بسم الله الرحمن الرحيم
ها هي أيام شهر رمضان تَتَصَرَّم.. ولياليه تنقضي..
ويقتربُ (يومُ الجائزة)!
جائزةٌ يُنادى بها مرتان:
1. مرَّة إذا طلع هلال شوال..
2. ومرَّة صبيحة يوم الفطر..
فعن النبيِّ صلى الله عليه وآله: إِذَا طَلَعَ هِلَالُ شَوَّالٍ نُودِيَ المُؤْمِنُونَ أَنِ: اغْدُوا إِلَى جَوَائِزِكُمْ، فَهُوَ يَوْمُ الجَائِزَةِ (الكافي ج4 ص68).
وعن الصادق عليه السلام: إِذَا كَانَ صَبِيحَةُ يَوْمِ الفِطْرِ نَادَى مُنَادٍ: اغْدُوا إِلَى جَوَائِزِكُمْ (الكافي ج4 ص168).
هي ليست جوائز الملوك، بل جوائز الله تعالى، الملك العلّام..
هي ليست جائزة الدنانير والدراهم.. بل جوائزُ المؤمنين العاملين في شهر الله المبارك..
فكلُّ من عمل في هذا الشهر نالَ جائزته في عيد الفطر!
فالعامل والأجير: إِنَّمَا يُعْطَى أُجْرَتَهُ عِنْدَ فَرَاغِهِ، ذَلِكَ لَيْلَةَ العِيدِ (الكافي ج4 ص167).
هي ليلةٌ عظيمةٌ إذاً.. ويومٌ عظيم..
يستثمرهما المؤمن.. فيعود إلى ربِّه فيهما.. فإن كان من أهل الخير نالَ جائزته فيهما.. وإن لم يكن كذلك.. أمَّلَ أن يرحمه ربُّه فيهما.. حيثُ يعتقُ الله في الفطر عباداً من عبيده من النار.. لكرمه ورحمته..
فعن النبيِّ صلى الله عليه وآله: لله فِيهِ عِنْدَ كُلِّ فِطْرٍ عُتَقَاءُ يُعْتِقُهُمُ الله مِنَ النَّار (الكافي ج4 ص67).
وهكذا يتوجَّه المؤمن إلى الله تعالى في عيد الفطر.. فيردِّدُ كلامَ السجاد عليه السلام:
اللهمَّ إِنَّا نَتُوبُ إِلَيْكَ فِي يَوْمِ فِطْرِنَا، الَّذِي جَعَلْتَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ عِيداً وَسُرُوراً، وَلِأَهْلِ مِلَّتِكَ مَجْمَعاً وَمُحْتَشَداً:
يكشفُ هذا الدُّعاء أنَّ الله تعالى هو الذي جعل الفطرَ عيداً.. وهو الذي جعله للمؤمنين سروراً، وهو الذي جعله باباً يجتمع ويحتشد فيه المؤمنون، يعايدُ بعضهم بعضاً، يأنسُ بعضهم ببعض، ويعودُ كلُّ واحدٍ منهم فيه إلى ربه..
ففيه نتوبُ إلى الله: مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ أَذْنَبْنَاهُ، أَوْ سُوءٍ أَسْلَفْنَاهُ، أَوْ خَاطِرِ شَرٍّ أَضْمَرْنَاهُ، تَوْبَةَ مَنْ لَا يَنْطَوِي عَلَى رُجُوعٍ إِلَى ذَنْبٍ، وَلَا يَعُودُ بَعْدَهَا فِي خَطِيئَةٍ، تَوْبَةً نَصُوحاً خَلَصَتْ مِنَ الشَّكِّ وَالِارْتِيَابِ، فَتَقَبَّلْهَا مِنَّا، وَارْضَ عَنَّا، وَثَبِّتْنَا عَلَيْهَا (الصحيفة السجادية).
هي توبةٌ خالصةٌ.. يعزمُ معها المؤمن على مفارقة الذنوب جميعها.. ويسأل الله تعالى أن يخلصَّهُ منها، ومن الشكّ والارتياب..
فالشكُّ والرِّيبة مَرَضُ الروح.. يسعى المؤمن للخلاص منهما في شهر الله، وفي عيد أوليائه، ولئن كانت شياطين الجنِّ مغلولةً في شهر الله، فإنَّ مِن شياطين الإنس من لا يكلُّ ولا يملّ عن بَثِّ الشكوك في الأيام المباركة..
فيتوجَّه المؤمنُ إلى الله تعالى كي يخلِّصه من كلِّ ريبٍ وشك، لتستحكم عقيدته، ويصلح عمله، فينال جوائز الله تعالى في عيد أوليائه.
يخشى المؤمن أن يكون قد أقدم على ما يودي به إلى الخيبة والخسران.. فيدعو الله تعالى في عيد الفطر: وَلَا تَخْتِمْ يَوْمِي بِخَيْبَتِي، وَلَا تَجْبَهْنِي بِالرَّدِّ فِي مَسْأَلَتِي!
فإنّ الردَّ والخيبة هنا لا يعوِّضُها إلا عرفة، أو شهر رمضان القادم.. ومَن يضمن بقاءه حتى ذلك الحين؟
فعن الصادق عليه السلام: مَنْ لَمْ يُغْفَرْ لَهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لَمْ يُغْفَرْ لَهُ إِلَى قَابِلٍ، إِلَّا أَنْ يَشْهَدَ عَرَفَةَ (الكافي ج4 ص65).
