• الموقع : موقع العلم والإيمان.. مقالاتٌ وأبحاثٌ ومؤلفات.. بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي .
        • القسم الرئيسي : المقالات والأبحاث .
              • القسم الفرعي : مقالات عامة ومتنوعة .
                    • الموضوع : 174. يوم عُبِدَ الشيطان جَهرَةً! .

174. يوم عُبِدَ الشيطان جَهرَةً!

بسم الله الرحمن الرحيم

الْأَرْضُ مَشْحُونَةٌ ضَلَالَةً، وَالشَّيْطَانُ يُعْبَدُ جَهْرَةً!

هذا هو وَصفُ الأيام التي سَبَقَت دعوةَ النبي صلى الله عليه وآله، كما في زيارة الغدير (المزار الكبير لابن المشهدي ص268).

لقد كانت الأرضُ ممتلئةً بالضلال، وكان الظلام الدامس يعمُّها في ليلها ونهارها، وكان اليقينُ مُنعَدِماً، والأمرُ مشتَّتاً، وكان الشيطانُ منصوراً، وأعلامه مرفوعة، يأمُرُ فيُطاع، وينفث فيُتَّبَع، وكان الإيمانُ مخذولاً، لقد كان الهدى خامِلاً، والعمى شاملاً!

حتى أنَارَ الله تعالى الظُّلَمَ بنوره وحبيبه المصطفى، وجلّى طريقه بِوَليِّه ووصيِّه المرتضى، فصدعَ النبي (ص) بالدعوة إلى الله، مستعيناً بسيف الله عليّ بن أبي طالب (ع)، المجاهد الأول، والصابر المحتسب.

لقد كان الشيطانُ يُعبَدُ جهرةً، والله يُعبَدُ سِرَّاً، فتبدَّلَت الموازين، وتغيَّرَت الأحوال، وعَمَّت الهداية ببركتهما عليهما السلام، فكان للشيطان رَنَّةٌ من الألم والأسى، ثمَّ أَسَرَّها في نفسه حِقداً وحَسَداً مرَّةً أخرى، واستكمل حَربَه ومكائده، حتى سُلِبَ الحقُّ من أهله، وعاد خلفاءُ الله في أرضه مظلومين مقهورين، وعادَ الجورُ إلى أوطانه، والباطلُ إلى نصابه!

لقد رَجَعَت الكَرَّةُ لإبليس ولا تزال، فالأيامُ أيامُه، ولقد كان له مع الناس حالتان، حالةٌ مع أتباعه وأنصاره، وحالةٌ مع مخالفيه:

1. وَقَدْ عَشَّشَ وَكَثُرَتْ جُنُودُهُ، وَازْدَحَمَتْ جُيُوشُهُ.

2. وَانْتَشَرَتْ دُعَاتُهُ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ.

1. إبليس وأتباعه

إنَّ لإبليس سَطوَةٌ على مَن اتَّبَعه مع كثرتهم، لقد (عَشَّشَ) فيهم، و(بَاضَ وَفَرَّخَ فِي صُدُورِهِمْ، وَدَبَّ وَدَرَجَ فِي حُجُورِهِمْ)!

لقد جَمَع إبليسُ بمكره وكيده وخِدَعِه من الجنود الكثير، حتى ازدحموا وتكاثروا، وكلٌّ منهم يأتمرُ بأمره تارةً، ويشتركُ معه في المكر والتدبير بالباطل أخرى، يستوي في ذلك أتباعُهُ من الإنس والجنّ.

ولَم يَنَل إبليسُ هذه المكانة بينَهم إلا لاختيارهم طاعته: أَطَاعُوا الشَّيْطَانَ فَسَلَكُوا مَسَالِكَهُ، وَوَرَدُوا مَنَاهِلَهُ، بِهِمْ سَارَتْ أَعْلَامُهُ، وَقَامَ لِوَاؤُهُ!

لو لم يُطِع هؤلاء الشيطان لَظَلَّ وحيداً يُكابدُ الغُربة والوحشة، لكنَّ كثيراً من الإنس والجنِّ اختاروا طائعين اتِّباعه، وسلكوا مسالكه، وصاروا أعواناً له وأنصاراً.

ولولا تأييدهم له واتِّباعهم لأمره واجتماعهم تحت لوائه لما سارَت له الأعلامُ في شرق الأرض وغَربِها، ولَما شُحِنَت الأرض بالضلال وامتلأت، ولَظَلَّ لواؤه منكوساً غيرَ مرفوع.

