعُ عَنْ أَدْيَانِ مُحِبِّينَا، وَذَلِكَ يَدْفَعُ عَنْ أَبْدَانِهِمْ!
إنَّ الجهاد بابٌ من أبواب الله، فتحه لخاصة أوليائه، فهو عظيمٌ عند الله، لكنَّ هذه المرابطة أفضل ألف ألف مرة من ذلك الجهاد.. لأنَّ فيها حفظ عقيدة المؤمنين نقيَّةً من التلوث.
فهنيئاً لمن وفقه الله للذبِّ عن ضعاف الشيعة.. وتَعساً لمن وقف إلى جنب الأبالسة والعفاريت وأعانهم على إضلال الشيعة.
اللهم نسألك ثباتاً على الحق، كما نسألك الرحمة والرأفة.. على يد أوليائك.. فإنَّهم مظاهر رحمتك.
والحمد لله رب العالمين
الثلاثاء 15 ذو القعدة 1441 هـ الموافق 7 تموز 2020 م.
بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
|