• الموقع : موقع العلم والإيمان.. مقالاتٌ وأبحاثٌ ومؤلفات.. بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي .
        • القسم الرئيسي : المقالات والأبحاث .
              • القسم الفرعي : الإمامة والأئمة .
                    • الموضوع : 183. الزَّاهِدُون.. في خِدمَة الإمام ! .

183. الزَّاهِدُون.. في خِدمَة الإمام !

بسم الله الرحمن الرحيم

ينقلُ الإمامُ الجوادُ عليه السلام واقعةً حصلت مع جَدِّه الإمام الصادق عليه السلام، وقَد كان عنده غُلامٌ يُمسِكُ بغلته إذا هو دخل المسجد، حتى جاء جماعةٌ من المسافرين من خراسان، وعَرَضَ أحدُ الأثرياء منهم على الغلام عَرضاً غريباً بتبادُل الأدوار: بأن يصيرَ الثَريُّ مملوكاً للإمام عليه السلام، خادماً له، ويصيرُ الغُلام حُرّاً مُتَمَلِّكاً لأموال هذا الرَّجل!

فقال له: هَلْ لَكَ يَا غُلَامُ أَنْ تَسْأَلَهُ أَنْ يَجْعَلَنِي مَكَانَكَ؟ وَأَكُونَ لَهُ مَمْلُوكاً، وَأَجْعَلَ لَكَ مَالِي كُلَّهُ، فَإِنِّي كَثِيرُ المَالِ مِنْ جَمِيعِ الصُّنُوفِ، اذْهَبْ فَاقْبِضْهُ، وَأَنَا أُقِيمُ مَعَهُ مَكَانَكَ!

لقد صارَت الحُريَّةُ بمتناوَل يَد الغُلام، وهيَ بنفسِها خَيرٌ يطمحُ لهُ كلُّ مملوك، وسُرعانَ ما وافقَ الغُلام على ذلك، وأراد أن يسألَ الإمامَ كما طلبَ منه الخراسانيّ، فدخل عليه، وقال له عليه السلام:

جُعِلْتُ فِدَاكَ، تَعْرِفُ خِدْمَتِي وَطُولَ صُحْبَتِي، فَإِنْ سَاقَ الله إِلَيَّ خَيْراً تَمْنَعُنِيهِ؟

إنَّ الغُلامَ يعرفُ شيئاً مِن فضل الإمام، ذاك أنَّه يُفدِّيه بنفسه، وهو ممَّن خَدَمَ الإمام على نَحوٍ حَسَنٍ، وطالت صُحبته له، فأجابه الإمام عليه السلام:

أُعْطِيكَ مِنْ عِنْدِي وَأَمْنَعُكَ مِنْ غَيْرِي؟

فَحَكَى لَهُ قَوْلَ الرَّجُلِ فَقَالَ:

إِنْ زَهِدْتَ فِي خِدْمَتِنَا، وَرَغِبَ الرَّجُلُ فِينَا، قَبِلْنَاهُ وَأَرْسَلْنَاكَ!

يكشفُ الإمام عليه السلام هنا عن قاعدةٍ عظيمةٍ في كيفية تعامُلهم عليهم السلام مع الناس، فإنَّهُم عليهم السلام يقبلون من (يرغب بهم)، ويُرسلون من (يزهد بهم) أو (بخدمتهم).

إنَّ الزُّهدَ والرَّغبة متقابلان، فمَن زَهِدَ في شيء تركه وأعرض عنه، ومَن رغبَ شيئاً طلبَهُ وسعى إليه.

ولقد صارَت (خِدمَتُهم) عليهم السلام في حياتهم أمراً يرغبُ به بعضُ الناس، ويزهدُ به بعضُهم، وقد سنُّوا عليهم السلام للناس قاعدةً ذهبية تنطبق على شتى مفاصل الحياة، قالها أميرُ المؤمنين في نهجه الشريف: زُهْدُكَ فِي رَاغِبٍ فِيكَ نُقْصَانُ حَظٍّ، وَرَغْبَتُكَ فِي زَاهِدٍ فِيكَ ذُلُّ نَفْس‏.

لكنّ الإمام بعدما بَيَّنَ ذلك للغلام عادَ ليوجِّه له نصيحةً استحقَّها بطول صحبته له عليه السلام، مع تخييره بين الذهاب والبقاء، وقال له:

 إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ كَانَ رَسُولُ الله (ص) مُتَعَلِّقاً بِنُورِ الله، وَكَانَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (ع) مُتَعَلِّقاً بِنُورِ رَسُولِ الله، وَكَانَ الْأَئِمَّةُ مُتَعَلِّقِينَ بِأَمِيرِ المُؤْمِنِينَ، وَكَانَ شِيعَتُنَا مُتَعَلِّقِينَ بِنَا، يَدْخُلُونَ مَدْخَلَنَا وَيَرِدُونَ مَوْرِدَنَا (الخرائج والجرائح ج‏1 ص391).