لكنَّهم شركاؤه في جرائمه، أوقعهم في فِتَنٍ مظلمةٍ قَضَت عليهم بسوء اختيارهم: فَهُمْ فِيهَا تَائِهُونَ حَائِرُونَ جَاهِلُونَ مَفْتُونُونَ.. بِأَرْضٍ عَالِمُهَا مُلْجَمٌ وَجَاهِلُهَا مُكْرَم!

إنَّ أجلى صفاتِ عُبّاد إبليس التيه والحيرة والجهل، وما لذلك مِن سبيلٍ إلا بإقصاء أهل العلم ولَجمِهم، وإكرام أهل الجهل وتقديرهم!

إنَّ من أشدِّ سُبُل إبليس تأثيراً هو نَشرُ الجَهلِ وتقديسه، وتحقيرُ العلم وتسقيطه، ولذا لا ترى في أتباعِ إبليس عالماً حقاً، لأنَّ العلم ينادي بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل، وهؤلاء لا يريدون من العمل إلا ما وافقَ الهوى، لذا يُكرِمون أهلَ الجهل وإن سمُّوهم بالعلماء، ويحاربون العلم وأهله.

هذا هو حالُ إبليس مع أتباعه، ينفثُ في صدورهم فيطيعوه، قد بلغَ منهم مبلغاً، وصار يستعينُ بهم على عباد الله المؤمنين، أعدائه حقاً وصِدقاً.

2. إبليس وأعداؤه المؤمنون

إنَّ بين إبليس والمؤمنين حَربٌ خَفيَّةٌ طاحنةٌ، فَلَقَد نَشَرَ جُندَه في أرجاء المعمورة، لإضلال عباد الله.

قال أميرُ المؤمنين عليه السلام عنه:

وَانْتَشَرَتْ دُعَاتُهُ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ، فَأَضَلُّوا عِبَادَكَ، وَأَفْسَدُوا دِينَكَ، وَحَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَجَعَلُوا عِبَادَكَ شِيَعاً مُتَفَرِّقِينَ، وَأَحْزَاباً مُتَمَرِّدِينَ!

في هذه العبارة إشاراتٌ عظيمة، حيثُ كَشَفَت أنَّ لإبليسَ دُعاةً في أقطار الأرض، يُضِلُّون العباد ويفسدون الأديان، وهؤلاء هم الذين تكاثروا وازدحموا، فليس هؤلاء ممن يوصف بقلَّة العدد.

ونحنُ إذا نظرنا اليومَ في شرق الأرض وغَربِها لم نر إلا الشاذَّ النادرَ ممَّن يرفعُ لواء إبليس صريحاً، فإنَّ جُلَّ مَن على الأرضِ إما مُدَّعٍ للإيمان بالله تعالى ومُجاهرٍ بالعداوة لإبليس، أو مُنكرٍ لوجود الله وإبليس معاً!

فأينُ هم دُعاتُهُ إذاً؟ الذين أضلوا العباد وأفسدوا الدين، وفرَّقوا المؤمنين وجعلوهم أحزاباً وشِيَعاً؟!

إنَّ لإبليس نوعاً من العمل المُنظَّم المدروس، تنظيمٌ وحِزبٌ كبيرٌ يحاولُ إخفاء آثار فعاله، فيتلوَّنُ بكلِّ لونٍ، ويلبسُ كلَّ لَبوس! ليَعظُم تأثيره، ويزداد أنصاره.

فليس المنكر للشيطان وللخالق إلا داعيةً من دُعاة إبليس، وحاملَ رايةٍ من راياته، رأى الصلاح في إظهار الإنكار، ليجتذب فئة من الناس تميل لذلك!

وهكذا مَن آمن بشُركاءَ لله كالنصارى وغيرهم، فإنَّهم يَدعون حقاً إلى سبيلٍ غير سبيل الله، وكلُّ طريقٍ لا يوصل لله تعالى يكون طريقاً للشيطان، ويكون داعيه مِن دُعاة الشيطان!

ومِثلُهُم مَن آمن بالنبي محمدٍ (ص) وجَحَدَ أوصياءه الإثني عشر، فهو رادٌّ على الله تعالى فيما أمر، مُتَّبِعٌ للشيطان، داعٍ لأمره.

