بسم الله الرحمن الرحيم
في جَبَلِ عامِل، يتزايد الحديث عن موضوعاتٍ ثلاثة:
أوَّلها يرتبط بـ (ولاية الأمر).
وثانيها بـ (العِرفان والتَّصَوُّف).
وثالثها بـ (الحداثوية والتشكيك).
وقد شَكَّلَت بعضُ جُزئيَّاتِها صِلَةً ورَابِطاً وعُلقَةً بين بلاد فارس، وجبل عامل.. فكيف ذلك؟!
* * *
إنَّ العلاقة بين العَرَبِ والفُرس عموماً، هي علاقةٌ متأرجحة.. مَرَّت بأطوارٍ مختلفة..
فتارةً بَلَغَت حَدَّاً من الانصهار، بحيث ذابت شرائح من العرب في بلاد الفُرس، وأخرى من الفُرس في بلاد العَرَب.
وتارة أخرى تَحَوّلَت عداءً قومياً أو مذهبياً!
مع أنَّه لا فضل لِعَرَبيٍّ على عَجَمِيٍّ إلا بالتقوى..
* * *
أمّا العلاقة بين بلاد فارس وجبل عامل فقد كان لها خصوصيتها..
وكان لعلماء جبل عامل في حقبةٍ زمنيَّةٍ خاصَّةٍ تأثيرٌ معروفٌ في بَثِّ العلم في بلاد فارس، وتثقيف الناس وإرشادهم إلى أمور دينهم، بل كان الكيان العام في تلك البلاد حينها يعتمد على هؤلاء العلماء اعتماداً شديداً..
* * *
ومَن قُدِّرَ له الإطلاع على المجتمع الإيراني، رأى فيه تَنَوُّعاً عجيباً، وعَصفاً فِكريّاً هائلاً لا يهدأ.. قديماً وحَديثاً..
ففي أيامنا المعاصرة مثلاً ترى في تلك البلاد جُملةً مِن كبار فقهاء الطائفة.. ومركزاً من مراكز العلم والمعرفة.. وثِقلاً من أثقال الحوزة العلمية.. تُثرِي الدُّنيا بعلوم آل محمد عليهم السلام..
وترى كذلك رموزاً للفلسفة.. والتَصَوُّف.. والعِرفان..
ودُعَاةً للحداثوية.. والإلحاد..
وجحافل من أصحاب التشكيك..
وهكذا.. ترى في هذا المجتمع كما في غيره فئةً في قِمَّة التديُّن.. وأخرى في منتهى الهبوط والرَّذيلة..
* * *
لقد صارت قمّ المقدَّسة.. في أيامنا.. كما النجف الأشرف.. مَحَجَّةً لمن أراد علوم آل محمد عليهم السلام..
لقد سَبَقَ أن نَشَرَ علماء جبل عامل وغيرهم العلم في ربوع تلك البلاد.. وعاد أحفادُهُم اليوم ليستفيدوا مما بَذَرَ الأجداد..
لكنَّ من يعرف المجتمع الإيراني.. بظواهره وبواطنه.. بِخَبَايَاه وخفاياه.. بتَنَوُّعِهِ وسِعَتِه.. بعلائم القوّة ومواطن الضعف..
وينظر إلى بعض ما ينتشر في بلادنا من أفكار..
يعلم أنَّ هناك من يَجتَرُّ الهفوات والسَّقَطات الفكريَّة والعَقَديَّة، التي قد لا تخلو من بعضها بيئةٌ، ويعمل على نقلها إلى بيئتنا العامليَّة! بحججٍ مختلفة!
* * *
إنَّ البيئة العامليَّة تتصف بالطيبة، والتواضع، وحُسن الظنّ.
لقد أكثر العامليون السفر إلى شرق الأرض وغربها.. وخَبِروا الشعوب والأمم.. وكانوا أهل فِطنَةٍ وتَعَقُّل..
