بسم الله الرحمن الرحيم
الثامنُ من ربيع الثاني، هو يومُ شهادة الزَّهراء (عليها السلام) على روايةٍ! فَيَومُ شهادَتِها مُختَلَفٌ فيه، كاختلاف الأمة حول آل محمد (عليهم السلام)!
وللأيام الأربعين خصوصيتها عند الزَّهراء (عليها السلام)، حيثُ كان بينَ زواجِها من عليٍّ (عليه السلام) في السماء وزواجها منه في الأرض (أَرْبَعِينَ يَوْماً) كما عن الباقر (عليه السلام)(1).
ولها خصوصيتها عند المؤمنين، فلا يمرُّ على العبد المؤمن أربعون يوماً دون بلاءٍ من الله تعالى! كما عن الصادق (عليه السلام):
مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَهُوَ يذكَّرُ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ يَوْماً بِبَلَاءٍ يُصِيبُهُ: إِمَّا فِي مَالِهِ، أَوْ فِي وَلَدِهِ، أَوْ فِي نَفْسِهِ، فَيُؤْجَرُ عَلَيْهِ، أَوْ هَمٍّ لَا يَدْرِي مِنْ أَيْنَ هُو!(2).
ولذا صارَ البلاءُ رفيقَ المؤمن منذ أيام آدم إلى ما شاء الله، فهذا آدم (عليه السلام): بَكَى عَلَى هَابِيلَ أَرْبَعِينَ يَوْماً وَلَيْلَة!(3).
لكنَّ ما جرى على الزَّهراء كان أعظَمَ من بلاء آدم وأشقَّ! وأصعبَ من بلاء المؤمنين وأشدّ! فما بلاءات المؤمنين مجتمعةً أمام هَولِ ما جرى عليها؟!
وكيف كانت أيامُها الأخيرة بعد شهادة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟! سواء كان آخرها يوم الأربعين، أو كانت الأربعين جزءً من هذا البلاء العظيم؟!
يُعرَفُ بَعضُ ذلك من لسان أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، في رواية عجيبةٍ يرويها ابن عباس، حين دخلَ الحسنُ (عليه السلام)، ثم الحسين (عليه السلام)، ثم الزهراء (عليها السلام)، ثم أمير المؤمنين (عليه السلام)، وفي كلِّ مرةٍ يبكي النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم)!
حتى قال له أصحابه: يَا رَسُولَ الله، مَا تَرَى وَاحِداً مِنْ هَؤُلَاءِ إِلَّا بَكَيْتَ!
أَ وَمَا فِيهِمْ مَنْ تُسَرُّ بِرُؤْيَتِهِ؟!
سؤالٌ عجيبٌ من الصحابة! هؤلاء أعَزُّ النّاس على رسول الله، وأقربهم إليه، فكيف لا يُسرُّ برؤيتهم؟!
جَهِلَ هؤلاء الصحابة أو تجاهلوا سببَ بكاء النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتوهّموا أو تظاهروا بأنَّ بكاءه ينافي سروره بهم!
فبادَرَ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى رفع هذه الشبهة بقوله: إِنِّي وَإِيَّاهُمْ لَأَكْرَمُ الخَلْقِ عَلَى الله عَزَّ وَجَلَّ، وَمَا عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ نَسَمَةٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْهُمْ!
ثم بيَّن فضائلهم واحداً واحداً، وأوضحَ سبب بكائه.
فالزّهراء: بَضْعَةٌ مِنِّي، وَهِيَ نُورُ عَيْنِي، وَهِيَ ثَمَرَةُ فُؤَادِي، وَهِيَ رُوحِيَ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيَّ!
مَن ذا الذي يُدركُ أبعاد كلمات الرَّسول الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)! النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول:
يا جابر، أوّل ما خلق اللّه نور نبيّك، اشتقّه من نوره.. يا جابر، فالعرش من نور نبيّك، والعلم من نور نبيّك، واللوح من نور نبيّك، والشمس والقمر والنجوم وضوء النهار وضوء الإبصار من نور نبيّك!(4).
