• الموقع : موقع العلم والإيمان.. مقالاتٌ وأبحاثٌ ومؤلفات.. بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي .
        • القسم الرئيسي : المقالات والأبحاث .
              • القسم الفرعي : سيد الأنبياء محمد ص / مقالات عامة ومتنوعة .
                    • الموضوع : 227. وخافوا الدموع.. في البقيع! .

227. وخافوا الدموع.. في البقيع!

بسم الله الرحمن الرحيم

لقد روى مسلمُ في صحيحه عن عائشة أنَّها قالت:

كَانَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كُلَّمَا كَانَ لَيْلَتُهَا مِنْ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَخْرُجُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ إِلَى الْبَقِيعِ! (صحيح مسلم ج2 ص669).

لقد نقلوا عن النبيِّ صلى الله عليه وآله نهيه عن الصلاة البتراء، ثم صلُّوا عليه وأعرضوا عن أهله!

ونقلوا أنَّه كان يخرُجُ إلى البقيع كلَّ ليلةٍ، ثمَّ امتنعوا عن الخروج إليها ليلاً ونهاراً! ومنعوا النّاس من زيارة قبور الأئمة والصالحين فيها!

فأين قول الله تعالى: ﴿لَقَدْ كانَ لَكُمْ في‏ رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا الله وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثيراً﴾ (الأحزاب21).

أليس النبيُّ أسوةً لمن كان يرجو الله واليوم الآخر؟ أم أنَّهم لا يرجون ذلك؟! فلماذا إذاً يمنعون من كان يرجو الله؟!

ولماذا يُحارَبُ الأئمة الأطهار في البقيع بعد شهادتهم كما حوربوا في حياتهم؟! فيُمنعُ شيعتهم من عمارة قبورهم وتعاهدها وزيارتها؟!

وإذا كان الشيعة والسُّنَّة قد اتفقوا على جواز زيارة القبور، فلماذا المنعُ من ذلك اليوم؟!

لقد استغرق القومُ في بغض آل محمدٍ وشيعتهم، ثمَّ جرَّهم ذلك إلى الحسد القاتل.. وأضيف إليهما أمرٌ ثالث، هو (عامِلُ الخَوف)!

نعم أيُّها الأحبَّة.. إنَّه الخوف من دموع المؤمنين! الباكين على النبي وآله الأطهار!

فكيف ذلك؟

أولاً: زيارة القبور وآثارها

لقد روى السُنَّةُ رواياتٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وآله في منع زيارة القبور، ثمَّ ما لبثوا أن رووا رواياتٍ أخرى في جوازها!

وجمعوا بينهما بأن قالوا أنَّها كانت مُحرَّمة، ثم حَلَّت.. أي أنَّ الحُرمة قَد نُسِخَت، وصار الحكم هو الجواز.

ونقلوا ذلك في صحاحهم، ومن ذلك ما نقله مسلم عن النبيّ صلى الله عليه وآله: نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوهَا (صحيح مسلم ج3 ص1564 ح1977).

وصرَّح كثيرٌ من علمائهم بأنَّ الروايات الناهية منسوخة، منهم صاحب المستدرك حين قال: هَذِهِ الْأَحَادِيثُ المَرْوِيَّةُ فِي النَّهْيِ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ مَنْسُوخَة (المستدرك على الصحيحين ج2 ص363).

فصار من الواضح أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله أمر بزيارة القبور.

ثمَّ حثَّ النبيُّ وشجَّع على هذه الزيارة، وذكر بعض ثمارِها وفوائدها وآثارها، التي يطلبُها المؤمن العاقل، وتنفعه في دينه ودُنياه، فصار إتيان القبور لذلك راجحاً جدَّاً.

فمِن آثار إتيانها بحسب الأحاديث الصحيحة عن النبيِّ عليه السلام في كتب السنَّة أنَّها سببٌ للاعتبار.. فعنه صلى الله عليه وآله: فَزُورُوهَا، فَإِنَّ فِيهَا عِبْرَةً (المستدرك على الصحيحين ج2 ص364).