لكنَّ حلاوة الإيمان، وطيب النفوس في الجملة، جعلتهم يميلون مع كلِّ من يدغدغ مشاعرهم.. ويشترك معهم في محبّة العترة الطاهرة.. ولو كان يسعى لبثّ السموم.. فإنَّها من أساليب الشيطان الرجيم..
لقد قال أميرُ المؤمنين عليه السلام لكميل محذِّراً من الشيطان:
يَا كُمَيْلُ، إِنَّهُ يَأْتِي لَكَ بِلُطْفِ كَيْدِهِ، فَيَأْمُرُكَ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّكَ قَدْ أَلِفْتَهُ مِنْ طَاعَةٍ لَا تَدَعُهَا!
فَتَحْسَبُ أَنَّ ذَلِكَ مَلَكٌ كَرِيمٌ، وَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ رَجِيمٌ!
فَإِذًا سَكَنْتَ إِلَيْهِ وَاطْمَأْنَنْتَ حَمَلَك عَلَى الْعَظَائِمِ المُهْلِكَةِ الَّتِي لَا نَجَاةَ مَعَهَا! (بشارة المصطفى ج2 ص28).
* * *
لقد أوقَعَنَا بعضُ العِباد في شُبُهاتٍ وإشكالاتٍ عَقَدِيَّة خطيرة.. نُقِلَ بعضها من تلك البلاد..
رَوَّجوا لها باسم التَّشَيُّع تارة.. ودونه أخرى..
وكأنَّ هناك من يُريد العَبَثَ بعقول بعض ضعاف الشيعة، والتلاعُب بأديانهم، بالعمل على نَثرِ بِذارٍ سيئةٍ في أرضنا!
كان ذلك جزءاً من موجاتٍ فكريَّةٍ تجتاحُ البلاد.. لها نظائر أخرى تأتي كلَّ يومٍ من الشَّرق والغرب.. ما أوجب على المؤمنين السعي الدؤوب لتحصين العقيدة.. وتمتينها.. والحفاظ على الشباب والنساء والأطفال من براثن تلك الموجات..
ومن نماذج ذلك أمورٌ ثلاثة:
النموذج الأول: يرتبط بـ (ولاية الأمر)!
يَنسِبُ أصحابُهُ للفقيه كثيراً من الأمور التي يختصُّ بها المعصوم عليه السلام!
أو يَدَّعون له ما ينافي ضروريات المذهب! ويؤدي إلى الطَّعن في إخوانهم المؤمنين! ويثير التفرقة والفتنة بينهم!
يعتقدُ هؤلاء بثبوت الولاية للفقيه على المؤمنين كما ثبتت ولاية النبيِّ والإمام، ثمَّ يقول بعضهم:
- أنَّ المخالف لولاية الفقيه ساقط العدالة!
- أنَّ المخالف لولاية الفقيه ليس طاهر المولد!
- أنَّ العداء للوليّ الفقيه هو عداءٌ للنبي صلى الله عليه وآله!
- أنَّ من أنكر ولاية الفقيه فقد أنكر ولاية عليٍّ عليه السلام!
- أنَّ من لا يعتقد بولاية الفقيه فليس من أهل الإيمان!
- أنَّ الوليّ الفقيه قد خرج من بطن أمّه وهو ينطق بالشهادتين!
- أنَّ الولي الفقيه يلتقي بالإمام الحجة عليه السلام في جمكران مراراً! وينال منه ما يريد!
- أنَّ طريق الإمام محصورةٌ بالولي الفقيه! ولا يُعرَفُ الإمام إلا به!
- أنَّ الوليّ الفقيه هو بابُ الإمام المنتظر عليه السلام!
- أنَّ الإمام لن يظهر حتى تُمَهِّدُ له فئةٌ معيَّنة لا تصحُّ مخالفتها!
- أنَّ من لا يقر (بعصمة) الولي الفقيه فهو مجنونٌ أو عدوّ!