عادَ الغُلامُ واختارَ البقاء في خِدمة الإمام، مؤثِراً الآخرة على الدُّنيا، طالباً تلك المنزلة الرفعية يوم القيامة، كي يدخُل مدخلهم عليهم السلام، ويَرِدَ موردَهم.

لَقَد عَرَفَ الخراسانيُّ شيئاً من عظمة هذه الخِدمة، فقَصَدَ الإمام قاطعاً كلّ تلك المسافة، فقبِلَ الإمامُ ولاءَه ودعا له.

واحتفظَ الغُلامُ بِشَرَفِ الخدمة لمّا أدرَكَ شيئاً مما سينالُه منها.

واليوم..

ينقسمُ النّاسُ بينَ جاهلٍ بعظمة الإمام، زاهدٍ به وبدينه وبخدمته.

وبين عالمٍ بشيءٍ من مكانته عليه السلام، راغِبٍ به وبدينه وبخدمته.

لكنَّ الراغب فيهم يضعُ بين عينيه كلام الإمام عليه السلام:

إِنْ زَهِدْتَ فِي خِدْمَتِنَا، وَرَغِبَ الرَّجُلُ فِينَا، قَبِلْنَاهُ وَأَرْسَلْنَاكَ!

فيُدرك أنَّ الثبات على هذه الخدمة وقَبولِها يحتاجُ إلى رغبةٍ دائمة، وإلا (أرسلناك)! فليس الإمامُ ممَّن يرغبُ في زاهدٍ فيه.

ويُدركُ أنَّ غيبَةَ الإمام عن أعيُننا لا تمنعُ من خدمته عليه السلام، وأنَّ وفاة مَن تقدَّمَ من الأئمة لا تُغلقُ بابَ خِدمة من كانوا أحياءً عند ربِّهم يرزقون.

غاية الأمر أنَّ للخِدمَة صوراً شتّى، يقدرُ على بعضِها كلُّ أحد من المؤمنين، ويخشى أحدُهم أن يكون من الزاهدين بكل ألوانِها، فيسعى بقدر وسعه لينال ما يناسبُه منها.

ولئن كانت الطاعةُ واجبةً على الخادم لسيِّدِه، فإنَّ طاعة الإمام مفترضةٌ على جميع الخلق، فهم أولو الأمر الذين أوجب الله طاعتهم، وجعلها كطاعته تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وآله، وهم الذين قالوا: النَّاسُ عَبِيدٌ لَنَا فِي الطَّاعَةِ، مَوَالٍ لَنَا فِي الدِّينِ (الكافي ج‏1 ص187).

ولقد افترق ذلكَ الغُلامُ عن سائر المؤمنين اليوم بأن كان مملوكاً للإمام، تجبُ طاعتُهُ عليه.

لكنَّ المؤمنَ وإن لم يكن (عبداً مملوكاً) كالغلام، إلا أنَّه يشتركُ معه في (عبودية الطاعة).. فالناس كلُّهم: حُرُّهم وعبدُهم (عبيدٌ لهم في الطاعة).

وهكذا يُفتَحُ البابُ أمامَ كلٍّ مؤمنٍ ليتشرَّف بخدمتهم عليهم السلام، فيؤدي شيئاً مما أوجبه الله تعالى عليه، وينال رضاه عزَّ وجلَّ بذلك.

ومِن ألوانِ الخِدمَة في هذا الزمان أمورٌ:

1. المرابطة على ثغور إبليس

إذا كانَت خِدمَةُ الإمام بإمساك بَغلَته، وأضراب ذلك من أمور حياته، مع العلم بمكانته عند الله تعالى، تجعل الخادمَ ممَّن يتعلَّق بالإمام، ويدخل مدخله يوم القيامة، فما هي مكانة مَن يكون خادماً للإمام بإرشاد شيعته وهدايتهم وتعليمهم أحكام دينهم والذَّبِّ عن عقائدهم؟!

إنَّ ذلك يجعله من أهل الأنوار التي تلي أنوار المعصومين عليهم السلام، بحيثُ يتعلّقُ هؤلاء الأيتام بشعبةٍ من أنوار العلماء الذين كفلوهم وعلموهم وأرشدوهم.

هيَ المرابطَةُ في الثغر أمام إبليس وجنوده، يشكِّلُ بها العلماء جبهةً تدفعُ عن أديان المحبين، فيكون هؤلاء من أبرز مصاديق خُدَّام الإمام عليه السلام حياً وميتاً، ظاهراً وغائباً.

يتخيَّرُ السالك في هذه الطريق بين الاستمرار بها، والزُّهد فيها! وفي خدمتهم عليهم السلام، فإما أن يبقى إلى آخر الطريق على هذا النهج فينال المنزلة الرفيعة، وإلا تَمَثَّلَ له كلام الإمام عليه السلام: إِنْ زَهِدْتَ فِي خِدْمَتِنَا، وَرَغِبَ الرَّجُلُ فِينَا، قَبِلْنَاهُ وَأَرْسَلْنَاكَ!