وهكذا ترى دُعاة الشيطان مبثوثون في كلِّ مكان، وعلى كلِّ مُفتَرَقٍ، كيفما ولَّيتَ وجهك ترى له داعيةً يُفسِدُ في الدين ويُضلُّ العباد.

إنَّ الأيام أيّامُه، مُذ نُحِّيَ وصيُّ الرَّسول عن منصبه، واستُلِبَ الحقّ، وقد قال أميرُ المؤمنين عليه السلام في نهجه:

وَقَدْ أَصْبَحْتُمْ فِي زَمَنٍ لَا يَزْدَادُ الخَيْرُ فِيهِ إِلَّا إِدْبَاراً، وَلَا الشَّرُّ فِيهِ إِلَّا إِقْبَالًا، وَلَا الشَّيْطَانُ فِي هَلَاكِ النَّاسِ إِلَّا طَمَعاً!

لقد حقَّقَ إبليسُ أهمَّ مكاسبه حينما سلبَ الحقَّ عن آل محمدٍ عليهم السلام، ولقد أعانته الأمَّةُ على ذلك بسوء اختيارها، وقُبح سريرتها، وضَعف إرادتها:

 فَهَذَا أَوَانٌ قَوِيَتْ عُدَّتُهُ، وَعَمَّتْ مَكِيدَتُهُ، وَأَمْكَنَتْ فَرِيسَتُهُ، اضْرِبْ بِطَرْفِكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ النَّاسِ، فَهَلْ تُبْصِرُ إِلَّا فَقِيراً يُكَابِدُ فَقْراً، أَوْ غَنِيّاً بَدَّلَ نِعْمَةَ الله كُفْراً!

إنَّهُ زَمَنٌ نُحارِبُ فيه عدواً في غاية القوّة والشدّة، لا يمكن الفرار من مكائده العَميمة، بل لا بُدَّ مِن مواجهتها بالتوكُّل على الله تعالى، والصدق والإخلاص والعمل الصالح، ورأسه الثبات على ولاية الأئمة الأطهار عليهم السلام.

لقد ورد اللعن في زيارة الغدير لمَن سلَّ سيفه على أمير المؤمنين، ولمَن رضيَ بما ساءه عليه السلام: وَأَغْمَضَ عَيْنَهُ وَلَمْ يُنْكِرْهُ، أَوْ أَعَانَ عَلَيْكَ بِيَدٍ أَوْ لِسَانٍ، أَوْ قَعَدَ عَنْ نَصْرِكَ، أَوْ خَذَلَ عَنِ الْجِهَادِ مَعَكَ، أَوْ غَمَطَ فَضْلَكَ، أَوْ جَحَدَ حَقَّكَ، أَوْ عَدَلَ بِكَ مَنْ جَعَلَكَ الله أَوْلَى بِهِ مِنْ نَفْسِهِ! (المزار الكبير لابن المشهدي ص277).

إنَّ في هذه الفقرة إشاراتٌ في غاية الخطورة، تكشفُ أنَّ عدوَّ أمير المؤمنين عليه السلام وعدوَّ الله تعالى ليس مَن حارَبَهُ عليه السلام فقط، أو أعان عليه، بل يشمل فئات وفئات:

فمِنهم مَن تخاذَلَ في نُصرَته، فأُلحِقَ بعدوِّه، فالنُّصرةُ للإمام واجبةٌ في كلِّ زمن، كلٌّ بحسبه، فمَن تخاذَلَ في هذا الزمن عن نصرة الإمام بقلبه ولسانه كان ملعوناً مُتَّبِعاً لإبليس!

ومِنهم من ازدرى واحتقرَ فضل أمير المؤمنين عليه السلام، حيثُ صار مؤيِّداً لإبليس اللعين، فمَن نظرَ في فضيلةٍ من فضائل أمير المؤمنين ثم احتَقَرَها كان له عدواً!

ومِنهم مَن جَحَدَ حقَّه عليه السلام، وأنكر أن يكون له حقُّ الطاعة المطلقة في هذه الأمة، بل على البريَّة قاطبةً، بإنسها وجنِّها ومَلَكها!

ومِنهُم من عَدَلَ بالإمام غيرَه! فجعل أحداً مِن هذه الأمة عِدلاً وقريناً لإمامها!