- أنَّ الفقيه -إن لم يكن معصوماً- تَجِبُ أيضاً طاعته كالمعصوم عيناً!
- أنَّ المؤمنين يُحشرون تحت راية الفقيه يوم القيامة وليس تحت راية الإمام المعصوم!
- أنَّه ينبغي إيكال كلّ الأمور الفكرية للفقيه كي يتكفَّل بها! حتى ما أمرنا الله بالتفكر فيه!
هذه عَيِّنَةٌ من كلماتٍ كثيرةٍ تَمُجُّ الآذان.. وتُلَوِّثُ الفطرة والعقيدة..
صَدَرَ بعضها من شَخصيّاتٍ ذات مكانةٍ مرموقة في بلاد فارس.. وأخرى مغمورةٍ..
وصدر بعضُها الآخر من شخصيَّاتٍ في بلادنا.. في جبل عامل.. من مستوياتٍ مختلفة.. تُكرِّرُ بعضه.. وتُنَمِّقُهُ.. وتضيف من عندها بعضاً آخر.. وتنشره في ربوعنا!
نحن لا نعلم إن كان هؤلاء قد جهلوا مداليل هذا الكلام وخطورته.. أو أنَّهم عرفوا ذلك قبل أن يتفوَّهوا به..
لكنَّنا نعلم جزماً أنهم خالفوا قولَ أمير المؤمنين عليه السلام في ثاني خطب نهجه الشريف حين قال:
لَا يُقَاسُ بِآلِ مُحَمَّدٍ (ص) مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَحَدٌ!
وَلَا يُسَوَّى بِهِمْ مَنْ جَرَتْ نِعْمَتُهُمْ عَلَيْهِ أَبَداً!
فالعَجَبُ كلُّ العَجَب.. من السكوت على مثل هذه العقائد الفاسدة، التي تُخالفُ أصول المذهب، وضرورياته العَقَدية والفقهية..
وفيها خروجٌ عمّا تسالَم عليه الشيعة قديماً وحديثاً، مِن حصر الأئمة المعصومين بالاثني عشر، ومن عدم إنزال أحدٍ منزلتهم، ومِن براءة ذمَّة الشيعة برجوعهم لفقهائهم، ومن انقطاع البابيَّة والسفارة في زمن الغيبة الكبرى، وغيرها من الضروريات الواضحة.
والله يَعلَمُ ما سيأتينا من هؤلاء في قادم الأيام!
النموذج الثاني: يرتبط بـ (العِرفان والتَّصَوُّف)!
لقد حطَّ منهج العرفان والتصوُّف رحاله في بلادنا منذ سنوات.. تحت مسميَّات مختلفة.. فتارةً عارفٌ طهرانيّ! وأخرى عارفٌ نجفيٌّ! من بلاد فارس أيضاً! وحزبه حزب الأمير! وثالثةً ورابعة وخامسة.. لا نريد الدخول في أسمائها وأحوالها..
يزعم كثيرٌ من هؤلاء أنَّ مرتبة العارف هي نفس مرتبة الإمام، فالعارفُ يندكُّ ويفنى في الإمام! والإمام يفنى في النبي! والنبي يفنى في الله! فيصيرُ العارفُ ذات الله! فيدعو نفسه! ويُجيب نفسه! إذ ليس هناك من اثنينة بينه وبين الله بزعمهم!
هي نماذج من عقائد المتصوِّفة أعداء آل محمدٍ.. تجدُ البابَ مفتوحاً إلى شبابنا وشاباتنا، وحتى إلى بعض حوزاتنا! في جبل عامل!
وقد أشبعنا البحث حولهم في كتاب (عرفان آل محمد) فليُراجع ليُعلم مدى خطورة هذه الجماعات.
النموذج الثالث: يرتبط بـ (الحداثوية والتشكيك)!