2. إحياء أمرهم وذكرهم عليهم السلام

إنَّ مِن مصاديق خِدمَة الإمام في زمن وفاته أو غيبته الاهتمام بإحياء أمره، ولعلَّ مِن أبرز مصاديق ذلك (خَدَمَةُ الحسين عليه السلام) أو خَدَمَةُ منبره الشريف، الذين يقيمون المآتم ويذكرون الفضائل ويستدرُّون الدمعة، ويتركون بصمةً عظيمة الأثر في المجتمع المؤمن، فيؤجرهم الله تعالى على ذلك أجراً عظيماً، ويقبلهم الأئمة عليهم السلام خُدَّاماً وُجهاء بالحسين في الدُّنيا والآخرة.

ولئن كان ما نراهُ من وجاهةٍ لهم في الدُّنيا عظيماً، بحيثُ يُقَدَّمون على أكثر الخَلق تقديراً واحتراماً، فالله هو العالم بالوجاهَة التي ينالونها يومَ القيامة.

يشتركُ معهم في الخِدمَة مَن يرعى المراقد الشريفة للأئمة الأطهار، ويتعاهَدُها، ويهتمُّ بها وبزوّارها، فينال بذلك عظيم المنزلة عند الله، حيث يكون شريكاً في إبراز عظمة الإمام، وتعظيم شأنه، وتسهيل أمور زواره، وهو أمرٌ يحبُّه الله ورسوله (ص).

فيشترك هؤلاء وهؤلاء في الرَّغبة بخِدمة الإمام، وليس الإمام ممَّن يزهد في الراغب فيه بلا رَيب.

3. الإحسان إلى ذريتهم عليهم السلام

إنَّ المرء (يُحْفَظُ فِي وُلْدِه) كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله، ولقد صار في حِفظِ الذُّريَّة الطاهرة وإكرامهم والإحسان إليهم ومعونَتِهم فضلٌ عظيمٌ عند الله تعالى، حتى صارَ امتثالُ أمر النبي (ص) والأئمة عليهم السلام فيهم شَرَفاً يتشرَّفُ به المؤمن، يكشفُ عن رغبته في الإمام عليه السلام، وحُسن خدمته وطاعته له، فيُدخلُه الإمامُ مدخله.

4. رعاية فقراء شيعتهم عليهم السلام

إنَّ الإمام يهتمُّ بكلِّ مؤمنٍ موالٍ، وقَد جعل المؤمنين الفقراء أمانةً عند الميسورين مِنهم، وأَمَرَهم بحفظهم، ففي حفظهم حفظ الإمام.

والمأموم مطيعٌ لإمامه، والمؤمنُ مُطيعٌ لسيِّده ومولاه، وبهذا فتحَ الأئمةُ البابَ أمامَ الميسورين من الشيعة لخدمَتهم بخدمة الفقراء ومساعدتهم وإعانتهم.

ومَن عَجِزَ عن ذلك أمكنهُ المساهمة ولو بكلمةٍ طيِّبة تخفِّفُ عن أخيه المؤمن وتسنده، أو بكفِّ الأذى عنه، وهكذا يكونُ بمقدورِ كلِّ مؤمنٍ أن يكون خادماً للإمام بحَسب قُدرته ووُسعه.

يقول المؤمن في زيارة أئمته عليهم السلام: وَفَدْتُ إِلَيْكُمْ إِذَا رَغِبَ عَنْكُمْ أَهْلُ الدُّنْيَا.. (الكافي ج‏4 ص559)

ويقول لإمامه: أَتَيْتُكَ يَا مَوْلَايَ وَافِداً إِلَيْكَ إِذْ رَغِبَ عَنْ زِيَارَتِكَ أَهْلُ الدُّنْيَا (كتاب المزارص110).

ويقول عند وداعه: هَذَا أَوَانُ انْصِرَافِي عَنْكَ غَيْرَ رَاغِبٍ عَنْكَ.. وَلَا زَاهِدٍ فِي قُرْبِك‏ (كامل الزيارات ص254).

إنَّ جُلَّ مَن في الأمة قد زَهِدَ في الأئمة وفي خِدمَتِهم وفي زيارتهم، ورَغِبَ بهم قلَّةٌ من المؤمنين الذين عرفوا شيئاً من حقِّ الإمام ومكانته، وهو البابُ المُبتلى به الناس.

وستظلُّ القاعدةُ جَليَّةً أمام المؤمنين الذين لا يرغبون بأن يستبدل الله تعالى بهم غيرهم، فالإمام يقول: إِنْ زَهِدْتَ فِي خِدْمَتِنَا، وَرَغِبَ الرَّجُلُ فِينَا، قَبِلْنَاهُ وَأَرْسَلْنَاكَ!

يعلَمُ المؤمنُ أن خِدمَةَ الإمام نِعمةٌ من الله تعالى يمنُّ بها على مَن يشاء، ويخشى من التفريط بها، ويسأل الله تعالى أن يثبِّته عليها.

والحمد لله رب العالمين

السبت 23 ذو القعدة 1443 هـ الموافق 23 7 2022 


بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

  • المصدر : http://www.aliiman.net/subject.php?id=241
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2022 / 07 / 26
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 5