بسم الله الرحمن الرحيم
قال رسولُ الله صلى الله عليه واله: الوَلَدُ الصَّالحُ رَيْحَانَةٌ مِنَ الله قَسَمَهَا بَيْنَ عِبَادِهِ، وَإِنَّ رَيْحَانَتَيَّ مِنَ الدُّنْيَا الحَسَنُ وَالحُسَيْنُ (الكافي ج6 ص2).
والرَّيْحان يكون بمعنى الرِّزق، حتى روي عنه (ص) أنَّهُ قال لهما: إِنَّكُمَا مِنْ رَيْحَانِ الله.
يَعتقدُ المؤمنُ أنّ الله تعالى يبسط الرِّزق لمن يشاء، وأنَّ الله تعالى ﴿فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ﴾، فآتى خَيرَ رِزقٍ لخَيرِ خَلقٍ، وكان الحسنان رزقاً ساقه الله تعالى الى رسوله صلى الله عليه واله، وفَضَّلَهُ بذلك عن كلّ مَن دونَه.
حَفِظَ الرَّسولُ الرَّيحانتين، ثمَّ أوصى بهما أباهما، فقال لعليٍّ عليه السلام قبل وفاته بأيام:
سَلَامُ الله عَلَيْكَ يَا أَبَا الرَّيْحَانَتَيْنِ !
أُوصِيكَ بِرَيْحَانَتَيَّ مِنَ الدُّنْيَا !
فَعَنْ قَلِيلٍ يَنْهَدُّ رُكْنَاكَ ! (الأمالي للصدوق ص135).
ما لبِثَ الرُّكنُ الأول أن فارق الدُّنيا خلال أيام، ثم انهدَّ الثاني حينما التحقت البضعة الزهراء بأبيها صلى الله عليه واله.
ظلَّ الرَّيحانتان في رعاية عليٍّ عليه السلام، كما كانا في رعاية جدِّهما الرَّسول..
ولكن.. جرى بعد ذلك ما جرى..
وكان بين النبيّ الذي أوصى بهما.. والحُسين عليه السلام.. مواقفُ عجيبة.. تستحقُّ التأمّل.. ثمَّ التعجُّب !
وكان لصدر النبيِّ مع الحسين وقائع عجيبة !
ولصدر الحسين ما هو أعجَبُ من ذلك !
1. يومٌ صدر المصطفى ! ويومٌ وجه الثرى !
لقد اعتاد النبيُّ صلى الله عليه واله أن يضمَّ الحسين عليه السلام الى صدره، فكان (ص): إِذَا رَأَى الحُسَيْنَ مُقْبِلًا قَبَّلَهُ وَضَمَّهُ الى صَدْرِه (مثير الأحزان ص21).
وقد طَلَبَ النبيُّ صلى الله عليه واله من أمّ سلمة يوماً أن لا يَدخُل عليه أحد، وكأنَّه كان يُمَهِّدُ لخلوةٍ بالحسين عليه السلام، والحسينُ طفلٌ يومها، وطِفلُهُم عليهم السلام لا يُقاس بسواه..
لمّا دخلت أمّ سلمة على النبيّ: فَإِذَا الحُسَيْنُ عَلَى صَدْرِهِ، وَإِذَا النَّبِيُّ (ص) يَبْكِي !
لطالما أدخَلَ الحسينُ السرور على النبي (ص) وهو على صدره، ولكنّ لهذه الجلسة خصوصيَّتَها، كان النبي فيها يبكي:
وَإِذَا فِي يَدِهِ شَيْءٌ يُقَبِّلُهُ، فَقَال النَّبِيُّ (ص): يَا أُمَّ سَلَمَةَ، إِنَّ هَذَا جَبْرَئِيلُ يُخْبِرُنِي أَنَّ هَذَا مَقْتُولٌ، وَهَذِهِ التُّرْبَةُ التِي يُقْتَلُ عَلَيْهَا، فَضَعِيهِ عِنْدَكِ، فَإِذَا صَارَتْ دَماً فَقَدْ قُتِلَ حَبِيبِي (الأمالي للصدوق ص140).
مَشهَدٌ لا يُعقل أن يُفارق أمَّ سلمة، وقد رأت النبيَّ يبكي ويعطيها تربةً يُقتل عليها الحسين !
كَم تكرَّرَت أمثال هذه الأحداث بين النبي صلى الله عليه واله ومَن حوله؟ هذا ما يعلمه الله تعالى.
لكنّ أمَّ سلمة شاهدت مِن ذلك موقفاً آخر، حينما كان الحسين على صدر النبيّ، وما كان النبيُّ يبكي حينها..
لكنّ أمّ سلمة نَفسَها كانت لا تزال تذكرُ الموقف الأول وأمثاله، وكانت تتعجّب، فقد نَظَرَت في ذلك الموقف مِن شقِّ الباب وقالت:
لا حول ولا قوة الا بالله!
يومٌ صدر المصطفى ! ويومٌ وجه الثرى ! إنّ هذا لعجب ! (مدينة معاجز الأئمة ج4 ص192).
وهُنا ينكسر القلم ! ويترُك للخيال حَظَّهُ.. وللعَبرَةِ نصيبَها !
