بسم الله الرحمن الرحيم
لقد أرسل الله تعالى نبيَّه موسى بالآيات لهداية قومه، فقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله إِنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ (إبراهيم5).
ولقد أُمِرَ كليمُ الله موسى عليه السلام بالتذكير بأيَّام الله، كوسيلة تُعينُه على إخراج قومه من الظّلمات إلى النور.
لكن الآية الشريفة تفتح لنا أبواباً وأسئلة عدَّة..
فما المراد من أيام الله؟! هل هي الأيام التي خلقها الله؟!
ليس الأمر كذلك أبداً.. لأنَّ الله تعالى هو خالقُ كلِّ الأيام، ولا خالق لها سواه.. وليس المراد تذكير النّاس بكلِّ الأيام ليؤمنوا!
بأيِّ أيامٍ إذاً يُذَكِّرُهُم نبيُّ الله موسى عليه السلام؟
ولماذا تنسب تلك الأيام لله؟
وما صلتنا نحن بذلك؟ وما صلةُ الإمام الحسين عليه السلام بهذه الأيام؟!
1. ما هي أيَّامُ الله؟!
لقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله عندما قُرئت عنده هذه الآية، أنَّه قال: أَيَّامُ الله نَعْمَاؤُهُ.. وَقَدْ أَوْحَى إِلَيَّ رَبِّي (جَلَّ جَلَالُهُ) أَنْ أُذَكِّرَكُمْ بِالنِّعْمَة (الأمالي للطوسي ص491).
وعن الصادق عليه السلام: ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله﴾ قال: بآلائه، يعني نِعَمه (تفسير العياشي ج2 ص222).
فصارَت أيامُ الله نِعَمُهُ، وصار النبيُّ محمدٌ صلى الله عليه وآله مأموراً كموسى عليه السلام، وكسائر الأنبياء، أن يذكِّروا الناس بنعم الله تعالى، فمَن أقَرَّ بها، ورأى عَظَمَتَها، بدءً من نعمة الخلق والإيجاد، مروراً بنعمة الحياة وحُسن الصورة والتركيب.. وهبة العقل والفكر.. وتهيئة سبل الهداية.. وتسخير السماوات والأرض وما بينهما.. إلى غيرها من النِّعَم التي لا تُعَدُّ ولا تحصى..
من أقرَّ بذلك.. وكان منصفاً.. آمن بالله تعالى فانتقل من الظلمة إلى النور.
لكنَّ الأحاديث أشارت أيضاً إلى ثلاثة أيامٍ على نحوٍ خاصٍّ كانت هي أيام الله.. كانت نعمةً على المؤمنين، ونقمةً على الكافرين..
ففي الخبر عن الباقر عليه السلام: أَيَّامُ الله عَزَّ وَجَلَّ ثَلَاثَةٌ:
1. يَوْمَ يَقُومُ القَائِمُ.
2. وَيَوْمَ الكَرَّةِ.
3. وَيَوْمَ القِيَامَةِ (الخصال ج1 ص108).
فما قصَّةُ هذه الأيام؟!
2. كيف تنسب الأيام لله تعالى؟ وما الثمرة من معرفتها؟!
لقد تكثرت نسبة الأشياء لله تعالى في القرآن الكريم وعلى لسان الأطهار عليهم السلام.
فمن حيث المكان: نُسِبَ لله تعالى بيتٌ، هو الكعبة.
ثم نُسِبَت لله بيوتٌ، وهي المساجد.
ففي الحديث: إِنَّ الكَعْبَةَ بَيْتُ الله.. وَالمَسَاجِدَ بُيُوتُ الله (من لا يحضره الفقيه ج1 ص199).
ومن حيث الزمان: نُسِبَ له شهرٌ، فقيل: شهر الله، وهو شهر رمضان.
وهكذا نُسِبَ لله عرشٌ، وكرسيٌّ.
ثُمَّ نُسِبَت لله روحٌ.. وهو المسيح عليه السلام.
