بسم الله الرحمن الرحيم
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما أنَّ النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول يوم القيامة: سُحْقًا سُحْقًا لِمَن بَدَّلَ بَعْدِي!(1).
هو دُعاءٌ من النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بإبعاد مَن بَدَّلَ بعدَه يوم القيامة.
وهذا حديثٌ مُرعِبٌ يرويه المسلمون في أصحِّ كُتُبِهم ويتَّفقون على صحّته، لكنهم لا يفقهونه ولا يعطونه نَصيبَه من الفهم والتدبُّر!
فما الذي جرى في ذلك الوقت حتى يُحال بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين أصحابه الذين يعرفهم ويعرفونه؟! أليس لهؤلاء حقُّ الصُّحبة مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فَلِمَ يُحجبون عن حوضه ويُحال بينهم وبينه؟!
هل يستحقُّ ما بدَّلوه بعد النبيّ هذا الموقف من ملائكة الرحمان حتى يمنعونهم من الوصول إلى حوض النبي؟ ثم أيُّ تبديلٍ هو هذا الذي بدَّلوه؟ وما معنى دعاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليهم هذا؟
لقد عَرَفَ النبيُّ صلى الله عليه وآله ما سيجري بعد وفاته، فأخرَجَ من المَدينة كلَّ من يطمع في الرئاسة والإمرة، لئلا ينازعوا علياً (عليه السلام) منصباً جعله الله تعالى له، ولكنَّه كان يعلَم أن الفتنَ مُقبِلَةٌ، لكنَّ أحداً ما كان يتصوَّر أن تَعظُمَ الفِتَنُ إلى حَدٍّ يصيرُ الموت مع السلامة منها خيراً من الحياة والابتلاء بها!
لقد خرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى البقيع آخذاً بيد عليٍّ (عليه السلام)، واتَّبعه جماعةٌ من الناس، فسَلَّمَ على أهل البقيع وقال: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ القُبُورِ، لِيَهْنِئْكُمْ مَا أَصْبَحْتُمْ فِيهِ مِمَّا فِيهِ النَّاسُ! أَقْبَلَتِ الفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ يَتْبَعُ أَوَّلَهَا آخِرُهَا!(2).
ما أخطَرَ هذه الكلمة! الموتُ صارَ خيراً لأنَّ فيه النجاة من الفتن، فِتَنٌ تتوالى لا يصمُدُ أمامَها أكابرُ المسلمين! فماذا فَعَلَ هؤلاء؟!
إنَّ لأمير المؤمنين (عليه السلام) عبارةٌ عَجيبةٌ فيما تَمَخَّضَ عن هذه الفِتَن، حين قال في نهجه الشريف: حَتَّى إِذَا قَبَضَ الله رَسُولَهُ (صلى الله عليه وآله وسلم) رَجَعَ قَوْمٌ عَلَى الأَعْقَابِ، وَغَالَتْهُمُ السُّبُلُ، وَاتَّكَلُوا عَلَى الوَلَائِجِ، وَوَصَلُوا غَيْرَ الرَّحِمِ، وَهَجَرُوا السَّبَبَ الَّذِي أُمِرُوا بِمَوَدَّتِهِ، وَنَقَلُوا البِنَاءَ عَنْ رَصِّ أَسَاسِهِ فَبَنَوْهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ!
إنقلابٌ بكلِّ ما للكلمة من معنى، حينَ تُهدَمُ أسُسُ الإسلام ويُنقَلُ بناؤها إلى غير موضعه! وحين يُهجَرُ مَن أمرَ الله بمودَّتِهم! ويوصل سواهم، وحين ينقلبُ النّاسُ على أعقابهم، لا تبقى للدين باقية.
ما نَقَلَ هؤلاء حَجَراً مِن بناء الإسلام، ولا بدَّلوا حائطاً، بل: نَقَلُوا البِنَاءَ عَنْ رَصِّ أَسَاسِهِ!