هو شهرٌ يدعو النبيُّ صلى الله عليه وآله على من أدركه ولم يُغفر له! فيقول صلى الله عليه وآله:
1. فَمَنْ أَدْرَكَهُ وَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَأَبْعَدَهُ الله!
2. وَمَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ وَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَأَبْعَدَهُ الله!
3. وَمَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ فَلَمْ يَغْفِرِ الله لَهُ فَأَبْعَدَهُ الله (الكافي ج4 ص67).
هي أبوابٌ ثلاثة للمغفرة.. شهر الله.. والوالدين.. والصلاة على النبي وآله.. فمَن فَوَّتَها ما تمنَّى النبيُّ قُربَه.. ولا مجاورته.. ولا دعا له بغفران الذنوب..
يعوذُ المؤمن بالله تعالى في آخر لياليه، أن يطلع الفجر أو ينقضي الشهر دون غفران ذنوبه.. يطلب المؤمن مغفرةً لا يشقى بعدها أبداً..
ويودِّعُ أحدُنا الشَّهر.. يخاطب ربه قائلاً.. اللهم.. لَا تَجْعَلَ وَدَاعِي شَهْرَ رَمَضَانَ وَدَاعَ خُرُوجِي مِنَ الدُّنْيَا، وَلَا وَدَاعَ آخِرِ عِبَادَتِكَ فِيهِ، وَلَا آخِرَ صَوْمِي لَكَ (مصباح المتهجد ج2 ص638).
لا يستعجلُ المؤمن الموتَ والخروج من الدُّنيا، بل يسأل الله العمر الطويل في طاعته، ليستكثر من العبادة، والتقرُّب إلى الله عزَّ وجل فيقول: اللهم.. بَلِّغْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ وَأَنَا مُعَافًى مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَمَحْذُور (من لا يحضره الفقيه ج2 ص166).
ثمَّ يتعيَّد المؤمن في يوم العيد.. ويُسَرُّ به ويفرح..
لكنَّه يُميِّزُ بين نوعين من الفرح:
أوَّلُهما: الفرح الممدوح، وثانيهما: الفرح المذموم..
فيقبل على الأول، ويعرض عن الثاني..
والأول الذي مدحه الله تعالى هو فرحُ المؤمن بفضل الله ورحمته ﴿قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾.
وأبرزُ مظاهر فضل الله ورحمته: الإقرار بنبوَّة محمدٍ عليه وآله السلام، والايتمام بأمير المؤمنين (ع)، كما عن الباقر عليه السلام (تفسير العياشي ج2 ص124).
يفرح المؤمن بفضل الله.. وهو: وَلَايَة مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ (ع)، كما عن الرضا عليه السلام (الكافي ج1 ص423).
لذا يفرحُ الشيعةُ في العيد.. لأنهم من أهل الولاية، فهي خيرٌ مما يجمع مخالفوهم.. ولأنَّهم أهل طاعة الله، ومنهم يقبل ربُّنا عزَّ وجل.. لا من سواهم..
فالعيد عيدُ أولياء الله وأحبائه، وهم أتباع سادة الأولياء..
ثمَّ يجتنبُ المؤمن النوع الثاني من الفرح.. وهو الفرح المذموم.. كالبطر.. والإعراض عن الحق.. واتباع الباطل.. وتضييع العمر في اللهو والقيل والقال.. قال تعالى: ﴿إِنَّ الله لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾..
لقد نظر الإمام عليه السلام إلى الناس في يوم فطرٍ (يَلْعَبُونَ وَيَضْحَكُونَ)، فخاطب أصحابه قائلاً: العَجَبُ كُلُّ العَجَبِ مِنَ الضَّاحِكِ اللَّاعِبِ فِي اليَوْمِ الَّذِي يُثَابُ فِيهِ المُحْسِنُونَ، وَيَخِيبُ فِيهِ المُقَصِّرُونَ!
وَايْمُ الله، لَوْ كُشِفَ الغِطَاءُ لَشُغِلَ مُحْسِنٌ بِإِحْسَانِهِ وَمُسِيءٌ بِإِسَاءَتِهِ (الكافي ج4 ص181).
ليس الذمُّ لمطلق السرور والفرح، فإنَّ المؤمن يسرُّ ويأنس بإخوانه، ويفرح في عيد الله، فقد جعله الله باباً للسرور..
لكنَّ المؤمن يحذر من أن يفرح فرحَ اللهو بالباطل، والخروج عن الصراط المستقيم..
لَم يُكشَف الغطاء لهؤلاء وهؤلاء.. لكنَّ المؤمن ينظر بنور الله، ويعلم أنَّ الله تعالى قد قبل عمله.. وأنَّ العيد هو يومُ جائزته.. فيتوجه إلى الله تعالى شاكراً، داعياً.. سائلاً دوام النِّعَم.. ومنها نعمة اجتماع المؤمنين في العيد..
وأما المسيء.. فينسى إساءته، وهو بذكرها أحقّ.. فتظلُّ تبعاتها مقرونةً به إلى يوم القيامة..
اللهم لا تجعلنا من المسيئين.. ولا من اللاعبين اللاهين..
اللهم اكشف الغشاوة عن أعيننا.. وثبت أقدامنا على ولاية نبيك وآله الأطهار.. وتقبل عملنا.. ولا تخرجنا من الدنيا حتى ترضى عنا..
اللهم عجل فرج وليك.. كي يكتمل سرور المؤمنين في عيدك وعيد أوليائك..
والحمد لله رب العالمين
الجمعة 30 شهر رمضان 1444 هـ
الموافق 21 – 4 – 2023 م
بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
|