وكلُّ هذه الأشياء.. من مكانٍ أو زمانٍ أو شخوصٍ أو غيرها هي من مخلوقات الله تعالى.. وإنما اكتسبت شَرَفَاً من نسبتها له عزَّ وجل.
وقد نُسِبَت له لخصوصيةٍ فيها، دون أن يحلَّ الله تعالى فيها أو يخضع لها، أو يماثلها ويشاكلها.. فهو تعالى منزَّه عن كلّ ذلك.
وكانت القاعدة أنَّ ما أراد الله تعظيمه من الأوقات أو الأماكن أو الأشخاص نسبه إلى نفسه.
وهكذا تميَّزَت بعضُ الأيام عن بعض، فشَهرُ الله أفضل من سائر الشهور. وليلة القدر أعظم مِن سواها. ويوم الجمعة أفضل من سائر أيام الأسبوع.. وهكذا.
لكنَّ المؤمن قد يسأل فيقول: ما الثَّمَرة من العلم بهذه الأيام؟
يظهر الجواب جلياً من كون العلم بها خصلةً مَدَحَ بها النبيُّ صلى الله عليه وآله علياً عليه السلام، كما نقل ذلك أعدى أعدائه!
فقد نقل عمر بن الخطاب قول النبيّ صلى الله عليه وآله لعليٍّ عليه السلام: أنت أول الناس إسلاماً، وأعلمهم بأيام الله (العثمانية ص292، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج13 ص230).
فعليٌّ أعلم الناس بِنِعَمِ الله تعالى، لأنه أعرف الناس بالله تعالى.
وعليٌّ أعلم الناس بيوم قيام الحجة.. ويوم الرجعة.. ويوم القيامة..
ولمّا كانت معرفة هذه الأيام سبباً للخروج من الظلمات إلى النور.. لزم على المؤمن أن يتعرَّف عليها.
يعلمُ المؤمن أن لبعض الأوقات شرافتها..
فيعلم مثلاً أن يوم الغدير هو: يَوْمُ دَحْرِ الشَّيْطَانِ (مصباح المتهجد ج2 ص756).
وأنَّه اليوم الذي يئس فيه الكفار.. وَطَمَعَ الظَّلَمَة!
وأنَّه اليوم الذي صَرَخَ فيه إبليسُ صرخَةً لم يسمع الأبالسة صرخةً أوحشَ منها! وقال: فَعَلَ هَذَا النَّبِيُّ فِعْلًا إِنْ تَمَّ لَمْ يُعْصَ الله أَبَداً! (الكافي ج8 ص344).
ويعلم المؤمن أنَّ إبليس عاد بعد انتكاسته هذه، وانتعشت آماله.. يوم قيل للنبي إنه يهجر!
طرب إبليس حينها وجمع أولياءه وقال: هَؤُلَاءِ نَقَضُوا العَهْدَ وَكَفَرُوا بِالرَّسُولِ!
يعلم المؤمن أن إبليس قال لأوليائه لما زويت الخلافة عن علي عليه السلام: اطْرَبُوا، لَا يُطَاعُ الله حَتَّى يَقُومَ الإِمَامُ!
المؤمن يستذكر كلّ تلك الأيام.. ولا يغفل عنها..
ولا عن منهج إبليس عندما سَنَّ سُنَّة التشكيك بآل محمدٍ، ثمَّ حَمَلَ الناس على عداوتهم، وأغراهم بهم وبأوليائهم.. حتى استحكم ضلالة الخلق، وجَرَّهم إلى يوم الحسين الشهيد بكربلاء..
فكان يوماً ليس كمثله يومٌ..
ذاكَ حيثُ قتل الحسين عليه السلام قتلةً ما قتل مثلها أحدٌ قبله.. قتلةً نهى النبيّ أن يقتل بها حتى الكلاب!
منذ تلك اللحظة.. ارتبط يوم الحسين بأيام الله تعالى.. فظهرت آثارُهُ جليةً فيها كلَّها.
فإذا تأمَّلنا في أيام الله تعالى، ونظرنا إلى حال الحسين فيها.. وجدنا عجباً..