فأُصيبَت الأمّة في مقاتلها، وتشوَّهَت عقيدةُ التوحيد والتنزيه واستُبدِلَت بالتجسيم، واستُعِيضَ عن العدل بالجور أو بالجبر، وزُحزِحَ معنى العِصمة، وانتُقِصَ قَدرُ النبيّ، ونُحِّيَ الوَصيُّ عن محلِّه، وصارت القيامَةُ تَرَفاً لا يستدعي الاستقامة.. فلا غروَ أن تُبدَّلَ أحكامُ الدِّين الحنيف تبديلاً.
وهو مِصداقُ العَود إلى الجاهلية، فقَد تناسى القومُ أنَّ (المرء يُحفَظُ في وُلدِه)، حتى عَدوا على دينِه فأماتوه! وعلى بضعته فهتكوا حرمَةَ بيتها! حتى قالت لهم: الئن مات رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمتّم دينه؟!(3).
الله أكبرُ أيُّ كلمةٍ من بضعةِ المصطفى.. إن المتآمرين على النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته تآمروا على دينه وأماتوه بعد وفاته، فهل دينُ المسلمين اليوم هو دينُ الرَّسول؟! أم دينُ الظُّلم والغدر وموالاة من عادى الله؟!
تصفُ الزهراء حالها وحال الأمة بعد وفاة أبيها صلى الله عليه وآله فتقول عليها السلام: أضيع بعده الحريم! وهتكت الحرمة! وأذيلت المصونة!
وتلك نازلةٌ أعلن بها كتاب الله قبل موته، وانبأكم بها قبل وفاته، فقال: ﴿وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ الله شَيْئاً﴾(4).
ينكسرُ القَلَمُ أمام هذه العبائر، لقد (أذيلت المصونة)! وهذا النبيُّ قبل ذلك يقول: كَأَنِّي بِهَا وَقَدْ دَخَلَ الذُّلُّ بَيْتَهَا! .. فَلَا تَزَالُ بَعْدِي مَحْزُونَةً مَكْرُوبَةً بَاكِيَةً.. ثُمَّ تَرَى نَفْسَهَا ذَلِيلَةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ فِي أَيَّامِ أَبِيهَا عَزِيزَةً! (5).
ساعَدَ الله قلبَك يا زهراء، أضيعَ حقك، وهتكت حرمتك، فإنّا لله وإنا إليه راجعون.
هَل انقلَبَ (بَعضُ) المسلمين بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فغيَّروا دين الله على قِلَّتِهم؟! ونَقَلوُا البناء عن رصِّ أساسه؟! أيُعقلُ أن تتحكَّمَ قِلَّةٌ مُنقَلِبَةٌ بأمَّة الإسلام أجمع دون أن يُسَاهِمَ معها جموعُ المسلمين بالإنقلاب؟!
هذا البخاري أصحُّ كتابٍ عند المخالفين بعد كتاب الله يروي أنَّ رجلاً ينادي هؤلاء المنقلبين على أعقابهم يوم القيامة: هَلُمَّ!
ثم يروي عن النبي قوله:
قُلتُ: أيْنَ؟
قالَ: إلى النَّارِ والله.
قُلتُ: ما شَأْنُهُمْ؟
قالَ: إنَّهُمُ ارْتَدُّوا بَعْدَكَ علَى أدْبارِهِمُ القَهْقَرَى!
فلا أُراهُ يَخْلُصُ منهمْ إلَّا مِثْلُ هَمَلِ النَّعَمِ!(6).
لا ينجو من النّار من أصحاب النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا قلَّةٌ قليلة، فأكثرُ رجال الأمة صاروا من المنقلبين على الأعقاب، المبدِّلين لأمر الله!
لقد تألَّمَ النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته على ما يفعل هؤلاء بعترته من بعده، وبكى قبل وفاته، ثم قال لعليٍّ (عليه السلام): إِنَّمَا بُكَائِي وَغَمِّي وَحُزْنِي عَلَيْكَ وَعَلَى هَذِهِ أَنْ تُضَيَّعَ بَعْدِي فَقَدْ أَجْمَعَ القَوْمُ عَلَى ظُلْمِكُمْ(7).