ومن آثارها ما ورد عنه صلى الله عليه وآله: أَلَا فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا، وَتُذَكِّرُ الْآخِرَةَ(المستدرك على الصحيحين ج2 ص364).

وعنه صلى الله عليه وآله: فَزُورُوهَا، فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ المَوْتُ (المستدرك على الصحيحين ج2 ص365).

وعنه صلى الله عليه وآله: أَلَا فَزُورُوهَا، فَإِنَّهُ يُرِقُّ الْقَلْبَ، وَتُدْمِعُ الْعَيْنَ، وَتُذَكِّرُ الْآخِرَةَ (المستدرك على الصحيحين ج2 ص367).

وعنه صلى الله عليه وآله: فَزُورُوهَا، وَلْتَزِدْكُمْ زِيَارَتُهَا خَيْرَاً (المستدرك على الصحيحين ج2 ص366).

كلُّ هذه الآثار مما يتسابقُ العقلاء المؤمنون عليها، لأنَّ فيها النجاة والفلاح يوم تقع الواقعة..

لكنَّ فئةً من المسلمين.. كَرِهَت ما أمر به النبيُّ صلى الله عليه وآله، وامتنعت عنه.. ومنعتِ الآخرين عنه!

ثانياً: بكاء النبي عند القبور

لقد كان النبيُّ صلى الله عليه وآله يزور قبور البقيع، ويسلِّم على أهلها.

بل كان صلى الله عليه وآله يبكي عند القبور.. والبكاء من علامات لِين القلب، والقُرب من الله تعالى..

وقد نقل البخاري في صحيحه عند أنس بن مالك بكاء النبيِّ عند القبور، فبعدما نقل أنس جلوس النبيِّ على القبر قال: فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ (صحيح البخاري ج2 ص372 ح 1162).

وقد روي في كتب السنَّة أنَّه صلى الله عليه وآله كان يزور قبرَ أمَّه، ويأخذ معه عدداً كبيراً من أصحابه، ويبكي عليها بكاءً شديداً، ففي المستدرك على الصحيحين: زَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَبْرَ أُمِّهِ فِي أَلْفِ مُقَنَّعٍ، فَلَمْ يُرَ بَاكِيًا أَكْثَرَ مِنْ يَوْمَئِذٍ (ج2 ص365).

ولقد كان ينزل بأصحابه لزيارة أمِّه الطاهرة عليها السلام، فعن بريدة: كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَرِيبًا مِنْ أَلْف رَاكِب، فَنَزَلَ بِنَا فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ‌، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ وعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ (المستدرك على الصحيحين ج2 ص366).

بل كان صلى الله عليه وآله يُبكي مَن حوله!

فقد روي عن أبي هريرة أنه قال: زَارَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَبْرَ أُمِّهِ، فَبَكَى وأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ! (المستدرك على الصحيحين ج2 ص365).

ولعلَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله كان يمهِّد لإقامة المآتم، والبكاء والنحيب عند المراقد المقدَّسة، ويعلِّم أصحابه ذلك.

فلقد كانت عيناه تذرفان الدُّموع تارةً، وكان كثير البكاء تارةً أخرى، وكان يرتفع نحيبُه ثالثةً!

ولهذا تأسَّى الشيعة بفعل النبيِّ صلى الله عليه وآله في كثرة بكائهم ونحيبهم عليه وعلى آله الأطهار..

لقد كان يرتفع نحيبُه بحسب كتب السنَّة وهو يبكي عند قبر أمِّه، وكان يُبكي من حوله أيضاً، فيما يشبه المآتم التي يقيمُها الموالون اليوم.

ففي مصنف عبد الرزاق عن ابن مسعود: خَرَجَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم يَوْمًا، فَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى المَقَابِرِ، فَأَمَرَنَا فَجَلَسْنَا، ثُمَّ تَخَطَّيْنَا الْقُبُورَ حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى قَبْرٍ مِنْهَا، فَجَلَسَ إِلَيْهِ فَنَاجَاهُ طَوِيلًا، ثُمَّ ارْتَفَعَ نَحِيبُ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم بَاكِيًا، فَبَكَيْنَا لِبُكَائِهِ! (مصنف عبد الرزاق ج3 ص572).