أولاً: الحسين ويوم قيام القائم
ينتظرُ المؤمنون يومَ الظهور المبارك..
يومَ يبدو الإمام المنتظر: كَالشِّهَابِ الوَاقِدِ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ!
هو يومٌ عظيمٌ في تاريخ الأمم.. يومٌ موعودٌ مُترَقَّبٌ.. ستجري فيه أحداث جِسامٌ..
سينتقم الله فيه من أعدائه، من قتلة الأنبياء وأبناء الأنبياء، ومن الراضين بفعالهم..
سيُرجِعُ الحقَّ السليبَ إلى أهله، وسيشفي الله به صدورَ قومٍ مؤمنين.. ويقرُّ فيه أعينهم.
لكنَّ العجيب هو شعارُ ذلك اليوم!
فإنَّ الإمام المنتظر هو: الَّذِي يَظْهَرُ فِي بَيْتِ الله ذِي الأَسْتَارِ، وَيُنَادِي بِشِعَارِ: (يَا لَثَارَاتِ الحُسَيْنِ، أَنَا الطَّالِبُ بِالأَوْتَار) (المزار الكبير لابن المشهدي ص107).
يَا لَثَارَاتِ الحُسَيْنِ: هو شعارُ الإمام المنتظر الذي ادَّخره الله لإحقاق الحق.. وأوَّل حقٍّ يطالب به هو حق الحسين عليه السلام!
يرفع أصحابُهُ هذا الشعار أيضاً..
شِعَارُهُمْ (يَا لَثَارَاتِ الحُسَيْنِ)، إِذَا سَارُوا يَسِيرُ الرُّعْبُ أَمَامَهُمْ مَسِيرَةَ شَهْرٍ! (بحار الأنوار ج52 ص308).
يشاركهم في ذلك أيضاً ملائكةٌ يقيمون الساعة عند قبر الحسين عليه السلام، ينتظرون ظهور الإمام الحجة: فَيَكُونُونَ مِنْ أَنْصَارِهِ، وَشِعَارُهُمْ (يَا لَثَارَاتِ الحُسَيْن) (الأمالي للصدوق ص130).
في ذلك اليوم يجمع الله المؤمنين تحت راية الإمام بعد تفرُّقهم، وبعد تشتُّت أمرهم.. وبعد استذلال بعضهم بعضاً! وقتل بعضهم بعضاً!
فواخجلتاه على ما نفعل في أيامنا! وعلى تشتُّت أمرنا..
في أوَّل أيام الله يجتمع الشيعة معاً ليكونوا من الآخذين بثأر الحسين عليه السلام.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: مَعَ أَنَّ الله وَلَهُ الحَمْدُ سَيَجْمَعُ هَؤُلَاءِ لِشَرِّ يَوْمٍ لِبَنِي أُمَيَّةَ.. يُؤَلِّفُ الله بَيْنَهُم.. وَلَعَلَّ الله يَجْمَعُ شِيعَتِي بَعْدَ التَّشَتُّتِ لِشَرِّ يَوْمٍ لِهَؤُلَاءِ (الكافي ج2 ص64-66).
هكذا.. يصير اسم الحسين عنوان الظهور المبارك..
ويصير ثأره شعار الإمام المنتظر وأعوانه!
ثانياً: الحسين يوم الكرة
يوم الكرَّة هو يوم الرجعة، أو بعض أيامها وأحوالها.
يوم يُرجِعُ الله تعالى كثيراً من عباده إلى الدُّنيا قبل يوم القيامة.
لكنَّ مِن أعجب ما روي في يوم الكرَّة.. ما نُقِلَ عن الصادق عليه السلام:
إِنَّ أَوَّلَ مَنْ يَكُرُّ فِي الرَّجْعَةِ الحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ (ع)! (مختصر البصائر ص91).
لكنَّ حاله في كَرَّته تلك سيكون مغايراً لحاله يوم عاشوراء.. ففي ذلك اليوم يمدُّه الله تعالى بالنَّصر على أعدائه.
