• الموقع : موقع العلم والإيمان.. مقالاتٌ وأبحاثٌ ومؤلفات.. بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي .
        • القسم الرئيسي : المقالات والأبحاث .
              • القسم الفرعي : مقالات اجتماعية .
                    • الموضوع : 172. أعطي أنا.. وتبخل أنت! .

172. أعطي أنا.. وتبخل أنت!

بسم الله الرحمن الرحيم

ينقسمُ النّاسُ بين نَبيهٍ مُتَدَبِّرٍ فيما يرى، وبين غافِلٍ تَمرُّ الأحداثُ أمامَهُ دون اعتبار.

وينظر المتَدَبِّرُ في بعض الظواهر الاجتماعية، فيكثرُ تَعَجُّبُهُ لِما يرى من اختلاف أحوال الناس، وَمِن ذلك تَبَايُنُهم في حُبِّ المال.

فيرى فيهِم مَن جَعَلَ المالَ وسيلةً لحياةٍ كريمةٍ في الدُّنيا، وطريقاً لحياةٍ أبديَّةٍ هنيئةٍ في الآخرة، فأنفَقَ حيثُ أوجَبَ الله تعالى عليه، ولَم يبخَل بما أعطاه الله، فكان خَيرَ مُعينٍ للأقربين، ثمَّ لسائر المؤمنين، فجزاه الله خيرَ جزاء المُحسنين.

ويرى فيهِم من ابتُليَ بالبُخلِ، فأساءَ الظنَّ بالله تعالى، وأمسَكَ عن العطاء، واجباً كان أو مُستحبّاً.

ومِن هؤلاء مَن يُجاوزُ الحدَّ بالبُخلِ إلى درجةٍ لا يكادُ العاقلُ يتخَيَّلُها، فيبخَل حتى لو كانت خزائنُه بلا حَدٍّ ولا قَيد.

قال تعالى: ﴿قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفاقِ وَكانَ الإِنْسانُ قَتُوراً﴾ (الإسراء 100).

ليسَ كلُّ الناس هكذا، لكنَّها صِفَةٌ طاغيةٌ على كثيرٍ من النّاس، حتى كادَت لا تُفارق الإنسان القَتور.

ولئن كانت الخشيةُ مِن الإنفاق هي سبب البُخل في النّاس، لجهلهم بأنَّ الله تعالى هو الذي يُخلفُ على المُنفِق، فأيُّ نفسٍ يمتلكُها مَن يَتَباخَل ولو كانت بيده خزائن رحمة الله التي لا تنفذ؟!

بل أيُّ نفسٍ يملكها مَن يبخَلُ بماله، ثم يأمر الآخرين بالبُخل؟!

قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبُخْل﴾‏ (النساء37).

فلئن خافَ البخيلُ مِن نفاد ماله، فمِن أيِّ شيءٍ يخشى إن أنفَقَ الناسُ أموالَهم؟!

إنَّهُ أمرٌ مُثيرٌ للعجب، كما هو حال البخيل نفسه، فإنَّه أحقُّ بأن يتمنى للناس الغِنى ليكفّوا عن أمواله! ولكنَّه لا يتمنّى!

وهكذا يبخلُ البُخلاء بمالِ غيرِهم!

ومِن ذلك ما نراه في أيامنا بصُوَرٍ شتى..

فترى رجلاً صالحاً يُعينُ أهلَه وقرابَتَهُ مَعونةً تُغنيهم عن طلب ما في أيدي الناس، فينهاه بعضُ البُخلاء عن ذلك، متذرِّعين بأنَّ فلاناً يقدرُ على التكسُّب، أو بأنَّه لا يَوَدُّك كما ينبغي، أو بأمثالها من الحجج الواهية.

وتترى النماذجُ وتتكاثر.. سيَّما في معونةِ الفقراء والمحتاجين مِن أهل التَعَفُّف.

ومِن أعجَبِ ما ترى وتسمَع، ما يتبارى به بعضُ البُخلاء في أيام عزاء الحسين عليه السلام، وسائر مناسبات المعصومين عليهم السلام، مُحتَجِّين على ما يُبذَلُ لخطباء المنبَر الحسيني من هدايا، إكراماً لدورٍ عظيمٍ أدُّوه، وخدمةٍ جليلةٍ قدَّموها للمؤمنين، وذلك باستدرار دموعهم على سيِّد الشُّهداء.

فيحتَجُّون ويعترضون، ثم يصيحون ويتباكون، وكأنَّ في هذا العطاء إتلافٌ للمال، وإنفاقٌ في غيرِ محلِّه.

