بسم الله الرحمن الرحيم
تُدفَنُ الزَّهراءُ ليلاً.. ويُعَفِّي عليٌّ موضعَ قبرَها!
تَتَلَهَّفُ قلوبُ الموالين لزيارتها، لكنَّها تُزَارُ دون مَرقَدٍ ظاهر!
خَفيَ قَبرُ فاطمة الزَّهراء (عليها السلام)، فأظهَرَ اللهُ قبراً لفاطمة المعصومة سلام الله عليها! وَكَأنَّ العُلقَةَ الباطنة لا تَروي غليل المؤمنين، فأظهَرَ الله تعالى لهم مَرقداً عظيماً وقبَّةً شامخةً للمعصومة، يقصدونها لتبقى صلةَ وَصلٍ بين الآل وبين شريفات البيت الطاهر، مع ما لهنَّ من عظيم المنزلة عند الله تعالى، وَمِن حَقٍّ يلزمُ على المؤمن معرفته.
لقد خَفيَ قبرُ الزَّهراء، تأصيلاً للبراءة من الأعداء.
وظَهَرَ قبر المعصومة، تأكيداً للولاية والبراءة، ففي زيارتها (عليها السلام): أًتَقَرَّبُ إلَى اللهِ بِحُبِّكُمْ، وَالبَراءَةِ مِنْ أعْدائِكُمْ!
هيَ فاطمةُ المعصومة، قَبَسٌ مِن نور الزَّهراء، سَيِّدَةٌ جليلةٌ عظيمةٌ، لا يُدانيها في الفضل أعاظمُ الرِّجال.
حَقُّها من حقِّ محمدٍ وعليٍّ وفاطمة (عليهم السلام)، وقد اشتهر بين الناس عن أخيها الرضا عليه السلام قوله: مَنْ زَارَهَا عَارِفاً بِحَقِّهَا فَلَهُ الجَنَّةُ!(1).
ليست معرفةُ حقِّها مُيسَّرَةً لكلِّ أحد، فكما يحتاجُ الإقرار بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى طينةٍ طيِّبَةٍ، وإخلاصٍ لله، وتوفيق منه، كذلك لا يُقِرُّ بحقِّها وفضلِها إلا شيعة العترة الطاهرة، الذين يعلمون بَعضاً من فضل الذريّة التي قال عنها تعالى: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْض﴾(2).
إنَّ لذريَّة النبيِّ كرامةٌ عند الله تعالى، فكيف بأشرافهم وعظمائهم؟!
لقد قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إِنِّي شَافِعٌ يَوْمَ القِيَامَةِ لِأَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ، وَلَوْ جَاءُوا بِذُنُوبِ أَهْلِ الدُّنْيَا:
1. رَجُلٌ نَصَرَ ذُرِّيَّتِي
2. وَرَجُلٌ بَذَلَ مَالَهُ لِذُرِّيَّتِي عِنْدَ المَضِيقِ
3. وَرَجُلٌ أَحَبَّ ذُرِّيَّتِي بِاللِّسَانِ وَبِالقَلْبِ
4. وَرَجُلٌ يَسْعَى فِي حَوَائِجِ ذُرِّيَّتِي إِذَا طُرِدُوا أَوْ شُرِّدُوا(3).
فمَحَبَّتُهُم بنَفسِها شَرَفٌ يُشَرِّفُهُ الله للمؤمن، ينالُ به شفاعةَ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أولاً، ثمَّ شفاعة الزهراء (عليها السلام) ثانياً، حينما يأتي النداء يوم الجزاء من الله جلَّ جلاله:
يَا حَبِيبَتِي وَابْنَةَ حَبِيبِي، سَلِينِي تُعْطَيْ، وَاشْفَعِي تُشَفَّعِي!
.. فَتَقُولُ: إِلَهِي وَسَيِّدِي: ذُرِّيَّتِي، وَشِيعَتِي، وَشِيعَةَ ذُرِّيَّتِي، وَمُحِبِّيَّ، وَمُحِبِّي ذُرِّيَّتِي! فَإِذَا النِّدَاءُ مِنْ قِبَلِ الله جَلَّ جَلَالُهُ: أَيْنَ ذُرِّيَّةُ فَاطِمَةَ وَشِيعَتُهَا وَمُحِبُّوهَا وَمُحِبُّو ذُرِّيَّتِهَا؟
فَيُقْبِلُونَ وَقَدْ أَحَاطَ بِهِمْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ، فَتَقْدُمُهُمْ فَاطِمَةُ (عليها السلام) حَتَّى تُدْخِلَهُمُ الجَنَّةَ(4).
فالرَّسولُ لا يشفعُ لِمَن لا تشفَعُ له الزَّهراء، والزَّهراء لا تشفعُ لمن لا تشفع له المعصومة (عليها السلام)!
كيف ذلك؟
إنَّ فاطمة المعصومة جزء من سلسلةٍ طهَّرَها الله وشرَّفها، وأوجب لها حقاً على الخلق لا يَقبَلُ تبعيضَه، فليس من إيمانٍ بالله تعالى دون الإقرار بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولا نبوّة دون الإمامة، ولا إمامة دون الزّهراء، ولا يُقبلُ عَمَلُ عاملٍ لم يقرَّ لآل محمدٍ (عليهم السلام) بالفضل.
ولكن.. يقول قائل: إذا كان المؤمن ينالُ شفاعة النبيِّ والزهراء، فما حاجته لشفاعة المعصومة (عليها السلام)؟!