تُجَسِّدُهُ فئاتٌ تعمَدُ إلى ترجمة كلِّ ما تقع يدها عليه في تلك البلاد، ولو كانت سموماً قاتلة! أو نَشر ما يشابهه من أفكارٍ غريبةٍ عنّا ولو لم توافق موازين الشريعة..
لكنَّ المؤمن هنا يقفُ متسائلاً:
أيسوغ في شرع الحكيم أن نضع طعاماً مسموماً بين أيدي شبابنا الذين لا يقدرون على تمييزه عما سواه؟!
أتُبَثُّ السُّموم بين الناس تحت مُسميَّات الحُريَّة أيها المؤمنون؟!
أمَا أَمَرَنَا الأطهار أن نُعلِّم أبناءنا قبل أن يسبقنا إليهم أعداء الدين؟!
أننشر نحن أفكار الأعداء بين شبابنا بأنفسنا؟!
ما أكثر الأشخاص الذين تُنقَلُ كلماتهم اليوم في مجلاتٍ ومحاضراتٍ وندواتٍ وتسجيلاتٍ وهي لا توافق عقيدة آل محمدٍ في كثيرٍ من مفاصلها..
ولئن كُنَّا قد تَعَرَّضنا لبعضها في كتاب (قبسات الهدى: وقفاتٌ مع فكر الدكتور شريعتي)..
فإنَّ أضعاف أضعافها تُنشَرُ كلَّ يومٍ لمؤلفين وباحثين ومشكِّكين آخرين بكلِّ السُّبُل..
فأين نحن عن كلِّ ذلك؟!
صفوة القول
إن تأسيس عقائد جديدة، وأفكارٍ مخترعة، تحت أيٍّ من المسميَّات أعلاه هو أمرٌ يفرغ المذهب من جوهره.. ويحوِّلُهُ إلى طقوسٍ عَبَثِيَّةٍ شَكليَّةٍ لا ثمرة منها.. ولا خير فيها..
ولئن كانت هذه بعض الشُّبهات قد أتت من بلاد فارس.. فإن غيرَها قد يُنقلُ من بلادنا إلى بلادهم.. أو يأتي إلينا وإليهم من شرق الأرض وغربها..
كذلك تنتقل كلمات الهُدى من حوزاتنا العلمية في إيران والعراق إلى كلّ الدنيا..
فالحواجز قد سقطت.. وصار الحَذَرُ واجباً..
ولئن كان المذهب محفوظاً بأمر السماء.. ورعاية الحُجَّة عليه السلام.. فأين نحنُ من حفظ أنفسنا لئلا يستبدل الله تعالى بنا غيرنا؟! ولا يكونوا أمثالنا!
هذه دعوةٌ للحَذَرِ..
لئلا تكون هذه النماذج سهاماً ثلاثة، أو سَهماً ذي ثلاث شُعَب.. يسقط في جبل عامل أو في غيره، فيُصيبُ من بعض المؤمنين مَقتَلاً!
لقد بَيَّنَ أميرُ المؤمنين لنا طريق النجاة، حين حَدَّث كُميل عن الشياطين فقال:
يَا كُمَيْلُ، إِنَّ الْأَرْضَ مَمْلُوَّةٌ مِنْ فِخَاخِهِمْ، فَلَنْ يَنْجُوَ مِنْهَا إِلَّا مَنْ تَشَبَّثَ بِنَا!
فآل محمدٍ عليهم السلام هم طريق النجاة، ولا طريق سواهم.. وكلُّ أهل العلم على مائدتهم.. يتعلَّمون علومهم، ثمَّ يُعلِّمونها للنّاس، ويُنَبِّهونَهم من قطّاع الطُّرُق، الذين يسلبون الأديان.. باسم رَبِّ الأديان!
أجارنا الله منهم.
وعظَّمَ الله أجورنا وأجوركم.
والحمد لله رب العالمين
الأربعاء 14 محرم 1445 للهجرة، الموافق 2-8-2023 م
بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
|