لقد نسيَ هؤلاء أو تناسوا أنَّ للدمعة على الحسين عليه السلام خصوصيةٌ، فإنَّ الله تعالى يكتب الجنّة لمن بكى وأبكى على الحسين عليه السلام، بل إنَّ الدَّمعة على الحسين عليه السلام وعلى الأسرة الطاهرة تعظُمُ كلَّ شيء من جهة الثواب، فهي التي تطفئ نار جهنم، وهي التي تنزل بها رحمةُ الله على عباده، وهي التي لا حَدَّ لثوابها، كما قال الصادق عليه السلام: لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ ثَوَابٌ إِلَّا الدَّمْعَةَ فِينَا ! (كامل الزيارات ص106).

فما قيمةُ الأموالِ أمام هذا الدور العظيم الذي يؤديه الخطباء؟!

لقد أدرَكَ المؤمنون عظيمَ الأثر الذي يتركه مَن ينعى الحسين عليه السلام في أيامه، ويستدرُّ الدمعة عليه، فأكرموهم بقَدر وسعهم، وكلَّما وسَّعَ الله عليهم وسَّعوا على أحباب الحسين عليه السلام.

لكنَّ قوماً بخلوا بما لم ينفقوا! فصاروا مِن أعجَب النّاس!

ولقد كان لهؤلاء نُظَرَاءُ في أيام أمير المؤمنين عليه السلام، ومِن ذلك ما جرى حينما بعثَ أميرُ المؤمنين عليه السلام بخمسةِ أوساقِ تمرٍ إلى رجلٍ (الوسق هو حِملُ البعير)، وكان هذا الرَّجُلُ عفيفَ النَّفس، لا يسأل أحداً، ولكنَّه يؤمِّلُ عطاءَ أمير المؤمنين ويرجو نوافِلَه.

فانبرى رجلٌ لأمير المؤمنين عليه السلام مُحتجّاً كما يحتجُّ البخلاء اليوم، وقال له (ع): وَالله مَا سَأَلَكَ فُلَانٌ! وَلَقَدْ كَانَ يُجْزِئُهُ مِنَ الخَمْسَةِ الأَوْسَاقِ وَسْقٌ وَاحِدٌ!

لا يرى المتكلِّمُ أنَّ هذا الرَّجُلَ يستحقُّ شيئاً لأنَّه لَم يسأل! فالعطاء عنده لا يجب أن يكون إلا بعد المسألة، ثمَّ لا ينبغي أن يكون كثيراً!

أجابَهُ أميرُ المؤمنين عليه السلام بجوابٍ تقشعرُّ له الأبدان، فقال له:

لَا كَثَّرَ الله فِي المُؤْمِنِينَ ضَرْبَكَ!

أُعْطِي أَنَا وَتَبْخَلُ أَنْتَ!

كلماتٌ عجيبةٌ تَحكي حالَ البُخلاء اليوم، الذين يبخلون مِن عطاء غيرِهم! فمع أنَّ المؤمنَ لا يكون بخيلاً، إلا أنَّ الأعجب ممَّن يبخل بما يملك، الذي يبخل بما لا يملك! فإنَّهُ يبخل مِن كيس غيره!

قال له (ع):

 لِلَّهِ أَنْتَ، إِذَا أَنَا لَمْ أُعْطِ الَّذِي يَرْجُونِي إِلَّا مِنْ بَعْدِ المَسْأَلَةِ، ثُمَّ أُعْطِيهِ بَعْدَ المَسْأَلَةِ، فَلَمْ أُعْطِهِ ثَمَنَ مَا أَخَذْتُ مِنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنِّي عَرَّضْتُهُ أَنْ يَبْذُلَ لِي وَجْهَهُ الَّذِي يُعَفِّرُهُ فِي التُّرَابِ لِرَبِّي وَرَبِّهِ عِنْدَ تَعَبُّدِهِ لَهُ، وَطَلَبِ حَوَائِجِهِ إِلَيْهِ! (الكافي ج‏4 ص23).

هكذا هو عليٌّ عليه السلام.. معجزةُ الله في الأرض! فأينَ مَن يُبصر بِعَينِ عليٍّ عليه السلام اليوم؟!

لقد كشف عليه السلام أنَّ مَن أعطى سائلاً فقد أخذَ أكثرَ مما أعطى!

كيف ذلك؟

لقد اعتاد النّاسُ على تبادُل الأموال والمنافع، وعلى التناسُبِ بين ما يأخذون ويعطون.. وليس بعد الطَلَبِ نسبةٌ بين الأخذ والعطاء، فإنَّ السائل قد بذلَ ماء وجهه، وهذا لا ينبغي أن يكون إلا لله تعالى!

لا ينبغي للعبد أن يتذلَّلَ إلا لله، فمَن سألَ الناس كان قد بذَلَ لهم أمراً عظيماً جداً، ومهما كثُر عطاؤهم فإنَّه لن يصل إلى مقدار ما أعطاهم!

إنَّ المؤمن يتمنى الخير لأخيه بلسانه، فلا ينبغي له أن يبخلَ عليه بالحطام من ماله.