هذا هو إجماعُ الأمَّة الذي يتغنى به المخالفون! إجماعٌ على ظلمٍ عليٍّ وفاطمة ‘! إجماعٌ أبكى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وأغمَّه وأحزنه عليهم.
وقد روي أنّه لمَّا حَضَرَتْ رَسُولَ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الوَفَاةُ بَكَى حَتَّى بَلَّتْ دُمُوعُهُ لِحْيَتَهُ، فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ الله، مَا يُبْكِيكَ؟
فَقَالَ: أَبْكِي لِذُرِّيَّتِي، وَمَا تَصْنَعُ بِهِمْ شِرَارُ أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي، كَأَنِّي بِفَاطِمَةَ ابْنَتِي وَقَدْ ظُلِمَتْ بَعْدِي وَهِيَ تُنَادِي"يَا أَبَتَاهْ، يَا أَبَتَاهْ" فَلَا يُعِينُهَا أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي!(8).
اتَّفَقَت مصادرُ المسلمين إذاً على أن أكثر المسلمين قد بدَّلوا بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واشتركوا في ظلم عليٍّ والزّهراء، إما بأنفسهم، أو بتأييدهم للظالمين، أو بِصَمتِهِم وجفائهم لآل محمدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتَركِ مَعوُنتهم، فشَمَلَ الجميعَ دعاءُ النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم): سُحْقًا سُحْقًا لِمَن بَدَّلَ بَعْدِي!
لقد دعا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على هؤلاء فقال: سُحْقًا سُحْقًا! وقد قال تعالى في كتابه: ﴿فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ﴾(9).
إنَّ لهؤلاء عقاباً عظيماً يوم الجزاء، حيثُ تسكنُ فئتان من النّاس في (الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ)، فمنهم المنافقون، ومنهم الظالمون لآل محمد!
قال تعالى: ﴿إِنَّ المُنافِقينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصيراً﴾(10)، وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): الوَيْلُ لِظَالِمِي أَهْلِ بَيْتِي، كَأَنِّي بِهِمْ غَداً مَعَ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّار(11).
إنَّ لهؤلاء عذاباً عجيباً، حيثُ يُسألون عن مَسِّ سَقَر فيقولون: قَدْ أَنْضَجَتْ قُلُوبَنَا وَأَكَلَتْ لُحُومَنَا وَحَطَمَتْ عِظَامَنَا، فَلَيْسَ لَنَا مُسْتَغِيثٌ وَلَا لَنَا مُعِينٌ!
.. ثُمَّ يَجْعَلُ كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فِي ثَلَاثِ تَوَابِيتَ مِنْ حَدِيدٍ مِنَ النَّارِ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ، فَلَا يَسْمَعُ لَهُمْ كَلَاماً أَبَداً إِلَّا أَنَّ لَهُمْ فِيها.. شَهِيقٌ كَشَهِيقِ البِغَالِ! وَزَفِيرٌ مِثْلُ نَهِيقِ الحَمِيرِ! وَعُوَاءٌ كَعُوَاءِ الكِلَابِ! صُم بُكْمٌ عُمْيٌ فَلَيْسَ لَهُمْ فِيهَا كَلَامٌ إِلَّا أَنِين(12).
هذا حالُ بعض هؤلاء، أما أكابرهم، فالله العالم بحالهم، وهم الذين تستعيذُ جهنَّمُ من وَهجِ الجُبِّ الذي يُعَذَّبون فيه!
هذه خطورة موالاة أعداء الله في الدُّنيا والآخرة، أعاذنا الله من محبَّتهم في الدُّنيا، وأبعدنا عنهم في الآخرة، وحشرنا مع محمدٍ وآله إنه سميع مجيب.
والحمد لله رب العالمين(13).
(1) صحيح البخاري ج8 ص87 وصحيح مسلم ج7 ص66.
(6) صحيح البخاري حديث 6587.
(7) طرف من الأنباء والمناقب ص190.
(11) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ج2 ص47.
(13) الأربعاء 17 جمادى الاولى 1443 هـ الموافق 22 - 12 - 2021 م.
بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
|