يُلاحظ من هذه الأخبار أنَّ النبيَّ أيضاً كان يأمر أصحابه بالجلوس عند القبور، وكان يناجي مَن في القبر طويلاً.. ويكبي كثيراً!

وأيُّ شيءٍ يفعله الشيعة اليوم سوى ذلك؟! فيُتَّهمون بعبادة القبور والشِّرك بالله تعالى! وهم يتأسون بخير الخلق صلى الله عليه وآله!

نعم يزعم رواة هذه الأحاديث بعد ذلك أنَّه صلى الله عليه وآله نفى الإيمان عن أمِّه الطاهرة.. وهو كذبٌ وافتراءٌ عليه وعليها..

لقد كفَّروا أمَّه وأباه.. كما كفَّروا أبا طالب..

لقد أرادوا وضع من رفع الله، ورفع من حَقَّرَ الله..

ولكن يأبى الله إلا أن يتمَّ نوره..

ثالثاً: زيارة البقيع وسائر القبور

روى المخالفون أنَّ النبيِّ صلى الله عليه وآله خرج ليلةً وهو عند عائشة، فجعلت دِرعها في رأسها، واختمرت وتقنَّعت وانطلقت في أثره!

تقول: فَانْطَلَقْتُ فِي أَثَرِهِ حَتَّى جَاءَ الْبَقِيعَ، فَرَفَعَ يَدَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وأطال الْقِيَامَ، ثُمَّ انْحَرَفَ فَانْحَرَفْتُ‌، فَأَسْرَعَ فَأَسْرَعْتُ‌، وهرول فَهَرْوَلْتُ‌، وأحضر فَأَحْضَرْتُ‌، فَسَبَقْتُهُ فَدَخَلْتُ‌، فَلَيْسَ إِلَّا أَنِ اضْطَجَعْتُ!

لقد ذهب فِكرُ عائشة إلى محلٍّ آخر.. فقال لها النبيُّ صلى الله عليه وآله: أظننت أَنْ يَحِيفَ الله عَلَيْكِ ورسوله؟!

ثمَّ قال لها: إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي.. فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَ أَهْلَ الْبَقِيعِ فَأَسْتَغْفِرَ لَهُمْ (مصنف عبد الرزاق ج3 ص570).

لقد كان صلى الله عليه وآله يأتي أهل البقيع الأموات كلَّ ليلة وهو عند عائشة، كما نقل مسلم في صحيحه، وكان ذلك بأمر الله بلا ريبٍ، فالنبيُّ أطوع الناس لله تعالى..

لكنَّ المؤمنين اليوم يُمنعون من زيارة البقيع ليلاً.. بل نهاراً..

فإن دخلوا إليه في أوقاتٍ محدودة.. كانوا ممنوعين من الزيارة.. ومن الجلوس كما أمر النبيُّ أصحابه بالجلوس.. محرومين من المَكث عند القبور ومناجاتها تأسيَّاً برسول الله صلى الله عليه وآله!

‌إنَّ المؤمن لا يقدرُ اليوم أن يُخَلِّي بين عينيه وبين دموعها في البقيع وعند القبور.. كما كان يفعل النبيُّ صلى الله عليه وآله..

فما السرُّ في ذلك؟! ولماذا الخوفُ من الدموع؟!

رابعاً: فاطمة وقبر النبيّ!

لقد روى السنَّة في خبرٍ صحيحٍ عندهم عن الإمام الحسين عليه السلام أنَّ أمَّه الزهراء عليها السلام: كَانَتْ تَزُورُ قَبْرَ عَمِّهَا حَمْزَةَ كُلَّ جُمُعَةٍ، فَتُصَلِّي وَتَبكِي عِنْدَهُ (المستدرك على الصحيحين ج2 ص368).

فإذا كان هذا حالُها مع حمزة عليه السلام، فما حالها لما استشهد النبيُّ صلى الله عليه وآله؟!