ثم يقول عن الزَّهراء: نُورُ عَيْنِي! فهي (نورُ عينِ) الرَّسول، والرَّسول نورُ الله تعالى! فهي نورُ عين النّور!
أيُّ معنى هذا؟!
ليس لمَن خُلِقَ من فاضل طينتهم أن يُدرِكَ عظمة حقيقتهم، ومقدار رِفعة أنوارهم، وعلوّ درجتهم عند الله تعالى، إلا أن يُدرِكَ قطرةً من بحر فضلهم ومَجدهم وسؤددهم.
ثمَّ يَكشِفُ رسول الله ما يجري على (سيِّدةِ الإماء) فكان سبباً في بكائه، وما أعظمَ كلَّ واحدٍ من هذه البلايا، فكيف وقد اجتمعت كلُّها على هذه العظيمة الجليلة؟!
يقول (صلى الله عليه وآله وسلم): وَأَنِّي لمَّا رَأَيْتُهَا ذَكَرْتُ مَا يُصْنَعُ بِهَا بَعْدِي:
1. كَأَنِّي بِهَا وَقَدْ دَخَلَ الذُّلُّ بَيْتَهَا!
لقد سئل الإمام عن حديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): مَا بَيْنَ مِنْبَرِي وَبُيُوتِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّة، فقيل له: بُيُوتُ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وَبَيْتُ عَلِيٍّ مِنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ وَأَفْضَل(5).
إنَّ بيتَها روضةٌ من رياض الجنَّةِ وأفضل، وهو مهبطُ ملائكة الرحمان، رغم ذلك أدخلوا الذلَّ بيتَها!
إنَّ أمَّةً تُدخِلُ الذلَّ بيتَ مُحَمدٍ وعليٍّ وفاطمة (عليهم السلام) هي أمّة الخذلان والرذيلة!
إن أمَّةً لا تتألَّمُ لما جرى عليها فتنصُرها هي أمَّةٌ قاسية القلب، وقُساة القلب أبعد الناس عن الرحمان عزَّ وجل.
2. وَانْتُهِكَتْ حُرْمَتُهَا
3. وَغُصِبَتْ حَقَّهَا
4. وَمُنِعَتْ إِرْثَهَا
5. وَكُسِرَ جَنْبُهَا وَكُسِرَتْ جَنْبَتُهَا
6. وَأَسْقَطَتْ جَنِينَهَا وَهِيَ تُنَادِي: يَا مُحَمَّدَاهْ، فَلَا تُجَابُ، وَتَسْتَغِيثُ فَلَا تُغَاثُ!
هيَ الزهراء، حرمتها من حرمة الله، وحقُّها من حقّ الله، وكلُّ ما جرى عليها تَجاوُزٌ لحدود الله!
وهي تستغيثُ، لإتمام الحجة وإكمالها، فهي عالمةٌ بما جرى ويجري.
ولئن لم تجد من ينصُرها في أيامها، فقد حقَّ أن ينصرها الله تعالى ويغيثها، وهو الذي كتَبَ لذلك أجلاً، أوَّلُهُ عند ظهور المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، وآخره لا انقطاع له في يوم الحساب.
ثمَّ يذكر (صلى الله عليه وآله وسلم) عظيمَ مصائبها، وكلُّ واحدةٍ منها داهية عُظمى، فيقول (صلى الله عليه وآله وسلم): فَلَا تَزَالُ بَعْدِي:
7. مَحْزُونَةً مَكْرُوبَةً بَاكِيَةً
8. تَتَذَكَّرُ انْقِطَاعَ الوَحْيِ عَنْ بَيْتِهَا مَرَّةً
9. وَتَتَذَكَّرُ فِرَاقِي أُخْرَى
10. وَتَسْتَوْحِشُ إِذَا جَنَّهَا اللَّيْلُ لِفَقْدِ صَوْتِيَ الَّذِي كَانَتْ تَسْتَمِعُ إِلَيْهِ إِذَا تَهَجَّدْتُ بِالقُرْآنِ
11. ثُمَّ تَرَى نَفْسَهَا ذَلِيلَةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ فِي أَيَّامِ أَبِيهَا عَزِيزَةً، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُؤْنِسُهَا الله تَعَالَى ذِكْرُهُ بِالمَلَائِكَةِ..
