• الموقع : موقع العلم والإيمان.. مقالاتٌ وأبحاثٌ ومؤلفات.. بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي .
        • القسم الرئيسي : المقالات والأبحاث .
              • القسم الفرعي : مقالات عامة ومتنوعة .
                    • الموضوع : 132. لُصُوصُ الذُّنُوب ! .

132. لُصُوصُ الذُّنُوب !

بسم الله الرحمن الرحيم

يخاطبُ الإمام الباقر عليه السلام رجلاً ساهياً عن الله تعالى، غارقاً في معاصيه، فيقول له:

وَيْحَكَ يَا مَغْرُورُ، أَ لَا تَحْمَدُ مَنْ تُعْطِيهِ فَانِياً وَيُعْطِيكَ بَاقِياً ؟!
دِرْهَمٌ يَفْنَى بِعَشَرَةٍ تَبْقَى إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ !

لقد جَرَت عادةُ النّاس على أن يكون البيعُ والشِّراءُ متناسبان، إما من حيث القيمة، أو الحاجة، أو النَّفع والفائدة، فلا يُباع الشيء العظيم بثَمَنٍ بَخس.
لكنَّ الله تعالى سنَّ مع عباده معاملةً من صنفٍ آخر.. (دِرْهَمٌ يَفْنَى) يقدِّمُهُ أحدهم في (سبيل الله) الغنيّ العزيز، فيضاعفه الله تعالى له أضعافاً، دون أن يكون الله تعالى به منتفعاً.

فالعبدُ إن أعطى في سبيل الله درهماً فانياً، أعطاهُ الله تعالى داراً باقية.. فإن لم يكن لهذا الكَرَمِ مِنَ الحامدين، استحقَّ خطاب الإمام له: (وَيْحَكَ يَا مَغْرُورُ).
وكَم من مَغرورٍ لا يحمد الله على عظيم عطائه..

يُبيِّنُ الإمام بعضَ عطاء الله لهذا الرجل فيقول:

- هُوَ مُطْعِمُكَ وَسَاقِيكَ.
- وَكَاسِيكَ وَمُعَافِيكَ وَكَافِيكَ..
- مَنْ حَفِظَكَ فِي لَيْلِكَ وَنَهَارِكَ، وَأَجَابَكَ عِنْدَ اضْطِرَارِكَ..

كَأَنَّكَ قَدْ نَسِيتَ لَيَالِيَ أَوْجَاعِكَ وَخَوْفِكَ ؟!
دَعَوْتَهُ فَاسْتَجَابَ لَكَ، فَاسْتَوْجَبَ بِجَمِيلِ صَنِيعِهِ الشُّكْرَ، فَنَسِيتَهُ فِيمَنْ ذَكَرَ، وَخَالَفْتَهُ فِيمَا أَمَرَ !

عطاءُ الله على صنفين: ابتداءٌ بالنِّعَمِ دون طلب.. واستجابةٌ عند الدُّعاء.. وقد يجمعهما الله تعالى لأقوامٍ، تارةً عندما يبتدئ الإنسان بالإحسان، وأخرى عندما يرفع عنه عظيم البلاء..
ثم يكون العبدُ لله ناسياً، ولأمره مخالفاً..

يقول عليه السلام لهذا الرَّجل:
وَيْلَكَ إِنَّمَا أَنْتَ لِصٌّ مِنْ لُصُوصِ الذُّنُوبِ !

لُصُوصِ الذُّنُوبِ: كلمةٌ غريبةٌ من باقر العلوم.. يطلقها عليه السلام على العصاة..
فما المراد منها ؟ وكيف يكون العبدُ من مصاديقها ؟

ههنا معنيان مُحتملان:

المعنى الأول: معصية الله في الخلوات !

قيل: اللَّصُّ: فِعْلُ الشَّيْ‌ءِ فِي سَتْرٍ، ومنه اللِّصّ (تاج العروس ج‌9 ص355‌).

فيكونُ العبدُ لصاً عندما يعصي الله في خلواته، وقد نبَّه أمير المؤمنين إلى هذا فقال في نهجه: اتَّقُوا مَعَاصِيَ اللَّهِ فِي الْخَلَوَاتِ فَإِنَّ الشَّاهِدَ هُوَ الْحَاكِم‏.

فكأنَّ العبدَ يستغلُّ فرصة غياب الخلق كي يعصي الله تعالى، فيفعل ذلك في السِّتر، فيكون لصاً بذلك.

ومِثلُ هذا قد جعل الله تعالى أهوَنَ ناظرٍ إليه، فلو رآه عبدٌ لاستحى منه، لكنَّه لا يستحي من الله عندما يعصيه، لذا ورد عن الصادق عليه السلام: إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ يَرَاكَ ثُمَّ بَرَزْتَ لَهُ بِالْمَعْصِيَةِ فَقَدْ جَعَلْتَهُ مِنْ أَهْوَنِ النَّاظِرِينَ عَلَيْكَ (الكافي ج‏2 ص68).

لكنَّ ما يوهن إرادة المعنى الأول من الحديث هو ما ورد في حديثٍ آخر عن النبي (ص): الْمُذِيعُ بِالسَّيِّئَةِ مَخْذُولٌ، وَالْمُسْتَتِرُ بِهَا مَغْفُورٌ لَهُ (الكافي ج‏2 ص428).

فإنَّ مَن يُجاهِرُ بالمعصية يستخفُّ بدين الله تعالى، ويستهينُ بحرمة الله عز وجل أمام عباده، ويهتك حرمات الله غير آبهٍ بأمره عزَّ وجل، فيخذله الله تعالى ولا يوفق لخير بعدها.