يوصف عليه السلام في الدعاء الذي ندعو به يوم ولادته:
قَتِيل العَبَرَةِ، وَسَيِّد الأُسْرَةِ، المَمْدُود بِالنُّصْرَةِ يَوْمَ الكَرَّة (مصباح المتهجد ج2ص826).
نَصرٌ يشترك فيه ملائكة السماء، والشيعة المؤمنون..
بل يكرُّ فيه معه أبوه أمير المؤمنين علي عليه السلام ليشاركه في الأخذ بالثار..
لقد وعد الله تعالى الحسين عليه السلام أن يكرَّه: إِلَى الدُّنْيَا حَتَّى يَنْتَقِمَ بِنَفْسِهِ مِمَّنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِه (كامل الزيارات ص65).
لذا.. سيكون ذلك اليوم يوماً مشهوداً.. إنَّه ثاني أيام الله!
ثالثاً: الحسين يوم القيامة
في ثالث أيام الله تعالى مواقف عجيبة للحسين عليه السلام.
منها موقفٌ مع جدِّه النبيِّ صلى الله عليه وآله.. وآخر مع أمِّه فاطمة عليها السلام.
في الموقف الأول يُقبِلُ النبيُّ صلى الله عليه وآله ومعه الحسين عليه السلام: (وَيَدُهُ عَلَى رَأْسِهِ يَقْطُرُ دَماً) !!
في الموقف الأول هذا.. يدُ الحسين على رأسه!
وفي الموقف الثاني.. رأسُ الحسين على يده!
في الموقف الأول يكون الحسين مع جده.. وفي الثاني أمام أمِّه فاطمة!
إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ نُصِبَ لِفَاطِمَةَ (ع) قُبَّةٌ مِنْ نُورٍ: (وَأَقْبَلَ الحُسَيْنُ (ع) رَأْسُهُ عَلَى يَدِهِ) !!
ما أعجب هذين المشهدين..
الأول قد يحاكيه مشهدُ المؤمنين الذين يُدمُونَ رؤوسهم، ويضعون أيديهم عليها مواساةً للحسين عليه السلام!
فتسيلُ دماؤهم كما سالت دماء الحسين.. وهيأتهم تحاكي موقف الحسين يوم القيامة.
لكنَّ المشهد الثاني لا نظيرَ لهُ.. رأس الحسين على يده!
هو مشهدٌ يحطم القلوب.. فتشهقُ الزهراء عليها السلام لمّا تراه!
لَا يَبْقَى فِي الجَمْعِ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ وَلَا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ إلا بَكَى لَهَا!
حينها.. يخاصِمُ الإمامُ قَتَلَتَهُ بِلَا رَأْسٍ!!
ثم يقتلهم على آخرهم.. ثم يُنشَرُون مراراً ويُقتَلون.. يشترك في قتلهم الأئمة الأطهار وذريتهم..
فَعِنْدَ ذَلِكَ يَكْشِفُ الله الغَيْظَ وَيُنْسِي الحُزْنَ!
آهٍ ثمَّ آهٍ يا حسين..
لقد بَشَّر الأنبياء بجدك وأبيك، وأمك وأخيك.. واستذكروا مصيبتك، واستعبروا وبكوا عليك..
لقد ذَكَّرَ الأنبياء أقوامهم بأيام الله.. وكلُّ ناظرٍ في أيام الله يرى لك فيها أثراً عجيباً..
لقد بكاك الأنبياء والأولياء.. ولا زالت أيامك تُبكِي محبيك.. وتفطر قلوبهم..
وهم يعلمون أن الحُزن لن ينسى قبل يوم القيامة.. وأنَّ الغيظ لن يكشف إلا في آخر أيام الله..
فسلام الله عليك يا أبا عبد الله.. وعلى الأرواح التي حلَّت بفنائك..
يا ليتنا كنا معك سيدي.. فنفوز فوزاً عظيماً..
وإنا لله وإنا إليه راجعون..
ليلة الخميس، أولى ليالي محرم 1445 هـ، الموافق 19 – 7 – 2023 م
بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
|