12. ثُمَّ يَبْتَدِئُ بِهَا الوَجَعُ فَتَمْرَضُ، فَيَبْعَثُ الله عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهَا مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ تُمَرِّضُهَا وَتُؤْنِسُهَا فِي عِلَّتِهَا.
فَتَقُولُ عِنْدَ ذَلِكَ يَا رَبِّ: إِنِّي قَدْ سَئِمْتُ الحَيَاةَ! وَتَبَرَّمْتُ بِأَهْلِ الدُّنْيَا! فَالحِقْنِي بِأَبِي!
لا حول ولا قوّة إلا بالله..
ليست الزَّهراء من أهل السآمة والمَلَل، لكنَّ حياةً تجتمعُ فيها هذه المصائب على أمثالها لا تستحقُّ أن تُرتجى!
وأهلُ دنيا لا يؤمنون بالله رباً! ولا يطيعون لمحمدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم) أمراً! ولا يتركون لعليٍّ وفاطمة وآلهما حرمةً الا انتهكوها.. أحطُّ من أن تتمنى الزَّهراءُ (عليها السلام) البقاء بين ظهرانيهم!
وهذا عليٌّ (عليه السلام) يكرِّرُ القولَ نفسه بعد سنين، وهو الخائف ظُلمَ رعيته، فيقول لهم: اللهمَّ إِنِّي قَدْ سَئِمْتُ الحَيَاةَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ هَؤُلَاءِ القَوْمِ، وَتَبَرَّمْتُ الأَمَلَ، فَأَتِحْ لِي صَاحِبِي حَتَّى أَسْتَرِيحَ مِنْهُمْ وَيَسْتَرِيحُوا مِنِّي، وَلَنْ يُفْلِحُوا بَعْدِي!(6).
ما أفلحوا بعدَ الزّهراء (عليها السلام) كما لم يفلحوا بعد عليٍّ (عليه السلام)، ولن يفلحوا حتى يتمَّ الحجةُ الحجةَ، ثم يُعمِل السّيف في رقاب الظالمين المعاندين.
قالت (عليها السلام): فَالحِقْنِي بِأَبِي!
وقال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): فَيَلْحَقُهَا الله عَزَّ وَجَلَّ بِي، فَتَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَلْحَقُنِي مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، فَتَقْدَمُ عَلَيَّ مَحْزُونَةً مَكْرُوبَةً مَغْمُومَةً مَغْصُوبَةً مَقْتُولَةً!
فَأَقُولُ عِنْدَ ذَلِكَ: اللهمَّ العَنْ مَنْ ظَلَمَهَا، وَعَاقِبْ مَنْ غَصَبَهَا، وَذَلِّلْ مَنْ أَذَلَّهَا، وَخَلِّدْ فِي نَارِكَ مَنْ ضَرَبَ جَنْبَهَا حَتَّى القَتْ وَلَدَهَا.
فَتَقُولُ المَلَائِكَةُ عِنْدَ ذَلِكَ: آمِينَ(7).
وهكذا نقول.. ويقول المؤمنون: آمين رب العالمين..
عظَّمَ الله أجورنا بمصاب البَتول، ولعنَ الله ظالميها، وعجَّلَ في فَرَجِ الآخذ بثارها. وإنا لله وإنا إليه راجعون(8).
(3) تفسير القمي ج1 ص166.
(4) غرر الأخبار ص195-197.
(7) الأمالي للصدوق ص112-114.
(8) ليلة الثامن من ربيع الثاني 1443 هـ الموافق 13 - 11 - 2021 م.
بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
|