2. زينب.. والحسين على الثرى !
تعجَّبت أمّ سلمة ممّا سَمِعَت، وما كانت في عاشوراء..
فما حال زينب ؟!
ينقل العلاّمة الشيخ فضل علي القزويني أنّ السيدة زينب لمّا وقفت على مصرع الحسين عليه السلام بالطّف أوَّلَ ما قالت:
يومٌ على صدر المصطفى، ويومٌ على وجه الثرى ! (الإمام الحسين (ع) وأصحابه ج3 ص118).
اليست هي التي نادت لمّا سقط الإمامُ عن فرسه:
وَا أَخَاهْ، وَا سَيِّدَاهْ، وَا أَهْلَ بَيْتَاهْ !
لَيْتَ السَّمَاءَ أَطْبَقَتْ عَلَى الأَرْضِ، وَلَيْتَ الجِبَال تَدَكْدَكَتْ عَلَى السَّهْل (اللهوف ص125).
سلامُ الله على قلب زينب الكسير.. وما أعجَبَ حالها.. وكلامَها.. فإنّا لله وإنا اليه راجعون.
3. القاسم.. وصدرُ الحسين
القاسِمُ بَقيّة الحسن عليه السلام، يخاطبه الحسين عليه السلام بخطاب يُقَطِّعُ القلوب فيقول:
عَزَّ وَالله عَلَى عَمِّكَ أَنْ تَدْعُوَهُ فَلَا يُجِيبُكَ !
أَوْ يُجِيبُكَ فَلَا يَنْفَعُكَ !
.. ثُمَّ حَمَلَهُ عَلَى صَدْرِهِ .. فَجَاءَ بِهِ حَتَّى القَاهُ مَعَ ابْنِهِ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ وَالقَتْلَى مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ (الإرشاد ج2 ص108).
ماذا احتَمَلَ هذا الصَّدرُ الشريف ذاك اليوم ؟! يومَ وضعَ الحسين صدرَه على صدر القاسم.. صَدرٌ كان يضمُّه النبيُّ صلى الله عليه واله اليه، صار يضمُّ القاسمَ قتيلاً قد ضُرِبَ على رأسه بالسيف ! فإنّا لله وإنا اليه راجعون.
4. السَّهم.. وشِمرٌ.. وصدر الحسين !
لعاشوراء مع صدر الحسين فجائع.. فتارةً:
أتاه سهمٌ محدّدٌ مسمومٌ، له ثلاث شعب، فوقع السهم في صدره (تسلية المجالس ج2 ص320).
وتارة أتاه سِنان بن أنس:
ثُمَّ انْتَزَعَ الرُّمْحَ فَطَعَنَهُ فِي بَوَانِي صَدْرِه (اللهوف ص125)، وهي أضلاع صدره.
وثالثةً قال له شِمرٌ:
يا ابن أبي تراب، أ لست تزعم أنّ أباك على حوض النبيّ يسقي مَن أحبّه؟ فاصبر حتى تأخذ الماء من يده، ثمّ جلس على صدره.. (تسلية المجالس ج2 ص323).
وجرى ما مضى به القضاء.. فإنّا لله وإنا اليه راجعون.
يومــان لم أر في الأيــام مثلهما * قد سرَّني ذا وهــذا زادني أرَقــا
يوم الحسين رقى صدر النبي به * يوم شمر على صدر الحسين رقا
5. الخيل.. وصدر الحسين !
ومِن عجائب ذلك اليوم.. أن: نَادَى عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ فِي أَصْحَابِهِ مَنْ يَنْتَدِبُ لِلْحُسَيْنِ (ع) فَيُوَاطِئُ الخَيْلَ ظَهْرَهُ وَصَدْرَهُ !
فَانْتَدَبَ مِنْهُمْ عَشَرَةٌ.. فَدَاسُوا الحُسَيْنَ (ع) بِحَوَافِرِ خَيْلِهِمْ، حَتَّى رَضُّوا صَدْرَهُ وَظَهْرَهُ ! (اللهوف 135).
صدرٌ تربى فوق صدر المصطفى * ترضُّهُ الخيل على الدنيا العفا
على الدُّنيا العفا بعدك يا أبا عبد الله..
خيرُ الخلق يضمُّكَ الى صدره، ويجلسُ شمرٌ على صدرك! وترضُّه حوافرُ الخيول في كربلاء !
عزاؤنا أنّ الله تعالى سيشفي صدرك يا مولاي، وهذا دعاؤنا كما دَعا المعصوم، تلهَجُ به السنَتُنَا، وتتمناه قلوبنا، وتتشوَّقُ له أفئدتنا:
اللهمَّ رَبَّ الحُسَيْنِ، اشْفِ صَدْرَ الحُسَيْنِ.
اللهمَّ رَبَّ الحُسَيْنِ، اطْلُبْ بِدَمِ الحُسَيْنِ.
اللهمَّ رَبَّ الحُسَيْنِ، انْتَقِمْ مِمَّنْ رَضِيَ بِقَتْلِ الحُسَيْن (كامل الزيارات ص238).
وإنا لله وإنا اليه راجعون.
السبت 5 محرم 1443 هـ
14 – 8 – 2021 م
بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
|