أما المستتر بالسيئة فهو مقرٌّ بقبحها، مُستَحٍ من الجَهرِ بها، معترفٌ بتقصيره أمام الله عزَّ وجل.

على أنَّ العاصي في السرِّ قد لا يكون مستخفاً بربِّه عزَّ وجل، بل معتمداً على ستره معتقداً بعظمته، كما يُعَلِّمُنا دعاء أبي حمزة الثمالي عن الإمام السجاد عليه السلام:

فَلَوِ اطَّلَعَ الْيَوْمَ عَلَى ذَنْبِي غَيْرُكَ مَا فَعَلْتُهُ، وَلَوْ خِفْتُ تَعْجِيلَ الْعُقُوبَةِ لَاجْتَنَبْتُهُ، لَا لِأَنَّكَ أَهْوَنُ النَّاظِرِينَ إِلَيَّ، وَأَخَفُّ الْمُطَّلِعِينَ عَلَيَّ، بَلْ لِأَنَّكَ يَا رَبِّ خَيْرُ السَّاتِرِينَ، وَأَحْكَمُ الْحاكِمِينَ، وَأَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ، سَتَّارُ الْعُيُوبِ، غَفَّارُ الذُّنُوبِ (مصباح المتهجد ج‏2 ص582).

فالاستتار بالسيئة تارةً يكون نفاقاً، فيكون صاحبه قد جعل الله تعالى مِنْ أَهْوَنِ النَّاظِرِينَ عَلَيْه.
وأخرى يكون حياءً وخَجَلاً من العباد واعتماداً على ستر الله وكرمه وحلمه.. فلا يكون كذلك..

فالأوَّلُ (لِصٌّ مِنْ لُصُوصِ الذُّنُوبِ)، والثاني يُرجى له عفو الله ورحمته، حين يُغفرُ له باستتاره، ما لم يكن من أهل النِّفاق.

المعنى الثاني: الإستغراق في الذنوب !

والمسارعة إليها، وهو أرجَحُ من سابِقه، وشاهدهُ في اللغة أنَّ معنى اللص مأخوذ من المقارنة والالتصاق: لص‌: .. أُصيلٌ صحيحٌ يدلُّ على ملازَّةٍ ومقارَبَةٍ.. ومن الباب اللِّصُّ، لأنّه يلصَق بالشَّي‌ء يريد أخْذَه (معجم مقائيس اللغة ج‌5 ص205‌).

فكأنَّهُ صار لصاً لأنَّه لازَمَ المعاصي، وهو ما يشير إليه الإمام عليه السلام في كلامه فيقول:

وَيْلَكَ إِنَّمَا أَنْتَ لِصٌّ مِنْ لُصُوصِ الذُّنُوبِ !
كُلَّمَا عَرَضَتْ لَكَ شَهْوَةٌ أَوِ ارْتِكَابُ ذَنْبٍ سَارَعْتَ إِلَيْهِ، وَأَقْدَمْتَ بِجَهْلِكَ عَلَيْهِ، فَارْتَكَبْتَهُ كَأَنَّكَ لَسْتَ بِعَيْنِ اللَّهِ، أَوْ كَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَكَ بِالْمِرْصَادِ ! (تحف العقول ص291).

فمَن لم يتورَّع عن ارتكاب الذنوب واقتحام الشهوات كلَّما أتيحت له الفرصة كانَ من لصوص الذنوب..

وكما قد يُكتفى من اللصِّ بقطع أصابعه تارةً، ويَقتُلُهُ صاحب البيت الذي أراد سرقته أخرى..
كذلك لِصُّ الذنوب العاصي.. قَد يُنتقصُ شيءٌ من دينه بمعصيته، وقد يُسلبُ الدين كله.. حين ينكت في قلبه نكتةٌ سوداء تلو الأخرى، حتى لا يرجع إلى خيرٍ أبداً..

هو تحذيرٌ من الإمام عليه السلام لئلا ننهمك في الذنوب ونستغرق فيها ونلازمها، فإنَّ هذا الطريق قد يوقع صاحبه في:

1. رَدِّ وَلَايَةِ وَصِيِّ رَسُولِ الله (ص)
2. وَدَفْعِ نُبُوَّةِ نَبِيِّ الله
3. وَلَا يَزَالُ أَيْضاً بِذَلِكَ حَتَّى يُوقِعَهُ فِي دَفْعِ تَوْحِيدِ الله
4. وَالْإِلْحَادِ فِي دِينِ الله (التفسير المنسوب للإمام العسكري ع ص264).

هكذا يكون للمعصية أثرٌ خطير، يهدِّدُ مصير الإنسان في دنياه وآخرته، فليس له أن يستخفِّ بمعصيةٍ لارتكابها سرّاً، وقد أوحى الله تعالى لأحد أنبيائه: إِذَا وَقَعْتَ فِي مَعْصِيَةٍ فَلَا تَنْظُرْ إِلَى صِغَرِهَا وَ لَكِنِ انْظُرْ مَنْ عَصَيْت‏!‏
ولا أن يلازم المعاصي ويجاهر بها أمام عباد الله مستخفاً بدين الله تعالى فيؤول أمره إلى دفع توحيد الله.. 
أعاذنا الله وجميع المؤمنين من ذلك.

والحمد لله رب العالمين

ليلة العاشر من جمادى الاولى 1443 هـ
14 - 12 - 2021


بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

  • المصدر : http://www.aliiman.net/subject.php?id=190
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2022 / 07 / 26
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 02 / 5