بل إنَّ مَن أغمَضَ عينيه على ما جرى على آل بيت النبي (ص) ولم يُنكر ذلك كان ملعوناً، فلا يُقبلُ إغماضُ العين في مسائل الحقِّ! فمَن رأى ما يُسيءُ الإمام ثمَّ أغمض عينيه لم يخلُص بذلك من لزوم الإنكار!

وهكذا تتكثَّرُ الصور والأفعال التي تُخرجُ المؤمن عن صراط الله المستقيم، وما ذاك إلا لكثرة مَن يوسوس له من الأبالسة والشياطين، فكلٌّ له طريقٌ وأسلوب ومَكرٌ يتميَّزُ به، وكلُّ عبدٍ لَهُ نقطةُ ضَعفٍ يدخلُ منها الأبالسة.

وليس يجوزُ في شرعة العقول الاستخفافُ بأيِّ مفردة مما تقدَّم وسواها، ولا احتقار المعصية واستصغارها، ولا التراخي والتهاون مَع مَن يُنكرُ فضيلةً للإمام، أو ضرورياً من الدين، أو يخالفُ حُكماً قطعياً.

لأنَّ إبليس لَم يُغيِّر الأمم دَفعةً واحدة، ولا تكاثَرَ جنودُه بين ليلةٍ وضُحاها، فإنَّه يعلمُ أن التغيير لا يكون دفعياً، وأن المَعقودَ مراراً لا ينحلُّ دفعةً واحدة، وأنَّ الانقلاب على العقبين يحتاجُ إلى مقدَّمات، فيسيرُ الشيطانُ مع العبد خطوةً خطوة، ليتخلى عن دينه شيئاً فشيئاً، ولقد بيَّنَ لنا أمير المؤمنين عليه السلام هذا المعنى جلياً فقال في نهجه:

إِنَّ الشَّيْطَانَ يُسَنِّي لَكُمْ طُرُقَهُ، وَيُرِيدُ أَنْ يَحُلَّ دِينَكُمْ عُقْدَةً عُقْدَةً.. فَاصْدِفُوا عَنْ نَزَغَاتِهِ وَنَفَثَاتِهِ!

ههنا بيتُ القصيد، ومحلُّ الشاهد، فإذا رأى المؤمنُ مَن يعبثُ بحكمٍ من أحكام الله، أو يُفسدُ في دين الله ولو مرَّةً، أو يتخلى عن عقيدةٍ حقَّةٍ لغرضِ فاسد، عَلِمَ أنَّها عُقدةٌ تتلوها عُقَدٌ، وأنَّ الشيطان قد بلغَ به هذا المحلَّ، وشدَّ بهذا العبد أزرَه، وأوشك أن يُسيطر عليه، إن استجاب له واتبع نفثاته!

فيحذر على نفسه، وعلى مَن حوله من المؤمنين، ويدرِك أنَّ الدين لا يُحفَظُ بالتهاوُن في أمرٍ من أموره، وأنَّ التنازُل مَرَّةً يعقبُه ثانيةً وثالثة.

إنَّه أوانُ قوَّة الشيطان، وأوان جهاد المؤمنين معه، ولئن قَوِيَت عدَّته، وعمَّت مكيدته، فإنَّ لسان حال المؤمن يقول: (إِنَّ مَعي‏ رَبِّي سَيَهْدينِ).

سيُعينُ الله عبادَه المؤمنين، ويكفيهم شرَّ إبليس ان استقاموا، حتى تأتي الساعة الموعودة، ويظهر صاحبُ الأمر، ويقتل الله تعالى به جبابرة الكفر، ويقصم به: رُءُوسَ الضَّلَالَةِ، وَشَارِعَةَ الْبِدَعِ، وَمُمِيتَةَ السُّنَّةِ، وَمُقَوِّيَةَ الْبَاطِلِ.. ولا يدع منهم دياراً، ولا يبقي لهم آثاراً.

اللَّهُمَّ طَهِّرْ مِنْهُمْ بِلَادَكَ، وَاشْفِ مِنْهُمْ عِبَادَكَ.

وثَبِّتنَا على ولاية أئمتنا الأطهار، بحقهم عليهم السلام.

والحمد لله رب العالمين

الأربعاء 15 ذو القعدة 1443 هـ الموافق 15 6 2022 م


بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

  • المصدر : http://www.aliiman.net/subject.php?id=232
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2022 / 07 / 26
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 5