يأتي الجواب عن لسان الإمام الرضا (عليه السلام) أولاً حين يُعَلِّمنا أن نقول في زيارتها: السَّلامُ عَلَيْكِ يا بِنْتَ رَسُولِ اللهِ، السَّلامُ عَلَيْكِ يا بِنْتَ فاطِمَةَ وَخَديجَةَ، السَّلامُ عَلَيْكِ يا بِنْتَ أميرِ المُؤمِنينَ!
يشير في هذه الفقرات وسواها إلى الترابط بين هذه السلسلة، وأنّ إنكار بعضِها إنكارٌ للكلّ، كآيات الكتاب العزيز، وقد قال تعالى: ﴿أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ القِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ العَذابِ﴾(5).
وآلُ محمدٍ أعظَمُ آيات الله، فلا يُقبَلُ الإيمان ببعضهم وإنكار الآخر.
وكأنَّ طريقَ الزّهراء تمر بالمعصومة، فهي سلسلةٌ واحدةٌ، وقد بيَّنَ لنا الرضا (عليه السلام) حاجتنا لشفاعة المعصومة، حين نقول في زيارتها: يا فاطمةُ اشْفَعي لي فِي الجَنَّةِ، فَإنَّ لَكِ عِنْدَ اللهِ شَاْناً مِنَ الشَّاْنِ!
أيُّ شأنٍ هو هذا؟! يحارُ أهلُ العلم في فهم هذه العبارة (شَاْناً مِنَ الشَّاْنِ)، ولا نزعمُ الإحاطة بما لها عند الله، فإنَّ حديثاً واحداً في فضلها يُحَيِّرُ العقول، حيثُ روي عن الصادق (عليه السلام) قوله عنها: وَتدخل بِشَفَاعَتِهَا شِيعَتِي الجَنَّةَ بِأَجْمَعِهِم!(6).
كلُّ مؤمنٍ يدخُلُ الجنّة بشفاعة فاطمة الزهراء (عليها السلام) (فَتَقْدُمُهُمْ فَاطِمَةُ (عليها السلام) حَتَّى تُدْخِلَهُمُ الجَنَّةَ)، فكيف صارَ دخولهم (بِأَجْمَعِهِم) للجنة بشفاعة فاطمة المعصومة (عليها السلام)؟!
إنَّها قَبَسٌ مِن فاطمة الزهراء! ونورٌ من نورها.. ونورها نور الله تعالى!
وقد وَرِثَت منها الفضيلة والكرامة والعزّ والشرَّف والشفاعة، وما لا يخطر على بال.
هكذا تكون الشفاعةُ متسلسلةً عند الأطهار، فيحتاجُ المؤمن إلى شفاعة آخرهم كأوَّلِهم، ولا يشفعُ الأوَّلُ ما لم يشفع الآخر!
فما مِن شفاعةٍ للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا للزهراء (عليها السلام) ولا لأمير المؤمنين (عليه السلام) ما لم تشفع سلسلة الأطهار، فهي شفاعةٌ مُوَحَّدَةٌ لهم جميعاً، ومنهم السيدة المعصومةُ، مَعَ أنَّ لكلٍّ منهم (عليهم السلام) خصوصيَّتُه، وللأربعة عشر فضلهم.
أما المعصومة، فقَد شرَّفَها الله تعالى، وشرَّفَ الأرضَ التي دُفِنَت فيها شَرَفاً عظيماً، فصارت: قُمُّ عُشّ آلِ مُحَمَّدٍ وَمَأْوَى شِيعَتِهِمْ(7).
وهي التي ظَهَرَ العِلمُ فيها، ثم (يُفِيضُ العِلْمُ مِنْهُ إِلَى سَائِرِ البِلَادِ فِي المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ)(8).
كلُّ هذا نَزرٌ من بركات العترة الطاهرة، تَظهَرُ حيثُ يريد الله تعالى لها ذلك، وما خَفيَ وادَّخَرَهُ الله عزَّ وجلّ لهم ولمحبيهم أعظم.
لقد خَفِيَت عنّا سيرةُ هذه السيدة الجليلة، وشخصيّتها، وغاب عنّا جُلُّ ما جرى عليها، ولكن أبى الله تعالى إلا ان يُظهِرَ شيئاً من فضلها، فلا يُعقَل أن تنال هذه المنزلة العظيمة لو لم تتمتع بما يؤهلها لذلك.
إنَّها من قومٍ زُقّوا العلم زقاً، أصحابُ نُفوسٍ قُدسيَّةٍ كساها الله تعالى من نوره.
السلام عليكِ يا فاطمة المعصومة، السَّلامُ عَلَيْكِ يا بِنْتَ فاطِمَةَ وَخَديجَةَ، أنتِ شفيعتنا عند الله تعالى، وأنتِ أهلٌ للقبول، فما رَجَعَ مَن جاوَرَكِ يوماً خائباً، وما رُدَّ نَزيلُكِ عن بابك يوماً، ونحن الراجون كَرَمَكم في الدُّنيا والآخرة.
اللهمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ تَخْتِمَ لِي بِالسَّعَادَةِ، فَلَا تَسْلُبَ مِنِّي مَا أَنَا فِيهِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِالله العَلِيِّ العَظِيمِ. وإنا لله وإنا إليه راجعون(9).
(1) بحار الأنوار ج99 ص266.
(6) بحار الأنوار ج57 ص228.
(7) بحار الأنوار ج57 ص214.
(8) بحار الأنوار ج57 ص213.
(9) من جوار المعصومة، في ذكرى ارتحالها سلام الله عليها، ليلة العاشر من ربيع الثاني 1443 هـ الموافق 15 - 11 - 2021 م.
بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
|