يقول أميرُ المؤمنين عليه السلام: مَنْ عَلِمَ أَنَّ مَا صَنَعَ إِنَّمَا صَنَعَ إِلَى نَفْسِهِ، لَمْ يَسْتَبْطِ النَّاسَ فِي شُكْرِهِمْ، وَلَمْ يَسْتَزِدْهُمْ فِي مَوَدَّتِهِمْ، فَلَا تَلْتَمِسْ مِنْ غَيْرِكَ شُكْرَ مَا أَتَيْتَ إِلَى نَفْسِكَ، وَوَقَيْتَ بِهِ عِرْضَكَ (الكافي ج4 ص28).

فإنَّ المُعطي إنّما يصنعُ عملاً لنفسه، إنَّ صاحبَ الفائدة الكُبرى هو المُعطي والباذل، فإنَّه يرجو عظيمَ الثواب عند الله تعالى، ولا ينتظر شُكراً من الناس ولا مَوَدَّةً يقابلونه بها، إنَّه يحفظُ نفسه في الدُّنيا بعطائه، ويزداد لآخرته بإحسانه، ثمَّ يأتي البخيلُ ليبخل من مال غيره، فإن أجابَهُ المُعطي حَرَمَ نفسَه من الفضل الذي يناله بعطائه!

بل إنَّ مَن يبخلُ بمال غيره هو ممَّن يتمنى السوء والضرّ للإسلام والمسلمين، فعنهم عليهم السلام:

إِنَّ مِنْ بَقَاءِ المُسْلِمِينَ وَبَقَاءِ الإِسْلَامِ أَنْ تَصِيرَ الأَمْوَالُ عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُ فِيهَا الحَقَّ، وَيَصْنَعُ فِيهَا المَعْرُوفَ..

إِنَّ مِنْ فَنَاءِ الإِسْلَامِ وَفَنَاءِ المُسْلِمِينَ أَنْ تَصِيرَ الأَمْوَالُ فِي أَيْدِي مَنْ لَا يَعْرِفُ فِيهَا الحَقَّ، وَلَا يَصْنَعُ فِيهَا المَعْرُوفَ (الكافي ج4 ص25).

وهؤلاء البُخلاء لا يتمنَّون أن تكون الأموال في يَد أصحاب الإنفاق بالحق! والإحسان والمعروف!

إنَّهم يريدون فناء المسلمين، بل يريدون هلاك هذه الأمّة، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله أن هلاك آخر هذه الأمَّة يكون بالشُّحِّ!

فكيف ذلك؟

لو قُيِّضَ لهذه النماذج من البُخلاء، الذين بلغوا أعلى مراتبه، ثم انتقلوا إلى مرتبة الشُحّ، أن يزدادوا ويكثروا ويطغوا في أمة الإسلام، لأدى ذلك إلى فنائها!

وهذا الصادق عليه السلام يقول:

الشُّحُّ أَشَدُّ مِنَ البُخْلِ: إِنَّ البَخِيلَ يَبْخَلُ بِمَا فِي يَدِهِ، وَالشَّحِيحَ يَشُحُّ بِمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ، وَعَلَى مَا فِي يَدِه‏ (الفقيه ج2 ص63).

فعلى المؤمنين رَعَاهُمُ الله أن ينتبهوا من هذه المَصيَدَة التي ينصبُها لهم إبليس بِشِرَاكِهِ الخفيّة، ويطمئنوا لوعد الله تعالى، الذي يُخلِفُ على المعطائين، ويُقَرِّبُهم منه ومِن عباده، ويُبعِّدُ البخلاء منه ومنهم، ويقرِّبُهم من النار، كما قال النبي (ص).

وليس شَرَفُ المؤمن بما يجمع، بل بما يُنفِق، وليس في إنفاق المؤمن لوجه الله إتلافٌ للمال، بل تجارةٌ مع مَن لا تنفذ خزائنه.

ما أعجَبَ حالَكُم يا مَن تُذَكِّرون الناس بالحسين عليه السلام، تكسبون لآخرتكم كسباً عظيماً، وتفتحون باباً من أبواب الثواب للناس لا يقدَّرُ بثَمَن، ثمَّ يعطيكُم مَن يعطي عن طيبِ نفسٍ وحبٍّ وودٍّ، فيبخلُ مَن سِواه بما لم يعط!

لكنَّكم تاجرتم مع الله، وصنعتُم لأنفسكم خيرَ صنيعٍ في الدُّنيا والآخرة.

وفَّقَ الله السالكين في سبيل الحسين عليه السلام، والباذلين أعمارَهم وأموالَهم وكلَّ ما أعطاهم الله في سبيله، وجعلنا منهم، ففي ذلك خيرُ الدُّنيا والآخرة.

والحمد لله رب العالمين.

الثلاثاء 15 شوال 1443 هـ الموافق 17-5-2022 م


بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

  • المصدر : http://www.aliiman.net/subject.php?id=230
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2022 / 07 / 26
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 5