لقد روي أنَّها عليها السلام كانت: لَا تَرْقَأُ دَمْعَتُهَا، وَلَا تَهْدَأُ زَفْرَتُهَا!

لقد خافُ مبغضوها أن يُجَيِّشَ بكاء الزهراء المشاعر.. ويلهب العواطف..

وخشيَ الأجلافُ، الذين اقتحموا عليها دارَها.. وظلموها.. وأسقطوا جنينها.. وسلبوها حقَّها.. وحقَّ بعلها أمير المؤمنين في الخلافة.. خشيَ هؤلاء انقلاب الناس عليهم..

خافوا أن تؤثِّرَ الدموع في الناس.. فترقّ القلوب وتَلين.. للحق وأهله.. فجاء منهم من قال لعليٍّ عليه السلام:

وَإِنَّا نُخْبِرُكَ أَنْ تَسْأَلَهَا إِمَّا أَنْ تَبْكِيَ لَيْلًا أَوْ نَهَاراً!

وروي أنَّه عليه السلام: بَنَى لَهَا بَيْتاً فِي الْبَقِيعِ نَازِحاً عَنِ المَدِينَةِ يُسَمَّى بَيْتَ الْأَحْزَانِ!

وَكَانَتْ إِذَا أَصْبَحَتْ قَدَّمَتِ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ (ع) أَمَامَهَا وَخَرَجَتْ إِلَى الْبَقِيعِ بَاكِيَة فَلَا تَزَالُ بَيْنَ الْقُبُورِ بَاكِيَةً (بحار الأنوار ج‏43 ص178).

لقد منع الأوائل الزهراء من البكاء عند قبر أبيها!

ومنع الأواخر الشيعة من البكاء عند قبره.. وقبر الأئمة من ولده!

يتأذى هؤلاء من البكاء كما أولئك..

يُخيفُهم.. يُرعبُهم.. يؤرِّقهم.. أن تسيلَ الدُّموع على الخدين.. وترتفع أصوات النحيب.. قُربَ قَبرِ النبيِّ الحبيب..

تلينُ حينها القلوب.. وينقلب أعلى المدينة أسفله..

يُعرَفُ حينها شيءٌ من الظُّلامة..

ظلامة النبيِّ الذي لم يُحفَظ في عترته.. فقُتِلُوا وشُرِّدوا، وظُلِمُوا واضطهدوا..

وظلامة فاطمة.. صاحبة القبر المستور..

ولو قدِّرَ للشيعة.. لبكوا عليها في كلِّ شبرٍ من مدينة الرَّسول.. كما بكوا على أبيها..

ولتمثَّلوا قولها عليها السلام لأبيها صلى الله عليه وآله:

فَلَأَجْعَلَنَّ الحُزْنَ بَعْدَكَ مُؤْنِسِي * * * وَلَأَجْعَلَنَّ الدَّمْعَ فِيكَ وِشَاحِيَا

لقد حُرِمَ المؤمنون من البكاء عند النبي، والنوح والنحيب.. وإقامة المآتم..

ثمَّ حرموا من معرفة قبر فاطمة الطاهرة..

ثم منعوا من زيارة قبور البقيع..

فآهٍ من هذه الظلامة.. آهٍ.. ثمَّ آه..

يتخطَّرُ المؤمن اليومَ حال الإمام المنتظر.. عندما يزور المدينة..

هو العالِمُ بقبر أمِّه الطاهرة..

فأيُّ بكاءٍ يبكي عليها.. وعلى أبيها.. وأبنائها..

ينتظر المؤمنون ساعةً يكشفُ الله فيها على يديه هذا الكرب العظيم.. ويعيد الحقَّ السليب.. فتقرّ عيونهم..

لا ندري.. تلك ساعةٌ ترقأ فيها الدموع.. أم تنهمر..

نسأل الله أن يعجِّل لوليه الفرج..

وإنا لله وإنا إليه راجعون

والحمد لله رب العالمين

السبت 8 شوال 1444 هـ الموافق 29 – 4 – 2023 م


بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

  • المصدر : http://www.aliiman.net/subject.php?id=293
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2023 / 04 / 29
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 5